الفصل الأول

قصة التاريخ الإسلامي

٦٠٠–٨٠٠ ميلادية

بدأ الإسلام في شبه الجزيرة العربية طبقًا لما جاء في الموروث الإسلامي وما ورد عن معظم المؤرخين المعاصرين، ويؤمن المسلمون بأن الإسلام لم يبدأ مع محمد، بل مع إبراهيم الذي بنى — مع ابنه إسماعيل، الجد الأعلى للعرب — الكعبة في مكة التي يتوافد إليها ملايين المسلمين لأداء فريضة الحج حتى اليوم. يتجاهل المؤرخون المعاصرون هذا الأمر، ويبدءون بسيرة محمد في مكة، ونحن أيضًا سنبدأ من هذه النقطة.

شبه الجزيرة العربية مكان شاسع اتصف بالتنوع العرقي والطوبوغرافي والثقافي، بل والديني قبل ظهور الإسلام. والمنطقة التي نخصها بالاهتمام في شبه الجزيرة العربية هي المنطقة الغربية المعروفة باسم الحجاز، التي تقع بها مدينتا مكة والمدينة. ولد محمد في مكة نحو عام ٥٧٠ في قبيلة قريش صاحبة الزعامة بالمدينة، وإن كان ينتمي لفرع أقل مكانة نسبيًّا في القبيلة، وتيتَّم في سن صغيرة. وفي عام ٦١٠، بينما كان محمد يناهز من العمر ٤٠ عامًا نزل عليه الوحي الذي اتُخذت منه آيات القرآن التي عرضها على أصحابه وأهله، وأخيرًا على أهل مكة. كانت رسالة التوحيد التي دعا إليها تتعارض مع ثقافة تعدد الآلهة السائدة في مكة، وفي عام ٦٢٢ أُجبر على الفرار من مكة مع أنصاره. استقر محمد في المدينة، وهي واحة يقطنها — إلى جانب آخرين — عدد كبير من اليهود، وفيها كانت رسالته عن الله، والأنبياء السابقين، ويوم القيامة، والصيام، والصدقة، وما شابه مألوفةً لا تشكل أي تهديد أو خطر. لاقى محمد الترحيب في المدينة، وفيها قام بدور الحَكَم للفصل في بعض النزاعات التي كانت سببًا في الشقاق بين أهلها. هذه الهجرة هي نقطة البداية لسيرة محمد كرجل دولة وأيضًا للتقويم الإسلامي.

شرع محمد — من القاعدة التي اتخذها في المدينة — في تأسيس مجتمع جديد (أمَّة) تألَّف من رفاقه المهاجرين معه من مكة ومن أنصاره في المدينة. وعلى مدار السنوات العشر التالية ظل الوحي ينزل على محمد بآيات وثيقة الصلة باحتياجات الأمة وظروفها، وبما يعكس نفوذها وثقتها المتزايدتين. تحتل معاملات محمد مع وثنيي مكة ويهود المدينة جزءًا كبيرًا من الروايات المنقولة عن حياته في المدينة؛ ومع تدهور علاقاته باليهود، طُردت قبائلهم تدريجيًّا من المدينة، بل وقُتل بعضهم في إحدى المرات. وأخيرًا هُزم أهل مكة عام ٦٣٠، وعلى مدار العامين التاليين استطاع محمد أن يوحِّد قبائل شبه الجزيرة العربية تحت لواء الأمة. اتُّخذت نجاحاته دليلًا على تأييد الله له، ولا بد أن هذا الأمر شجَّع القبائل في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية على الانضمام إليه واعتناق الدين الجديد. وبعيدًا عما تردد عن تأييد الله لمحمد، فقد وُصف في المصادر الأولى بأنه بشر فانٍ عاش حياته شخصًا عاديًّا بل وغير معصوم من الخطأ (إذ عاتبه الله أكثر من مرة في القرآن مع أن الموروث الإسلامي لاحقًا سيعتبره معصومًا من الخطأ). وفي عام ٦٣٢ وافته المنية كغيره من البشر.

أدت وفاة محمد إلى بدء سلسلتين من الأحداث أسفرتا عن نتائج مهمة للغاية؛ إذ أسفرت إحداهما عن ظهور الطوائف الإسلامية، في حين أسفرت الأخرى عن ظهور إمبراطورية إسلامية. في سلسلة الأحداث الأولى، اعتبرت جماعات بعينها وفاة النبي بداية عهد جديد، بينما نظرت مجموعات أخرى في سلسلة الأحداث الثانية إلى وفاته على أنها نهاية عهد قائم. كانت بداية عهد لأولئك المسلمين الذين خضعوا لحكم الخليفة الذي تولى قيادة الأمة بعد وفاة محمد بوقت قصير. قضى الخليفة الأول أبو بكر (الذي امتدت خلافته من عام ٦٣٢ وحتى عام ٦٣٤) أغلب فترة حكمه في التعامل مع سلسلة الأحداث الثانية.

