نصر أبو زيد١
مشواري من النص إلى الخطاب

(١) التأويل اللاهوتي للقرآن كما قدمه المعتزلة

أيها السيدات والسادة الحضور: أولًا أريد أن أتوجه بالشكر إلى مكتبة الإسكندرية؛ فهذا لقاء مرتقب من ناحيتي ومن جهتي؛ أن أتحدث بالعربية مرة أخرى بعد أن طال بي الحديث باللغة الإنجليزية في بلاد الغرب، فكلما دُعيت إلى أي بلد عربي أرحب بالدعوة، وألبي الدعوة، وأغيِّر كثيرًا من برامجي، وأعتذر عن كثير من ارتباطاتي السابقة لكي ألبي الدعوة. فما بالكم إن كانت الدعوة من مصر، فهنا تأتي جهيزة فتُسكِت كل خطيب إذا دعت مصر. وأشكر طبعًا د. يوسف زيدان؛ فهو محرك هذه الدعوة ومنظمها، وأشكر له تحمله لكل التفاصيل التي كُنت أسأله عنها بسبب تعودي لحياتي في الغرب، لكن د. يوسف كان طويل البال، وكان قادرًا على أن يمتص كل هذه الأسئلة، ويجيب عنها حتى تمت الدعوة بالشكل الذي أرجوه. وهو يعمل على راحتي وإراحتي بكافة السبل الممكنة، لدرجة مبالغٍ فيها أحيانًا. وهذه مشاكسة مع د. يوسف.

موضوع المحاضرات التي سأقدمها كباحث مقيم هي مجموعة من المحاضرات المترابطة، وإن كانت كل محاضرة منها تستقل بموضوع، فهناك انفصال في الموضوع، لكنه تواصل في المنهج. هذه المحاضرات تقدم السيرة العلمية للباحث الذي يتحدث معكم، نبدأ اليوم بقضية التأويل اللاهوتي للقرآن كما قدمه المعتزلة.

فقد بدأت حياتي العلمية بدراسة قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، طبعًا ما سأعرضه اليوم ليس هو نفسه ما طرحته في بحثي منذ أكثر من ربع قرن. إن ما سأطرحه اليوم هو تطور وعي وتطور تحليلي لأفكار المعتزلة. فكما تعلمون أننا جميعًا نبدأ كباحثين صغار في السن، الحماس لمواضيعنا يجعلنا نتلبس بفكرهم، والمعتزلة لهم تأثيرهم الساحر، خاصة فيما يرتبط بالعقل وأهمية العقل؛ لذلك حين كتبت عن المعتزلة في البداية كنت معتزليًّا. ود. جابر عصفور نشر مقالة في ذلك الوقت سماها «الاعتزال الجديد»، طبعًا لا أعتقد الآن أنني معتزلي،٢ لكن أنا أحاول أن أقدم تطور رؤيتي النقدية للفكر الاعتزالي اليوم.

عبد القاهر الجرجاني هو الذي صاغ نظرية المجاز وربطها بنظرية التأويل، وبالتالي سنجعل المحاضرة حول عبد القاهر وإنجازه اللغوي في المحاضرة الثانية، لكن هذه المحاضرة عن التأويل اللاهوتي في القرآن، وبعدها محاضرة عن عبد القاهر الجرجاني.

من هم المعتزلة؟ وأنا لا أريد أن آخذكم في دراسة تاريخية وتحليلية اشتقاق الاسم، أعتقد أن كل هذه المرويات تفسر الاسم ولا تفسر الظاهرة، وأنا أريد أن أقدم لكم المعتزلة من خلال إضاءات، من خلال مجموعة من الأقوال تكشف لكم مَنْ هؤلاء الناس.

