تمهيد

(١) القرآن والقراءة: تطور المفاهيم عند نصر أبو زيد

١

صاحب تجربة المد الاشتراكي بمصر،١ خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وفي ظل حركة التحرر من الاستعمار ومحاولة استقلال القرار الوطني والتنمية الداخلية، صاحبها خطاب ديني من المؤسسات الدينية الرسمية يُعبر عن المرحلة، مقدِّمًا فهمًا وتفسيرًا للدين، يُعبر عن المساواة بين البشر، تُصدَّر فيه نصوص مثل: «الناس سواسية كأسنان المُشط»، «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى»، و«أن المال مال الله ونحن خُلفاء له، والعباد عباد الله والبلاد بلاد الله، فمن أحيا من موات الأرض شيئًا فهو له». وتوزع الثروة والمال حتى لا يكون المال: دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ (٥٩/الحشر: ٧). والمال مصدره العمل والعرق. قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي في مدح الرسول الكريم، التي تغنَّت بها أم كلثوم، تتصدر المشهد:
الاشتراكيون أنت إمامهم
لولا دعاوى القوم والغلواء

وكتابات عن اشتراكية أبي ذر الغفاري، وانحيازه للفقراء. بل تجد عضوًا من أعضاء جماعة الإخوان في سوريا (مصطفى السباعي) بكتابه «اشتراكية الإسلام»، وكتاب سيد قطب في نهاية الأربعينيات «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وفي الصراع مع المشروع الصهيوني، كان الموقف: «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة»، فكانت آية: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ تتصدر المشهد؛ تعبيرًا عن موقف الدين، مساندًا للخطاب السياسي، وأن القتال شرٌّ لا بد منه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ (٢/البقرة: ٥٤).

حينما تغيَّرت بوصلة تحيُّزات الخطاب السياسي في السبعينيات والثمانينيات منقلبة على تحيزات الفترة السابقة عليها، داعيةً إلى الانفتاح الاقتصادي والرأسمالية الوطنية، والملِكية الخاصة، وتشجيع القطاع الخاص، تحولت بوصلة الخطاب الديني وتحول فهم وتأويل الدين أيضًا؛ لنكتشف أن القرآن تحدَّث عن التفاوت الطبَقي بين الناس: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا (٤٣/الزخرف: ٣٢). وكلمة «درجات» تُفسَّر على أنها الدرجات بالمعنى الاقتصادي/الاجتماعي؛ بمعنى التفاوت الطبَقي. ويصبح الدين لا يتعارض مع الرأسمالية، ويتصدر الصورة ما نُسب إلى النبي عليه السلام: «تسعة أعشار الرزق في التجارة». وحين اتجه النظام السياسي إلى التعاهد مع العدو، تتصدر المشهد: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (٨/الأنفال: ٦١). فيكون الخطاب الديني تابعًا للخطاب السياسي وداعمًا للسياسة. وأيضًا المعارضون السياسيون يستخدمون الدين وتفسيره وسيلة في صراعهم السياسي مع السلطة. إنه الصراع على نفس الأرضية، أرضية استخدام الدين وتوظيفه لأهداف سياسية سواء من جانب السلطة، أو من جانب معارضيها؛ لمجرد أهداف أيديولوجية.

٢

في هذه اللحظة المعرفية وسياقها الثقافي السياسي الاجتماعي؛ كان دخول نصر أبو زيد إلى الجامعة وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وذلك عام ثمانية وستين من القرن الماضي، عام بعد الهزيمة الكبرى، وهو قد نشأ على الميل لفكرة الإخوان والتأثر بكتابات سيد قطب ومحمد قطب عن الرؤية الإسلامية للعالم، وعلى «مشاهد يوم القيامة في القرآن» و«التصوير الفني في القرآن». لكن أبو زيد كان على تواصُل فكري مع مدرسة الشيخ أمين الخولي، في التفسير الأدبي للقرآن، وأيضًا كان متبنيًا لشعارات نظام يوليو عن العدالة الاجتماعية؛ فعايش أبو زيد عملية التحول في الخطاب الديني التي حدثت في المجتمع. من شعار، إلى آخر، ومن اتباع مفردات خطاب سياسي في الستينيات إلى مفردات خطاب آخر في السبعينيات. وكان السؤال عنده: لماذا حدث هذا التحول؟ وقضية العلاقة بين المفسر والنص، وما هو دور المفسر؟ وما دور النص في تشكيل معنى النص؟

لكنَّ أبو زيد كان تحيُّزه واضحًا للعدالة الاجتماعية، وإلى استقلال القرار الوطني، والانحياز إلى الفقراء. وإن كان ينتقد غياب الديمقراطية السياسية والحرية، في تجربة الستينيات، إلا أنه ضد التطبيع وضد السلام المنقوص مع العدو، وضد الانفتاح «السداح مداح»، وأيضًا ضد الهجمة السلفية الآتية مع أموال البترول الخليجي وقيم الحياة القبَلية الصحراوية. وكما أصبح الماضي وقراءة التراث الذي تم اختصاره في جوانب منه هي الأكثر فقرًا من ناحية إسهامها في التقدم، كانت العودة عنده أيضًا للتراث وللماضي؛ لمحاربة هذه الهجمة السلفية التي ازدادت انغلاقًا بعد الهزيمة بأثر ضخِّ أموال البترول. في مواجهة هذه الهجمة المعتمدة على تراث أحمد بن حنبل وابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية، وجهود محمد بن عبد الوهاب دينيًّا، بصورتها السلفية التقليدية، وبشكلها السياسي في جماعات الإسلاميين، جماعات لتديين السياسة، والتي تحوَّلت إلى جماعات العنف.

فكانت العودة لتراث المعتزلة الكلامي كمنظومة عقيدية من التراث تختلف عما هو قادم من تراث حنبلي، وما هو سائد من تراث أشعري. فكانت كتب المعتزلي القاضي عبد الجبار (٣٥٩ﻫ/٩٦٩م–٤١٥ﻫ/١٠٢٥م) التي تم اكتشافها في اليمن في نهاية الأربعينيات. كان قد تم طباعتها منذ ما يقرب من عقدٍ من الزمان حين بدأ نصر دراسته للماجستير، فاختار دراسة الفكر الاعتزالي بحيث يكون له قدم في البلاغة العربية، وقدم أخرى في الدراسات الإسلامية. فبحَث دور المعتزلة في نشأة وتشكيل مفهوم المجاز، كمفهوم جذر في البلاغة، وكمفهوم محوري في تأويلات المعتزلة، يدرس ذلك من خلال علاقة المفسر بالنص، في السياق السياسي الاجتماعي الثقافي للعصر.

حاول أبو زيد التدليل على دور الصراعات السياسية والاجتماعية والدينية، بين فِرق المسلمين، ودورها في نشأة الاعتزال، وقلل من دور التأثيرات الخارجية، ومن دور ما أثارَه خطاب الاستشراق من دور الفلسفات اليونانية في هذه النشأة. فأدرك أبو زيد من خلال دراسته أهمية ودور استخدام مصطلح التأويل غير مصحوب بالصورة السلبية السائدة في عصرنا، الناظرة إلى التأويل على أنه خاضع لأهواء الفرد المؤول، وتفضيل التفسير على التأويل بدعوى أن التفسير موضوعي لا تتدخل فيه ذاتية المُفسِّر، إلا أن أبو زيد أدرك أيضًا أن التأويل والتفسير النفعي حسب رأي الفرد المُسبق، ليس قاصرًا على عصرنا لفساد الذمم كما هو سائد من تصور، بل إن القدماء أيضًا فعلوا ذلك؛ فعلها المعتزلة في جعل النصوص تنطق بمبادئهم الفكرية المُسبقة، وكذلك فعلها خصومهم فجعلوا النصوص تنطق بردودهم الفكرية على المعتزلة، ووجد صعوبة في تحليل رؤية المعتزلة في اللغة، فوجد تناثرًا لهذه الرؤية نتيجة للطبيعة السجالية في طريقة كتابة المعتزلة كتبهم، كردود على أسئلة متصَورَة لخصومهم. وبدأ أبو زيد يتواصل مع قضية طبيعة القرآن والجدَل الذي دار بين المعتزلة وخصومهم حولها، وكيف توقف الحوار حولها في القرون العشرة الماضية، وأدرك أهميتها ومحوريتها في تشكيل المفاهيم السائدة في الفكر الديني، وأيضًا أهميتها في حالة الاستخدام النفعي للنصوص قديمًا وحديثًا.

انتقل نصر أبو زيد في رسالته للدكتوراه إلى حقل آخر من حقول التراث، وهو حقل التصوف والتجربة الروحية، والجانب الأخلاقي. ويمكن إدراك أن استدعاء تراث التصوف وابن عربي تحديدًا هو جزء من مواجهة الهجمة السلفية أيضًا؛ إلا أن عدسة الباحث هنا اتسعت، فمن دراسة مفهوم جزئي — المجاز — إلى دراسة «فلسفة التأويل» عند محيي الدين بن عربي، ليس من خلال علاقة المفسر بالنص، بل اتسعت الرؤية لمحاولة الوصول إلى القواعد الفكرية الرابضة خلف فعل التفسير والتأويل. وكانت لمنحته للدراسة بأمريكا فرصة له أن ينفتح على الدراسات اللغوية الحديثة ومناهجها. فكتب عن الهرمنيوطيقا، أو التأويلية في التراث الغربي، والبحث عن تأصيلها في التراث العربي؛ إلا أن نصر بعد الانتهاء من كتابته لرسالة الدكتوراه وموافقة مُشرِفه الثاني على الرسالة، وأن تُطبع لتتم مناقشتها، أدرك أنه استغرق في شرح فلسفة ابن عربي وفي عَرْض جوانبها؛ حتى أصبحت فلسفة ابن عربي هي متن الرسالة، وأصبحت قضايا تأويل القرآن عند ابن عربي هي الهامش. لكن نصر أبو زيد أيضًا طوال بحثه في الرسالة كان مشغولًا بدور المؤول في جعل النص ينطق بأفكاره المُسبقة، لكن بدأ يدرك دور النص القرآني في تشكيل رؤية وتصورات ابن عربي ذاته، بل أيضًا أدرك كيف أنه كان لطبيعة لغة ابن عربي المُكتنزة، والتي تخدع الباحثين بالوقوف أمام منطوق نصوص ابن عربي دون الالتفات إلى المسكوت عنه في الخطاب، وإلى الكيفية التي يقول بها ابن عربي كلامه، فقد ظلتا (هاتان النقطتان) تؤرقان أبو زيد بعد مناقشة رسالته للدكتوراه؛ حتى عاد إلى الكتابة عن ابن عربي في مقال صغير سنة ٩٢ بمجلة الهلال المصرية عدد مايو: «قراءة المسكوت عنه في خطاب ابن عربي»، ثم كتب كتابه في نهاية الألفية: «هكذا تكلم ابن عربي». وأبو زيد أدرك أيضًا أن الاستخدام النفعي للنصوص موجود في التراث الصوفي أيضًا.

أصبح السؤال الذي يؤرقه، وقد تولَّد من أطروحتي للماجستير والدكتوراه: هل هناك دلالة موضوعية للنص في الثقافة العربية خارج التحيزات الأيديولوجية المُسبقة؟ وهل يمكن تكوين تصور موضوعي للنص في الثقافة؟ وحاول من خلال وضع التراث المكتوب حول النص في موسوعتي السيوطي والزركشي في علوم القرآن بحثًا عن مفهوم للنص. لكنَّ نصر كان يتحرك مُنطلقًا من المنظومة المعتزلية في العقيدة، ومن خلال جهود البلاغة العربية متمثلة في عبد القاهر الجرجاني من التراث مع استعارة مفاهيم غربية حديثة في التأويل عند «جادامر». لكن من منظور جدلية مادية بين الفكر والواقع، وأيضًا منطلق من الجهود العربية الحديثة في مدرسة التفسير الأدبي للقرآن الكريم بجهود محمد عبده والشيخ أمين الخولي وتلميذه محمد أحمد خلف الله. فمسَّ أسئلة حول طبيعة الوحي وكيفيته، وطبيعة القرآن، وسؤال: ما الإسلام؟ في محاولة لفتح المعنى والدلالة، والتي لم تخلُ هي نفسها من تحيز أيديولوجي، وإن كان يسعى إلى وضع الظاهرة الدينية تحت عدَسات الدراسة «الموضوعية العلمية».

لكنَّه في هذه المرحلة احتك مباشرة، وفتح الحوار حول قضية قد كان أُغلق الباب في التفكير فيها منذ عشرة قرون عن طبيعة القرآن وعن ماهيته، وأن كل عمليات التجديد التي تمَّت في العالم العربي والإسلامي تعتمد على نفس الأساس اللاهوتي/العقيدي الراسخ بأن: «القرآن هو كلام الله القديم»، بالإضافة إلى استخدامه مصطلحات علوم اللغة والبلاغة الحديثة في مجال الدراسات القرآنية، منطلقًا من أن القرآن رسالة لغوية من الله للبشر، وكونها من الله لا ينفي عنها أنها رسالة لغوية تخضع لقواعد البشر في التواصل والفهم والدراسة؛ ربطًا بين الدراسات الإسلامية والقرآنية بالدراسة الأدبية للنصوص من خلال مناهج الدرس اللغوي وتحليل النصوص المعاصرة. دراسة النص في سياق تفاعله مع الواقع ومع التاريخ تَشكُّلًا وتشكِيلًا من خلال علاقة جدلية بين النص والواقع، معتمدًا على التراث المعتزلي حول مفهوم خلق القرآن وحُدوثه، مفارقًا ما هو سائد من التعامل مع النص القرآني كسلطة لإخضاع البشر لها، مُخفيَة وراءها سلطة بشر خلف أقنعة المقدس والمُطلَق، إلى أن يكون النص ساحة رحبة للفهم الإنساني.

موظفًا التفرقة التي أخذها عن «هرش» للتفرقة بين Meaning وSignificant الاصطلاحين اللذين ترجمهما في البداية إلى «المعنى» و«الدلالة»، ثم فيما بعد إلى «المعنى» و«المغزى»؛ للتفرقة بين المعنى الذي فُهم من النص في زمن ظهوره، والذي يمكن أن نصل إليه بتحليل النص في سياقه التاريخي والاجتماعي واللغوي والثقافي. وبين مغزى هذا النص لنا في عصرنا نحن الآن، عبر عملية التأويل التي تحدث للنص في التجاوز من المعنى إلى المغزى. فالتعامل مع القرآن كنص بدلالة كلمة «نص» المعاصرة وليس النص بالمعنى التراثي التي كانت تعني الواضح وضوحًا بينًا، الذي لا يحتاج إلى تأويل، بل النص كعملية تواصل لغوي بين مُرسِل ومستَقبل من خلال شفرة في سياق.

في هذه الفترة من نهاية الثمانينيات، بدأ ينتقل لدراسة الواقع المُعاش، بدراسة ظواهر معاصرة مثل «نقد الخطاب الديني»، وطُرقه في إهدار السياق بمستوياته المختلفة، في تعامل هذا الخطاب مع النصوص الأوليِّ منها والثانويِّ، ومع الظواهر المختلفة. وكذلك نقد أبو زيد خطاب «اليسار الإسلامي»، بل انتقل من نقد الخطاب الديني إلى نقد الخطاب العام، فدرس «مشروع النهضة بين التوفيق والتلفيق» على أن الخطاب الديني هو صورة من أزمة الخطاب العام؛ بحثًا عن المعوقات الفكرية التي تعوق خطاب النهضة عمومًا وخطاب التجديد خصوصًا، وكيف أن خطاب النهضة وخطاب التجديد يقعان في أَسْر الخطاب النقيض لهما، مما يؤدي إلى ضمور ثمار النقد وثمار التجديد، مقارنة بالخِطاب التقليدي الذي يجتر التراث. وتزامن مع حالة النقد هذه عند أبو زيد التي نقد فيها مشروع أستاذه حسن حنفي، كجزء من نقدِه لذاته هو، حيث أعاد النظر في موقفه من تراث المعتزلة، وأدرك محدودية مفهوم الحرية عندهم وارتباطه بزمانهم كحرية الإنسان في مواجهة القدر. وليست الحرية بمعناها السياسي والاجتماعي، والاقتصادي لعصرنا. وأدرك إطلاقية المعتزلة لمفهوم العقل؛ ليتحول إلى مطلق، لا يحده لا الزمان ولا المكان ولا التاريخ.