كانت وفاة محمد نهاية عهد لتلك القبائل التي كان تحوُّلها إلى الإسلام وثيق الصلة بمحمد نفسه، فلما مات محمد ذهبت تلك القبائل إلى أن مبايعتها له لاغية. احتفظت بعض القبائل بهويتها الدينية الجديدة (وهو ما كان أمرًا جيدًا) لكنها امتنعت عن دفع الزكاة وحجبت ولاءها عن الأمة (وهو ما لم يكن بالأمر الجيد). ارتدت قبائل أخرى أيضًا إلى الديانات التي كانت تعتنقها قبل الإسلام (كان تغيير الولاءات الدينية شائعًا في شبه الجزيرة العربية الوثنية آنذاك). اعتُبرت هذه المجموعات في تعداد المرتدين سياسيًّا ودينيًّا، وكان لا بد من عودتهم إلى صفوف المسلمين. ولم تنجح «حروب الرِّدة» التي نشبت إثر ذلك في تحقيق أهدافها الأساسية فحسب، بل نجحت أيضًا في خلق الزخم والحاجة لخوض غمار الفتوحات فيما وراء شبه الجزيرة العربية. كان الكثيرون من سكان شبه الجزيرة العربية بدوًا رعويين، ومن ثم اعتمدوا إلى حد كبير على الإغارة على الآخرين من أجل توفير أسباب العيش. وغَرَسَ توحُّد القبائل العربية العديدة تحت لواء ديني جديد فيهم إحساسًا جديدًا بالترابط الاجتماعي، وأوجد غاية روحانية كبحت جماح رغبة البدو في الإغارة على الآخرين (وهو ما أُدغم في مفهوم «الجهاد» الذي سنعود لمناقشته في الفصل الثالث)، بينما جرَّدهم أيضًا من الخصوم الواضحين؛ ولمَّا لم يكن بوسع المسلمين الإغارة بعضهم على بعض، فقد أغاروا على جيرانهم في سوريا ومصر وشمال أفريقيا والعراق وإيران.

غير أن تلك الغارات اتسمت بطابع مختلف. فللمرة الأولى، بدلًا من نهب الشعوب المستقرة في الشرق الأدنى وسلبها، جلب البدو معهم شيئًا خاصًّا بهم، وهو رسالة دينية جديدة. لم تكن هذه الرسالة محل ترحاب من الحكام البيزنطيين في الغرب، ولا الحكام الساسانيين في الشرق (وفقًا للموروث الإسلامي، أُرسلت الرسائل بالفعل في عهد محمد إلى القادة الإمبراطوريين تدعوهم للدخول في الإسلام)، أما رعاياهم فكانوا أكثر تقبلًا؛ إن لم يكن للدين نفسه، فللهيمنة الإسلامية على الأقل.
fig3
شكل ١-١: الفتوحات الإسلامية الأولى.

والدليل على أن الفتوحات الإسلامية في الشرق الأدنى تركت أثرًا قويًّا في نفوس من عاصروها مثلما هي لنا الآن أن من قاموا بتلك الفتوحات ومن فُتِحت بلادهم كانوا على يقين من أن إرادة الله هي التي توجه الأحداث؛ فالمسلمون فسَّروا نجاحهم على أنه مكافأة الله لهم على خضوعهم لمشيئته، بينما كان المسيحيون على يقين من أن هزيمتهم عقاب من الله لهم على خطاياهم، وبعض اليهود نظروا إلى الإسلام على أنه جزء من المخطط الإلهي لنشر التوحيد بين الوثنيين في أقاصي الحجاز، أو أنه تحقق لنبوءات مسيحية. (لا نعلم يقينًا كيف نظر الزرادشتيون في إيران إلى صعود الإسلام، لكن لا بد أنهم لم يكونوا راضين عن ذلك بسبب فقدانهم الرعاية والدعم اللذين كانت الإمبراطورية الساسانية تقدمهما إليهم حتى ذلك الوقت.)

بحث المؤرخون المعاصرون عن تفسيرات أخرى لتلك الفتوحات، وخلصوا إلى ثلاث نظريات أساسية. أولًا، كانت القوى الإمبراطورية واهنة بسبب محاربة بعضها لبعض حتى وصلت إلى طريق مسدود مضنٍ وباهظ التكاليف على مدار القرون السابقة. ثانيًا، كان الكثيرون من سكان الشرق الأدنى يتلهفون لأن يستبدلوا بحكامهم حكامًا أحسن خُلُقًا بعدما عانوا من مظالم عديدة ومتراكمة على مدار قرون بسبب سياسات مستهجنة دينيًّا واقتصاديًّا. ولا بد أن كون الأراضي التي فُتحت في أول الأمر مأهولة بشعوب سامية موحِّدة (مسيحيين ويهود يتحدثون اللغة الآرامية في سوريا البيزنطية، وفلسطين، والعراق الساساني) قد مثَّل أهمية كبرى في هذا الصدد. ثالثًا، تفوَّق العرب عسكريًّا على الجيوش الساسانية والبيزنطية، وتمكنوا من استغلال حماسهم الديني، وعنصر المفاجأة، ومعرفتهم باستراتيجيات الحرب لدى الساسانيين والبيزنطيين (حيث نهض بعض العرب بأدوار عسكرية من قبل في هذه الإمبراطوريات) علاوةً على قدرتهم على التقهقر إلى الصحراء على صهوات خيولهم.

