الفصل الخامس

حكاية عن رجل شجاع

(١) العهد١

إلى مقر الطاغية ديونيس تسلل دامون، وكان يُخفِي خنجرًا في ثوبه. قبض عليه الحجَّاب وقيَّدوه في الأغلال، وقال له المستبد العابس المخيف: «ماذا كنت تريد بهذا الخنجر؟ تكلَّم.»

– «أردت أن أحرِّر المدينة من الطاغية.»

– «وسوف تندم على هذا عندما تُرفَع على الصليب.»

قال دامون: «أنا على استعداد للموت، ولا أتوسَّل إليك لتُبقِي على حياتي، ومع ذلك فإن شئت أن تتعطف وتتكرم عليَّ فإني أستسمحك في مهلة لمدة ثلاثة أيام، حتى أزوِّج أختي لعريسها المنتظر، سوف أترك لك الصديق كضمان، ويمكنك أن تقتله إذا لم أوفِ بعهدي.»

ابتسم الملك ابتسامةٍ ماكرةٍ، وقال بعد أن فكَّر في الأمر قليلًا: «سأمنحك من عندي ثلاثة أيام، لكن بشرط أن تعلم: إذا انقضَتِ المهلة قبل أن تُسلِّم نفسك فسوف ينتهي أجَل صديقك بدلًا منك، كما ستُعفَى أنت من العقاب.»

ثم التفت للصديق وقال: «أمر الملك أن أموت على الصليب، تكفيرًا عن ذنبي وجريرتي، وقد قبل أن يمهلني ثلاثة أيام، حتى أنتهي من تزويج شقيقتي، فابقَ أنت هنا لدى الملك، وكن الضامن لعهدي، إلى أن أعودَ وأفكَّ عنك الأغلال.»

احتضنه الصديق الوفي في صمتٍ وسكون، ثم سلَّم نفسه للطاغية، وذهب الآخر لحال سبيله، وقبل أن يشرق فجرُ اليوم الثالث كان قد جمع شمل شقيقته مع زوجها، وأسرع راجعًا إلى موطنه بقلبٍ مهموم خشيةَ أن تنقضي المهلة، ويتأخَّر عن الموعد المرسوم.

وتصادف أن انهمرت الأمطار بغزارة، واندفعت السيول من أعالي الجبال، وجاشت الجداول والأنهار بالموج الصخاب. لم يكَدْ يبلغ الشاطئ، ويُلقِي عصا الترحال، حتى أطاحت الدوَّامة بالجسر وشدته للأعماق، وأخذت الأمواج التي تقصف كالرعد في هدم أعمدته وتحطيم أقواسه.

راح يذهب ويجيء على حافة الشاطئ، لم يُجْدِه أن يرسل البصر ويستطلع الآفاق، ولا أن يبعث بصوت ندائه في كل اتجاه، فلم يتحرك قارب واحد ليغادر الشط، وينقله إلى بلده الحبيب، ولم يحرك نوتي شراعه صوب المكان الذي يقف فيه، وتدافعت الأمطار، فحوَّلت النهر الوحشي إلى بحر.

جلس على الشاطئ وراح يبكي ويبتهل لزيوس بيدَيْن مرفوعتَيْن للسماء: «أوقِفْ يا إلهي غضب النهر، إن الساعات تمر والشمس الآن في الظهيرة، وإذا غابت قبل أن أصل إلى المدينة، فسوف يضيع مني الصديق بلا مراء.»

لكن النهر تزايَد غضبُه باستمرار، وتكسَّرت الأمواج على الأمواج، وانصرمت الساعات واحدةً بعد الأخرى. عندئذٍ حفزه القلق المخيف فواتته الشجاعة وألقى بنفسه وسط الطوفان الهدار، وراح يشق النهر بذراعَيْه القويتين، بينما الإله يباركه ويرأف بحاله.

وأخيرًا بلغ الشاطئ، وأسرع خطواته، وهو يشكر للإله الذي أنقذه. وفاجأه ظهورُ عُصبةٍ من قطَّاع الطرق انشقَّت عنها ظلمات الغابة المعتمة، سدوا عليه الطريق، وراحوا يشهقون، ويزفرون بأنفاسٍ قاتلة، لم يكتفوا بإيقافه عن السير، بل أخذوا يهدِّدونه بالهراوات.