٣

قد كانت محنة قضية عدم ترقيته وقضية التفرقة بينه وبين زوجته، والمحاكمة التي مرَّ بها نصر، في ظل حالة الاحتقان التي كانت تمر بها مصر، والتي أطاحت بمدرسة في الدراسات القرآنية داخل كلية آداب القاهرة، وعطلت نصر أبو زيد الأستاذ عن الاستمرار في العمل، وكادت أن تطيح بنصر أبو زيد الباحث أيضًا، وتستدرجه إلى ساحات السجال. لكنَّ خروجه مرتحلًا إلى الشمال وإلى جامعة «لايدن» حافظ لنا على الباحث من التعطل ومن خطر التوقف. لكنَّ المحنة ولَّدت داخله سؤالًا: «لماذا حدث كل هذا؟ ولماذا يستطيع خطاب التقليد السلفي قديمًا وحديثًا تهميش خطاب التجديد والانفتاح؟» فها هو نفسه على الشاطئ الشمالي من البحر المتوسط. فاستدعى تجربة أبو حامد الغزالي وابن رشد، ودرس: كيف استطاع خطاب الغزالي أن يُهمِش خطاب ابن رشد في الثقافة العربية؟ وفي قلبها بحثًا عن أسباب فشل خطاب التجديد وضمور ثماره بعد قرن ونصفٍ من محاولات التجديد في الخطاب العربي الحديث والمعاصر، وكيف أن خطاب التجديد في الفكر الديني يتحرك داخل نفس البناء اللاهوتي القديم.

بدأ يدرك نصر أبو زيد أن مفهوم «النص» بالمعنى المعاصر في الدراسات اللغوية الحديثة ذاته، الذي دافع هو عنه خلال العقدين السابقين، قد يكون هو في ذاته بذرة الإشكال. فبعد أن أعاد النظر في تصورات المعتزلة، وأعاد النظر في دراسته لخطاب ابن عربي، أعاد النظر في تصوره لطبيعة القرآن كنص، أو لتعريف القرآن بأنه نص. وتناول حسب تعبير محمد أركون الذي تأثر أبو زيد بدراساته: «الظاهرة القرآنية»، وأدرك أهمية التعامل مع القرآن كخطاب شفاهي، القرآن قبل عملية الجمع والتدوين وتقنينه في مصحف، وعملية التحول بمراحلها المختلفة. ليس بالمعنى التقليدي من قراءة القرآن في سياق ترتيب النزول وفي ترتيب المصحف الحالي. بل إن النظر إلى ماهية القرآن كنص فقط، تجعل المفكر المسلم القديم والمعاصر على السواء، يبحث عن رفع التباين والتناقض المُتصور حول جوانب القرآن؛ لأن النص ذا المصدر الواحد لا يجب أن يكون به تناقض أو تباين. لكنَّ القرآن كخطاب بين متكلمين، به أصوات متعددة، الصوت الإلهي، وصوت النبي عليه السلام، وأصوات المؤمنين والمشركين وأهل الكتاب. بل هناك «مود» ونمط، للخطاب، فالكلمة الواحدة تتعدد دلالتها في الخطاب حسب «مود» الخطاب، وهذا التعدد يتم اختصاره وتحجيمه، في حالة تحويل الخطاب إلى نص مكتوب.

في نهايات القرن الماضي تركزت عدسة نصر أبو زيد القرائية، من تركيزها على قراءة الخطاب العام السائد، ومن التركيز على تجلي هذا الخطاب العام، في الخطاب الديني؛ ليركز بؤرة عدسته على القرآن بالتحديد وعلى التعامل معه. وبدأ يتبلور هذا في محاضرته لكرسي «كليفرنجيا» للحريات في نهايات عام ألفين عن: «القرآن كتواصل بين الله والإنسان». فيها عاد إلى سؤال: ما القرآن؟ مُركزًا على البُعد الرأسي من عملية التواصل بين الله والإنسان وطبيعتها؛ فالمسلمون اتفقوا على أن القرآن «كلام الله الذي أوحي به إلى النبي محمد باللغة العربية على مدار ثلاثة وعشرين عامًا»، وإن اختلفوا فيما بينهم إن كان هذا الكلام قديمًا أم مخلوقًا/مُحدَثًا. لكنَّ أبو زيد بدأ مما هو مُتفق عليه. فما هو مُتفق عليه يحتوي على عناصر ثلاثة: كلام الله، ثم القرآن، فالوحي. وكلام الله لا نهاية له، والقرآن أحد مظاهر كلام الله. والعنصر الثالث الوحي: هو قناة الاتصال من الله إلى البشر، وقد تحدث القرآن عن أشكال ثلاثة لوحي الله إلى البشر. لقد انتقل نصر من السؤال القديم حول: هل القرآن قديم أم مخلوق؟ إلى سؤال: ما هو القرآن، وما هي طريقة التواصل التي تم من خلالها، وما هي طبيعتها؟ فالقرآن حسب تصورات المسلمين عبارة عن رسالة إلهية من الله إلى البشر. وأيضًا للقرآن لغة تتجسد من خلالها هذه الرسالة الإلهية؛ فاللغة العربية ببشريتها يستخدمها القرآن بطريقة خاصة؛ لإيصال رسالته من خلال تركيبة معينة وبنية مميزة في استخدام هذه اللغة البشرية. الإلهي يتجلى في الإنساني، حسب قوانين عمل الإنساني، ولكن بطريقة خاصة، هي التي تجعل للقرآن لغتَه، أو طريقة خاصة في نَظم اللغة العربية.

وأخذ أبو زيد في نقد طُرق تعامل المسلمين مع القرآن قديمًا وحديثًا، مما تجلَّى في مشاركته في الاحتفال بمئوية الكواكبي (١٨٤٩–١٩٠٢م) في دمشق عام ألفين وثلاثة ٢٠٠٣م دراسة لمدرسة التأويل الأدبي للقرآن، التي امتدَّ بها أبو زيد وبجذورها إلى المعتزلة والفلاسفة المسلمين وإلى جهود عبد القاهر الجرجاني (ت ٤٧١/١١٠٧ﻫ)، إلى صورتها الحديثة في جهود محمد عبده (١٨٤٨–١٩٠٥م) وجزئيًّا طه حسين (١٨٨٩–١٩٧٣م)، فمدرسة الشيخ أمين الخولي (١٨٩٥–١٩٦٦م)، وتلاميذه: محمد أحمد خلف الله (١٩١٦–١٩٩٨م)، وشكري عياد (١٩٢١–١٩٩٩م)، وعائشة عبد الرحمن (١٩١٣–١٩٩٨م)، واقفًا على المعضلات التي تواجه هذه المدرسة الذي يُعد نصر نفسه إحدى حلقاتها. وفي ندوة باريس بنفس العام قدم ورقة: «نحو منهج إسلامي جديد للتأويل»، استكمل نقد الجهود المعاصرة في التعامل مع القرآن، من محمود محمد طه (١٩٠٩–١٩٨٥م) في السودان، والذي حاول التمييز بين رسالتين في الوحي؛ رسالة أصلية هي الرسالة المكية، وأخرى مدنية. وأشار نصر إلى أن إشكال طه أنه يفهم علمَي المكي والمدني والناسخ والمنسوخ من علوم القرآن خارج إطار التاريخ الاجتماعي، والسياسي، والثقافي للمسلمين، ومحمد شحرور (ولد ١٩٣٨م) في سوريا رغم اختلاف أسلوبه عن محمود طه، فهو يرى أن المصحف يحتوي على جانبين؛ جوهر ثابت هو القرآن ومصدره النبي، وهو المتشابه الذي يحتاج إلى الراسخين في العلم؛ لفهمه وتأويله، والجانب الآخر هو الواضح، التاريخي المؤقت، القابل للتطور. إلا أن شحرور يتعامل مع اللغة ككائن هلامي بلا معجم تاريخي ولا دلالات استعمالية، مما يجعله يستنطق المصحف بمعانٍ ودلالات مُحددة سلفًا. وجمال البنا (١٩٢٠–٢٠١٣م)، الذي يميز تمييزًا حادًّا بين الإسلام والمسلمين، من حيث ثبات وتعالي الإسلام الذي تم تلويثه من خلال اختلاط المسلمين بالحضارات القديمة، ويتعامل مع النصوص على أنها بلا سياق إنساني، وأنها مفارقة للتاريخ والثقافة الإسلامية، مما جعل قراءته انتقائية. وخليل عبد الكريم (١٩٣٠–٢٠٠٢م) بمصر، الذي انشغل بالنقد التاريخي، والذي لم يتجاوز عنده منهج نقد الرواية التراثي، ويوظفها لأغراض براجماتية، مما يوقعه في انتقائية واضحة للنصوص التراثية، فيهمل ما يتعارض مع أهدافه، إلى حسن حنفي الذي ولد (١٩٣٥م) من مصر، وفضل الرحمن (١٩١٩–١٩٨٨م) من باكستان، وتأكيدهما على الدور الإيجابي للنبي في عملية الوحي. إلا أن سؤال كلام الله وطبيعته ظل غائبًا عن جهودهم.

لمس نصر أبو زيد بصورة عامة ما ناقشه في محاضرته السابقة، بحثًا عن منهج إسلامي جديد للتأويل. إن «تجديد الخطاب الديني لا يمكن أن يكون تجديدًا ناجزًا إذا ظل التعامل مع النصوص التأسيسية — القرآن والسنة — ينطلق من نفس الأسس اللاهوتية/الكلامية، التي استقرت في الفكر الإسلامي منذ القرن الثالث الهجري/العاشر من الميلاد. فبدون الاستعادة للسؤال المغيَّب والمُحبِط والمكبوت، سيظل التأويل أداة لقراءة الحداثة في النصوص، لا لفهم النصوص لذاتها». ولمس أبو زيد سؤال ما معنى أن القرآن كلام الله؟ وأسئلة أخرى تتفرع عنه، مثل: طبيعة الوحي وكيفيته، وما إذا كان تواصلًا باللغة أم تواصلًا بالإيحاء والإلهام؟ وبعد عرض جهود السابقين في الجانبين مال هو إلى أن القرآن كوحي، كان تواصلًا بالإيحاء والإلهام. وانتقل من النظر إلى القرآن كنص، التي دعا وأصَّل لها إلى النظر إلى القرآن كنصوص؛ لطول سنوات الوحي وتعدد المناسبات والوقائع المرتبطة بأحداث في الواقع، مما جعل القرآن في تركيبة بنيته مجموعة من النصوص ذات سياقات.

٤

في السابع والعشرين من مايو عام ألفين وأربعة، في محاضرته كأستاذ كرسي ابن رشد في جامعة الإنسانيات «بأوتريخت» التي اختار لها عنوان: «إعادة تعريف القرآن». انتقل نصر من تركيزه على المحور الرأسي في عملية التواصل بين الله والإنسان عن طريق التواصل وحيًا بالنبي عليه السلام، التي تناولها في محاضرته عند اعتلائه كرسي الحريات بجامعة لايدن، فهو هنا استكملها في محاضرته هذه بالتركيز على الجانب الأفقي، لهذا التواصل بين الإلهي والإنساني، ليس بالمعنى التقليدي لهذا التواصل بالطريقة التي تم الاهتمام بها عند التراثيين من حيث الاهتمام بعملية جمع وتدوين القرآن بمراحلها المختلفة، على أهميتها، ولا أيضًا بمعنى عملية التبليغ من النبي الكريم للرسالة، ودور المتلقين لهذه الرسالة فهمًا وتفسيرًا وتأويلًا. فكل هذا على أهميته كان هو ما استقطب جهود الكثيرين، إلا أن نصر أبو زيد عُني بالجانب الأفقي؛ ذلك الجانب الرابض المُتضَمن في بنية وتكوين القرآن الذي يظهر في عملية التواصل، والذي يمكن إدراكه إذا انتقلنا من التركيز على القرآن كنص مكتوب، إلى التركيز على القرآن كخطاب، بالتركيز على الظاهرة القرآنية بتعبير محمد أركون، الظاهرة القرآنية قبل تدوين القرآن في كتاب. ففارق بين القرآن/المصحف، الصامت، وبين القرآن/الخطاب، الناطق.

بالتركيز على القرآن كنص فقط، أطلق الباب واسعًا لعملية التأويل وإعادة التفسير، وأيضًا تتيح الاستخدام الأيديولوجي المُغرض ليس فقط لمعاني القرآن، ولكن التقسيم الأيديولوجي للبنية القرآنية ذاتها متخفية وراء رؤًى لاهوتية/كلامية، في سبيل البحث عن وحدة المضمون والمحتوى القرآني؛ مما أخرج قراءات موجهة أساسًا، أيديولوجيا القارئ والمؤول، السياسية أو الثقافية أو العقيدية أو المذهبية. التركيز في التعامل مع القرآن كنص فقط، ينتج تأويلية شمولية أو تأويلية سلطوية، كلتاهما تزعم إمكانية الوصول إلى الحقيقة المطلقة. وما ساد تراثنا في التعامل مع القرآن كنص فقط يمكننا الكشف عن معناه بالتحليل الفيلولوجي/البنيوي كما فعل المتكلمون/اللاهوتيون من خلال مفاهيم المُحكم والمُتشابه، والفقهاء من خلال مفاهيم مثل الناسخ والمنسوخ. وهما النسقان اللذان سادا تاريخنا وما زالا حتى الآن في التعامل مع القرآن، وأدَّيَا إلى تحويل القرآن إلى ساحة نزاع أيديولوجي ومذهبي، أدى إلى التلاعب بمعانيه لأهداف تبريرية لا تخلو من نوايا حسنة. وكثير مما بدا للمتكلمين والفقهاء تناقضًا واحتاج منهم إلى منهج تأويلي لحله، ما هي إلا مواقف وترتيبات لا يمكن فهمها إلا بالعودة إلى سياقها الخِطابي، سياق التحاور والتساجل والجدال والاختيار والرفض، سياق الخطابات وليس سياق النص.

ودعا أبو زيد إلى تأويلية إسلامية جديدة للتعامل مع القرآن، تأويلية مُنفتحة تربط المعنى الديني والبحث عنه بمعنى الحياة، معنى الحياة بطبيعته الإنسانية القائمة على الاختلاف والتعدد البشري، تأويلية تخرج من سجن التركيز فقط على الطبيعة النصية للقرآن وما يستدعيه مفهوم النص من أنه بنية مستقلة ومؤلف وقصد للمؤلف وسياق تأليف وقارئ ضمني مُتصور، وتناص ووحدة للنص. ومفهوم النص يغذيه علوم كعلم الكلام/اللاهوت والفلسفة والفقه؛ لأنها تركز على المؤلف وعلى مقصده. وفي هذه الحالة تكون أداة التأويل هي المجاز، والمجاز يتعامل مع الكلام على مستوى الجملة. وهذا يشير إلى أن انفتاح المعنى عند الصوفية، حدث بانتقالهم إلى مفهوم الرمز، وتركيزهم على دور المتلقي للنص، وتجربته في اكتشاف دلالات ومعاني القرآن. وأصبح القرآن والكون كتابين من الله إلى البشر، وكذلك انفتاح واتساع المعنى القرآني عند المُحدَثين بالانتقال من مفهوم المجاز إلى مفهوم التمثيل والتصوير عند محمد عبده أو عند أمين الخولي وسيد قطب. لكن أبو زيد طالب بالالتفات للطبيعة الخطابية المنطوقة للقرآن، وضرورة التحليل الخطابي للقرآن أولًا. ففي تحليل الخطاب نبحث عن مُتكلم وليس مؤلفًا، وتعدد أصوات المتكلمين — طبعًا القرآن كله كلام الله — لكن تظهر من خلاله أصوات متعددة، صوت النبي، أصوات المشركين، والمؤمنين، والمنافقين وأهل الكتاب. وهناك مخَاطبون، مُخاطب مباشر هو النبي عليه السلام ومخاطبون ضمنيون، وهناك «مود» خطاب ونمط خطاب سواء؛ تهديد، بُشرى، تقرير، اعتراض، نفي، إزاحة … إلخ. وبعد تحديد بنية الخطابات القرآنية ووحداتها الخطابية، نشرع في التحليل النصي لهذه الوحدات؛ فكل خطاب نص وليس كل نص خطابًا.