يعيدنا هذا الأمر ثانيةً إلى الجِمال. أيًّا كانت مسوِّغات نجاح العرب، فقد وصلوا إلى الشرق الأدنى وشمال أفريقيا في الفترة من منتصف وحتى أواخر القرن السابع، ومكثوا هناك، وأقاموا ثكنات عسكرية في شمال أفريقيا ومصر والعراق وشرق إيران. سوريا هي الدولة الوحيدة التي استقر فيها الفاتحون في المدن القائمة بالفعل (إذ انضموا إلى عرب آخرين كانوا قد استقروا هناك في أزمان سابقة لظهور الإسلام). وبحلول نهاية القرن الثامن صارت الثكنات مدنًا متطورة تمامًا، وغامر العرب بالخروج في مدن الشرق الأدنى وقراه تاركين وراءهم علامة دائمة؛ فانتشار تربية الجمال في جميع أنحاء البلاد المفتوحة عجَّل باستبدال الجمال العربية الأبسط والأكثر توفيرًا للمال بالمركبات ذات العجلات غير الفعالة والأكثر تكلفة التي تتطلب توفير طرق ممهدة. وفي الأقاليم التي فُتِحت من الإمبراطورية البيزنطية، استُبدلت بالطرق الرومانية الواسعة المستقيمة الشوارعُ الضيقة المتعرجة التي لا تزال تُرى في الأحياء القديمة في مدن الشرق الأدنى التي تأثر تصميمها بانعدام حيز عام مميَّز في المدن الإسلامية الأولى وأيضًا بانتشار هذه «التقنية» العربية الفريدة من نوعها. صارت حاميات المدن نفسها مراكز اقتصادية مهمة جذبت إليها غير المسلمين من المستوطنات المجاورة وأعادت رسم خريطة الشرق الأدنى.

غير أن انتشار اللغة العربية والإسلام كان أهم نتائج الفتوحات الإسلامية الأولى. ومع أن الانتصارات الجوهرية على الإمبراطوريات تحققت أثناء فترة حكم الخليفة الثاني عمر (من عام ٦٣٤ حتى عام ٦٤٤)، فإن عهد الخلفاء الأمويين (من عام ٦٦١ وحتى عام ٧٥٠) هو الذي شهد انتشار الثقافة العربية والحكم الإسلامي — بدرجة أو بأخرى — من شبه الجزيرة الأيبيرية حتى البنجاب؛ الأمر الذي أسفر عن تثبيت حدود العالم الإسلامي إلى حدٍّ ما على مدار قرون قادمة.

يرى بعض المسلمين في أواخر القرن السابع، وكل المسلمين تقريبًا منذ ذلك الحين، أنه ما كان ينبغي للأمويين أن يكونوا خلفاء. كان أسلافهم الأربعة — أبو بكر وعمر وعثمان (الذي امتدت خلافته من عام ٦٤٤ وحتى عام ٦٥٦) وعليٌّ (الذي امتدت خلافته من عام ٦٥٦ وحتى عام ٦٦١) يرتبطون بمحمد إما برباط النسب أو الدم (أو كليهما معًا كما في حالة عليٍّ)، علاوةً على أن حكم هؤلاء الخلفاء الأربعة الذين عُرفوا (بين أهل السنة في القرون التالية) بالخلفاء الراشدين كان عصرًا ذهبيًّا حُكمت فيه الأمة طبقًا للمبادئ الإسلامية. (الشيعة هم الذين يؤمنون بأن عليًّا كان الأحق بخلافة محمد.) وعلى النقيض، لم يكن للأمويين صلة مباشرة بالنبي، بل قيل إنهم جاهروا بمعارضته، ولم يدخلوا في الإسلام إلا اضطرارًا، وفي وقت متأخر نسبيًّا من حياة محمد. ومع أن عثمان نفسه كان ينتمي للأسرة الأموية، فقد اعتنق الإسلام وهو بعد صغير، وكان صهر محمد، ويُحسَب له أنه أمر بجمع نسخة موثوقة من القرآن (مع أن البعض أخذوا عليه ذلك في هذا الوقت) إلى جانب أفعال أخرى حميدة. ساءت الأوضاع عندما قُتل عثمان، وظهر اثنان يدَّعيان الحق في تولي الخلافة: عليٌّ، الذي كان أنصاره يرشحونه للخلافة منذ عام ٦٣٢، ومعاوية، أحد أقرباء عثمان الأمويين الذي طالب بالثأر لمقتل عثمان. تولى عليٌّ الخلافة عام ٦٥٦، وحاول جاهدًا بسط نفوذه على نطاق واسع؛ وبحلول عام ٦٥٧، دخل في مفاوضات مع معاوية. رأى الكثيرون من أنصار عليٍّ أنه ما كان ينبغي لأمر كهذا أن يحدث — إذ كان شعارهم «إن الحكم إلا لله» — وانشقوا عن معسكره؛ ولهذا السبب عُرفوا باسم «الخوارج». دفعتهم آراؤهم المتعنتة بشأن أحقيتهم في الحكم إلى اعتبار المنشقين كفارًا يستحقون الموت. وكان أشهر ضحاياهم هو عليٌّ نفسه عام ٦٦١، على الرغم من أن الخوارج ظلوا يعارضون الخلفاء طوال القرن التالي وما تلاه.