المبدأ الأول عند المعتزلة، طبعًا بعيدًا عن المبادئ الخمسة المشهورة جدًّا، العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، ولا بد أن نتساءل؛ هذا المبدأ من أهم مبادئ التنوير ومن أهم مبادئ الفلسفة، كيف تأتي للعقل العربي في القرن الثامن والقرن التاسع أن يُعلن هذا؟

السياق السوسيو/ثقافي هو الذي سيكشف لنا لماذا كان على المعتزلة الأوائل أن يؤكدوا هذه القسمة أن العقل يوجد في كل البشر؟ ربما لكي أضيء هذه القضية (أن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس)، وأن المعتزلة والفكر الإسلامي قد بالغ أحيانًا هنا في أهمية العقل؛ لا أقصد ﺑ «بالغ» هنا أنهم رفعوا العقل على النقل؛ لأنه حين يقول البعض إنهم بالغوا في شأن العقل؛ لأن هذا البعض يريد أن يبالغ في شأن النقل. لا أقصد هذا؛ لأن مفهومهم للعقل يتجاوز مفهوم العقل كبنية ثقافية، تتطور مع البنية الثقافية. مفهوم العقل عندهم قد يكون مفهومًا مطلقًا، وأبرز مثال لهذا المفهوم المطلق لمفهوم العقل نجده في رائعة حي بن يقظان التي كتبها ابن طفيل، ذلك أن حي بن يقظان وحده بعيدًا عن اللغة، وبعيدًا عن الثقافة وعن المجتمع، توصَّل إلى أسمى آفاق المعرفة، الإنسان المتوحد. فيه دراسة أنا كتبتها عن هذه القصة الرمزية أسميته — العقل المعتزلي — العقل الخالص، طبعًا ليس بالمعنى «الكانطي». العقل الخالص، أي العقل المبرأ من شُبهة أنه ينتمي لسياق اجتماعي وسياق لغوي، أو إلى أي سياق. العقل الإنساني هنا يستطيع أن يصل إلى أسمى درجات المعرفة قبل أن يتعرف على الشرع، واللقاء الذي نجده في حي بن يقظان بين حي بن يقظان وبين «اسأل» الشخصية التي جاءت من الجزيرة الأخرى. لقاء مذهل ولا أعتقد في عصر الترقب — عصرنا — الذي تكلم عنه الدكتور يوسف. إن هذا اللقاء يمكن أن يُكتب. هذا لقاء العقل الخالص، مع الوحي المؤول؛ لأن «أسال» كان يُمثل تأويل الوحي، فقد كان هاربًا من جزيرة ترفض التأويل.

المقولة الثانية: «قيل لأحد الحكماء، متى عقلت؟ قال أما أنا فقد بكيت حين خفت، وطلبت الثدي حين احتجت، وسكتُّ حين أُعطيت. يقول هذه مقادير حاجاتي، ومن عرف مقادير حاجاته إذا مُنعها وإذا أُعطِيها فلا حاجة به في ذلك الوقت إلى أكثر من ذلك العقل.» الجاحظ. هنا تعريف للعقل يضعه في قلب الحاجة وفي قلب المجتمع. ولا بد في دراسة المعتزلة أن نضع هذا التعريف «العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس»، وأن نرى أن الجاحظ لا يورد اسم الحكيم الذي يأخذ منه هذا القول، وإنما يربط العقل بالحاجة. إذا وضعنا هذا في لغة عصرنا الحديث؛ إنه يربط العقل بالسؤال، فإنه من خلال عمل السؤال ينبثق عمل العقل، يتحرك العقل لكي يبحث عن إجابة للسؤال. الطفل يبحث عن الثدي حين يجوع، هذه حاجة لكنها أيضًا تعني بدرجة ما وجود بذرة عقلية عند الطفل، ربما يمكن تسميتها أسماء أخرى.

يعني فيه في فكر المعتزلة وفي الفكر الإسلامي بشكل عام، هذا الجانب في الإعلاء من شأن العقل حتى يصل إلى عقل خالص مجرد من قيود الزمان والمكان والمجتمع، وربط العقل بالحاجة الإنسانية، وبالتالي احتمال الإيمان بتطور العقل، العقل كصيرورة وليس مُعطًى نهائيًّا.

