الفصل الثالث

المنظر الأول

(الملك قسطنطين، جندي)
الملك :
يَبلى الحبيب وحزنه يتجدد
فكأنه في كل يوم يُفقدُ
إن كان قد أمسى بعيدًا نازحًا
عني فإن سلوَّ قلبي أبعدُ
هم يذكرون من الحبيب فضيلةً
وأنا أعد النجم حين أُعدِّدُ
تلك السجايا البِيض عند محبها
مما يليق به اللباس الأسودُ
ويحي متى أنسى الذي طرد الكرى
وخياله عن مقلتي لا يُطردُ
ناديته فأجاب سائلُ أدمعي
والدمع أدرى بالجواب وأجودُ
يا راحلًا رحل اصطباري بعده
هل بيننا يوم القيامة موعدُ
إن كنت لا تسمع نُواحي في الحمى
فعلى ضريحك ألف دمع يشهدُ

•••

آه إن الزمان علينا جار
وبدَّل صفونا بأكدار
قد غِبتَ يا ولدي والقلب مُنْذعرُ
ودمع عيني غدَا كالسحب ينهمرُ
فارقتنا يا حبيب القلب يا سندي
من بعد بُعدِك طال الحزن والكدرُ
قد سار للصيد فاصطيد الحبيب فلا
يطيب لي بعدها ورد ولا صدرُ
الملك (إلى الجندي) : وكيف تجاسر حليم على ما فعل؟
الجندي : حليم يا مولاي، يدَّعي أنه ما قتل، مع أن غادرًا شاهدٌ على إقراره، وخنجره هذا برهان على إقراره.
الملك : وأين هو الآن موجود؟
الجندي : هو في السجن مكبَّلٌ بالقيود.
الملك : عليَّ به الآن؛ لأذيقه الموت ألوان.

(يخرج الجندي.)

الملك :
أُفكر في عصرٍ مضى لك مُشرقًا
فيرجع ضوء الشمس عندي مُظلمًا
لئن عظمت فيك الرزيَّة إننا
وجدناك منها في البريَّة أعظمًا
بكاك الهوى والريح شقت جيوبها
عليك وناح الرعد باسمك مُعْلمًا
ومزق ثوب البرق واكتست الضحى
حِدادًا وقامت أنجم الجو مأتمًا
آه يا ولدي الحبيب، قُصِف غصن قدِّكَ الرطيب، وغار نجم مُحياك، خُسرًا لقاتلك الأفَّاك، شُلَّت يداه من غائل خئون، كلَّم بفعله القلوب وقرح العيون.
عَجِلَ الحتوف عليه قبل أوانهِ
فغطاه قبل مظنة الأبرارِ
وكأنَّ قلبي قبره وكأنَّه
في طيِّه سر من الأسرارِ
أبكيه ثم أقول مُعتذرًا له
وُفِّقت حين رحلت عن ذي الدارِ
جاورتُ أعدائي وجاور ربه
شتان بين جِواره وجواري
أواه! وا ولداه! وإن كان البكاء مخلًّا بمقام الملوك، فأنا عشت لأسلك هذا السلوك، وأخرق هذه العادة البربريَّة، وأسلم نفسي للجبلة الطبيعيَّة، وأبكي وأنوح، في كل غبوق وصبوح، حزنًا على الحبيب، وجماله العجيب.
أبطأ الجند فضاعت فِكَري
من مصاب كاد يمحو أثري
ها أنا أذهب كي أقتله
لا يحك الجسمَ غيرُ الظفر

(يخرج الملك.)