في محاضرته الرابعة كباحث مقيم بمكتبة الإسكندرية، في الثلاثين من ديسمبر ٢٠٠٨م، وكانت بعنوان «إعادة تعريف القرآن»، بعد محاضرة عن التأويل اللاهوتي وأخرى عن التأويل البلاغي، وثالثة عن التأويل الصوفي، عرض أبو زيد لأهمية الانتقال من التركيز على الطبيعة النصية للقرآن إلى الطبيعة الخطابية. وأعطى نماذج وأمثلة لذلك، وكيف أن العديد من المشكلات التي اختلف فيها أجدادنا، لها إجابات من خلال هذه النقلة، إلا أنه أضاف مفهومًا قد شغله ونقطة بحث يعمل عليها وهي عن «الرؤية القرآنية للعالم»، والتي تناولها بعد ذلك في محاضرته الافتتاحية لمؤتمر: «السياقات التاريخية للقرآن» الذي انعقد في شهر إبريل ٢٠٠٩م جامعة «نوتردام» الأمريكية، ومحاضرته بجمعية ألوان الثقافية بنيويورك بعدها بيومين. وكان السؤال الذي يشغله هو: هل يمكننا من كل هذه المداخل المختلفة التي تعاملت مع القرآن، هل توجد رؤية كلية للعالم داخل الخطاب القرآني تتشكل من هذه المداخل، ومن التعامل مع القرآن في بنيتيه؛ بنية ترتيب التلاوة الحالي، وكذلك بنية ترتيب النزول على مدى أكثر من عقدين من الزمان؟ وهذا هو السؤال الذي تركنا نصر أبو زيد وهو يفكر فيه، تركنا لكن يظل سؤاله حيًّا يقف أمامنا ويواجهنا.

(٢) عقد ونصف في عقل أبو زيد

وجدته بمدخل الفندق٢ الذي ينزل به في نيويورك الساعة الحادية عشرة صباحًا، لكنه قد استيقظ منذ عشر ساعات على الأقل. كان كريمًا ومرحبًا بحفاوة ابن البلد، يشعرك دائمًا بالقرب والحميمية في اللقاء. جلسنا وكان معي جهاز التسجيل وبادرته قائلًا: دكتور نصر، ما بين عام ١٩٩٢م، وكتابتك لمقال «مشروع النهضة ما بين التوفيق والتلفيق»، احتفالًا بمرور مائة عام على صدور مجلة «الهلال» القاهرية، ونظرتك وتحليلك لمشروع النهضة وأزمته وسقوط معادلة النهضة بهزيمة ١٩٦٧م، ومحاضرتك التي ألقيتها في جمعية ألوان الثقافية في نيويورك باللغة الإنجليزية ليلة أمس، عن مشروعك الذي أنجزته لدراسة مشروع تيار الإصلاح في العالم الإسلامي، فما بين ١٩٩٢م و٢٠٠٧م، خمسة عشر عامًا، فهل يمكن أن تحدثني عن التغيرات التي حدثت في منهج الباحث وفي أدواته ونظرته؟ وماذا حدث لعدسة المفكر، أريد الجانب الداخلي من الباحث وللفكر عند أبو زيد؟

– على مستوى مشروع النهضة، أنا أعتقد أن هذا المقال سنة ٩٢، كان بداية الوعي بضرورة نقد مشروع النهضة من الناحية الفكرية، وما حدث بعد ٩٢ اتسعت العدسة. إني أستطيع أن أرى مشروع النهضة على مستوى العالم الإسلامي كله. ٩٢ أنا كنت مشغولًا على مستوى مصر، بعد ٩٥ وما تلاها فأنا على صلة أكثر بما حدث خارج مصر، بما حدث في الهند، وفي جنوب شرق آسيا، وأماكن أخرى من العالم.

وبالتالي فالدراسة التي نشرت عام ٢٠٠٦م وهي The reformation of Islamic thought «تيار الإصلاح في الفكر الإسلامي» هي محاولة لتغطية هذا الموضوع. ففي الفترة من ٩٢ إلى ٢٠٠٧م كان فيه أبحاث؛ أبحاث صغيرة في مؤتمرات ونقاشات. إنما كان السؤال باستمرار هو: ما هي معوقات مشروع النهضة من الناحية الفكرية؟ هناك طبعًا معوقات سياسية ومعوقات اجتماعية ومعوقات كثيرة، لكني مشغول بالمعوق الفكري. ليه العجز عن إنتاج وعي علمي بالتراث؟ كما أشرت في مقال ٩٢ وهنا حدث تطور؛ أني أدركت أنه تم بالفعل مناقشة جميع الأمور تقريبًا وكثير من الأمور أصبحت محسومة، وأنا هنا أتحدث عن الخطاب الثقافي، وليس الخطاب الإعلامي، لكن في كل هذا النقاش والنقد في هيكل مثلًا (محمد حسين هيكل) كان فيه محاولة كتابة سيرة النبي من منظور تاريخي، لكن كان فيه طول الوقت الهاجس الدفاعي. الاستشراق هنا كمعادل فكري للاستعمار كان يمثل تحديًا. الاستجابة لهذا التحدي أخذ طابعًا اعتذاريًّا أكثر ما هو طابع معرفي. كما تقول الآن باستمرار إن الإسلام دين المحبة والسلام؛ لأن هناك هجومًا على الإسلام. وهذا ما أسميه المنهج الاعتذاري؛ أنك «ترد». أو المنهج السجالي، فتقول له: طيب ما هو دينك فيه عنف، وكذا، وكذا، ففيه السجالية والاعتذارية. هما وجهان لحقيقة واحدة؛ أن تطور المعرفة لا يتم نتيجة لتطبيق منهج نقدي.

وبدأت أركز في مشروع النهضة من عموميتها، إلى مشروع النهضة في تعامله مع القرآن. إن هذا مؤشر مهم جدًّا جدًّا، طبعًا فيه إنجازات هايلة عملها مشروع النهضة؛ محمد عبده، وفيه إنجازات هامة في تناول الشيخ أمين الخولي في تعامله مع القرآن، فيه إنجازات في تناول محمد أحمد خلف الله في القصص الفني في القرآن. هذه الإنجازات كلها مبنية على الأساس اللاهوتي الكلاسيكي التقليدي باستثناء محاولة محمد عبده، في محاولة تبنيه مفهوم المعتزلة في خلق القرآن في الطبعة الأولى من كتاب رسالة التوحيد، فيه كلام كثير أن رشيد رضا هو من غيَّر؛ لأن الطبعة الثانية خرجت من دار المنار. ليست هذه القضية، لكن القضية أنه كان فيه خطورة في تناول هذه القضية، هذه الخطورة ما تزال موجودة، وما يزال مفهوم القرآن أنه: كلام الله الأزلي القديم، ما يزال مفهومًا لم يتم إعادة النظر فيه، إعادة التفكير فيه، وبالتالي كل محاولات التفسير تظل مبنية على نوع من حسن النية. وتظل الإنجازات القائمة على حسن النية، والتي لا تقوم على منهج نافذ، يمكن الالتفاف حولها والعودة للتفسير القديم، بدليل أننا في القرن الواحد والعشرين نناقش نفس القضايا؛ المرأة، الزواج، الطلاق، ودخلنا في الحجاب والنقاب، يعني مشكلات كنا ظننا أنها قد أصبحت في عِداد الماضي، مما يعني أن هذا الخطاب الإصلاحي في مجال التفسير والتأويل قد حقق هذا الإنجاز، ولكن ليس على أساس منهجي صامد.

هناك أسباب أخرى كما قلت، فأصبح السؤال عندي: كيف نتجاوز هذه الأزمة؟ وأنا أدركت إن أنا نفسي في حياتي كلها كنت طرفًا في هذا. يعني محاولة فتح معنى النص القرآني بدون أن يكون انفتاح المعنى هذا مؤسس على إعادة صياغة لماهية مفهوم هذا النص، لطبيعة هذا النص؛ لأنه إذن محاولة فتح المعنى دون توسيع أفق لفهم هذا الإطار الذي نسميه القرآن يصبح فتح المعنى معتمدًا على ما نسميه النوايا الحسنة، على ردود الأفعال. من هنا طورت نقدي مثلًا لمسألة القرآن وحقوق المرأة والنسوية الإسلامية … إلخ. إنه في النهاية محاولات تركز على جانب من القرآن وتتجاهل جانبًا آخر. والمسئولية العلمية ألا تتجاهل بُعدًا من الأبعاد، وهذا ما جعلني في السنوات الاخيرة أن أعيد النظر في المفهوم الذي بدأت العمل فيه، وهو أن القرآن نص، وبدأت أعيد النظر في هذا المفهوم. فمشكلة التعامل مع القرآن كنص، أننا سنظل نخوض المعارك كلها على أرضية النص، فيصبح النص كما قلت في دراستي للمعتزلة «الاتجاه العقلي في التفسير» أنه أصبح القرآن مجالًا للصراع الفكري، يمكن ينطق بما يشاؤه المفسر.

أصبح السؤال: كيف نخرج من هذه الأزمة؟ السؤال إذا لاحظت موجود من سنة تسعين في كتاب مفهوم النص؛ أي: كيف نخرج من التأويلات الأيديولوجية للدين؟ تقدر تقول إن عملي استمر في مجالين؛ في مجال تحليل تاريخ التفسير في العصر الحديث، دراسة إنجازات عصر النهضة وإخفاقاته، والوصول إلى اقتراح حلول. هذه الحلول فيما يرتبط بالقرآن هي: ما أزعمه أن القرآن ليس نصًّا، إنما هو مجموعة من الخطابات. وهذا مهم جدًّا حتى نفهم الاختلافات فيه والإمكانيات فيه التي يمكن أن تكون إمكانيات لتفكير سلفي تقليدي، وأن تكون إمكانيات لتفكير ليبرالي تقدمي.

– ممكن أن نقف وقفة هنا عند: ما هو الفرق بين نص وخطابات أو خطاب في المفهوم؟

– أولًا نفرق بين الخطاب والخطابة، فالخطاب ليس الخُطبة. النص يفترض نسقًا، متكاملًا لغويًّا، له بناء، وأن فيه مؤلف، وأن هذا المؤلف هو الذي بنى هذا النص، وأنه أعاد النظر فيه، مثل أي مؤلف حينما يؤلف، يحاول أن يجعله خاليًا من التغيرات والاختلافات والتناقضات، وهنا يكون المؤلف. فأنا هنا أدرس المؤلف وأدرس النص نفسه، وأبحث عما يسمى القارئ الضمني في النص. الخطاب أكثر تعقيدًا من النص، طبعًا كل مشكلات النص توجد في الخطاب، لكن ليست كل مشكلات الخطاب توجد في النص. الخطاب هو مسألة فيها كثير من الحيوية، فيه متحدث وليس مؤلف، وفيه مُخاطَب، والمخاطَب يمكن أن يكون مخاطَبًا مباشرًا، ومخاطَبًا غير مباشر، وهناك أيضًا نوع (نمط – مُود). الجملة الواحدة خطابيًّا ممكن يكون لها معانٍ كثيرة كما قال أهل البلاغة؛ لأنهم كانوا يتكلمون عن الخطاب الشفوي؛ يعني مثلًا التنغيم يعطي معاني مختلفة، يعني في الخطاب مثلًا: تأكل حاجة حلوة فتقول الله، هذه لها معنًى، إنك تكون غضبان وتقول: «الله» (بحدة قالها) هنا لها معنًى ثانٍ، مع أن الكلمة واحدة في النص، الخطاب يعمل تنغيمات، هذه التنغيمات تخلق «مود».

القرآن به أنواع من الخطابات، حينما أتعامل مع القرآن كنص، لا تلاحظ هذه الخطابات. في أماكن معينة من التفسير الكلاسيكي كان فيه وعي بهذا، ولكن لم يكن وعيًا كاملًا، وعي جزئي. بأنه الأمر هنا ليس أمرًا، وإنما تهديد مثلًا، وأن الاستفهام هنا ليس استفهامًا وإنما استفهام بلاغي يعني إنكار. ولكن هذا كان على مستوى الجملة؛ إنجازات علم البلاغة العربية على مستوى الجملة، وليس على مستوًى أوسع، مستوى الخطاب. علم تحليل الخطاب يساعد كيف نوسع هذه المجالات؟

ممكن أن نعطي مثالًا يوضح ما المقصود بالخطاب. مثلًا وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، خصوم المعتزلة قالوا: إن الله هو الذي يتصرف في كل شيء، إن ربنا إذا أراد أن يُهلك قرية فهو الذي يأمر المترفين أن يفسقوا من أجل أن يدمرها، وهنا واضح أنه في نوع من الحتمية، القدرية الحتمية. المعتزلة طبعًا ارتبكوا كثيرًا، فقالوا إن «أمرَ» هنا، ليست من أمرَ يأمرُ، إنما أمَرَ يعني أكثر عددهم، ولما يكثر المترفين، يفسقوا، لكنهم لم يحلُّوا المشكلة؛ لأن ربنا هو الذي أمرهم في النهاية. ففي النهاية فيه حتمية، وفيه جبر، لكن بتحليل الخطاب هنا الآية تهديد، «مُود» الخطاب تهديد، ولا يمكن أن يؤخذ أن القرآن يطرح قضية لاهوتية، فهنا غاب في الجدل السجالي بين اللاهوتيين، غاب إدراك ما يسمى نوع الخطاب.

كثير من النماذج القرآنية لا بد أن ننظر على نمط الخطاب، هل هو وصفي، هل هو تهديدي، هل هو وعدي، هل هو ابتهالي؟ ابتهال بمعنى رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً … إلخ القرآن مليء بالنصوص الابتهالية، المتحدث فيها الإنسان وليس الله، هذا جانب.

إني أبحث عن: من المتكلم، ومَن المتكلم هنا؟ ليس كما يقول بعض الناس إني أقول إن القرآن له مؤلفون كثيرون، لا، لكن ما هو الصوت؟ وكلمة صوت ليست بالضرورة بالمعنى الذي يفهمه الناس. عندي تعدد في الأصوات في القرآن، عندي الصوت المقدس، طبعًا موجود، موجود أحيانًا بصيغة المفرد إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، وموجود في بعض الأحيان بصيغة الجمع. لكن موجود في معظم الأحيان أيضًا بصيغة الغائب، وموجود بصيغة المُخاطَب في الابتهالات، وضمير المتكلم موجود في القرآن. إذن أنا عندي نص متعدد الأصوات. صوت المجتمع موجود في هذا النص ليس كنوع من الاقتباس، ولكن كنوع من إعادة الإنتاج، كل اتهامات المشركين وأهل الكتاب التي قالوها ضد محمد موجودة في القرآن.

هذا معناه أن هذه البنية بنية خطاب. الخطاب: أن المتحدثين يخاطب بعضهم بعضًا بأنماط مختلفة من الحديث، هذا معنى الخطاب وهو أعقد من النص. إحنا عارفين إن القرآن كان ظاهرة متداولة قبل أن يُوضع في كتاب. السؤال هنا: ألَا يجب أن نعود إلى الظاهرة المتداولة؟ وليس معنى هذا أننا نقول: نلغي المصحف. بعض الناس تفهم الكلام بطريقة بشعة، كأنك تقول نلغي المصحف، لا طبعًا. أنا أتكلم عن الدراسة، الدراسة تراعي الظاهرة التي يسميها أركون — محمد أركون — الظاهرة القرآنية. الظاهرة القرآنية ظاهرة شفاهية، ظاهرة مكونة من خطابات في سياقات مختلفة لمخاطَبين مختلفين ليس فقط المخاطَب من مكة والمدينة، لكن حتى داخل مكة فيه أكثر من مخاطبين، وداخل المدينة فيه أكثر من مخاطبين. ردود أفعال المخاطبين منعكسة في النص. كل هذه الحيوية أفقِدُها إذا نظرت للقرآن كنص، أو لو نظرت للقرآن أنه إما أوامر بالفعل أو أوامر بعدم الفعل، فيُختصر القرآن في حلال وحرام … إلخ.