انتهى عصر «الخلفاء الراشدين» بوفاة عليٍّ، وعُرف الصراع الدموي الذي أدى إلى وصول معاوية إلى الحكم بأنه أول حرب أهلية أو «فتنة» في التاريخ الإسلامي، وهي التي حددت نهاية فترة من التآلف الملموس داخل نسيج الأمة. لذا استهل الأمويون خلافتهم ببداية حافلة بالأخطاء، واستمرت الأوضاع في التدهور وفقًا للمصادر المكتوبة على أيدي المعادين لهم. نقل معاوية عاصمة الدولة الإسلامية إلى دمشق، واختار ابنه يزيد (الذي امتدت خلافته من عام ٦٨٠ حتى عام ٦٨٣) خلفًا له؛ مما أرسى مبدأ توريث الخلافة، وهو ما أُخذ على الأمويين (من قِبَل أشخاص أنشئُوا هم أنفسهم سلالات حاكمة). وسرعان ما تورط يزيد في القلاقل عندما قتل الحسين بن علي في كربلاء (العراق) عام ٦٨٠؛ وهو ما رسَّخ سَوءاته في أذهان الشيعة، فضلًا عن أن نفوذه قد لاقى مجابهة من خليفة آخر في الحجاز. لم يدُم حكم يزيد أو ابنه معاوية الثاني (الذي تولى الخلافة عام ٦٨٣) طويلًا. وتسببت أحداث فتنة ثانية في حالة خلل شديد في تلك الفترة (٦٨٠–٦٩٢)، ولم تُسترد سلطة الأمويين إلا مع تولِّي عبد الملك بن مروان (٦٩٢–٧٠٥) الخلافة. ومن هنا عُرف عام ٦٩٢ باسم «عام الوحدة»، واتُّخذت تدابير إدارية لتشديد سلطة الخليفة على رعاياه بهدف الحيلولة دون وقوع أي تحديات مستقبلية لسلطته.

يُعترَف لعبد الملك وخلفائه بالفضل على مضض لما قدموا من إسهامات دام أثرها على الحضارة الإسلامية، وإن عابت عليهم مصادرنا أنهم كانوا ملوكًا لا يعرفون الورع (وليس خلفاء ورِعين). لقد فرضوا اللغة العربية لغة إدارية رسمية في الأراضي الإسلامية، وعملوا على توسيع رقعة تلك الأراضي غربًا وصولًا إلى إسبانيا والمغرب، وشرقًا وصولًا إلى باكستان وآسيا الوسطى. شُدِّد نفوذ الخليفة على الأقاليم الخاضعة لحكمه، واستُبدلت بالتقاليد القبلية اللامركزية تقاليد إمبراطورية أفضل تنظيمًا، وتشكلت عن وعي هوية عربية وإسلامية فُرضت على مؤسسات الخلافة. سُكَّت العملات «الإسلامية»، وحلت اللغة العربية محل اللغات اليونانية والفارسية والقبطية في المكاتب الإدارية (مما أفسح المجال أمام مشاركة المسلمين). وأكثر ما يلفت النظر أن «قبة الصخرة» شيِّدت فوق جبل الهيكل في القدس في تحدٍّ لنبوءات اليهود عن المسيح (أو في توافقٍ معها وفقًا لآراء بعض الباحثين)، علاوة على أنه حُفر عليها نقش يتعارض مع العقائد الأساسية للمسيحية. كان المغزى واضحًا بما يكفي لأن يدركه الجميع؛ وهو أن الإسلام قد وصل.

لكن ماذا كان يعني «الإسلام» في هذه الفترة؟ كبرى مشكلات الأمويين أن إجابتهم عن هذا السؤال اختلفت اختلافًا جوهريًّا عن تلك التي قدمها علماء الدين (المنصَّبون ذاتيًّا) الذين حظوا بتأييد شعبي في ذلك الوقت، والذين وضعوا كتب التاريخ فيما بعد. اعتبر الأمويون وفاة محمد نهاية عهد. فلمَّا كان محمد خاتم الأنبياء، فلن تبلَّغ إرادة الله بعد الآن من خلال بشر يحملون الكتب المقدسة. بدلًا من ذلك كان الخلفاء ممثِّلي الله في الأرض. ذاك هو عهد الخلفاء، وهم مالكو السلطة الدينية. أما علماء الدين، فاعتبروا هذا الكلام محض هراء. فقد أمدَّ الله الأمة بكل ما تحتاج إلى معرفته؛ ويمكن استنباط كل ما لم يرد ذكره في القرآن من السنة النبوية. ولأن العلماء هم الأكثر دراية بتلك الأمور، كان ينبغي أن تُترك السلطة الدينية لهم.
fig4
شكل ١-٢: قبة الصخرة في القدس. تضم النقوش المحفورة على قناطر المبنى مثمنة الأضلاع آيات قرآنية تتحدى بعض العقائد الأساسية للديانة المسيحية.1

من سوء حظ الأمويين أن قطاعًا كبيرًا من رعاياهم المسلمين أيدوا العلماء، فضلًا عن أن عددًا كبيرًا من المسلمين الآخرين كانت لديه اعتراضات لاهوتية على ادعاء الأمويين بأحقيتهم في الخلافة. وعلاوةً على ذلك فإنه طوال الجزء الأكبر من حكم الأمويين (فيما عدا استثناء واحد أو اثنين) كان الخلفاء سببًا في إثناء الشعوب المفتوحة بلادها عن الدخول في الإسلام، وهو ما يعني أمرين: أن عددًا كبيرًا من الأشخاص كانوا يمقتونهم (وهم غير المسلمين المطالَبين بدفع ضرائب أكثر)، وأن أغلب رعايا الخلفاء كانوا من غير المسلمين. بذا كان لدى المسلمين العرب، والمسلمين غير العرب، وغير المسلمين العرب، وغير المسلمين غير العرب سببًا لمعارضة الخلفاء في دمشق. وفي عام ٧٥٠ أطاحت ثورة شيعية من الشرق بالأمويين، ووصلت بالأسرة العباسية إلى الحكم.