المنظر الثاني

(جند، حليم، الوزير، هزار، الملك، غادر، السياف)
جند :
جئنا بالنذل الذميم
الخئون المفتري
اللئيم ابن اللئيم
الكنود المجتري
أين ذو المجد الفخيم
المليك الأنورِ
ليرى ذل حليم
… … …
حليم :
… … …
ارحموني إني بري
الوزير :
اتركوا روح حياتي
… … …
الجند :
… … …
ارتجع هذا محال
حليم :
آه من لي بالممات؟!
… … …
جندي :
… … … …
ستراه بكَ حال
حليم :
حسناتي سيئاتي أصبحت
… …
جندي :
… … … …
ماذا الضلال؟
فمتى السلطان يأتي
طال هذا الأمر طال
حليم :
مكِّنوني من وداع
والدي العاني الكليم
الجند :
لكَ من غير امتناع
هذا وداع يا رجيم
حليم :
أدمُعي ذات انهماع
يا أبي الله كريم
قادر قبل ضياعي
على إظهار الغريم
الوزير : أوَّاه قد كُسِر ظهري، وحِرتُ في أمري.
حليم : والدي بلِّغ والدتي مني السلام، وقل لها إني بريء من الآثام؛ والله شهيد وعليم.
الوزير : أسفي عليك يا ولدي حليم، أسف والدٍ طال عزاه، وكثر من نوائب الزمان حزنه وبلاه.
حليم : آه قد أتت ساعة المنون.
غادر : إلى متى هذا الجنون؛ وعلى مَن هذا الندب والعويل؟
حليم : ترفَّق أيها الجليل.
غادر : بمن أرفق يا شقي؟
حليم : بأخيك التقي النقي.
غادر : كنت أخي قبل قتل الأمير حبيب، وأما الآن، والقريب المجيب؛ لا أعترف بك يا خوَّان، ولا أذكرك بعد بلسان.
حليم : أهذا جزاء الإحسان؟
غادر : اسكت يا مُهان؛ وذُق ثمرة غرسك، في مضيق رمْسك.
الوزير : آه يا قليل الوفا يا زنديق.
حليم : دعه يا والدي الشفيق؛ دعه يفعل ما أراد، فأنا في قيد الانقياد، لما قدَّره الله وقضاه، وما يكون فيه رضاه، فلا يسعني سوى التسليم، لما حكم به الرءوف الرحيم. غادر أنا لا أتفرَّس فيكَ غير الصلاح، وها دمي لسيفكَ مُباح، فأنت منه في حلٍّ، ولك المِنة والفضل، وأشهدك يا من تنزَّه عن الفحشاء، ويا من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، أني أبرأت غادر مما نسبه إليَّ، وما ألقاه من البُهتان لديَّ، بحياتي عليك، يا والدي لا تُخرجه من بعد موتي من يديك، واجعله كولدك العزيز الوحيد، ولا تُعامله إلا بما يشتهي ويريد، وأنت يا أخي غادر تذكَّر عهدنا الطاهر، ولا تنسَني من الفاتحة، والأدعية الصالحة؛ لأنك الشقيق الشفيق، والصديق الرفيق. وأنت يا أبي، وحاسم كربي، لا تنساني من الدعاء، في كل صباح ومساء، وبلِّغ والدتي مني السلام، واطلب لي دعاها على الدوام؛ لتُؤانسني في وحشتي، وتُنعشني في وحدتي، فإني قد قرَّبت أفقد المحيا، وأُمسي في الرمس نسيًا منسيًّا.
الوزير : كفى يا ولدي فقد تمزَّقت أحشائي، وازداد حزني وبلائي، وها أمكَ آتية، ودموعها جارية.

(تدخل هزار.)

هزار : آه يا ولدي ما هذه القيود؟
الوزير (رافعًا يديه إلى السماء) : أغثنا يا ودود! هزار، ودِّعي ولدكَ الوحيد.
هزار : آه عذابي شديد.
ألا يا دهر بالأحزان جُرتَ
ألا يا دهر كم قلب كسرت
كأنك قد خُلقت بلا عيون
الوزير :
أيا رباه ما هذي البليَّة؟
… … … … …
حليم :
… … … … …
أيا أبتاه قد دنت المنيَّة
الوزير :
أيا ولداه ما هذي الرزيَّة؟
… … … … …
حليم :
… … … … …
أيا أبتاه في الخلد العلية

(يدخل الملك.)