عندي جانب من الخطاب القرآني مهمَل تمامًا من الدارسين المسلمين، وهو الجانب المرتبط بصورة الكون، يعني صورة الكون والسماء والأرض والجبال، كلها صور كونية مطروحة في القرآن في سياقات خطابية مختلفة لا تُدرس. يعني كيف أن القرآن حوَّل الظاهرة الطبيعية إلى علامات بالمعنى السيموطيقي مثلًا. لا توجد دراسات من هذا النوع، إحنا معنيين بحاجات غريبة جدًّا جدًّا، نتصور أن الإسلام مختصر فيها، وبالتالي لا نستطيع أن نصل إلى ما يسمى رؤية العالم في القرآن؛ لأنها محتاجة إلى أن ندرس القرآن من خلال هذا التجلي الخطابي باستمرار. أنا أعتقد أن التعامل مع القرآن كخطاب بيكشف درجة عالية من الغِنى والخصوبة مفتقدة في التعامل مع القرآن كنص، ويحرر القرآن من كثير من المعاني التي فُرضت عليه طوال تاريخ التفسير من خلال صراعات سياسية وصراعات اجتماعية بين الجماعات الإسلامية المختلفة. المسلمون ليسوا كتلة واحدة وعمرهم ما كانوا كتلة واحدة، ولا حتى الصحابة كانوا كتلة واحدة. وهذا كله مشكلة أنك تقول إن الصحابة لم يكونوا كتلة واحدة. كل ما أقرأ القرآن أكتشف أنه حتى بين الجيل الأول تيارات واتجاهات، وليس فقط المنافقين والمؤمنين والكافرين وأهل الكتاب، وإنما حتى داخل المؤمنين فيه أصوات مختلفة، تحليل الخطاب ممكن يُكشف عنها.

أدركت أنا بالضبط ما معنى ما يقوله دكتور نصر أبو زيد عن الفرق بين النص وبين الخطاب؛ فعندما جلست لتفريغ هذا التسجيل معه، لكي يُكتب كنص، فأنا أحوِّل خطابه المنطوق إلى نص. فلهذا الحوار سياق يمكن أن يشعر القارئ ببعضٍ منه سواء في الحوار ذاته أو ما أشير إليه أنا من سياق بكلماتي. لكن النص لا يظهر هذا السياق. فمثلًا لا يُظهر النص أن الحوار تم على أجزاء وأماكن مختلفة خلال نفس اليوم، أو أن أبو زيد كان في زيارة قصيرة إلى نيويورك، وبرودة الطقس وتأثير البرد على نبرة صوت أبو زيد. ولا يدرك قارئ النص مدى إرهاق أبو زيد من فرق التوقيت بين أوروبا وأمريكا، قد يدرك القارئ من النص أنه ألقى محاضرة عن تيار الإصلاح في الفكر الإسلامي، باللغة الإنجليزية منذ ليلتين، لكن لن يدرك أنه ألقى محاضرة في جامعة كولومبيا بعدها بيوم عن «الجدل بين مفكري العرب والمسلمين الأوائل وبين اللاهوتيين المسيحيين»، وأنه على موعد بعد ساعة من بداية حوارنا، وأن جزءًا من الحوار كان في مدخل الفندق، وصوت ماكينة التنظيف تنظف غرفته، ونحن ننتظر ونتحدث. قد لا يكون لكل هذا صلة، ولا تأثير لها على معاني النص، لكن كل هذا كان في وعيي وأنا أحاوره.

لكن الجانب الذي أدركته بشدة هو صوتي أنا وتدخلي في كتابة النص وفي تشكيل معانيه؛ فرغم أنه كلام نصر أبو زيد كخطاب منطوق، فأنا حين كتبته نصًّا فأنا الذي اخترت مكان الفاصلة والنقطة، واخترت بداية الجملة ونهايتها، واخترت بداية ونهاية الفقرة، وكل هذا يُشكل في معاني الكلام هنا، بل أنا استبدلت كلمات بكلمات لكي يستقيم النص بخلاف الكلمة التي نطقها أبو زيد في التسجيل؛ مما يُشكل ويغير في المعاني. لاحظت أيضًا أننا حينما نتحدث، نكرر كثيرًا في الكلمات والعبارات، وفي الأفكار أيضًا؛ لأننا نعتمد على الذاكرة في حالة الشفاهية، ويقل هذا التكرار حينما نكتب.

ودكتور نصر أبو زيد له «لازمة» لفظية في كلامه يكررها باستمرار في حديثه: «واخد بالك»، يكررها تقريبًا نهاية كل جملة مفيدة أو فقرة، لم أكتب أيًّا منها في النص. واستخدام كلمة «مش» دائمًا في اللهجة المصرية غيرت بعضها، واستبدلت بعضها لتتناسب مع الكتابة. صيغة السؤال الذي طرحته عليه وجدت أن السؤال يمكن أن يُصاغ بطريقة أفضل تتوافق مع نص مكتوب، وكنت في حيرة: هل أغير في كلمات السؤال، دون أن تغير في المعنى أو أتركها كما هي؟ فرغم أن هذا خطاب دكتور أبو زيد إلا أنه نصِّي، إن كان صوته هو الظاهر والواضح، فبطريقة أو أخرى صوتي موجود، فأدركت ماذا يعني بالأصوات والخطابات في القرآن، ومدى التحول في المعنى بالانتقال من خطاب إلى نص، والعكس. ونعود إليه، وإلى خطابه.

– ما الهدف للانتقال من نص إلى خطاب؟

– كشف المعنى في سياقه التاريخي، وبالتالي يمكن الوصول إلى: هل هذا المعنى في سياقه التاريخي قادر على مخاطبة العصر الذي نعيش فيه وإلى أي حد؟ ما هي الصلة بين المعنى التاريخي وبين المغزى المعاصر؟ ولا تبقى المسألة مزاج المفسر؛ مفسر تقدمي فيخرج كل شيء تقدميًّا؛ مفسر ماركسي فيطلَّع كل حاجة ماركسي، مفسر محافظ؛ يعني إخضاع القرآن للأيديولوجيا، هذا هو تاريخنا. إنما النظر للقرآن في بِنيته التاريخية وتكوينه وشكله هو الذي قد يحمي القرآن من أن يُصبح موضوعًا للسجال الأكاديمي، أو هو على الأقل الأمل المنوط به.

في النهاية، هذا ليس تجزيئًا للقرآن؛ لأن البعض يتصورك أنك ستحول القرآن إلى أشلاء. لا، ليس تجزيئًا للقرآن إنما الدراسة هنا تجزيء من أجل التحليل. لا تستطيع أن تحلل نصًّا إلا إذا جزَّأته إلى أجزائه الطبيعية. الأجزاء الموجود عليها القرآن الآن، والمتأكدون منها أن هذا الجمع وتلك الأجزاء مختلفة عن حالة التداول التي كان عليها النص. ونحن لا نشكك في شيء أو نقول بترتيب جديد ففيه درجة عالية من العبث في حياتنا الثقافية. هناك فرق بين الدراسة وبين القرآن الذي تلقاه المسلمون على هذا الشكل، هو هيظل القرآن الذي تلقاه المسلمون، لكن البحث العلمي من حقه، كما كان المفسر القديم يفرق ما بين المكي والمدني، وبين ما نزل قبل وما نزل بعد، وبين الناسخ والمنسوخ. من حقي كباحث حديث أن أرجع إلى هذا السياق بغرض الدراسة، لكنِّي لا أقول يا إخوان رتبوا القرآن كما كان منزلًا. محاولات ترتيب سور القرآن محاولات مشروعة للدراسة وليس للتلاوة في المساجد، لكن التمييز بين دراسة القرآن وبين تلاوة القرآن للأسف الشديد ليس مدرَكًا في الوعي العام. إن الدراسة لها وسائل ولها أساليب تختلف عن تناول العابد أو المصلي في المسجد أو في البيت، هذا ما حصل خلال هذه السنوات.

إذا لخصته تاني: أنه أصبح عندي وعي بالمشكلات أكثر اتساعًا من مشكلات الجدل في مصر أو في العالم العربي، أصبح عندي إدراك أوسع بمشروع الإصلاح في العصر الحديث ومشكلاته ليس فقط في مصر والعالم العربي ولكن على مستوى أوسع. طبعًا المشكلات التي نتناقش فيها في الغرب من غير ما أكون في الغرب ما كنت انشغلت كثيرًا بقضايا الهجوم على القرآن الهجوم على الإسلام، ومحاولة وضع القرآن والإسلام في معنًى واحد، هو نفسه الذي تحاوله القوى التي نسميها الرجعية أو السلفية أو المتزمتة. إحنا محتاجين طول الوقت كمسلمين أن ننخرط في البحث العلمي والدراسة العلمية عن القرآن، وألا نترك ذلك لغير المسلمين. وطبعًا أنا لا أقلل من عمل غير المسلمين، لكن أقول إنه قد آن الأوان أن ننخرط في ذلك، ونميز بين التعامل مع القرآن من منظور إيماني والتعامل معه من منظور بحثي.

ثنائية الشرق والغرب

– فيه نقطة هنا، في دراستك التي كتبتها سنة ٩٢، فقد وصلت إلى أن خطاب النهضة مسكون بالآخر الغربي، بعد خمس عشرة سنة، أنت أقمت الإحدى عشرة سنة أو أكثر الأخيرة في الغرب، فنظرتك أنت للغرب كباحث، ونصر أبو زيد: هل حدث نوع من التغيير أو تطور أو نمو في نظرتك وفهمك ومفهومك للغرب؟ طبعًا أنت زرت من قبل كدارس وكباحث، لكن تأثير الإقامة المستمرة.

– ما يحصل أنه حتى من البداية، تفكك مفهوم الغرب، لا يوجد حاجة واحدة اسمها الغرب، تقدر تُصدر عليها أحكام، على الأقل في أوروبا وفي أمريكا الشمالية «ما تقدرش» تعمم حكم، داخل أوروبا فيه تعدد. وبعدين لما تقول الغرب، الغرب السياسي أم الغرب الثقافي؛ الغرب ليس كتلة واحدة، ولما بتعيش فيه بتدرك أكثر وبشكل عملي فساد التصور بغرب واحد موحد تقدر أن تصدر عليه حكم، وتعمل عليه جملة مفيدة.

نفس الأمر بالنسبة للإسلام، المسلمون يتشاركون في مجموعة من العقائد ومجموعة من الشعائر. وراء ذلك المسلمون شعوب وثقافات مختلفة جنسيات وأعراق مختلفة، لو أنا ارتكبت نفس الخطأ الذي يرتكبه بعض المفكرين في الغرب. عندما يتكلمون عن العالم الإسلامي باعتباره كتلة واحدة، أنا طبعًا عندي ناس في الغرب أعتبرهم أقرب لي من مثقفين في العالم العربي، وفيه مثقفين أعتبرهم خصومي، «زي» مثقفين في العالم العربي. يعني المسألة ليست غرب وشرق، أكثر ما هي أنا عقلية نقدية أم لا، هذا هو الملخص العام.

حتى لما تعيش في المجتمع الهولندي، المجتمع الهولندي ليس كتلة واحدة. لما تعيش في الولايات المتحدة؛ الولايات المتحدة ليست كتلة واحدة، إدراك هذا التنوع والتعدد فيما يسمى الآخر هذه نمرة واحد. نمرة اثنين: ما يسمى الآخر ليس خارج الأنا تمامًا. ولما قلت إن مشروع النهضة مسكون بالآخر، لولا الآخر ما كان يبقى فيه تفكير في النهضة أصلًا.

دائمًا أحب أن أستخدم مجاز المرآة إذا جاز الاستخدام، الآخر هو المرآة التي أنظر فيها. فالأنا تدرك عيوبها، حتى والآخر هذا «يهاجمني» ويهاجمه، بدون الآخر الأنا «مش» موجودة. لا توجد الأنا في فراغ، الآخر هو الذي يحدد للأنا موقعها، إنها — يعني الذات — على الشمال أو اليمين من الآخر، فلا وجود لشمال ولا يمين، ولا فوق ولا تحت، حتى ثنائية الأنا والآخر فيها شيء من التزييف هائل تاريخيًّا وفلسفيًّا، لأنه تاريخيًّا هذه مشكلة معقدة جدًّا؛ يعني لما أقول أنا المصري، تاريخيًّا وثقافيًّا ورثت ثقافات من العالم كله، العالم القديم كله.

لا بد من تفكيك الأفكار التي يقول عنها أمين الخولي: «تجد خلاء من العقل فتستقر»، لا بد من تفكيك هذه الأفكار سواء المتصلة فلسفيًّا بالأنا والآخر، أو تاريخيًّا أو ثقافيًّا. إن ما أتصوره ثقافات أو رؤى للعالم مختلفة. هذا الاختلاف ليس اختلافًا مطلقًا، إنما هو اختلاف في نقاط اتفاق في نقاط أخرى، وإن عناصر كثيرة جدًّا من الثقافات متداخلة ببعضها البعض. يعني لولا الفكر اليوناني والهندي والإيراني والفكر القديم كله لا نقدر أن نتكلم عن حضارة إسلامية ولا فلسفة إسلامية، ولولا الفلسفة الإسلامية لا نقدر أن نتكلم عن النهضة في أوروبا.

نسيج حركة الفكر الإنساني في حركته التاريخية، حضارة بتموت لكن ما يتبقى من هذه الحضارة يتسرب في الحضارة التي ترثها، الآن إحنا لا نعيش في عالم حضارات، نحن نعيش في حضارة واحدة وفيه ثقافات. أي ثقافة معزولة بتموت مثل ثقافة الهنود الحمر «خلاص خلصت»، يعني هم موجودون في السينما الأمريكية، لكن هذه الثقافة تم امتصاصها في الثقافة الأمريكية الحديثة. لا توجد ثقافة تعيش وحيدة؛ أي ثقافة منعزلة عن الثقافات الأخرى فهي تحكم على نفسها بالموت، وهذا تصور نظري، أعتقد أن حياتي في الغرب لو صح هذا التعبير كما نقول، جعلتني أدرك بشكل أعمق أن أي تعميمات هي خطأ فلسفي وخطأ تاريخي.

الآن السؤال الذي يشغلني جدًّا: هل يمكن أن نعمل مصالحة بين العقلانية وبين التدين، أو مصالحة بين العلمانية وبين الروحانية بشكل عام؟ الأسئلة هذه ناتجة من انخراطي في الجامعة والتدريس والاحتكاك برؤى العالم المختلفة من خلال الجامعة، جامعة الإنسانيات. إن الرؤى المختلفة للعالم سواء نتكلم عن ثقافات يهودية، مسيحية، إسلامية، أو نتكلم عن «الهيومانيزم»، أو نتكلم عن الثقافات الهندية البوذية والكونفوشيوسية … إلخ.

داخل هذه الثقافات على تعدُّدها واختلافها إيمان أو بُعد ما أعلى وأرقى في علاقة الإنسان بالكون، وفي علاقة الإنسان بالعالم الذي يعيش فيه، في العالم الآن وعي شديد جدًّا بالجريمة التي ارتكبها الإنسان في حق البيئة، وإلى أي حدٍّ التحدي الذي خلقه طمع الإنسان في البيئة، سيؤثر على الإنسان نفسه. هذا إدراك؛ لأن الإنسان ليس سيد الكون وإنما هو جزء من العالم، وكجزء من هذا العالم عليه أن يتعامل مع هذا العالم. هذا في جوهره فكر ديني، ليس بالمعنى اللاهوتي ولا بالمعنى المؤسساتي، وإنما أن الإنسان ليس وحيدًا في هذا العالم، وأنه تربطه وشائج عميقة جدًّا بما هو وراء المنظور.

نأخذ أشكالًا متعددة، الفن شكل من التواصل مع هذا المنظور، الشكل محاولة للوصول إلى وحدة العالم والإنسان. يعني مثلًا استخدام المجاز في الشعر، ما هو المجاز؟ المجاز يربط عالم الإنسان وعالم الحيوان وعالم الطبيعة، حتى في الأمثلة القديمة حينما نقول إن «واحدة زي القمر» ليه احتجت إلى شيء طبيعي من أجل الكلام عن الجمال. هذا معناه أن فيه إدراك لصلة بين الكائنات؛ روح ما. وروح هنا ليس بالضرورة بالمعنى الديني، روح ما تربط هذا العالم، وكل ما الإنسان يدرك هذا الترابط كل ما يبقى إنسان أرقى، وكل ما ينكر هذا الترابط ويتصور أنه سيد العالم والمتحكم فيه أو عبد فيه أو أشياء أخرى تتحكم فيه، تقل مرتبة إنسانيته، يعني الإنسان يكتسب إنسانيته كلما أدرك هذه الروابط. هذا ما يمكن أن نسميه الروحانية، وهي جذر الأديان والإنسان بطبيعته من حقه أن يعيش في عالم مأنوس، وليس في عالم عَدم.

