خاتمة

أدين للقارئ ببعض الإجابات عن سؤال طرحتُه في بداية الكتاب: لماذا تبدو المجتمعات الإسلامية والغربية متجهة نحو الصدام رغم جذورها المشتركة في عقيدة التوحيد السامية لدول الشرق الأدنى؟ يطرح هذا السؤال افتراضات سوف يعترض عليها بعض القراء. قد يقولون إنه لا يوجد مثل هذا التوتر بين المسلمين وأهل الغرب؛ أو أنه ليس هناك «مسلمون» و«غرب» على الإطلاق، بل هم مجرد أفراد أو مجتمعات فردية لا ينبغي تجميعها تحت مسميات عامة؛ أو أن السؤال نفسه يكشف عن تحيز ثقافي، لصالح أو ضد الغرب، أو لصالح أو ضد المسلمين، أو عن سذاجة. (هؤلاء القراء قطعًا سينفرون مما سيلي ذكره.) ومع أنها اعتراضات منطقية، ومع أن تنوع المجتمعات الإسلامية كان موضوعًا غالبًا في هذا الكتاب، علينا أن نعي أنه للإجابة عن أسئلة عامة لا بد أن نلجأ أحيانًا إلى تعميمات (معترَف بنقصانها). علاوةً على ذلك، ثمة أشخاص في مواقع بارزة في كل من المجتمعات الإسلامية والغربية يعتقدون أن صدامًا قد وقع بالفعل، أو يقع الآن، أو سيقع حتمًا بين «الإسلام» و«الغرب». ومما لا شك فيه أن التصريحات العلنية لبعض الزعماء في كلا الجانبين، وفي بعض الحالات أفعالهم على أرض الواقع لا تدع مجالًا للشك بشأن مشروعية السؤال المهم الذي يطرحه هذا الكتاب. فكيف يمكن للتاريخ الإسلامي أن يساعد في الإجابة عن هذا السؤال؟

تقدم الفصول المختلفة من هذا الكتاب إجابات خاصة بموضوع كل منها. فالفصول الثلاثة الأولى تقدم أربع إجابات مقبولة، مركزةً على العامل الجغرافي، والمؤثرات الثقافية «الخارجية»، والسجل السابق للعلاقات الغربية الإسلامية، والظروف السياسية المحيطة بتشكُّل الإسلام. لقد شكَّلت البيئة الجغرافية التي ظهر فيها التاريخ الإسلامي المجتمعات الإسلامية بطرق مهمة للغاية. فالمنطقة القاحلة الكبرى عرَّفت المسلمين على حقائق قاسية حددت كل شيء بدءًا من التخطيط الحضري وحتى بزوغ نجم الحركات الطائفية وبقائها. ولما كانت للأراضي الإسلامية حدود نشطة مع أفريقيا وأوروبا وآسيا الوسطى وجنوب آسيا، فقد أدى ذلك إلى تعرض المجتمعات الإسلامية لحضارات وتأثيرات متنوعة، بالإضافة إلى التوحيد في الشرق الأدنى. ولقاؤنا مع شعوب التاريخ الإسلامي أكد أيضًا على التأثيرات الحاسمة التي خلَّفها الفرس والأتراك على المجتمعات الإسلامية بدءًا من أواخر القرن الثامن فصاعدًا. ربما انطلق «الإسلام» و«الغرب» من نقاط بداية متشابهة، لكن سرعان ما «تشعَّب طريقاهما داخل غابة»، والواقع أن هذا هو ما أدى إلى الاختلاف كله.