المقولة الثالثة: لإبراهيم بن سيار النظام، وأنا شاب كتبت هذه المقولة فوق مكتبي في حجرتي الصغيرة جدًّا، في الشقة الصغيرة جدًّا التي كنت أعيش فيها مع أسرتي: «العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك، فإن أنت أعطيته كُلَّك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر» معرفة ليس لها أفق نهائي، أنت تبذل نفسك في طلب العلم. العلم هنا عند إبراهيم بن سيار النظام ليس هو العلم كما نقرؤه عند المحدثين؛ لأن كلمة «علم» في التراث الإسلامي تأخذ دلالتها ممن ينطقها، إلى ما ينتمي الشخص الذي يتحدث عن العلم، إلى أي جماعة؟ فحين يتحدث المتحدثون عن العلم يتحدثون عن علم الحديث، وهنا كثير من الأحاديث النبوية التي تتحدث عن العلم التي رواها المحدثون هي تتحدث عن العلم بمعنى نقل الأحاديث، «يحمل هذا العلم من كل قوم عدوله» مثلًا، يعني علم الحديث والأحاديث. لكن العلم هنا عند المعتزلة هو المعرفة بمعناها الواسع. العلم لا يعطيك بعضًا منه إلا إذا تجردت له تجردًا كليًّا، يعني ترهبنت. وإذا أعطيت نفسك كاملة للعلم فليس هذا ضمانًا؛ لأن العلم يعطيك شيئًا منه؛ لأن هناك ضمانات أخرى، ضمانات تحدث عنها المفكرون المسلمون هي ضمانات أخلاقية، ما يسمى بأخلاقيات العلم، ولا أريد أن أطيل في هذا.

هؤلاء هم المعتزلة أردت أن أقدمهم من خلال هذه الإضاءات.

ما هو السياق الذي يمكِّننا من فهم المعتزلة؟

لا بد في هذا السياق أن ننظر إلى البدايات والتطورات والنهايات. في البدء كان القرآن، كان الشعر يسبق القرآن؛ ولهذا قال النقاد؛ الأصمعي: «الشعر ديوان العرب، الشعر علم قوم لم يكن عندهم علم غيره»؛ بمعنى أن الشعر تجمعت فيه الحكمة، وتجمعت فيه عناصر الثقافة العربية، أو الأشكال الشعرية الأخرى مثل أقوال الكُهان. وجاء القرآن بنفس الصيغة الشعرية، القرآن ليس شعرًا، نعم. أنا أتحدث عن الشعرية وليس عن الشعر الآن، لغة القرآن ولغة كل النصوص المقدسة هي لغة شعرية بامتياز، استخدم القرآن أسلوب الشعر وحل محل الشعر. ومن هنا نرى هذا التوتر أو هذا الرفض؛ لأن العرب حين أدركوا، سواء الذين آمنوا به أو لم يؤمنوا، أدركوا هذه الطاقة، هذه القوة الشعرية، هذه القدرة على التأثير. وكل العبارات التي نسمعها إعجابًا بالقرآن، حتى من قِبل مَن لم يؤمنوا بالدعوة المحمدية، هي عبارات تعكس هذا الإحساس بالرهبة وقوة التأثير الشعري.

أصبح القرآن في البدء هو المعطى الأساسي، الذي تكوَّن حول رسالته بعض الناس في مكة. ترابط هؤلاء البشر كوَّنوا ما يشبه قبيلة، لكنها ليست قبيلة على نمَط القبائل التي كانت قائمة، لا تربطها علاقات الدم والنسب، ولا تربطها علاقات القحطانية … إلخ. هؤلاء الناس اجتمعوا حول هذا المفهوم، يعني يمكن أن نقول إنه تكونت قبيلة جديدة لكنها لا تقوم على نفس الأُسس التي كانت تقوم عليها القبائل. رحلت هذه القبيلة إلى المدينة؛ لأن القبائل رفضتها، فتكونت بالتدريج دولة المدينة، هنا التحولات من البداوة، القبلية، القبيلة التي يمكن أن نطلق عليها community إلى دولة المدينة، كنص مؤسس يتحرك مع هذه الحركة. من هنا العلماء يميزون بين القرآن المكي والقرآن المدني، يميزون بينهما لا فقط على مستوى المضمون وإنما على مستوى الأسلوب، وعلى مستوى درجة الشعرية ودرجة النثرية … إلخ.

من دولة المدينة، وهذه النقطة الثانية بدأ بناء الإمبراطورية، وقد بدأ بناء الإمبراطورية يتجسد في نقل العاصمة من المدينة إلى دمشق، ثم بعد ذلك من دمشق إلى بغداد، كما نعرف جميعًا. لكن هذه النقلة من دولة المدينة إلى بناء المدينة اتسمت بالحروب الأهلية؛ الحروب الأهلية سواء نتحدث عن موقعة الجمل أو موقعة صفين. وفي الحروب الأهلية، بدأ جدل سياسي، وهذا الجدل السياسي أخذ تدريجيًّا طابعًا دينيًّا.