هنا العقلانية المتشددة التي أسميتها العرجاء، وأحيانًا أسميتها الليبرالية العوراء؛ لأنه الليبرالية هي التي تستبعد اتجاهات داخل نفسها، كأنك تحكم على إنسان أنه ليس ليبراليًّا؛ يعني فيه مفاهيم حداثية مثل العقلانية والليبرالية ممكن هي «كمان» تتحول إلى أديان بالمعنى السلبي لكلمة دين، أي تتحول إلى دوجما. المسألة التي تشغل كثيرًا من الفلاسفة في العالم الآن، وشغلت الفلاسفة المسلمين، والمفروض أن تشغلنا أيضًا، هي الصلح بين العقلانية والدينية، الصلح بين العلمانية وبين الإيمانية؛ بمعنى أن العلمانية التي تستبعد الروحانية هي بالضبط مثل الروحانية التي تستبعد العلمانية. بمعنى أن فيه نوافذ مختلفة وهي في النهاية نوافذ وليست أبوابًا مغلقة، هنا أنا مضطر أستخدم المجاز مرة ثانية.

مشغول أنا بهذه القضية جدًّا جدًّا، ورائدي فيها ابن رشد، أنا في وقت من الأوقات كتبت عن ابن رشد أنه «تلفيقي». وأنا الآن أقول لا، ابن رشد لم يكن تلفيقيًّا، وبعض الناس قالوا عنه إنه كان نصابًا. لكن ابن رشد كان له ثلاث مسئوليات، كان فيلسوفًا وكان طبيبًا وكان قاضيًّا، وهذه ثلاث مهام صعبة جدًّا. يعني القاضي يحكم في مصائر الناس، والطبيب يعالج أجساد الناس، والفيلسوف يحاول ينظِّر لهذا كله. فمسئولية باهظة، غير أن تكون فيلسوفًا فقط أو قاضيًا فقط أو طبيبًا فقط. وهذا أرجعني إلى مسئولية المفكر، فيه نوع من المسئولية يجعل المفكر متواضعًا، ويبحث عن حل ويعمل عملية جراحية قد تكون مؤلمة فكريًّا، لا يجريها بخشونة وإنما يعملها برقة. يعني فتح باب الحوار مع الناس خصوصًا مع الإنسان العادي يشغلني جدًّا جدًّا الآن؛ لأنه في مناسبات كثيرة جدًّا أضطر أن أقول «حاجات» يبدو أنها تجرح شعور المؤمن العادي بالرغم من أني ليس عندي أي نية إني أجرح شعور المؤمن العادي، أنا «عايز» أفتح أفقه من خلال إيمانه وليس من خارج الإيمان، والإيمان انفتاح وليس انغلاقًا. ولما الإيمان يصبح انغلاقًا يصبح ضد طبيعته؛ لأن الإيمان هو انفتاح الإنسان على عوالم خارجه، حين يؤمن الإنسان فهو يؤمن بشيء داخله فقط، ولكن داخله وخارجه. هذا كله أُجري فيه حوارًا مع تلاميذي، وهم ليسوا مسلمين، ويكون حوارًا مثمرًا جدًّا جدًّا.

وأقرأ «حاجات» في التراث الإسلامي زي «حي بن يقظان» ولا أقرأها كرواية فلسفية فقط، ولكن أقرأها كسرد، وكسرد فيها من الغِنى بغض النظر عن قصد المؤلف أن السرد له قوة وسحر تجعله قادرًا على أن يوحي بدلالات ربما لم تدُر في خلد المؤلف. والقرآن فيه جزء كبير منه، له طبيعة سردية، ويستخدم البنية السردية ليس فقط في القصص، وإنما في أجزاء أخرى من القرآن.

هذا سؤال لا يهم المسلمين فقط، ولكنه سؤال يهم العالم كله؛ لأن العقلانية في وقت من الأوقات، خصوصًا العقلانية الأوروبية كانت بترًا، ضد الكنيسة، ضد الغيبيات، ضد الدين. وضعت الدين كله في سلة الغيبيات، ووضعت الغيبيات كلها في الأوهام والأساطير. الآن نحن نعود إلى أن الأسطورة ليست أوهامًا، إنما الأسطورة تعبير رمزي عن وعي، كل هذا ينعكس على قراءتي للقرآن، فهي ليست قراءة مغلقة ولكن هي قراءة مفتوحة، لم أعد مُغرمًا بالتأويل الذي كنت مغرمًا به وأنا شاب، تأويل المعتزلة مثلًا يد الله فوق أيديهم يعني قدرة الله.

العودة بالإيمان إلى نضارته، التي لا تنكر العقلانية، ولا تنكر الانفتاح، ولا تنكر الفكر. والإيمان نفسه هكذا انفتاح وليس انغلاقًا، وحينما يتحول إلى انغلاق بفعل المؤسسة وبفعل الدوجما وبفعل عوامل كثيرة جدًّا تقتل الإيمان نفسه. حين أقرأ ابن رشد «تاني» وأقرأ بعض أفكار الفلسفة الإسلامية مرة أخرى أحس فيها بروح إيمانية على درجة عالية جدًّا من العقلانية، وعقلانية تحتفي بالإيمانية، لكن فُهمت خطأ. يعني الفارابي وابن رشد حينما يضعان الفيلسوف والنبي على درجة تقريبًا متقاربة، الفرق بين النبي والفيلسوف أن النبي يتصل بعالم الغيب، بالمخيلة، والفيلسوف يتصل بالعقل، فيكون الناتج مقولات فلسفية عند الفيلسوف، فهي لا تحتمل التأويل، إنما بالمخيلة يكون الناتج سردًا، يحتاج إلى التأويل. وتفسيرهم «هايل»؛ لأن النبي يخاطب الناس كلهم. أما الفيلسوف فيكلم الفلاسفة. ولكي تكلم الناس كلهم فلا بدَّ من لغة غنية جدًّا. أحاول قراءة التراث الإسلامي بعين أخرى، عين ترى إلى أي مدًى كان الفيلسوف المسلم مشغولًا بهذه القضية، وليس التوفيق بين العقل والدين بالمعنى التجريدي. قضية الإيمان جزء عميق من الفكر الفلسفي، عدم استبعاد الإيمان من إطار العقلانية، وعدم تجريد العقلانية من بُعدها الإيماني.

– دراستك لابن عربي في رسالتك للدكتوراه — فلسفة التأويل عند ابن عربي — وبين كتابك «هكذا تكلم ابن عربي»، وبينهما مقالتك في مجلة الهلال سنة ٩٢ عن «المسكوت عنه في خطاب ابن عربي» هي نفس النقلة؟

– دراسة الدكتوراه طبعًا دراسة أكاديمية تسعى أن تضع ابن عربي في سياق الفكر الإسلامي، وفي سياق المرحلة التاريخية التي عاش فيها، سياق الأندلس وسياق التصوف. فيه أكثر من سياق لابن عربي، وبالتالي: ما هي الأدوات التأويلية التي استخدمها في فهم القرآن؟ ابن عربي لا يمكن استيعابه في رسالة دكتوراه. وأنا طوال الوقت أرجع له وأنا في هذا السؤال حول العقلانية والروحانية، أرجع إليه؛ لأن ابن عربي عمره ما أنكر العقل، واللقاء بينه وبين ابن رشد هو لقاء مُتخيل أو على الأقل ليس عندنا دليل على حدوثه «هل وجدتم عندكم ما وجدناه؟ فقال له نعم، فابتهج الفيلسوف، وبعد ذلك قال: لا، فحزن، وبعد ذلك قال له بين نعم ولا» حتى القصة فيها كثير من عناصر السرد القابل للكشف والتأويل.

ابن عربي عمره ما أنكر العقل، والعقل ضروري جدًّا، وهذا موجود في حي بن يقظان، لا يمكن أن تصل إلى عمق الإيمان من غير عقل، وفي رأيي أنهم لا يقولون إن العقل يقف هنا، لا، العقل يوصلك إلى بداية الأفق، وكأن العقل يفتح لك الأفق، الأفق الذي يوسعه الإيمان جدًّا. ولهذا في دراستي الثانية — يعني هكذا تكلم ابن عربي — ركزت على هذا الفهم عند ابن عربي، وركزت بغير أن أخلق من ابن عربي يوتوبيا. عندي في الكتاب فصل وأنا أحب هذا الفصل جدًّا أسميته «ضغط التاريخ». هو كفيلسوف يحاول أن يحلق في المثل الأعلى، لكن التاريخ يرجعه إلى الأرض؛ تاريخ الحروب الصليبية، فتجد ابن عربي أصوليًّا. لا بد أن أنظر إلى كل هذا عند ابن عربي، ولا أجعل منه الروحانية المطلقة؛ لأنه لا شيء اسمه الروحانية المطلقة.

المفكر يحاول باستمرار أن يسمو بالواقع، لكن الواقع أحيانًا يجذب المفكر إلى الأرض، نحن الآن في العصر الحديث، المفكر لا بد أن يكون واعيًا بهذا البعد بأن قدميه على الأرض وعقله يجذبه إلى السماء، وأن هذا التوتر هو نفس التوتر بين العقل والإيمان. يعني أن ننظر للحياة وللفكر وتاريخ الفكر وتاريخ الثقافة ليس بأنها ذات بُعد واحد إنما توتر، وهذا التوتر ينتج نوعًا من الغِنى يعني دائمًا الإنسان في هذا التوتر. يعني الإنسان الواضح هو «روبوت» الغموض جزء من نسيج الوعي، ولا بد أحيانًا أن نحتفي بالغموض، يعني البحث عن الوضوح واليقين. نعم اليقين مرتبط بالإيمان صحيح، لكنه مرتبط بدرجة عالية بالغموض، ولذلك «الذين يؤمنون بالغيب». الغيب بعض الإخوان الجهابذة يفكرون الغيب هذا مكان أو حاجة في الكون اسمها الغيب، يؤمنون بالغيب يعني يؤمنون بدون ما يكون فيه دليل مادي على إيمانهم. الإيمان بالغيب هذا، هو إيمان بأنه فيه أسئلة ليس عندك إجابة واضحة تمامًا عليها، فتتركها في الغموض أو تحاول أن تبحث عنها، كونك في هذا الغموض هذا هو الإيمان، الإيمان ليس إيمان العجائز، عمر قال «اللهم إيمان العجائز»؛ لأنه كان في نفس الحالة هذه، حالة الغموض، فكأنه خاف. فكيف تزود المؤمن بقوة ألا يخاف من هذا الغموض بأن يعيشه باعتباره تجربة إنسانية، وليس باعتباره أنه شيء مخيف.

كلنا سنموت، الموت شيء مجهول ومظلم، ولكنك تعيش هذا المجهول، أو تتوقع هذا المجهول، أو تتعايش مع احتمال أن هذا المجهول سيزورك ذات يوم ويطرق بابك. ليس عندك سؤال على هذا. نعم، العلم يحاول، لكن ليس عندك سؤال على هذا. وعظمة الإنسان أنه عائش هذه الحالة. الملحد يُريح نفسه حتى يصل إلى الوضوح، فيقطع على نفسه حالة الغِنى الغامضة هذه. المؤمن المنغلق أيضًا يفتح على نفسه الأسطورة، الأسطورة بمعنى الخرافة. إنما أنا في رأيي أن الإيمان الحقيقي هو الذي يعيش حالة الغموض ويحتفل به باعتباره طبيعة الإنسان وطبيعة الكون. العلم يحاول أن يحل كل هذه المشاكل، لكن يظل العلم كلما يتقدم يترك مساحة المجهول أوسع. هنا الإيمان والمعرفة معًا ليسا متناقضين.

هذا على المستوى الشخصي، وهذا ما يجعلني أحتفي جدًّا بالفن وأستمع إلى «المزيكا» وأزور متاحف؛ لأن هذا جزء من إمكانية الفن أن يُجيب لك على بعض الغموض أو يعمق لك بعض أوجهه. وحين أقرأ القرآن أجد الغموض الموجود به ليس أنه متشابه ومحكم … إلخ، لا؛ فمثلًا لما أقرأ: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، الضمائر مرجعيتها تتداخل تمامًا بدرجة عالية من الشادية — تداخل الظلال — والغموض والمتعة في نفس الوقت، أو سورة الرحمن (مليانة).

هنا أيضًا كيف تستمتع بالخطاب القرآني، وتدخل إلى عوالم يفتحها بشعريته وغموضه، أكثر مما تحاول إنك تفسر هذا الغموض كأنك تفك «حجاب». وكنت في شبابي من المتحمسين إلى إزالة هذا الغموض كما فعل المعتزلة، لكني أقول الآن: لا، لا يمكن إزالة هذا الغموض. وإذا كانت إزالة هذا الغموض ممكنة ستكون بمثابة إفقار للمعنى. مهمتي كمفسر أن أكشف للقارئ غِنى هذه الاستعارات أكثر من أن أقول له لا، هذه معناها كذا وليس كذا؛ لأن الحقيقة ليس لها معنًى واحد، بل لها أكثر من معنًى. مثلًا يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، المعتزلة قالوا يد الله تعني قدرة الله، وهذا تبسيط للمعنى فظيع. الآية تقول إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ هنا مهم تحديد الخطاب، المُخاطب هنا محمد، لكن المُخاطبين المباشرين الذين بايعوه إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وأن البيعة هكذا بوضع يد على يد. فلا تستطيع أن تفصلها باعتبارها القدرة، تكون سخرية من المبايعين. لكن اليد التي تبايع ليست يدًا تمارس سلطة بل يد تتعاون. فالاستعارة هنا لا يمكنك أن تحلها بأنها معنًى مجرد. الغنى هنا هو غنى الموقف، والمخاطب الأول؛ لأنه كانت أول مرة بعد معاناة الرسول في مكة يجد أنصارًا يبايعونه على أن يحموه بحياتهم قبل أن يهاجر. لا يمكن أن تفسر هنا بمعنى القدرة فقط، وإلا يكون معنًى فقيرًا جدًّا.

– فيه ملاحظة هنا: اختيارك للعنوان «هكذا تكلم ابن عربي»، هنا أنت تتعامل مع ابن عربي كخطاب وليس كنص.

– صحيح.

– من قراءة الكتاب ذاته، التداخل ما بين صوتك وصوت ابن عربي أحيانًا داخل النص.

– صحيح.

– قلت: لأنك أنت تتكلم عن ابن عربي، لكن ما زلت أنت الذي يتكلم، فأنت موجود.

– صحيح.

– فهي نفس النقلة التي تكلمنا عنها في انتقالك من مفهوم النص لمفهوم الخطاب في دراستك للقرآن.

– أنا أحاول أن أحلل خطاب ابن عربي، لكن في نفس الوقت أنا داخل في جدَل مع ابن عربي؛ لأن هذا هو البحث العلمي بالمعنى الإنساني، وهذا غير البحث العلمي في المعمل؛ لأنه ممكن يكون في درجة من التجريد، لكن في العلوم الإنسانية، أنا عندما أقرأ ابن عربي أحاول أن أصل إلى ماذا يقول. فأحيانًا يتداخل ما يقوله ابن عربي فيما أريد أن أقوله؛ لأن هذا هو جدل الخطابات، مع كل الحرص أن أرى ابن عربي في سياقه التاريخي كأني أعيش أزمته، وأعتقد أني في هذا الكتاب عشت أزمة ابن عربي، أزمة مفكر يريد أن يخلق عالمًا مثاليًّا، لكن العالم لا يعطيه فرصة، يريد أن يخلق عالمًا من الحب.

مشروع أبو زيد للتفسير

– بالنسبة لفكرتك أو مشروعك عن تفسير القرآن، مقارباتك الماضية أصَّلت فكريًّا من ناحية المنهج وطريقة التناول، لكن المقاربة للكتاب ككل، للنسيج ككل في عمل متكامل.