ثمة إجابة أخرى معتمدة على التاريخ وهي أن الارتباط «الإسلامي» بالثقافة «الغربية» — حسبما قدمتها أوروبا لأسباب جغرافية — غلبت عليه العداوة التي تعد التوترات الحالية إما امتدادًا أو انعكاسًا لها. بطبيعة الحال تولدت حالة من انعدام الثقة بين «المسلمين» و«أهل الغرب» نتيجة الصراعات الأولى مع بيزنطة، يليها الحروب ضد دول البحر المتوسط المسيحية، والحملات الصليبية، و«حروب الاسترداد»، والتوسع العثماني في أوروبا ثم الانسحاب منها، وأخيرًا الاستعمار. هذه السلسلة من الصراعات والذكريات — الحديثة والقديمة على حد سواء — عن عداء الغرب، والاضطهاد، والاستعمار ربما تثني المسلمين المعاصرين عن «الاستثمار» في الثقافة الغربية، وهو ما كانت له تبعات مهمة؛ فها هو كتاب صدر حديثًا عن المائة شخصية المسلمة الأكثر تأثيرًا في التاريخ يورد شخصية إسلامية غربية واحدة — مالكوم إكس — بالكاد يمكن اعتبارها إحدى قصص النجاح في التعاون الغربي الإسلامي. والواقع أن مالكوم إكس ليس بطلًا من وجهة نظر الكثيرين في الغرب بسبب آرائه السياسية؛ وربما لا يعتبره كثيرون في العالم الإسلامي مسلمًا بسبب ارتباطه بحركة «أمة الإسلام». هذا الأمر يشبه الدائرة المفرغة؛ فكلما زاد الشك المتبادل بين الجانبين، تضاءل احتمال «استثمار» المسلمين بأقصى ما يستطيعون في الثقافة الغربية. وهكذا تظل قائمة الأبطال المسلمين تطغى عليها رموز غير غربية غير معاصرة يحتفي بها المسلمون وحدهم؛ وتبعًا لذلك ستزداد مشاعر المسلمين بالعزلة عن المجتمعات غير الإسلامية وتدوم إلى الأبد. لكن ما يدعو للتفاؤل أن هشاشة هذه الدائرة المفرغة قد انكشفت على أيدي الأقلية غير المسيحية الأخرى في أوروبا، وهم اليهود. فعلى الرغم مما لأوروبا المسيحية من تاريخ طويل من اضطهاد اليهود وسوء معاملتهم حتى وقت قريب، فقد أنجب يهود أوروبا أينشتاين وفرويد وماركس وغيرهم الكثيرين ممن يحظون بتقدير الأوروبيين يهودًا وغير يهود على حد سواء. ومن ثم، فمن المحتمل أن ينجب مسلمو الغرب أبطالًا ينالون تقدير الجانبين معًا حال توافر الوقت والظروف المواتية.

تنبهنا قصة التاريخ الإسلامي أيضًا لاختلاف جوهري بين تشكيل المؤسسات الإسلامية من ناحية، والمؤسسات اليهودية والمسيحية من الناحية الأخرى. فمع أن محمدًا وأصحابه واجهوا عقدين من الصعوبات بل والاضطهاد، مات النبي زعيمًا لمجتمعه بعدما هزم أعداءه في مكة وأرشد قبائل شبه الجزيرة العربية إلى الإسلام. وعلى مدار القرون التالية، انتشر الحكم الإسلامي في الوقت الذي كانت تتطور فيه المذاهب القديمة وكتب الشريعة ومؤسسات الإسلام؛ وذلك في ظل رعاية الدولة غالبًا ومن مركز ذي نفوذ سياسي. وعلى النقيض، لم يحقق موسى قط نجاحًا مماثلًا في الأرض المقدسة، ومات المسيح مصلوبًا. وإلى أن اعتنقت القسطنطينية المسيحية دينًا رسميًّا للإمبراطورية الرومانية الشرقية في القرن الرابع الميلادي، كان المسيحيون أقلية مضطهدة منذ قرون (كُتبت خلالها الأناجيل وعاش خلالها الآباء المؤسسون للدين). أما اليهودية فهي نتاج مصادر («المِشناه» و«التلمود») كُتبت في عهد حكم «أجنبي» في أعقاب تدمير المعبد الثاني (نحو عام ٧٠ ميلادي). وهكذا ولدت اليهودية والمسيحية (أو تبلورت في حالة اليهودية) أثناء فترات من الضعف السياسي ودون أي رعاية أو دعم ملكي. وعلى الرغم من أن المسيحيين ومن بعدهم اليهود قد حازوا النفوذ السياسي، تسلِّم المصادر اليهودية والمسيحية جدلًا بالجوانب العملية للعيش تحت مظلة حكم آخرين؛ وذلك استنادًا إلى الخبرات المكتسبة أثناء الفترات «الكلاسيكية» لكلتا الديانتين. وعلى النقيض، عادةً ما تشير أهم الأعمال الخاصة بالشريعة الإسلامية — وخصوصًا التي كُتبت في الفترة من عام ٨٠٠ إلى ١١٠٠ — إلى أحداث وقعت في الفترة من عام ٦٠٠ إلى ٨٠٠. لذا لا يتصور الفقهاء المسلمون احتمالية العيش في ظل حكم «أجنبي» (وهو موقف لم يحدث إلا في منتصف القرن الحادي عشر). وبالطبع ثمة مصادر لاحقة كُتبت في ظل الحكم المغولي أو الصليبي أو المسيحي في شبه الجزيرة الأيبيرية تضع في الاعتبار الظروف السياسية المتغيرة، وبعضها حظي بالشهرة والتأثير. (والكثير من هذه المصادر ينصح المسلمين الذين يعيشون في ظل حكم أجنبي بالهجرة إلى الأراضي المسلمة التي لا يُقلَّل فيها من شأن ممارسة الإسلام.) الغاية أن أغلب المصادر الفقهية الإسلامية، وأولها ظهورًا وأعلاها قدرًا، تنصح المسلمين بممارسة دينهم بالتأكيد على ثقافة دينية مهيمنة. لذا، فإن ما قد ينظر إليه الكثيرون من أهل الغرب بين المسلمين الممارسين لعقيدتهم على أنه تعنُّت يعوق علاقات الجوار، أو على أنه إحجام عام عن تكييف عقيدتهم مع الثقافات الحالية للدول غير المسلمة ربما يمكن تفسيره بالرجوع إلى مسار التاريخ الإسلامي.