الملك :
ألا مُت أيها الباغي الأثيم
ومن بفعاله قلبي كليم
تهيأ للممات فحدُّ سيفي
لسفك دماكَ جُرِّد يا ذميم
حليم :
أيا ملك الورى عدلًا فإني
بريء طاهر عاني تهيم
فعاملني بعفوكَ يا ملاذي
فأنت السمح والبَرُّ الرحيم
الملك : كيف أرحمك يا أشقى البريَّة، وقد أذقت ولدي المنيَّة؟ وكيف سمح لك قلبك القاسي بذلك، وهل ظننت بعد قتله النجاة من المهالك؟ فكن مُستعدًّا يا ابن اللئام؛ لشرب كأس الحِمام.
حليم : مولاي أقسم بخالق الأنام، إني بريء من الآثام، وما نظرتُ ولدكَ إلا قتيلًا، وبدمه مُعفَّر، وغادر عنده وبيده خنجر، فسألته من القاتل، فقال إنه هو الفاعل.
غادر : اسكت يا منافق، فإنه وحياة رأسكَ غير صادق، مع من وُجِد الخنجر يا كنود؟ أتظن أني مثلكَ يا جحود؟ أقتل وحيد المملكة، وأُلقي نفسي في التهلكة؟ أسفي عليك يا مولاي حبيب.
الملك (إلى حليم) : قاتلكَ الله أيها الكئيب.
حليم : احلم يا مولاي احلم، وأمهل علي واعلم، إني ما ارتكبت غير ذنب واحد، والله عليم وشاهد، وهو أني أخذت منه الخنجر؛ لأنجيه من فعله المُنكر، وقصدت كتم الأمر، وما فعل من الوِزر، فجازاني بالبُهتان، والوقوع في الخُسران، فإن كنتُ بهذا الفعل أستحق القتل، فأنا أشرب المنون بكل ارتياح؛ وإن كنت أستحق العفو، فتكون عاملتني بما أنت أهله من الصفح والسماح.
غادر : ما هذا الكلام الذي ما تحته طائل، أسمعت أن أحدًا يأخذ خنجرًا من رجل قاتل؛ ليُخلصه ويرمي نفسه، ويسكن بعدها رَمْسه؟ لا تسمع يا مولاي لكلام هذا المُخاتل؛ لأنه وحق رأسكَ هو القاتل، وتشهد عليه هذه العسكر، إنه وُجِد معه الخنجر.
الملك (للجندي) : أصحيح هذا الكلام؟
الجندي : أي وحق رأسكَ يا ملك الأنام؛ إنَّا وجدنا الخنجر مع حليم.
غادر : عبدك صادق يا مولاي الكريم؛ لا أشهد بالزور، ولا أتكلم بالفجور، وحيث اتَّضح الحال، وامتازَ الصدق من المُحال، فاقتل هذا الشرير، وأذقه عذاب السعير.
الملك :
أمطري يا سحب جمرًا وضِرام
وأحرقي هذا اللئيم ابن الحرام
جاحد الإحسان من أفعاله
سيئات وظلام في ظلام
فتهيأ للردى يا مجرمًا
ثم ذُق من سيفي كاسات الحِمام
حليم : الأمان يا مولاي الأمان.
هزار : ارحمه يا ملك الزمان، وارحم أدمعي الجارية، ومُهجتي الفانية.
الملك : ابعدي يا مجرمة.
هزار : إلهي ما هذه البليَّة المؤلمة؟
الملك : آه يا معدن السيئات.
حليم : ارحمني يا بديع السموات.
الوزير : ترفَّق أيها الملك الكريم، واحلم إن مولانا حليم.
الملك : على من أحلم يا فاجر، أعلى ولدكَ الغادر؟ فخُذها من يديَّ يا كنود.
الوزير : خفِّض عليك يا ملك الزمان، أما عندك خدم وأعوان؟ فمُر بقتله أحد الجند، فهو يكفيكَ القصد، وإن شئتَ أنا أقتله بين يديك، ولا أبخل بعدها بروحي عليك؛ لأني بعد فراق حبيب، وقتل ولدي النجيب، إذا وثقت بالدنيا، وركنت إلى ما فيها من الأشيا، أكون كمن جعل له من السحاب حِصنًا، ومن الزوابع رُكنًا، ومن تأمل فيها بعين التبصُّر، وتفكَّر في تقلباتها بالعقل والتدبُّر، عَدَّ إقبالها إدبارًا، ونسيمها إعصارًا، وعطاءها أخذًا، وعهدها نَبذًا، ووهبها نهبًا، وإيجابها سلبًا، وكثرتها قِلَّة، وعزَّها ذِلة، وضحكها نياحة، وطلاقها راحة، لا يدوم بها حزن ولا سرور، ولا فرح ولا حُبور، ولا عزيز ولا مُهان، ولا وزير ولا سلطان، بل كل ما سوى الله فان، ولا يبقى إلا الواحد الديَّان.
تأمَّل بما فوق التراب فإنه
تراب ولا يبقى سوى الواحد الأحد
هو المبدئ المغني وما له
شريك فجلَّ الواحد الماجد الصمد
الملك : حكمة وصواب، في لسان خَلَّاب، قد عفوتُ عنك يا إسكندر بهذه العبارة، وخلعتُك من الوزارة، لكن ولدكَ لا بُدَّ من قتله؛ جزاءً له على سوء فعله، اقتله يا منتقم بعد ذهابي، وأْتِني بدمه لأُذهب ما بي، اتبعني يا غادر.
غادر : أمرك أيها الفاخر.

(يخرج الملك وغادر.)

السياف : اركع أمامي أيها الأثيم.
هزار : آه يا ولدي حليم.
حليم : ارحمني أيها الجلَّاد.
الوزير : اتركوه يا أوغاد.
السياف : امضِ يا مغضوب السلطان.
هزار : عامله يا سيدي بالإحسان.
حليم : أغثني يا جبار.
السياف : آه يا ابن الفُجَّار؛ ركِّعوه أيها الجنود.
حليم : ارحمني يا معبود.
هزار : ابعدوا عنه يا أشرار، اتركوه يا فُجَّار، أغثه يا جابر المنكسرين، وأمان الخائفين، ورجاء السائلين، وغِيَاث المُستغيثين، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

(الوزير يعطي رِشوة للسياف دون أن يراه أحد.)

السياف : ما دُمت أنت وأمك في هذا المكان، لا نقدر على تنفيذ أمر مولانا السلطان، فاتركوه الآن أيها الجنود؛ لنستريح من عناد هذا الكنود، وكلٌّ منكم يذهب إلى محلِّه، وأنا أنفرد بعدها بقتله، وأقتل أباه بهذا الحسام، إن عارضني بعد ذلك والسلام.
حليم (لحن) :
ودِّعوني إخواني
هذا أمر سلطاني
هذا حكم ربَّاني
ذا جزاء إحساني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