زعم العباسيون (٧٥٠–١٢٥٨) أنهم ينتسبون لأحد أعمام محمد، وتعهدوا — بالأقوال والأفعال المنتقاة — بالبعد كل البعد عن الظلم الذي مارسه الأمويون. نقل العباسيون مركز السلطة من سوريا إلى الشرق، وأسسوا عاصمة جديدة في بغداد عام ٧٦٢، واتخذوا ألقابًا مسيحية بغرض الإشارة إلى اختلاف الوضع عما كان عليه. وبالتأكيد كان الوضع مختلفًا في نواحٍ عدة؛ فهم أيضًا — مثلما فعل الأمويون قبلهم — أراقوا دماء القادة المسلمين الذين يتمتعون بحضور لدى العامة (فقد نفذوا أعمال القتل الوحشي في مهندسي الثورة العباسية)، وأقاموا سلالة حاكمة، وادعوا الحق في السلطة الدينية. وعزز العباسيون أيضًا الانتقال من دولة مفككة قائمة على القبلية إلى إمبراطورية متشابكة. وكان عبد الملك بن مروان قد بدأ في تنفيذ هذا الأمر قبل نصف قرن، لكن في دمشق وهي مدينة لم تكن قط مركزًا لأي إمبراطورية على الرغم من عراقتها الهائلة. وفي بغداد كان العباسيون قريبين من العاصمة الساسانية القديمة قطيسفون، ومع أن حياة الخمر والنساء والغناء التي سادت شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام بدت شبيهة بحياة الخمر والنساء والغناء في البلاط العباسي، فإنه مع تولي هارون الرشيد (٧٨٦–٨٠٩) الحكم، كان الشرق الأدنى قد شهد تحولًا جذريًّا من نواحٍ عديدة.

٨٠٠–١١٠٠

يُعزى وجود الإسلام إلى الأحداث التي وقعت في الفترة ما بين عامي ٦٠٠ و٨٠٠، أما الصورة التي يظهر بها الإسلام الآن فتُعزى في المقام الأول إلى الأحداث التي وقعت في الفترة ما بين عامي ٨٠٠ و١١٠٠. ومثلما ميَّزت الجِمال الفترة الأولى، يمكن القول إن القوافل ميزت الفترة الثانية. تتكون القافلة من عدة جمال (أو حيوانات نقل أخرى) تقودها مجموعة من المسافرين، وهو ما يعكس أحد الاختلافات الرئيسية بين الأمويين والعباسيين الأوائل؛ فقد أنشأ الأمويون ما يشبه إمبراطورية «عربية» حصرية، بينما أسس العباسيون عن وعي إمبراطورية شاملة غير محلية تمنح سلطات لغير العرب (ممن يحملون الثقافة الفارسية في الأساس، حتى إن كلمة قافلة هي كلمة فارسية الأصل)، وضموهم تحت راية الإسلام. لعبت القوافل أيضًا دورًا محوريًّا في هذه الفترة؛ إذ كانت تذرع الطرق التي تربط الأقاليم العباسية المنتشرة من أجل نقل الحجاج والرسل والتجار وطلبة العلم والجنود عبر شبكة من الطرق التي شجعت على ظهور مستوى من الدُّوَليَّة والتعددية الثقافية والترابط قد يربطه معظم أبناء الغرب بالحداثة.

تتشابه أسس هذا الإنجاز تمام الشبه مع تلك الأسس التي يُنسب إليها ظهور الغرب الحديث. لكن بدلًا من ثورة في عالم الطباعة، شهد العالم الإسلامي في هذه الفترة ثورة في تصنيع الورق أدت إلى استبدال هذه الوسيلة الأقل تكلفة بأكثر وسائل الكتابة تكلفة واقتصارًا على النخبة (أوراق البردي والبرشمان على سبيل المثال). ويعتقد أن الإلمام بالقراءة والكتابة زاد آنذاك بمعدلات هائلة؛ مما أدى إلى ظهور جمهور جديد من القراء استهلك (وأيضًا أنتج) ألوانًا جديدةً من الأدب. دُوِّن كل شيء بدءًا من الشعر الجاهلي وحتى المؤلفات التي تناولت التوحيد والفلسفة والطب والعلم والأدب والتاريخ. نتج عن ذلك ثورة متكافئة في الثقافة والحضارة الإسلامية أدت إلى ظهور نخبة مدنية متنوعة في العالم الإسلامي بحلول القرن التاسع.