يمدنا الفصلان الرابع والخامس بإجابتين أخريين تأتيان من طرفي نقيض السلَّم التأريخي. ترى النظرة الإسلامية التقليدية للتاريخ الإسلامي أن الإسلام مختلف؛ إما لأن اليهود والمسيحيين هم الذين حرَّفوا الدين الأصلي الإلهي، أو لأن الإسلام ظهر بعد أن تشكَّل تمامًا من شبه الجزيرة العربية اعتمادًا على ما كان ينزل من وحي على نبي كان في منأى عن تأثير العصور القديمة الأخيرة في الشرق الأدنى. وفقًا لذلك، يتميز الإسلام عن الثقافة المسيحية-اليهودية بسبب سياقه العربي الفريد؛ وأي مقارنة بين الموروثين الدينيين (أو الموروثات الثلاثة) مرفوضة بوصفها عملًا استشراقيًّا مضلِّلًا. وهناك إجابة معارضة تمامًا تأتينا من وانسبرو الذي قال — في كتابه «البيئة الطائفية» — إن فاتحي العراق العرب في القرن الثامن ميَّزوا أنفسهم «عن وعي» عن اليهود والمسيحيين، موجِدين دينًا عربيًّا على نحو مخصص (بتقويم، ومكان مقدس، ونظام لاهوتي جديد) وذلك في تمييز مضاد عن الديانات المحلية التي كانت قائمة من قبل. وعلى عكس المسيحيين الأوائل الذين اعتبروا أنفسهم اليهود الجدد (أو الحقيقيين)، نظر المسلمون الأوائل — على حد رأي وانسبرو — إلى أنفسهم على أنهم اللايهود أو اللامسيحيون الجدد.

أوضح الفصلان السادس والسابع التناقض الصارخ بين ارتباط العالم الإسلامي بالتاريخ وفقدان الذاكرة النسبي لدى الغرب فيما يتعلق بتاريخهم؛ وهو ما يقودنا إلى إجابة أخرى عن سؤالنا. يمكن القول إن المسلمين ليسوا هم من حادوا عن طريق التوحيد في الشرق الأدنى، بل أهل الغرب هم من فعلوا ذلك. فأثناء عصور النهضة، والإصلاح، والتنوير انفصل الغرب المسيحي اليهودي انفصالًا تامًّا عن الماضي (أو بالأحرى عن ماضيه الحقيقي لصالح ماضٍ كلاسيكي خيالي). فمن ذا الذي يود إحياء فترة معروفة باسم «العصور المظلمة»؟ وهكذا، فإن الإسلام لا الغرب هو الوريث الحقيقي للحضارة المسيحية-اليهودية.

تلك هي النقطة الأساسية تحديدًا من وجهة نظر كثير من المحللين؛ فالإجابة عن سؤالنا المهم لا تأتي من شيء حدث في التاريخ الإسلامي، بل من أشياء لم تحدث — ومقصود بها تحديدًا «النهضة» أو «الإصلاح» — وكانت ستسمح للمسلمين بالخروج مما يُنظر إليه على أنه رجعية مبدأ المحافظين «في العصور الوسطى». إنها إجابة بسيطة لمشكلة معقدة. ولا شك أن المعنى المنسوب لكل من «النهضة» و«الإصلاح» يتوقف عليه الكثير. فإذا كانت النهضة تعني حرفيًّا «إعادة إحياء» الحضارة الكلاسيكية، فربما نقول إن المسلمين قد شهدوا نهضة كهذه قبل أن تشهدها أوروبا بقرون عديدة، وذلك في بغداد في القرن التاسع. ومن ناحية أخرى، إذا قلنا إن النهضة تشير إلى إحياء «أي» فترة ماضية كانت تُعتبر فترة مجيدة ثقافيًّا، فربما يقال إن هذا هو تحديدًا ما ينادي به الإسلاميون طيلة قرون؛ كل ما في الأمر أن «الفترة الكلاسيكية» التي يسعون إلى إحيائها من جديد هي عهد محمد وأصحابه.