مثلًا علي بن أبي طالب، في موقعة صفين، يقول عن الأمويين وعن بني أُمية: «قاتلناهم بالأمس على تنزيله، واليوم نقاتلهم على تأويله»، بمعنى قاتلناهم بالأمس كي يؤمنوا، يقصد بالطبع بني سفيان — بني أمية — قاتلناهم بالأمس على تنزيله، واليوم نقاتلهم على تأويله؛ لأن القضية هنا لم تعُد حول الإيمان وإنما القضية هنا حول المعنى، أو هكذا فُهمت. وهنا في فترة مبكرة جدًّا ربط علي بن أبي طالب بين التنزيل والتأويل، التأويل هو الوجه الآخر للتنزيل. في الحروب الأهلية بدأت الأسئلة، بدءًا من سؤال الحاكم، من الحاكم … إلخ من هذه الأسئلة، سنرى من هذه الأسئلة كيف بدأت بذور ما يسمى علم الكلام أو اللاهوت.

من عروبية الأمويين إلى أممية العباسيين، هذه هي النقلة الأخرى. الدولة الأموية دولة عروبية؛ لذلك لم يتحلَّ أي خليفة أموي بأي لقب ديني، ليس عندهم ألقاب دينية، دائمًا فلان ابن فلان، وهذه سمة عربية. طبعًا فيه تأثيرات فارسية، حين أقول عروبية الأمويين لا أعني تلك العروبية القائمة من البداوة. إنما الدولة العباسية قامت بشكل مغاير. قامت على أساس تكاتف قوًى مختلفة، على إنهاء قوى مَن يُسمون بالعلويين. في هذا الوقت لا نستطيع أن نتحدث عن الشيعة العلويين خاصَّة بعد مأساة مقتل الحسين تطورت الأسئلة، ومع تطور الأسئلة، برز علم الكلام وتطور، وهذا أيضًا سنأتي إليه.

بعد هذا الحاجة إلى تأسيس العقل، بعد أن كثُر الصخَب وكثُر الجدَل، وطُرحت إجابات مختلفة لنفس الأسئلة، ودخل النص القرآني كعامل من عوامل دعم هذه الإجابات. وأصبح النزاع أحيانًا نزاعًا حول معنى هذه الآية أو تلك الآية، هنا تطور الأمر بالحاجة إلى تأسيس معيار يَحكم النقاش، وهو الحاجة إلى تأسيس العقل، وهذا ما قام به المعتزلة.

بعد تأسيس العقل كانت الحاجة إلى التأويل؛ ما الذي يفصل بين هذه الاختلافات في الأفهام؟ كل قراءة وكل استشهاد هو نمط من التأويل. وكل استشهاد مغاير هو نمط من تأويل مغاير. ويحدث ذلك في الفضاء الإسلامي الآن بطريقة مُزعِجة. أصبح القرآن كأنه موضوع في الجيوب تطلع الآية من الجيب، ويقسم فيها وجه (أعني في الحوارات العامة، وليس في الحوارات الأكاديمية). الحاجة إلى تأسيس نظرية في التأويل، هذا يؤدي إلى ابتداع استراتيجيات في التأويل، وهنا وجد المعتزلة وتابعَهم في ذلك جميع الفرق، وجد المعتزلة في الآية السابعة من سورة آل عمران، وجدوا فيها مبدأ؛ هناك مُحكم، وهناك متشابه. هناك واضح، وهناك غامض، وبالتالي لا بدَّ من رد المتشابه إلى المحكم أو الغامض إلى الواضح، وسنرى إلى أي حد اتفقوا على المبدأ واختلفوا في التطبيق.

ثم بعد ذلك إبداع آليات التأويل، وهو المجاز، كيف تطور مفهوم المجاز؟ لأن مفهوم المجاز كمفهوم لغوي لم يكن موجودًا في الثقافة العربية. المجاز بالمعنى اللغوي هو المعبَر، جاز يجوز أي عبَر، المجاز هو المعبَر، ويقال المجازة على الطريق الذي يصل بين طريقين. كما يقال المفازة على الصحراء بنوع من الأمل ألا يهلك فيها الإنسان. هي مهلكة لكن اللغة العربية مثل كل لغات الأرض تستخدم التضاد لأسباب كثيرة جدًّا كما يُقال للأعمى بصير، هذا هو الأدب اللغوي أيضًا.