انتعشت حركة السفر والتجارة أيضًا في هذه الفترة متأثرة بهذا التطور الثقافي ومؤثرة فيه. لم يقتصر الأمر على أن أدب الرحلات (سواء الحقيقي أم الخيالي)، والخرائط، والمؤلفات الجغرافية قد أُنتجت على أساس تجارب جديدة في أراضٍ بعيدة — وإن كان هذا قد حدث بلا شك — ولكن تجار الشرق الأدنى زادوا أيضًا من نطاق تعاملاتهم إلى ما وراء حدود الدولة العباسية. يحدِّثنا أحد كتاب القرن التاسع عن اليهود العراقيين متعددي اللغات الذين جابوا أوراسيا متنقلين بين فرنسا والصين (مرورًا بالأراضي الإسلامية، وجنوب روسيا، والهند في طريقهم)، كما أن اكتشاف الآلاف من عملات الدولة العباسية في إسكندنافيا يشهد باتساع نطاق هذا النشاط التجاري. حتى انتشار صناعة الورق من الصين إلى الشرق الأدنى يفيدنا في هذا السياق؛ فالمصادر المتاحة لدينا تخبرنا بأن المسلمين هزموا أحد الجيوش الصينية عام ٧٥١، وأسروا صانعي الورق في تلك الأثناء، وتعلموا منهم تقنيات الصناعة. ما يثير الاهتمام أن مثل هذه الظروف العدائية — حيث نشوب حرب دموية في آسيا الوسطى — لم تمنع التفاعل الثقافي بين الشعوب، وانتشار السلع والأفراد والأفكار. كان لدى المسلمين في هذه الفترة مناطق حدودية قائمة في كلٍّ من إسبانيا، وجنوب أوروبا، وآسيا الوسطى والهند، وأفريقيا؛ وهو ما أتاح للحكام والأفراد فرصة لاستقاء المجد من رفع راية الجهاد. تذكِّرنا قصة صانعي الورق الصينيين (وهي بلا شك مجرد قصة) أن مثل تلك المواجهات من وجهة نظر مؤلفي القصة كانت تتيح مزيدًا من الفرص للتفاعل الثقافي بقدر ما قد تعيقه.

تحقَّق هذا «العصر الذهبي» للحضارة الإسلامية (حسبما يسميه البعض) بفضل وجود توازن دقيق بين ظروف ملائمة، وخصوصًا التدفق الثابت للدخل في خزينة الخلافة معزَّزًا بالإمساك الكفء للدفاتر، وكذلك وجود استقرار نسبي داخل أراضي الدولة العباسية. اختل هذا التوازن بدءًا من النصف الثاني من القرن التاسع فصاعدًا، ولم يكن ممكنًا أبدًا تحسن الظروف اللازمة لعولمة الدولة العباسية. وبدأت الثروة الناجمة عن التجارة وفرض الضرائب تتضاءل لعدد من الأسباب. فقد انخرط إقليم «السواد» في جنوب العراق — الذي كان مصدرًا لجزء كبير من الحاصلات الزراعية للعباسيين — في حالة من الفوضى بسبب تمرد قام به عبيد شرق أفريقيا العاملين في البصرة بتحريض من الخوارج («ثورة الزنج» ٨٦٩–٨٨٣)، كذلك بدأ الحكام في المناطق البعيدة استثمار إيرادات الضرائب محليًّا بدلًا من إرسال الأموال إلى العاصمة؛ إذ عادة ما كان يعقب الاستقلال الاقتصادي استقلال سياسي. علاوةً على ذلك، هذه هي الفترة التي أدى فيها اعتناق غير العرب الواسع لدين الإسلام إلى نتيجة محمودة هي انتشار الإسلام، لكنه أدى أيضًا إلى نتيجة غير محمودة هي تضاؤل إيرادات الجزية. وما زاد الأمور سوءًا أن ما تبقى في خزانات البلاد كان يُبدده سريعًا بلاط مسرف ازداد اتساعًا على نحو فاق قدراته واحتياجاته؛ مما أدى إلى ظهور نخب حاكمة جديدة كثيرًا ما كانت مكلفة أكثر من كونها فعالة. هذه الفترة هي التي فقد فيها العباسيون سلطتهم السياسية والعسكرية والدينية كما سيتضح فيما يلي.