– أنا أعتقد أن هناك تحديًا في المقاربة، أنا متوقع أن أصل للحل من خلال الممارسة نفسها، أنا عندي بنيتان للقرآن؛ البنية التاريخية — حسب النزول في التاريخ؛ وبنية المصحف — ترتيب التلاوة — ولا أستطيع أن أفضل بنية على الأخرى في عمل كبير للتفسير، لماذا؟

لأن القرآن الذي أثر في الحياة والثقافات الإسلامية عبر القرون هو القرآن بالشكل والترتيب المكتوب في المصحف، فلا تستطيع أن تُلغي هذا التراكم التاريخي. وتقول إني سأرجع للظاهرة القرآنية — التعبير الذي يستخدمه أركون عن نزول القرآن في الزمن والتاريخ — فقط. الرجوع للظاهرة القرآنية مهم لكن القضية هي: كيف تدرس الظاهرة القرآنية في بُعدَيها؛ التاريخي والآني؟ هذا هو التحدي. أنا أحاول بيان الجزئيات؛ الخطابات بالشكل الذي ذكرته من قبل من هو المتكلم، من هو المُخاطب، من هو المخاطب الضمني، ما هو مود الخطاب، ما هو مناط الخطاب إذا استخدمت مصطلحات الفقهاء، ما هو المسكوت عنه في الخطاب … إلخ؟ كل هذه الأبعاد.

لكن في نفس الوقت لا بد أن أضع هذا الجزء من الخطاب في سياق الكل القرآني، وهذا هو التحدي الذي نظريًّا لا أستطيع حله، لكن أنا متوقع من خلال عملي في التفسير نفسه أن أصل لحلول فيه. وبهذا الشكل نقارب حل مشكلة التاريخي والكلي، التجزيئي والكلي؛ لأن في النهاية القرآن فيه رؤية للعالم، لكنها رؤية للعالم لا تستطيع أن تصل إليها من خلال بُعد واحد من البعدين؛ لازم أن تربط البعدين ببعض. إذا نظرت فقط للبعد التاريخي؛ فلن تصل إلى رؤية العالم، ستصل لرؤى للعالم، وإذا نظرت إلى البعد الكلي فقط ستصل إلى رؤية للعالم إلى حد كبير عامة، وإلى حد كبير أيديولوجيتك متدخِّلة فيها.

أنا مدرك حجم التحدي، ولا أزعم أني سأحله، لكن على الأقل أكون عملت خطوة، فتحت الباب لنقاشات. أترك جانبًا طبعًا نقاشات الذي يرفض تمامًا، وسيقول «هذا كفر»، أو من سيقبل تمامًا دون تفكير. أنت تحتاج إلى من سيأخذ هذا مأخذ الجد، لا مأخذ القبول المطلق ولا الرفض المطلق، كما أخذ المسلمون الأوائل تحديات المسيحيين الأوائل مدخل الجد. المفكرون العرب الأوائل أخذوا كل ما كان يقال مأخذ الجد، وبالتالي انخرطوا في إنتاج معرفة، فأنت حينما ترفض من البداية أو تقبل من البداية، أنت لست منخرطًا في إنتاج معرفة. إما متقبل تمامًا سلبي، أو رافض تمامًا سلبي، والموقفان خطأ، موقفان أقرب لأن يكونا الصوت والصدى، حينما أُدرِّس في الجامعة لا يسعدني أبدًا الطالب الذي يأخذ ما أقول وهو مقتنع به «وخلاص»، وكنت أقرب إلى الطالب الذي يحب أن يُماحك آرائي.

فيه تحديات كثيرة في الدراسات الإسلامية والقرآنية، نحن الباحثين المسلمين خائفون أن نقترب منها، وأنا رأيي أن هذا الخوف تعبير عن انعدام الثقة في النفس، والخوف من الخطأ، وكلاهما لا يجعلك فاعلًا. وأنا أرى أنه قد حان الأوان ألا نترك المجال لغيرنا ونظل نتفرج وفقط، نرفض أو نقبل. لقد حان الأوان أن ننخرط في إنتاج معرفة، خاصة بالتراث الذي ننتمي إليه، والذي نعتبره تراثنا، ومن حقِّنا أن نفهمه وأن نناقشه وننقده ونعدِّله … إلخ.

قلت له: لو نظرنا لخطابك كله، وأنا كنت أقف دائمًا أمام مقدمات كتبك؛ لأنك دائمًا كنت تصل الكتاب بما سبقه من كتاباتك، كأنك ترسم ملامح صورة كاملة متداخلة مع بعضها، النُّتف الموجودة في كل هذه الدراسات عن مواقف مثلًا في «مفهوم النص» أنت قد حللتها، عن تعارض ليس له أي قيمة بين الفقهاء مثلًا، أو شرحك لسورة الإخلاص. هذه الأجزاء حينما تُجمَّع مع بعضها في نسيج تقوي بعضها بعضًا.

– نعم، لو أحد جمَّع هذه الأمثلة من كتب مختلفة، ووضعها مع بعضها ممكن يأخذ نوعًا من الانطباع عن: ما هي إجراءات التحليل التي يمكن أن أبدأ بها، والتي طبعًا ممكن أن أطورها؟ لأن هذه إجراءات جزئية. لمَّا تأخذ سورة أو آية تكون محكومًا بالسياق الذي تتكلم فيه، يعني مثلًا تحليلي ﻟ «اقرأ» — يعني سورة العلق — في مفهوم النص هو مرتبط ببيان العلاقة الحميمية بين المتكلم وبين المتلقي؛ بدليل وجود ضمائر كاف المخُاطَب، لكن في هذا السياق لم أسأل: من هو القائل «اقرأ» صوت من هذا؟ لا يمكن أن يكون الصوت الإلهي؛ لأن الصوت يقول له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، ولو كان الصوت الإلهي كان قال له: اقرأ باسمي. هذا طبعًا لم أطرحه؛ لأني كنت مشغولًا بقضية أهمية المتلقي الأول. لم أكن طورت فكرة أن المتلقي الأول هو همزة الوصل مع الجماعة، ولم أكن مهتمًّا بتعدد الأصوات. فكان تركيزي على أن «اقرأ» كما قُلت كأنها بطاقة تعريف «ربك»، وفيها الحميمية الشخصية. والسورة تستخدم ربك وليس الله، وبما توحي بأنه مَن رباك ورعاك، ولكنه ليس ربك وحدك ولكن الذي خَلَقَ وخَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، وبعد ذلك انتقل اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، والكرم جزء من الثقافة بمعنى كرم الأصل؛ لأن محمدًا كان يتيمًا.

هنا — يعني في كتابه مفهوم النص — أنا كنت مشغولًا بزاوية واحدة، في التفسير سأكون مشغولًا بأكثر من زاوية؛ نتيجة غِنى الأبعاد التي تدريجيًّا أصبحتُ أكثر وعيًا بها. قواعد التجويد هي قواعد حريصة جدًّا. إن القارئ لا يعمل تأويلًا، لازم يكون الصمت هنا، لازم يبقى الوصل هنا، لازم يبقى الفصل هنا، «خلي بالك» إن الصمت، والوصل والفصل كل هذه قواعد تأويلية، علم التجويد وضع لنا تأويلًا جامدًا لا تخرج عنه، باختصار إن قواعد التجويد ليست قواعد لغوية محايدة كما نميل إلى التفكير، إنما هي قواعد متأثرة إلى حد كبير بالمناخ اللاهوتي والجدل اللاهوتي، وفي النهاية القواعد اللاهوتية الحنبلية الأشعرية هي التي سادت.

مشروع التفسير سيكون مركبًا جدًّا، سآخذ القارئ في رحلة قراءة القرآن في سياقه التاريخي وفي بنيته الحالية، في الدلالات التي يُشِعها، لن ألتزم التزامًا حرفيًّا بالمنهج التاريخي ولا التزامًا حرفيًّا بالمنهج التتابعي.

– جهودك النقدية وأنا كقارئ لست متخصصًا في علم تحليل الخطاب، هذه الجهود — تمهلت في الكلام — هذه الجهود حتى الآن مجرد مقدمة، لكن التفسير سيجعلك تركز الأفكار.

– أنت عندك حق، أنت قلت كلام «مظبوط» وهو: إنه طول الوقت وكأننا نعمل «وصفة» أطبخ «بقى»، نعم أنت — يعني نفسه كنصر أبو زيد — تكلمت عن المنهج، كل المقدمات: نص وخطاب، كلها لا بأس بها، لكن خذ المفهوم الذي وصلت إليه وقدم للقارئ، وأنا حاسس إني أقدر أعمل هذا، لن يكون عملًا كاملًا، لكن على الأقل أستطيع وضع الخطوط العريضة. عندي إجابات كثيرة لكل الآيات الإشكالية التي وقف عندها المفسرون، أنا أرى لها حلولًا لو طبقنا منهج تحليل الخطاب. وهذا ليس تبسيطًا، والقرآن ليس كتابًا في اللاهوت، اللاهوت في القرآن على درجة من الغموض عالية جدًّا لذيذة جدًّا، ولهذا أصبحت أحتفي بالغموض.

كيف لك أن تتخيل إلهًا لا يتكلم ولا يغضب ولا يحب وليس له يد ترعى ولا تبطش؟ هل يمكن تخيل إله تخيلًا مجردًا؟ المحرك الأول مثلًا عند أرسطو أو العقل الفعال عند الفلاسفة هذا إله لا يصلح للإيمان، إنه إله يصلح للتفكير. القرآن يقدم إلهًا للتفكير وإلهًا للإيمان بالطريقة التي أدركها المتصوفة، يعني ابن عربي حينما يقف عند لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ يقول لك: هي آية تنفي التشبيه لكنَّ بها تشبيهًا، إنه جعله شيئًا وليس ككل الأشياء.

إدراك المتصوف إلى هذه الدرجة العالية من الغموض والاختلاط والاحتفاء بها، هو ما يميز المتصوف.

إنه عالم من الغموض «إن قلت عبد فذاك حق، وإن قلت رب فذاك حق».

هذا ما أود أن أعمله، وبلغة سهلة طبعًا، ليس بها الأسس النظرية، حاجة تانية، نسخة ثانية من «في ظلال القرآن»، من غير الإطار المعرفي لسيد قطب؛ لأن قطب حين يترك نفسه في ظلال القرآن يكون رائعًا، وأكتب من غير عُجمة المصطلحات. أصبحت الأمور واضحة في ذهني.

وكان صوت أبو زيد قد تعِب جدًّا، فالتوقيت الآن وكأنه الواحدة صباحًا في هولندا، وعليه أن يذهب بعد قليل للقاء بعض الأساتذة من جامعة كولومبيا على العشاء، وبعد هذا الحوار بعامين اتصل بي، وطلب مني أن أشترك معه في العمل على التفسير، وكان الاتفاق أن نلتقي في هولندا في شهر أكتوبر عام ألفين وعشرة، بعد عودته من برنامج زياراته العلمية في إندونيسيا، لكنه آثر أن يرحل عن دنيانا في الخامس من يوليو؛ ليظل الأمل قائمًا في استمرار العمل على هذا الحلم.

(٣) من نص المصحف إلى خطابات القرآن (قراءة في خطاب نصر أبو زيد)

١

حالة الركود الفكري والثقافي في حياتنا، تجعل التفكير أشبه بحركة في المحل، تجعلنا نُجمد المفكرين، فندرسهم في قوالب ثابتة، لا ندرك حركة التفكير عندهم ولا ندرك انتقالاتهم الفكرية أو تطورهم الذي هو تعبير عن تفاعل بين الفكر والواقع. ونموذج لهذا، دراسة خطاب نصر حامد أبو زيد، وعملية تجميده عند مرحلة كتابه «مفهوم النص» التي يسجنه فيها الدرس «الأكاديمي» العربي؛ مما يجعلنا لا ندرك الانتقالات الفكرية التي قام بها أبو زيد، ومن بينها الانتقال من تصوره للقرآن كنص وككتاب، إلى تصور القرآن كخطاب أو مجموعة من الخطابات، وما لذلك من تأثير على الدرس التأويلي والوعي الديني في وعينا المعاصر، وفي هذا الإطار؛ فإن إلقاء الضوء على التطور الذي شهده فكر أبو زيد وتفاعله مع الواقع ومع الخطابات الأخرى المتباينة.

فقد عاش نصر أبو زيد (١٩٤٣–٢٠١٠م) خلال دراسته الجامعية بعد الهزيمة الكبرى في ١٩٦٧م؛ تجربة تحول المعنى الديني، من: «الناس سواسية كأسنان المشط» إلى: «لقد رفعنا بعضكم فوق بعض درجات»؛ وذلك تبعًا لتحول بوصلة النظام السياسي من: العدالة الاجتماعية إلى الانفتاح الاقتصادي، بين نهايات ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. وكانت تجربته في دراسة مناهج المتكلمين التراثيين وتعاملهم مع القرآن، خلال دراسته عن مفهوم المجاز عند المعتزلة في جدالهم مع خصومهم من الأشاعرة، والتي أتْبعها بدراسته لكيفية تعامل تيار التصوف وروحانيته مع نصوص المصحف، من خلال دراسة عن «فلسفة التأويل عند محيي الدين بن عربي». فوجد أبو زيد أن النفعية وتوظيف النصوص لتبرير الواقع، التي عايشها في واقعه المعاصر، هي امتداد لممارسات القدماء؛ حيث تحولت الصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية إلى صراعات على ساحات النصوص، بين فِرق المسلمين ومذاهبهم.

فكان السؤال الذي تولد عند أبو زيد: هل يمكن أن نصل لمعنًى موضوعي للنص، لا يخضع للتحيزات الأيديولوجية المُسبقة؟ أو بمعنًى آخر: هل يمكن أن نصل لمعنًى حقيقي صحيح للنص؟ فقام بدراسة علوم القرآن في صورتها الأخيرة التي صاغها الزركشي والسيوطي، للبحث فيها عن مفهوم النص المتداول في علوم اللغة الحديثة وعلوم تحليل النصوص، وهل له وجود أو له بذور مُدرَكة عند القدماء في الثقافة التراثية؟ فمن خلال كتابه «مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن» حاول أبو زيد ربط الدراسات القرآنية بتحليل النصوص الحديثة، وبعلوم اللغة والبلاغة كما كانت عليه عند المعتزلة وعبد القاهر الجرجاني من القدماء، وكذلك عند محمد عبده والشيخ أمين الخولي من المحدثين. وبنى كل ذلك على التصورات اللاهوتية الاعتزالية، في علاقة القرآن بالتاريخ من خلال مفهوم خلق القرآن وحدوثه في الزمن، في مقابل التصورات اللاهوتية الأشعرية، والتصورات السلفية التراثية حول قِدم القرآن وعدم ارتباطه بأحداث الزمان والمكان والأشخاص، فكان أبو زيد يدافع عن فهم صحيح في مواجهة أفهام خاطئة، ويدافع عن فهم واضح قائم على العقل وعلى الدليل في مواجهة أفهام مخادعة منافية للعقل وأدلته.

ومنذ نهايات الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات، انتقل أبو زيد من التعامل النقدي مع جهود القدماء والتراثيين إلى مواجهة نقدية مباشرة مع التيار الديني المعاصر ورسالته الإعلامية وخطابه حول الدين وحول التراث. وفي خِضَم حالة السجال خلال قضية عدم ترقيته للأستاذية بالجامعة ومحنة قضية دعوى التفريق بينه وبين زوجته؛ انخرط أبو زيد في عملية نقدية للذات، أدرك خلالها أنه يقوم خلال عملية الرد على تأويلات خصومه بتأويلات سجالية، وأنه وإن كان يصل إلى نتائج مختلفة عن النتائج التي يصل إليها التيار النقيض، إلا أنها مبنية على مسلَّمات مشتركة مع خطاب ذلك التيار. وأنه مهما كانت تأويلاته أكثر عقلانية أو أكثر إنسانية وأكثر احتواء إلا أنها هي أيضًا تقوم على مبدأ التأويل والتأويل المضاد، فكان نقده لدراساته السابقة عن رؤيته للمعتزلة، ونقد مفهومهم للعقل، ونقد محدودية تصوراتهم عن الحرية، وكونها مفاهيم محدودة بحدود عصورهم وحدود تجربتهم التاريخية وسقفها المعرفي. وكذلك نقده لدراسته لابن عربي، وكيف أنه وقف عند حدود منطوق كلام ابن عربي وليس بكيفٍ يقوله، ولا بالمسكوت عنه في خطابه. ونقد منهج أستاذه حسن حنفي، المنهج القائم على «التلفيق»، وعلى تعبئة مضامين جديدة في قوالب علم أصول الدين القديمة، مما حول جهود حنفي إلى مجرد إعادة طِلاء للبيت القديم، وليست إعادة بناء لعلوم القدماء.