هنا آخذكم برحلة إلى تطور هذه المفاهيم، وتبلور هذه المفاهيم؛ لأنه حين ندخل في قضية التأويل دون أن نفهم هذه المقدمات. يمكن ببساطة أن نُصدر أحكامًا على التأويل، وأهمها طبعًا أحكام الانحراف، إنما إذا فهمنا الأساس المعرفي؛ فقد نتفق مع الأساس المعرفي وقد نختلف؛ لأنه لا يمكن الحكم على أي نسق فكري بأخذ النتائج والاتفاق معها والاختلاف معها. ليس هذا هو منهج النقاش العلمي، منهج النقاش العلمي هو الاتفاق والاختلاف مع الأسس التي أفضت إلى الوصول إلى هذه النتائج في هذا البحث أو ذلك. والتكفير كأداة من أدوات الرفض هو يعتمد ليس على مناقشة الأسس الفكرية لأي نسق فكري، وإنما فقط على النتائج التي يمكن اختصارها، ثم يتم إصدار الأحكام عليها.

بعد هذا نتكلم عن الآباء المؤسسين لعلم الكلام، وأنا أخذت وصف الآباء هذا من يوسف زيدان في مناقشة معه من قبل، أنا كنت أسميهم علماء الكلام الأوائل، لكنه وضع هذا المصطلح وأنا أعجبني هذا المصطلح «الآباء المؤسسين لعلم الكلام». سنجد أن معظمهم تم قتلهم، ذُبحوا. مَعبد الجهني، وهو أول القائلين بالقدر كما يُقال: القدر بمعنى أن الإنسان قادر، بمعنى نفي القدر، أن الإنسان مسئول على فعله. أعود مرة أخرى إلى مسألة من يستخدم المصطلح. يستخدم المصطلح للدلالة على المعتزلة؛ لأنهم ينفون القدر، ويستخدمه المعتزلة للدلالة على من يؤمنون بالقدر. ففي قراءتنا في النص التراثي لا بد دائمًا أن نتساءل عن السياق الذي يستخدم فيه المصطلح. كان هناك نوع من محاولة الاستيلاء على المصطلحات، فمن هنا القَدرية والقدر والقُدرة، سنجد كثيرًا من الدلائل على أن المقصود بالقدرية هم الذين ينفون القدر؛ يعني ينفون أن أعمالنا الإنسانية تجري بقدر الله، وإنما هي أعمالنا الإنسانية تجري بقدرنا، بإرادتنا. قتله عبد الملك بن مروان عام ثمانين هجريًّا.

غَيلان الدمشقي، قتله هشام بن عبد الملك، عصر عبد الملك بن مروان، هو عصر بناء الدولة، عصر بناء الدولة هو دائمًا عصر العواصف؛ إذن لكي تبني الدولة في العصر القديم يجب القضاء على كل أشكال المعارضة.

الحسن البصري لم يُقتل، توفي عام ١١٠ هجريًّا، وهو صاحب أول رسالة في القدر، والرسالة كان هناك تشكيك في نسبتها إلى الحسن. ولكن العلامة «فان إستس» الألماني أثبت أن هذه الرسالة صحيحة النسبة إلى الحسن البصري، أثبت بأدلة كثيرة جدًّا في كتاب له على درجة عالية من الأهمية لم يترجم إلى اللغة العربية بعدُ، خمسة مجلدات عن تاريخ علم الكلام.

الجَعد بن درهم، أيضًا من القدرية، لكنه أول من قال بخلق القرآن، ذبحه خالد القسري عام ١٢٠ هجريًّا.

لماذا لم يُذبح الحسن البصري؟ وهذا سؤال على درجة عالية من الأهمية؛ لأن ذبحه كان سيكلف الدولة كثيرًا؛ يعني معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وجعد بن درهم، لم يكن لهم هذه الكاريزمية التي كانت للحسن البصري. جَهم بن صفوان قُتل في ثورة الحارث بن سُريج في عصر هشام بن عبد الملك عام ١٢٨ هجريًّا.