من الناحية السياسية، ناضل العباسيون للإبقاء على وحدة أقاليم دولتهم الواسعة؛ ففي ظل وجود إمبراطورية امتدت نحو ٦٥٠٠ كيلومتر من الشرق إلى الغرب، ودون التمتع بمزايا سبل الاتصالات الحديثة، كان واردًا أن يسعى بعض رعاياهم للحصول على قدر من الاستقلال. ربما كان باستطاعة الرُّسُل السُّراع، والحمام، والمنارات وغيرها من سبل الاتصال أن تغطي إلى حدٍّ ما الاتساع الهائل للإمبراطورية، لكن التفتت السياسي كان في الأغلب مسألة وقت فحسب. والواقع أنه في حالة الأندلس لم يكن الأمر حتى كذلك؛ فأثناء خضوعها لحكم العباسيين، فرَّ أحد الأمراء الأمويين إلى شبه الجزيرة الأيبيرية، وأقام ولاية مستقلة أصبحت فيما بعد — تحت حكم عبد الرحمن الثالث (الذي امتد حكمه من ٩١٢ إلى ٩٦١) وخلفائه — خلافة ومركزًا جليلًا لثقافة راقية. وحينما نقل العباسيون السلطة والاهتمام إلى الشرق، انفصلت الأقاليم الغربية للخلافة تدريجيًّا؛ المغرب تحت حكم الأدارسة (٧٨٩–٩٢٦)، وبقية دول شمال أفريقيا تحت حكم الأغالبة (٨٠٠–٩٠٩)، ومصر تحت حكم الطولونيين (٨٦٨–٩٠٥) والإخشيديين (٩٣٥–٩٦٩)، يليه حكم الفاطميين في شمال أفريقيا ومصر وسوريا (٩٠٩–١١٧١). وحتى الأقاليم الشرقية سعت إلى الحصول على قدر من الاستقلال، حيث حكم الطاهريون خراسان (٨٢١–٨٧٣)، وخلفهم في حكمها السامانيون (٨٧٤–١٠٠٥) والغزنويون (٩٧٧–١١٨٦) الذين اتخذوا من شرق أفغانستان قاعدة لهم. ومع استثناء واحد أو اثنين (مثل الصفاريين في شرق إيران، ٨٦١–٩٠٠)، مالت تلك السلالات الحاكمة في الأقاليم الشرقية إلى التعاون مع السلطات العباسية والاعتراف الرسمي بها، على عكس السلالات الحاكمة في الأقاليم الغربية مثل الأدارسة، والأمويين الأندلسيين، والفاطميين. وعلى الرغم من ذلك، فإنه على أرض الواقع ولأسباب جغرافية محضة، غالبًا ما كان للعباسيين قدر من التفاعل — الإيجابي والسلبي على حد سواء — مع كل من مصر وسوريا اللتين لا تدينان لهم بالولاء أكبر مما كان عليه الوضع مع شرق إيران وآسيا الوسطى المخلصتين لهم اسمًا.

من الناحية العسكرية، بدأ العباسيون في بداية القرن التاسع يستبدلون بالجيش الذي جاء بهم إلى الحكم جنودًا عبيدًا أتراك («المماليك» أو «الغلمان») جرى شراؤهم أو أسْرهم من آسيا الوسطى. تمتَّع هؤلاء الأتراك بثلاث مزايا جذبت إليهم الخليفة المعتصم (الذي امتدت فترة حكمه من عام ٨٣٣ حتى عام ٨٤٢)، والذي كان أول من جلبهم بأعداد كبيرة. أولًا، نظرًا لأنهم كانوا من خارج البلاد، لم يكونوا مهتمين بالولاءات الداخلية أو الضغوط الشعبية؛ بل كان ولاؤهم للخليفة نفسه. ثانيًا، كانوا رماة سهام راكبين بارعين تفوقوا عسكريًّا على قوات خراسان التي حلوا محلها. ثالثًا، على الرغم من اعتناقهم الإسلام وإعتاق رقابهم في كثير من الأحيان، فإن وضعهم كعبيد أتراك لن يمكِّنهم أبدًا من ادعاء الحق في الخلافة. من الناحية النظرية، كان اختيار الجنود العبيد فكرة رائعة، لكنهم — عمليًّا — سرعان ما خرجوا عن نطاق السيطرة. في البداية أُسست عاصمة جديدة في سامراء (٨٣٨–٨٨٣) لتأويهم وتبعدهم عن سكان بغداد الذين كانوا يصطدمون بهم. وفي النهاية وصل بهم الأمر إلى حد انتزاع القوة المؤثرة من المسلمين أحرار المولد في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ليتصرفوا بوصفهم صنَّاع ملوك من منتصف القرن التاسع فصاعدًا (حينما اغتالوا الخليفة المتوكِّل وخلفاءه الثلاثة). كذلك جرَّدوا الخزانة من أموالها ليزيدوا من تقويض حكم الخليفة ويتسببوا في نزف موارد الخليفة ونفوذه على نحو خارج عن نطاق السيطرة.