هتف ووجهه شاحب من الرعب والذهول: «ماذا تريدون مني؟ أنا لا أملك غير حياتي، وحياتي سأسلِّمها حتمًا للملك.»

وفجأةً انتزع الهراوة من أقربهم منه وهتف: «بحق السماء، أليس في قلوبكم رحمة.»

وبضرباتٍ عاجلة جندل ثلاثة من الأشقياء فلاذ الآخرون بالفرار.

والشمس ترسل حممها الحارقة، ويسقط على ركبتيه، وقد أضناه الجهد والعناء: «لقد أنقذتني من أيدي قطَّاع الطرق، وترفَّقتَ بي، وأَعَنْتَني على عبور النهر إلى بلدي المقدس، فهل قضيتَ عليَّ بأن أهلك في هذا المكان، بينما الصديق، صديقي الحبيب، يموت هناك؟!»

أنصت وإذا به يسمع صوت خرير ناعم، يتدفَّق ويتألَّق بالقرب منه، وإذا بنبع يتفجَّر من قلب الصخر، ويتمتم ويثرثر، ويركع على ركبته وقد غلبته الفرحة، ويطفئ ظمأه وينعش أعضاءه الملتهبة.

وتطل الشمس من خلال الغصون والأوراق، وترسم ظلالًا هائلة على الأشجار وخضرتها الناصعة. رأى اثنين يعبران الطريق من بعيد، وخطر له أن يهرب منهما بسرعة، وإذا به يسمع أحدهما يقول: «إنهم يضعونه الآن على الصليب.»

زوَّدَ القلق قدمَيْه المسرعتين بجناحين، وطاردته أشباح الهم والعذاب، وومضت من بعيد على ضوء أشعة الأصيل أسوارُ «سيراقوزة» وقمم أبراجها، وأقبل نحوه راعي بيته الأمين فيلوستراتوس بعد أن تعرَّف — وهو مفزوع — على سيده: «ارجع يا سيدي، لن تستطيع أن تنقذ الصديق، أسرِعْ أنت بإنقاذ حياتك. إنه يعاني الموت الآن، وقد راح ينتظر ساعة بعد ساعة، يحدوه الأمل في عودتك في الميعاد، ولم تستطع سخرية الطاغية أن تسلب الإيمان الراسخ الشجاع.»

– «حتى لو كان الوقت تأخَّر، ولم يَعُد في إمكاني أن أنقذه فعلى الموت أن يوحِّد بيننا، بحيث لا يزهو الطاغية الدموي بأن الصديق قد خان عهد صديقه، وبذلك يذبح ضحيتَيْن لا ضحيةً واحدة، ويؤمن في المستقبل بوجود الحب والوفاء.»

وتميل الشمس للمغيب، ويقف على الباب الكبير، ويرى الصليب الذي رفعوه من بعيد، والجماهير المحتشدة حوله تبحلق فيه، ولم يكد الجلَّادون يرفعون الصديق بالحبال، حتى شقَّ صفوفَ الجوقة الكثيفة المتزاحمة، وهتف بصوتٍ عالٍ: «اقتلني أنا أيها الجلاد، ها أنا ذا الذي ضمنه الصديق.»

وتستولي الدهشة على جماهير الشعب الحاشدة، ويتعانق الصديقان، ومن الألم والفرح يبكيان، هنالك لم تُرَ عين خالية من الدموع، ويبلغ الملك بالخبر العجيب، فيرقُّ قلبه لأول مرة، ويأمر بمثولهما أمام العرش.

ويطيل النظر إليهما، وهو في عجبٍ شديد، ثم يقول: «لقد نجحتما أيما نجاح، واستطعتما التأثير على فؤادي، حتى اقتنعت بأن الوفاء ليس كلمةً جوفاء. ضمَّاني إذن إلى صفِّكما، واعتبراني نِعْمَ الرفيق، وَلْأكُن، إذا تعطَّفتما عليَّ، ثالثَ اثنين معكما على الطريق.»٢
١  العنوان الأصلي لهذه الحكاية الشعرية هو: «الضمان». (المترجم)
٢  عن فريدريش شيللر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