نُقل أيضًا عن المحللين قولهم إن المجتمعات الإسلامية سوف ترتبط مع الغرب على نحو أفضل إذا مرت بالنسخة الإسلامية من الإصلاح البروتستانتي للكنيسة الكاثوليكية (١٥١٧–١٦٤٨ تقريبًا). يُنسب إلى «الإصلاح» أنه خفف قبضة الكنيسة على المجتمع ومهَّد الطريق أمام حرية الضمير في العالم المسيحي الغربي؛ وكلا الأمرين أدى إلى ارتقاء «القيم الأخلاقية» عن كل ما عداها. يستطرد هذا الرأي أن «الإصلاح الإسلامي» سوف يصبغ المجتمعات الإسلامية بأفكار التعددية، والتسامح الديني، والحرية الثقافية والفكرية، وكلها عوامل ستجعل الإسلام يتماشى مع باقي العالم «الحديث». وثمة مشكلتان ترتبطان بهذه الإجابة. أولًا، أنها تتجاهل حقيقة أن الإصلاح البروتستانتي قد أعقبه ما يزيد عن قرن من العنف وتفكك المجتمع المسيحي على نحو لا رجعة فيه. لا يمكن لأحد أن يقول إن المسلمين — الذين تحتل وحدة الأمة وتحاشي الفتنة المجتمعية أهمية محورية لديهم — قد يخاطرون بجلب الاضطراب إلى أنفسهم حتى يشعر أهل الغرب من غير المسلمين بارتياح أكبر في تعاملاتهم معهم. ثانيًا، يمكن القول إن المسلمين قد شهدوا إصلاحًا في صورة الوهابية؛ فكلٌّ من الوهابيين والبروتستانت سعوا إلى تطهير الدين الحق من الزوائد مثل الحب الشديد للقديسين والأولياء (في كلتا الحالتين) أو تبجيل مريم (في حالة الديانة المسيحية). وبالمثل، فكما تأثر مارتن لوثر بالمفكرين الأوائل أمثال جون ويكليف ويان هوس، فقد استفاد محمد بن عبد الوهاب من كتابات ابن تيمية وابن القيم الجوزية. ومن ثم، فقد مر المسلمون بتجربة «إصلاح»، لكن بعض الغرب كانوا يفضلون أن تأخذ التجربة شكلًا مختلفًا وأن تسفر عن نتائج مختلفة. وبقدر ما تواصل الوهابية والأشكال الأخرى من السلفية التنافس مع التفسيرات السنية والصوفية والشيعية التقليدية للإسلام، ربما سنشهد لاحقًا حل عقدة الإصلاح الإسلامي.

في بداية هذا الكتاب أشرت إلى أن الإسلام مهم، وآمل أن أكون قد أوضحت أن التاريخ الإسلامي مهم أيضًا. لقد رأينا بعضًا من الطرق العديدة التي يشكل بها التاريخ الإسلامي السياسة والدين في العالم الإسلامي، وتطرقنا لمساهمته في فهمنا للعلاقة بين العالم الإسلامي والغرب «المسيحي-اليهودي» المعاصر. ولا بد من التأكيد في هذا السياق على أن التاريخ الإسلامي ليس الشيء الوحيد الذي يهم على الإطلاق. فالمحللون الذين يكرسون أنفسهم لدراسة العلاقات الغربية الإسلامية (من أي من الجانبين أو بعيدًا عن أي منهما) يدركون عمومًا أن المسلمين وأهل الغرب يشتركون في مخاوف الحياة واهتماماتها الأساسية؛ فكلنا نريد السلام، والصحة، والازدهار، والاحترام، ومستقبلًا أفضل، ونخشى الاضطرار للعيش في ظل غياب هذه الأشياء. لذا تميل التفاعلات الغربية الإسلامية لأن تقاس وتفسَّر في ضوء علم السياسة الطبيعية، وعلم الاقتصاد، وغيرها من العوامل «المعتادة» الأخرى، مع إلقاء اللوم في التوتر بين الجانبين على انعدام التوازن في الوصول إلى الموارد الضرورية. حاول هذا الكتاب توضيح أن التاريخ الإسلامي هو أحد أجزاء اللغز التي كثيرًا ما يُغَض الطرف عنها. ولا يدرك غير المسلمين في الغرب هذه النقطة، لأن التاريخ يلعب دورًا ضئيلًا نسبيًّا في مجتمعاتهم. وسواء أَستمَرَّ قراء هذا الكتاب في تجاهل تاريخهم أم لا، آمل أن يقدروا أهمية التاريخ «الإسلامي»؛ ليس فقط للمسلمين وإنما أيضًا لمن يسعون للارتباط بهم، وأن يفهموا الإسلام والمسلمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