وهكذا توصل نصر أبو زيد إلى أنه في سعيه للوصول إلى معنًى حقيقي عقلاني، واضح من آيات المصحف، فإنه يقوم بعملية تأويل مؤسَّسة على نفس المسلَّمات اللاهوتية للخطاب النقيض، وبرغم من أنها تؤدي لنتائج مضادَّة لنتائج الخطاب التقليدي، إلا أنها في نهاية المطاف تعمل على ترسيخ ذات المسلَّمات اللاهوتية. فمثلًا حينما يعتمد الخطاب النقيض على استخدام النصوص ويتم الرد عليه بنصوص أخرى؛ فبرغم النتائج المختلفة لقراءة النص، فإن هذا النهج — الذي يعتمده كلا التيارين — يؤدي إلى ترسيخ مبدأ «سلطة النص». وكذلك يرسخ لقاعدة أن كل عمل أو رأي لكي يحظى بالشرعية، فلا بد أن نبحث له عن نص، يمنح العمل أو الرأي شرعية الوجود. وقد أوضح أبو زيد هذا الملمح في دراسته؛ عن كيف همَّش خطاب أبو حامد الغزالي، خطاب ابن رشد داخل الثقافة؛ لأنه رغم منطلقات ونتائج ابن رشد المختلفة عن منطلقات ونتائج خطاب الغزالي، إلا أنه في سِجاله معه تسربت مفاهيم الغزالي إلى خطاب ابن رشد. في ذلك الوقت، بدأ أبو زيد يدرك أنه تعرض لنفس ما حدث لابن رشد، وأن منهج الخطاب النقيض تسرب إلى خطابه أثناء حالة السجال التي عاشها خلال النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي. وهكذا شهدت الفترة التي أعقبت خروجه إلى أوروبا مراجعته العميقة لمنهجه في التعامل مع وفهم نصوص القرآن، وأدرك أنه رغم تباين تأويلاته الدينية ونتائجها عن نتائج الخطاب الديني التقليدي بتياراته المختلفة، إلا أنه ما زال داخل نفس البيت اللاهوتي وتحت نفس السقف المعرفي، فكانت عملية إعادة النظر في المفاهيم الأساسية التي ينطلق منها، ومنها بحثه في مفهوم «ما هو القرآن؟» وإعادة النظر في التصورات المرتبطة به في الثقافة، بما فيها إعادة النظر في مفاهيم وتصورات التيار الاعتزالي ذاته عن القرآن.

أيضًا كان لمفهوم محمد أركون حول «الظاهرة القرآنية» وتركيزه على عملية تحول القرآن من خطاب شفاهي إلى مصحف مدون، ودور عملية التدوين وشروطها، وتأثيرها على تحديد وتحجيم دلالات القرآن، دور رئيسي في إدراك أبو زيد أن التعامل مع المصحف على أنه كتاب أو على أنه «نص»، حتى لو استخدمنا كلمة «نص» بالمعنى الحديث لها، ليدرك نصر أن النظر للمصحف على أنه نص أو على أنه كتاب، ولا بد أن يكون له معنًى مركزي واحد. إن هذا التصور عن المصحف هو الأساس المعرفي وراء كل عمليات التأويل والتأويل المضاد التي جعلت كل تيار يحاول جذب النص لينطق بمنطلقاته الفكرية، ويجعل تأويلات المخالفين له في الهامش، فينطق المصحف بالشيء ونقيضه حسب مَن المتحدث وحسب مَن المستشهد، وبأي نصوص آيات يستشهد وكيف يستشهد بها.

ومن هنا بدأت رحلته لإعادة النظر في مفهوم القرآن وفي تعريفنا له، وتوصل أبو زيد إلى أنه برغم استبدال مفهوم خلق القرآن عند المعتزلة بمفهوم قدم القرآن عند الأشاعرة، إلا أننا نظل في أَسْر تصورات القدماء، التي هي بِنْت عصرها. فالمعتزلة والأشاعرة، رغم اختلافهم، فإنهم ينتمون إلى نفس البيت المعرفي، المحدود بالسقف المعرفي للزمن الذي ينتمون إليه، وعلينا أن نخرج من أسر البيت المعرفي القديم ونتجاوز سقفه المعرفي المحدود، ولا نكتفي بمجرد الانتقال من غرفةٍ في بيت التراث إلى غرفة أخرى في نفس البيت، فنحن ما زلنا تحت نفس السقف وفي نفس المدينة. من هنا كانت رحلة انتقال أبو زيد من تعريف القرآن ﮐ «نص» إلى تعريف القرآن ﮐ «خطاب» أو كخطابات.

٢

رغم أن كلمة «نص» كانت تُستخدم قديمًا بدلالة مختلفة عن استخدامنا لها الآن، فعند القدماء كانت تشير إلى درجة من درجات وضوح المعنى وغموضه، على مقياس الوضوح والغموض لدلالات ومعاني التركيب اللغوي، حيث كان يمكن أن تُقسم الدرجات حسب تدرجها من الوضوح الكامل إلى الغموض الكامل هكذا: «النص، الواضح، المؤول، المُشكل، المتشابه»، فكانت درجة النص هي: الواضح وضوحًا بينًا. فكل متحدث باللغة يستطيع أن يدرك المعنى الظاهري للكلام بمجرد معرفته للغة؛ ولذلك كان القدماء يقولون: «لا اجتهاد مع النص»، كانوا يعنون به الواضح دلالته عند الجميع وضوحًا أقرب للبديهيات اللغوية. وكذلك كانوا يقولون: «النصوص عزيزة» أي إن وجودها نادر في المصحف. لكن كلمة «نص» أخذت أبعادًا أوسع في عصورنا الحديثة، حيث أصبحت تشير إلى نسق لغوي كلي، سواء كبر أو صغر حجم النسق، أو اتسمت فيه الدلالات بالوضوح أو الغموض.

وبرغم أن نظريات الدرس اللغوي والبلاغي عند القدماء، في غالبها كانت تهتم بدراسة التراكيب اللغوية والبلاغية على مستوى الجملة ومستوى العبارة، ونحن في عصورنا الحديثة نتناول التراكيب في أنساق أوسع من الجملة ومن العبارة، حيث يمكننا الآن التعامل مع عمل أدبي ككل أو نتعامل مع كل أعمال أديب ما كنسق كلي واحد، رغم تباعدها ورغم انفصال الوحدات عن بعضها، فإنه يجمعها وحدة المؤلف في نسق. ورغم أن نصر أبو زيد استخدم كلمة نص بدلالتها الحديثة في علوم اللغة وفي تحليل النصوص، وساهم في اتساع نطاق الدلالة من دراسة العلامات اللغوية إلى دراسة الدلالة اللغوية في علاقتها بكل أنساق العلامات الأوسع من دلالات اللغة إلى العلامات بالمعنى «السيميوطيقي - السيميولوجي»، أي في إطار كل ما يصدره الإنسان من علامات دالة. فالطقوس لغة وعلامات، الأزياء علامات، إشارات المرور في الشارع لغة وعلامات دالة. ولكن برغم كل هذا الاتساع، فإن التعامل مع المصحف كنص بالمعنى الحديث لكلمة نص، يولِّد مجموعة من المشكلات الفكرية واللاهوتية.

فالنص بنية مستقلة، وتكوين قائم بذاته، له عالمه الخاص، ومفهوم النص يستدعي مفهوم «المؤلف»، الذي يقوم بعملية بناء النص، ويمكنه أن يحذف ويراجع ويضيف، ويجعل من معاني النص معنًى مركزيًّا، فتكون هناك قصدية من المؤلف، يسعى لإيصالها عبر طريقة بناء وتركيب النص. ورغم أن المؤلف يكون في ذهنه تصور عن قارئ ما لنصه، عبر تصوره لقارئ ضمني. وعملية «التناص» التي تتداخل فيها النصوص مع بعضها الآخر، وتربطها بما هو خارجها. وللنص سياق يظهر فيه، وتتأثر به معاني النص. وبرغم كل ذلك فإن النص كيان مستقل قائم بذاته، تحركه قصدية مؤلف. والقدماء كانوا على وعي بذلك، فلم يقل أحد إن القرآن أو المصحف من تأليف الله سبحانه عز وجل، بل تحدثوا أن الله «مُتكلم بالقرآن»، وأن القرآن «كلام الله». رغم ذلك فقد ظل المفهوم والتصور الرابض تحت سطح الممارسات التراثية التأويلية المختلفة قائمة على تصور المصحف كنص كتاب.

التعامل مع المصحف ككتاب تتولد عنه ظاهرة قد تناولتها في مؤلف سابق لي٣ وأسميتها «توتر». فالفهم السائد عن الكتاب أن له مؤلفًا، وأن هناك مقصدًا أو مقاصد للمؤلف يسعى إلى إيصالها من خلال الكتاب؛ مما يجعلنا نبحث عن مركز للدلالة وعن بؤرة للمعنى في الكتاب أو في النص، وعن معاني ودلالات هامشية في النص. فحين تتعامل مع المصحف ستجد تصورًا للذات الإلهية يدور حول التنزيه الكامل لله، عن أي مشابهة للبشر. وستجد أيضًا بالمصحف التشبيه والتجسيم الكامل للذات الإلهية في مواضع أخرى، فأيها هو المعنى المركزي، وأيها هو مقصد المتكلم، التنزيه أم التشبيه؟ فيسعى علم الكلام والفلسفة لحل هذا الإشكال عبر ثنائية (المحكم والمتشابه)، أو بلغة عصرنا الواضح والغامض.

وفي مجال توجيهات السلوك التي اهتم بها الفقه وتناولها الفقهاء ستجد في كتاب المصحف أن للخمر منافع وأضرارًا، وأضرارها أكثر من منافعها، وستجد توجيهًا بعدم الاقتراب سكارى للصلاة، وستجد أن الخمر رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه. فأيهم مقصد المتكلم؟ فيحاول الفقيه أن يرفع هذا التوتر بمقولات «الناسخ والمنسوخ»، وذلك عبر السعي لتحديد ما نزل متأخرًا من القرآن؛ ليكون هو آخر توجيه سلوكي، الذي من شأنه تغيير التوجيه السلوكي الذي جاءت به الآيات التي نزلت في وقت مبكر. ومن هنا تظهر أهمية مفاهيم مثل «العام والخاص» لتعيين ما يكون معناه عامًّا لكل المسلمين في كل زمان ومكان، وما هو خاص محدود في واقعة أو في شخص. وكذلك تحديد ما هو «المطلق والمقيد» … إلخ. وسيجد اللغوي إشارات في كتاب المصحف تَنسبُ قدرة الإرادة لجماد، كالجدار الذي أراد أن ينقضَّ، فيحاول اللغوي والبلاغي رفع التوتر عبر مقولتي «الحقيقة والمجاز». وتحاولها التيارات الصوفية والمذاهب الشيعية: بمقولتي «الظاهر والباطن»، أو يحاولها الفقهاء من خلال تحديد مقاصد كلية للشريعة؛ لتكون مبادئ هادية لهم في اختيار وترجيح المعاني المركزية والهامشية في النص.

معظم هذه الجهود، سواء في علم الكلام أو الفقه وأصوله أو التصوف … إلخ تقوم تقريبًا على التعامل مع المصحف كنص كتاب، له متكلم به، هو الله سبحانه وتعالى، وللمتكلم قصدية من كلامه، وكل جهودنا في الفهم تسعى للوصول لتلك القصدية. فبؤرة التركيز خلف هذه الجهود، هي على المتكلم وعلى قصده من كلامه. وهذا القصد يُتصور أنه يجب أن يكون مقصدًا واحدًا مركزيًّا صحيحًا، والمعاني الأخرى هي مقاصد خاطئة أو معانٍ مضلِّلة وهامشية، فتكونت في ثقافة المسلمين نظرية في الفهم وفي التأويل وفي التفسير، تشرَّبت بها علوم الكلام والفلسفة واللغة والبلاغة، وتأثرت بها أصول الفقه إلى علوم، كما طال تأثيرها مدارس التصوف.

فعلماء الكلام والفلاسفة المسلمون سيقفون عند الكلام الإلهي: هل الكلام صفة ذات قديمة قدم الذات الإلهية، أم هو صفة من صفات الفعل؟ فلو الكلام صفة قديمة، إذن فاللغة أصلها إلهي وقديم، ويصبح القرآن كونه كلامًا لله، فهو أيضًا قديم قِدم الذات الإلهية. وإذ أخذ البعض مثل المعتزلة أن الكلام صفة فعل، أي إنه فعل بعد خلق الله للعالم، مستندين في ذلك إلى أن أفعال الله كلها حكمة، وتصور أن الله يكلم العدم هو فعل غير حكيم، ناقص، والله منزَّه عن النقص؛ لذلك فكلام الله فعل بعد خلق الله للموجودات. فتصبح اللغة حسب تصوراتهم مخلوقة وأنها مواضعة واتفاق بين البشر، ويصبح القرآن مخلوقًا وليس قديمًا؛ لأنه صفة فعل وليس صفة ذات أزلية. فيأتي الأشاعرة ويحاولون رفع التوتر بين الجانبين، بالتفرقة في الكلام بين المعاني وبين الألفاظ؛ ليقولوا إن المعاني قديمة قدم الذات. لكن خروجها في ألفاظ عربية يجعلها مخلوقة، ويفرقون بين اللغة الإلهية القديمة وبين مواضعة البشر بعد ذلك في لغات أخرى كالعربية والإنجليزية. ويصبح القرآن قديمًا كمعانٍ ومخلوقًا كألفاظ باللغة العربية. هذه الاتجاهات الثلاثة رغم الاختلافات الظاهرة بينها فهي حجرات في بيت، وتحت سقف معرفي واحد يجمعها. فبؤرة تركيزها هو الوصول إلى قصدية المتكلم ودلالة كلامه، حتى مع الاختلاف بينها حول كيفية الوصول إلى قصدية المتكلم. وهل هذه القصدية سابقة على الكلام أم لا؟ ورغم الاختلاف بينهم حول هدف الكلام الإلهي، وهل يهدف إلى سعادة الإنسان وإلى خيره أساسًا، أم هدفه هو تعريف البشر بالله وبكيفية طاعته وبطريق عبادته اتقاءً لعذاب ناره وسعيًا إلى دخول جنة نعيمه؟ السقف المعرفي المشترك هنا رغم كل هذه الاختلافات أن نظرية التأويل التراثية القائمة على مفهوم النص يتم بناؤها على المجاز اللغوي، والمجاز اللغوي أداة قاصرة، فهو يرتبط في الغالب بالمجاز على مستوى الجملة اللغوية؛ ولذلك يتم التعامل مع آيات المصحف بشكلٍ منفصل غالبًا من سورة الفاتحة إلى سورة الناس. وكذلك تم حصر المجاز في آيات التوجيهات السلوكية التي يتناولها الفقه، ولم ينسحب المجاز عندهم على آيات «المعتقدات»، أو إلى آيات القصص، أو الأخلاق.

ورغم إدراك علوم الفقه للتفاعل بين كلام القرآن وبين الواقع من خلال علوم المكي والمدني والناسخ والمنسوخ ومرويات أسباب النزول، ثم من خلال تصورات كلية عن مقاصد للشريعة. فرغم ذلك الإدراك فإن جهود الفقهاء تسعى إلى طرح «معنًى واحد ثابت» يسري على المسلمين في كل زمان ومكان، وإن اختلف هذا المعنى من مذهب إلى آخر. فإن هذا المعنى الواحد يتم ترسيخه من قِبل السلطات الحاكمة، عبر اختيارها لمعنًى أو رأي فقهي واحد وتسييده بقوة السلطان، ولا يسود بقوة وسلطة المعرفة وآلياتها الذاتية.

ورغم خروج تيارات التصوف من أسر المجاز اللغوي وضيقه إلى رحابة الرمز في تعاملاتها مع المصحف، وتصورها أن الكون كتاب منثور والقرآن كتاب مرقوم، وأيضًا إقامتها علاقة الله مع الإنسان ومع العالم على الحب، وليس على مجرد الطاعة والجبر أو الرغبة في الجنة واتقاءً للنار. رغم كل ذلك فقد استغرقت التأويلات الصوفية والعرفانية الشيعية في عوالم من الرمز لم تتقيد بمنطوق الكلام ولا مواضعات اللغة ولا تاريخية الثقافة في كثير من جهودها.