من مجمل الأقوال التي نجدها في كتب المقالات عن هؤلاء الآباء المؤسسين لعلم الكلام والاعتزال، سنجد مقولة خلق القرآن، وهي من مقولات المعتزلة التي على أساسها بعد ذلك نعرف أن المأمون سيقيم محاكمات وما يسمى بعصر المحنة، محنة خلق القرآن. معبد الجهني قدريًّا، غيلان الدمشقي مرجئًا. الصراع كان حول أمرين أساسيين؛ الأمر الأول: هو علاقة الفعل الإنساني بالإنسان، وعلاقة الفعل الإنساني بالإرادة الإلهية. وهناك من ضمن هؤلاء الآباء المؤسسين الأوائل أكدوا أن الإنسان مسئول عن عمله، ربما جهم بن صفوان يختلف عنهم في هذا الأمر، آمنوا بقدرة الإنسان ومسئولية الإنسان عن فِعله.

القضية الثانية هي قضية طبيعة القرآن. القضية الأولى لا يمكن أن نفهمها إلا في سياق التحليل الاجتماعي الثقافي، حين تنشأ قضية ما في سياق ما ينبغي أن نبحث عن الأسباب التي جعلت هذه القضية تأخذ مركز الصدارة. القضية الخاصة بقدر الإنسان مرتبطة بممارسات النظم السياسية. كان الأمويون — هكذا تروي المراجع — ليس فقط مراجع المعتزلة، وإنما جميع المراجع، كانوا يقتلون ويقولون إنما تجري أعمالنا بقدر الله. الخلفاء العباسيون لم يختلفوا كثيرًا، يعني قُتل قائد من القواد وألقي برأسه من فوق القصر، وقالوا له لقد قُتل صاحبكم بقضاء الله السابق. طبعًا فيه زعم في كل النظم السياسية في هذه العصور؛ يعني هنا الإمبراطورية العربية والإسلامية ليست شذوذًا عن القاعدة في ادعاء هذا الانتساب إلى قوة عُليا؛ يعني أن أعمالها آتية من إلهام إلهي، ونحن عندنا زعماء كثيرون جدًّا يُلهمون، وليس «بوش» وحده، يعني زعماؤنا كلهم يُلهمون إلهامات.

يعني كان السؤال قارًّا في بنية المجتمع سؤالًا مرتبطًا بمصالح الناس. سؤالًا مرتبطًا ﺑ: ما هي مسئولية الظلم؟

•••

التسجيل الذي سُجل للمحاضرة، لم يُضمَّن فيه كلمة د. يوسف زيدان، ولا النقاش. وترك نصف المحاضرة، في تناول نصر أبو زيد لهذه النقاط التالية من نقاط محاضرته:
  • تكوين الفكر المعتزلي.

  • في البدء كان «العدل».

    • مرتكب الكبيرة بين التكفير والإرجاء: السؤال السياسي.

    • الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: المسئولية الإنسانية.

    • الوعد والوعيد: المسئولية الإلهية.

    • العدل: التوتر بين «مطلق الإرادة الإلهية» وبين «التعالي على الظلم».

    • التوحيد: تأكيد التعالي.

  • بنية النسق الفكري الاعتزالي.

    • التوحيد أولًا والعدل ثانيًا: القاضي عبد الجبار الأسدآبادي.

    • تعارض «البنية» مع «النسق»: المضمون المعتزلي في نسق أشعري.

  • السؤال المعرفي.

    • العقل الضروري/العلوم الضرورية (الحسيات والبديهيات).

    • العقل النظري/العلوم النظرية (الاستدلال).

    • العالم مصدر الدلالة.

    • أنواع/أنماط الأدلة:
      • (١)

        الأدلة العقلية (التوحيد).

      • (٢)

        الأدلة الاختيارية: ما يدل بالدوافع والاختيار (العدل).

      • (٣)

        الأدلة اللغوية (الشرع).

  • الدلالة اللغوية.

    • المواضعة بين «التوقيف» و«التوفيق».

    • الدال والمدلول: المواضعة الاجتماعية.

    • الفرق بين اللغة الطبيعية واللغات الإشارية.

    • اشتراط القصدية لصحة الدلالة.

    • التحويل الدلالي: المجاز.

  • المجاز بين الصدق والكذب.

    • التعريف والتطور.

    • ما يندرج تحت مفهوم المجاز.

    • هل يجوز وجود المجاز في القرآن؟
      • (١)

        الخطاب القرآني ينتمي إلى مجال اللغة (محكوم بموضوعاتها).

      • (٢)

        الخطاب القرآني أسمى من مجال اللغة (حاكم على موضوعاتها).

(٢) هذه هي نقاط المحاضرة كاملة

  • القرآن في تأويله اللاهوتي.

  • المعتزلة وحل إشكالية العقل والنقل.

  • من هم المعتزلة.

  • إضاءات
    • العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس.

    • قيل لأحد الحكماء: متى عقلت؟ قال: أما أنا فقد بكيت حين خفت، وطلبت الثدي حين احتجت، وسكت حين أُعطيت. يقول هذه مقادير حاجاتي، ومن عرف مقادير حاجاته إذا مُنِعها وإذا أُعْطِيها فلا حاجة به في ذلك الوقت إلى أكثر من ذلك العقل (الجاحظ).

    • العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك، فإن أنت أعطيته كلك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر (إبراهيم بن سيار النظام).

  • السياق السوسيو/ثقافي.

    • من البداوة/القبلية إلى دولة المدينة.

    • من دولة المدينة إلى بناء الإمبراطورية: الحروب الأهلية.

    • من «عروبية» الأمويين إلى «أممية» العباسيين.

    • الحاجة إلى تأسيس العقل.

    • الحاجة إلى «التأويل».

    • إبداع استراتيجيات التأويل: المحكم والمتشابه.

    • إبداع آليات التأويل: المجاز.

  • الآباء المؤسسون لعلم الكلام: ما قبل الاعتزال.

    • معبد الجهني: قتله عبد الملك بن مروان عام ٨٠ هجريًّا.

    • غيلان الدمشقي: قتله هشام بن عبد الملك عام ٩٩ هجريًّا.

    • الحسن البصري (ت ١١٠ هجريًّا) أول رسالة في «القدر».

    • الجعد بن درهم ذبحه خالد القسري عام ١٢٠ هجريًّا.

    • جهم بن صفوان قُتل في ثورة الحارث بن سريج في عصر هشام بن عبد الملك عام ١٢٨ هجريًّا.

  • تكوين الفكر المعتزلي، في البدء كان «العدل».

    • مرتكب الكبيرة بين التكفير والإرجاء: السؤال السياسي.

    • الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: المسئولية الإنسانية.

    • الوعد والوعيد: المسئولية الإلهية.

    • العدل: التوتر بين «مطلق الإرادة الإلهية» وبين «التعالي على الظلم».

    • التوحيد: تأكيد التعالي.

  • بنية النسق الفكري الاعتزالي.

    • التوحيد أولًا والعدل ثانيًا: القاضي عبد الجبار الأسدآبادي.

    • تعارض «البنية» مع «النسق»: المضمون المعتزلي في نسق أشعري.

  • السؤال المعرفي.

    • العقل الضروري/العلوم الضرورية (الحسيات والبديهيات).

    • العقل النظري/العلوم النظرية (الاستدلال).

    • العالم مصدر الدلالة.

    • أنواع/أنماط الأدلة:
      • (١)

        الأدلة العقلية (التوحيد).

      • (٢)

        الأدلة الاختيارية: ما يدل بالدواعي والاختيار (العدل).

      • (٣)

        الأدلة اللغوية (الشرع).

  • الدلالة اللغوية.

    • المواضعة بين «التوقيف» و«التوفيق».

    • الدال والمدلول: المواضعة الاجتماعية.

    • الفرق بين اللغة الطبيعية واللغات الإشارية.

    • اشتراط القصدية لصحة الدلالة.

    • التحويل الدلالي: المجاز.

  • المجاز بين الصدق والكذب.

    • التعريف والتطور.

    • ما يندرج تحت مفهوم المجاز.

    • هل يجوز وجود المجاز في القرآن؟

      • (١)

        الخطاب القرآني ينتمي إلى مجال اللغة (محكوم بموضوعاتها).

      • (٢)

        الخطاب القرآني أسمى من مجال اللغة (حاكم على موضوعاتها).

١  المحاضرة الأولى من أربع محاضرات (برنامج الباحث المقيم) بمكتبة الإسكندرية ١٧ ديسمبر ٢٠٠٨م.
٢  جابر عصفور، مفهوم النص والاعتزال المعاصر مجلة إبداع — القاهرة عدد شهر مارس ١٩٩١م، ص٣٠. ونُشرت في كتاب هوامش على دفتر التنوير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