هذه الجهود التي قامت على الطبيعة النصية، وقامت على التركيز على المتكلم وعلى مقصده، ولم تولِ الرسالة ذاتها ومقاصد الكلام التي قد تكون أوسع من مقصدية المتكلم، ساهمت في تفتيت المعنى عبر تفتيت الوحي وتفتيت القرآن وتفتيت المصحف والتعامل معه بطريقة جزئية؛ ليركز المتكلمون والفلاسفة في سعيهم للوقوف على المعاني اللاهوتية على نوع وعدد معين من آيات المصحف منفصلة عن بقية الآيات. ويركز الفقهاء جهودهم على آيات التوجيهات السلوكية «التشريعية» في معزل عن بقية الآيات. ويركز المتصوفة على آيات ذات بُعد أخلاقي وروحي. وفي ظل هذا التفتيت والتجزيء والعزل، تغيب الرؤية القرآنية الكلية للعالم، فكيف نفهم آيات المصحف، وتمييز ما هو توجيهي (تشريعي) منها في ضوء اللاهوتي والأخلاقي والروحي، في سياق ثقافي، من تفاعُل الوحي بما هو خارجه. من هنا عجزت نظرية التأويل التي قامت على البنية النصية المتجزئة التي تضع المتكلم ومقصده في بؤرتها، فينتج عن ذلك التأويل والتأويل المضاد، ونحتاج أن نزرع نظرية جديدة لنا في التأويل تستوعب القديم وتقتله فهمًا، وتبدأ بإعادة تعريف القرآن عبر نقد التصورات السائدة.

٣

أدرك نصر أبو زيد ضيق عجزنا الفكري حين ننظر للقرآن على أنه نص كتاب بين دفتي مصحف، حتى ولو استخدمنا كلمة نص بمعناها الحديث في علوم تحليل النصوص وتحليل الخطاب — المفهوم الذي استخدمه ودافع هو عنه — ليبني على جهود محمد أركون (١٩٢٨–٢٠١٠م) في دراسته للظاهرة القرآنية. فسعى ليعيد النظر في تعريف القرآن تعريفًا جديدًا يخرج به من مفهوم قِدم القرآن عند التراثيين، وكذلك يخرج به عن ضيق مفهوم خلق القرآن الذي قال به المعتزلة؛ لينتقل إلى النظر إلى المصحف لا كنص، بل كمجموعة من النصوص. ثم وجد أبو زيد أن القرآن في تعريفه الذي يفسر خصائصه هو أقرب لمفهومنا المعاصر للخطاب منه لمفهوم النص؛ حيث إن الخطاب بنية تحاورية ونسق يقوم على التفاعل تأثيرًا وتأثرًا بين أطراف الخطاب؛ حيث يقوم المُخاطِب والمُخاطَب في تشكيل الخطاب. ويحضر سياق كل منهما في جوانب الخطاب بجوانب للسياق متعددة. ومما يميز الخطاب هو أن حضور المتكلم يكون عبر تعدد أصوات داخل بنية سردية وليس صوتًا واحدًا. كذلك من مميزات الخطاب أن يعمل تحليل الخطاب على دراسة نمط الخطاب أو فحواه. ويتم دراسة تأثير الخطاب على المتلقين وردود أفعالهم على الخطاب. فتعرض نصر أبو زيد لتجلِّي البنية الخطابية في القرآن وسعى لدراسة مدى إدراك أسلافنا أو عدم إدراكهم للجوانب الخطابية من القرآن؛ ليصل إلى أن بنية القرآن هي أقرب إلى أن تكون مجموعة من الخطابات.

رغم أن القرآن كله كلام الله حسب تصورات المسلمين، وأن الله هو المتكلم بالقرآن، فهناك أصوات متعددة في القرآن، فسنجد الصوت الإلهي المقدس: إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وسنجد القرآن يصور صوت النبي: إذ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ. وأصوات أهل قريش؛ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ، وأصوات أهل الكتاب؛ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، كذلك سنجد أصوات الأنبياء السابقين وأصوات أهلهم، سنجد الجدل بين النبي وأزواجه، وبينه وبين قومه، وبينه وبين أهل الكتاب، سنجد القرآن يخاطب النبي كمتلقٍّ أول، ويخاطب البشر كمتلقين من خلال خطاب النبي، وسنجد القرآن يخاطب الناس مباشرة أو يخاطب المؤمنين مباشرة. سنجد في القرآن ردًّا مباشرًا على أسئلة من البشر: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ويأمر النبي: قُلِ. والقصص بالقرآن هو أبنية سردية موظفة لإيصال معنًى ديني للمعاصرين للخطابات القرآنية، وليست مجرد سرد لتاريخ أقوام سابقين، وهذا يفسِّر التغيرات في بعض تفاصيل القصص في مواضع مختلفة من سور المصحف.

كان هناك إدراك في بعض جوانب معارف التراثيين القدماء للطبيعة الخطابية للوحي وللقرآن؛ فالفقه كان يحاول رصد ذلك؛ بدراسة عموم اللفظ وخصوص السبب، وما هو عام وخاص، وما هو مطلق ومقيد، وما هو ناسخ ومنسوخ، وما هو مكي وما هو مدني. فكل هذه العلوم من علوم القرآن هي معارف تدرس تكوين الخطابات القرآنية، وهي تدرك الطبيعة الخطابية التحاورية للقرآن. لكن علوم القرآن التي تدرس بنية القرآن هي علوم تتبنَّى النظر للقرآن كنص، وتعتمد ترتيب المصحف الحالي كوقف من الله. والعلوم التي تهتم بدراسة المعنى في القرآن عبر دراسة المجاز والاستعارة … إلخ، فهي تقوم أيضًا على تصور القرآن نص مصحف؛ ولذلك فالتفسير في غالبه يتبنَّى البنية النصية للمصحف، فيفسره تفسيرًا خطيًّا من الفاتحة إلى نهاية المصحف، ويكون تفسير البيان اللغوي والبلاغي حسب ترتيب التلاوة الحالي، فلا يدرك التفسير التطور الدلالي للغة القرآنية، وما يضيفه الوحي من دلالات لغوية إلى كلمات المصحف عبر مراحل تاريخ سنوات الوحي.

إن التعامل مع المصحف على أنه كتاب أو نص، جعل كل جهود فهمه عبر العصور تسعى إلى مقصد مُرسل القرآن، وجعلت هذا المقصد يجب أن يكون واحدًا، وشاملًا، وأبديًّا، لكل زمان ومكان؛ مما جعل المسلمين يبحثون دائمًا في المصحف عن حلول لكل مشكلات حياتهم، وليس فقط الهداية الدينية. الظاهرة الأخرى التي تولدت عن ذلك هو اختيار معنًى واحد لجعله مقصد مُرسل القرآن، ويتم تهميش المقاصد الأخرى من خلال ثنائيات عديدة عبر التاريخ، بأن يكون هناك مقصد ناسخ وآخر منسوخ، مُطلَق ومقيد، خاص وعام في مجال الفقه، ظاهر وباطن في مجالي التصوف والمنظومات الفكرية الشيعية، حقيقة ومجاز في مجال بلاغة المصحف، بحيث يكون جانب من كل هذه الثنائيات هو المقصد والآخر يتم تهميشه. وهذا ما حدث من خلال التأويل والتأويل المضاد، وما زال؛ وذلك بسبب الطبيعة النصية للمصحف، حينما يتم التعامل مع المصحف كمجموعة من الخطابات، فكل خطاب منها له وقت وله زمن وله سياق، وله مُخاطبون، وليس معنًى مطلقًا وشاملًا وأبديًّا، لكن الأمر يتطلب جهودًا كبيرة للكشف عن بنية الخطابات في المصحف، وهي الجهود التي لم نبدأ فيها بعد.

إن ضعف ثمار الإصلاح الديني بعد قرن ونصف من الجهود تعود إلى أننا ركزنا في جهودنا على التجديد في المسائل العملية وفي الفروع، ولم نتعرض لماكينة التفكير الدينية ذاتها، وفي الأسس التي تقوم عليها من تصورات تجمدت عند زمن بعيد، وأصبحت هذه التصورات عقائد، وأصبحت معلومًا من الدين بالضرورة، وأصبحت ثوابتَ للدين، ولا يمكن إعادة النظر فيها. ومن يفعل فقد جدف في العقائد وهدم الثوابت، وأنكر المعلوم من الدين بالضرورة، في حين أن كل هذه «الثوابت» كانت مجرد تصورات بشرية ضمن تصورات أخرى، وكانت مجرد إجابة ضمن إجابات أخرى، لكنها سادت واستمرت لعوامل اجتماعية وسياسية تاريخية، فأصبحت هي الدين، أو أصبحت هي «صحيح الدين». لذلك لن يفيد «تجديد في الفكري الديني» عبر مجرد إعادة تعبئة القديم في زجاجات جديدة، كما نفعل منذ قرن ونصف.

كان لإدراك نصر أبو زيد لهذه الحقيقة عامل رئيس في اتخاذ قراره بالبدء في رحلة إعادة تعريف القرآن التي أخذت منه، منذ نوفمبر عام ٢٠٠٠م في محاضرته عند جلوسه على كرسي الحريات في جامعة لايدن، فتناول القرآن كعملية تواصل رأسي بين الله والإنسان. وفي احتفالية مئوية الكواكبي في سوريا تناول في محاضرته إشكالية تأويل القرآن قديمًا وحديثًا؛ ليتناول الجانب الأفقي من تعامل البشر مع القرآن عبر الفهم والتفسير والتأويل من قدماء ومحدثين؛ ليقدم في محاضرته لاعتلائه كرسي ابن رشد في كلية الإنسانيات بجامعة أوترخت عام ٢٠٠٤م دعوة إلى السعي نحو منهج إسلامي جديد في التأويل. وسعى في السنوات التالية إلى بناء هذا المنهج الجديد، وقدم عناصر له في محاضرات ومناسبات مختلفة.

وفي السنوات الخمس الأخيرة من حياته، كان أبو زيد مشغولًا بالبحث عن سؤال: هل هناك رؤية مترابطة للعالم خلف الأنساق القرآنية؟ فحاول أن يبحث في تراث المسلمين الفكري عن بذور اهتمام ببناء رؤية للعالم متكاملة للأنساق القرآنية. وقدم في محاضرته في افتتاح مؤتمر القرآن في سياقاته التاريخية، الذي عُقد بجامعة نوتردام بالولايات المتحدة الأمريكية في إبريل ٢٠٠٩م عناصر هذه الرؤية في مداخلته بالمؤتمر «قصتي مع القرآن». وأشار إلى البذور الموجودة في جهود القدماء للوصول إلى مقاصد كلية للشريعة، وكذلك الجذور الموجودة في خطاب ابن رشد، والتي يمكن الانتباه لها مع دراسة كتبه بشكل مترابط، مع الوضع في الاعتبار السياقات الزمنية التي صدرت فيها هذه الكتب، وهي: «فصل المقال» و«مناهج الأدلة» و«بداية المجتهد ونهاية المقتصد».

كان نصر أبو زيد في العقد الأول من القرن الحالي، وكما كان يردد: «ما زال في مطبخ فكره» ولم يقدم وجبة متكاملة بعدُ. لكنه شاركنا بعض أطروحاته وأفكاره خلال محاضراته، وكان قد بدأ في العمل على كتاب ليكون مدخلًا يجمع فيه الأسس الفكرية التي توصل إليها. فضلًا عن ذلك كان قد بدأ في تأويله لسورة الفاتحة باللغة الإنجليزية. وهذه الجهود ما زالت تحتاج إلى الجمع وإلى الترجمة للعربية ورصدها والعمل عليها. وذلك يشمل مرحلة إعادة تعريفه القرآن من نص إلى خطاب ثم إلى خطابات، أو نتائج بحثه عن رؤية للعالم وراء ساحات الخطابات القرآنية؛ سعيًا لأن تستفيد ثقافتنا من جهود السابقين، وتقوم بالبناء عليها عبر استيعابها والتعامل معها بشكل نقدي، فنصعد على أكتاف هذه الجهود، فنرى أبعد مما رأت. وهذه دعوة نصر أبو زيد لنا فهل من مُجيب؟٤ والله أعلم.
١  كانت مداخلة في افتتاح مؤتمر مؤسسة نصر أبو زيد للدراسات الإسلامية، ١٠ و١١ أكتوبر ٢٠١٤م، ونشرتها في حينها جريدة القاهرة المصرية على عددَين.
٢  هذا حوار أجريته مع دكتور نصر أبو زيد في نيويورك في شهر نوفمبر ٢٠٠٧م في اليوم التالي لمحاضرته بجمعية ألوان الثقافية، بجوار منطقة وول ستريت.
٣  عمر، جمال (٢٠١٧م) مقدمة عن توتر القرآن. دار الثقافة الجديدة. القاهرة. ط١.
٤  رحلة انتقال نصر أبو زيد من النظر للمصحف على أنه «نص»؛ بالمعنى الحديث لكلمة نص في الدرس اللغوي المعاصر، إلى تصوره كخطابات، بدلالة ومفهوم «الخطاب» المستخدمة في علوم تحليل الخطاب وفي علم العلامات: «السيميولوجيا/ السيميوطيقا». قد مرت بمراحل. وهي عملية تطور طبيعي من داخل خطابه. ويمكن رصد بذور لها في دراساته التطبيقية على نصوص من المصحف، في دراسته من منتصف التسعينيات، سواء في «العالم بوصفه علامة» أو في «الرؤية في النص السردي العربي» أو في دراساته التطبيقية في نهاية التسعينيات حول الآيات والنصوص المتعلقة بالمرأة وحقوقها في دراسة سياقية. لكن يمكن رصد رحلة الانتقال ومراحلها في خطابه بشكل أكثر تحديدًا في هذه الدراسات. محاضرته لكرسي الحريات بجامعة لايدن: محاضرة القرآن: التواصل بين الله والإنسان The Qur’an: God and Man in Communication.
في السابع والعشرين من نوفمبر عام ٢٠٠٠م، باللغة الإنجليزية، حيث تناول الجانب الرأسي في العلاقة بين الله والإنسان، من خلال ظاهرة الوحي بالقرآن والتصورات حولها.
بعدها بعامين في دمشق في مئوية الكواكبي، قدم محاضرة «إشكالية تأويل القرآن قديمًا وحديثًا»، نشرها المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، في مئوية رحيل الكواكبي، مايو ٢٠٠٢م والتي نُشر فيما بعدُ نص لها في كتاب أبو زيد بعد وفاته (التجديد والتحريم والتأويل). وفيها تناول العلاقة مع القرآن أفقيًّا، عبر عمليات الفهم والتأويل له قديمًا وحديثًا، وفيها بدأ ينظر للمصحف على أنه مجموعة نصوص.
ليقوم في العام التالي، وفي محاضرة بباريس في الندوة التي عقدها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ومحاضرة نصر أبو زيد كانت بعنوان: «نحو منهج إسلامي جديد للتأويل»، باريس، في الثاني عشر والثالث عشر من شهر أغسطس عام ٢٠٠٣م، حيث بدأ ينظر للمصحف على أنه خطاب، وليس نصًّا أو مجموعة نصوص فقط. ومهم أن يتم دراسة المصحف دراسة تحليل خطاب أولًا، ثم يتم تحليله تحليلًا نصيًّا.
وفي محاضرته بالإنجليزية لاعتلائه كرسي ابن رشد، بكلية الإنسانيات «بأوتريخت». Rethinking the Qur’an: Towards a Humanistic Hermeneutics the Humanistic University Press Publication ٢٠٠٤م. وقد قدمها أيضًا بالعربي في حفلة حصوله على جائزة ابن رشد. في نفس العام، وقد قدم نصر أبو زيد هذا التصور عدة مرات، في مكتبة الإسكندرية عام ٢٠٠٦م وفي الواحد والثلاثين من ديسمبر ٢٠٠٨م بنفس المكتبة. ومنشور نص لهذا التصور في كتابه المنشور بعد رحيله «التجديد والتأويل والتحريم». وقد انتقل نصر أبو زيد لتصور القرآن كمجموعة من الخطابات، وهي المفاهيم التي ظل يحاول اكتشافها في سنواته الأخيرة.
وفي إبريل ٢٠٠٩م، بمؤتمر «السياقات التاريخية للقرآن» بجامعة نوتردام بولاية إنديانا الأمريكية، قدم نصر محاضرة الافتتاح، عن قصته مع القرآن، وطرح فيها سعيه للبحث عن: هل توجد رؤية للعالم متسقة في الخطابات القرآنية؟
وفي نهاية العام، كتب عدة مقالات لموقع الأوان على الإنترنت، وكان منها مقال من البدايات إلى تحليل الخطاب، مجلة الأوان، الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٠٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