ومن الناحية الدينية، كما حدث مع الغلمان، وقع الخلفاء العباسيون ضحايا لإحدى مبادراتهم. وفي هذه الحالة، كان تركيزهم على مركزية محمَّد للإسلام عامةً ولمنصب الخلافة خاصةً هو ما أضعفهم. لقد برروا إطاحتهم بالأمويين عن طريق التأكيد على بُعد صلة الأمويين بمحمد، بينما بالغوا في إظهار صلتهم الضعيفة به؛ فكون أحد أسلاف المرء واحدًا من أعمام النبي محمَّد لا يتساوى مع كون المرء سليلًا مباشرًا للنبي نفسه على نحو ما أوضح الشيعة الساخطون. ومع ذلك كانوا هم من نجحوا في تولِّي السلطة، وذلك في حد ذاته أمر يستحق الاهتمام. ومشكلة استمداد الشرعية والهيبة من محمَّد هي أن الخلفاء العباسيين — عندما فعلوا ذلك — كانوا يرفعون النبيَّ إلى منزلة أعلى مما كان يتمتع به في السابق؛ وهو ما ترك مجالًا ضئيلًا أمام ادعاءات العباسيين بالحق في السلطة الدينية. لقد منح محمَّدٌ العباسيين الحق في الحكم، لكنه أيضًا منح العلماء الحق في تحديد المعتقد التقليدي؛ إذ كان يُعتقد أن العلماء — لا الخلفاء — هم من احتفظوا بسجل دقيق لسلوكه النموذجي (السنَّة). تقبَّل الخلفاء في النهاية مكانة العلماء ولكن بعد مقاومة؛ فقد حاول المأمون (الذي امتدت فترة خلافته من عام ٨١٣ حتى عام ٨٣٣) التأكيد على النفوذ الديني لمنصبه عن طريق إخضاع العلماء لتحقيق (عُرف باسم «المحنة»)، وفيها كان يُفرَض رأي الخليفة بشأن مسألة لاهوتية على جميع العلماء مع التحقق الدوري من آراء العلماء كلٍّ على حدة. ظلت هذه «المحنة» سياسةً للخلافة حتى تخلى عنها الخليفة المتوكِّل عام ٨٤٨، وعندها بات واضحًا أن الخلفاء خسروا المعركة والحرب كلَّها؛ والمثير للدهشة أنه سرعان ما أيَّد الخلفاءُ العلماءَ بعد ذلك عن طريق شمولهم بالرعاية الفائقة في كثير من الأحيان.

بحلول منتصف القرن العاشر، لم يكن لدى الخلفاء العباسيين سوى أَثَر من النفوذ في العراق نفسه. وحتى هناك، تعرضوا للإهانة مع وصول البويهيون الشيعة العاصمة، وهم غزاة غلاظ من شمال إيران أحيوا بعض التقاليد الساسانية لكنهم أبقوا العباسيين على عرش الخلافة. منذ ذلك الوقت — ومع القليل من الاستثناءات — كان الخلفاء العباسيون في أفضل الأحوال رؤساء روحانيين للعالم الإسلامي. حكم البويهيون العراق وغرب إيران لما يزيد عن قرن (٩٤٥–١٠٥٥)، ليطيح بهم السلاجقة السنَّة (١٠٣٧–١١٥٧ تقريبًا) الذين مثلوا أولى موجات عدة من الأتراك تدخل العالم الإسلامي طواعية.

مع أن كل هذا يبدو سلبيًّا للغاية — وهو ما كان حتمًا كذلك من منظور الخلفاء العباسيين والعراق بصورة عامة — كان «الإسلام» بوصفه دينًا وحضارة في أزهى صوره بنهاية هذه الفترة. ففي ظل التقسيم السياسي للخلافة ووجود خلافتين أخريين متمركزتين في قرطبة والقاهرة، انتقلت ملامح السلطة العباسية والحضارة الإسلامية بصورة عامة إلى البلاطات المتعددة التي ظهرت في كل أنحاء العالم الإسلامي، بما لذلك من تبعات دينية وثقافية مهمة حقًّا. فوجود مراكز إقليمية للثقافة الإسلامية — تشكَّل العديد منها عن قصد على شاكلة البلاط العباسي — كان يعني إمكانية تركيز الطاقات السياسية على مناطق كانت بعيدة للغاية بحيث لم تكن تسترعي اهتمام الخليفة في قرون سابقة. تحقق انتشار الإسلام فيما وراء حدوده التقليدية في المنطقة القاحلة الكبرى بفضل الإجراءات التي اتخذها الحكام الإقليميون؛ إذ شن الفاطميون والبربر في شمال أفريقيا غارات في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، مثلما فعل الغزنويون في الهند، حيث شن السلطان محمود (الذي امتدت فترة حكمه من عام ٩٩٧ حتى عام ١٠٣٠) ما لا يقل عن ١٧ غارة في شبه القارة. وهكذا لانت شوكة أفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا تمهيدًا لاعتناق شعوبها الإسلام على نطاق واسع في القرون التالية.

جدير بالذكر أن هذه الفترة هي أيضًا التي وضع فيها أهل السنة والشيعة بعضهم البعض داخل القوالب التي تميز كل جماعة منهم حاليًّا. كان للصراع بين البويهيين والفاطميين الشيعة من ناحية، والسلاجقة والغزنويين السنة من ناحية أخرى طابع طائفي أيديولوجي. فقد أيَّد كلا الجانبين العلماء، وشيَّد المكتبات، ومدارس القانون ابتداءً من القرن الحادي عشر، وأرسل المدرسين والإرساليات في جميع أنحاء الأراضي الإسلامية وما وراءها. حكمت الخلافة الفاطمية في ذروة مجدها مصر، وشمال أفريقيا، وصقلية، وسوريا، واليمن، والحجاز، وأجزاء من شرق أفريقيا، وامتد نفوذ الدولة الفاطمية أيضًا إلى مجتمعات في الهند. وكان المذهب الشيعي الذي نشره الفاطميون مختلفًا عن ذلك الذي اعتنقه البويهيون (أو الذي اعتنقه معظم الشيعة في العالم الحديث). اتَّبع كل الشيعة مبدأ الإمامة — أي زعامة الأمة — بدءًا من الإمام علي مرورًا باثنين من أبنائه ونسلهم. وبعد وفاة الإمام السادس جعفر بن محمد الصادق عام ٧٦٥، انقسمت الحركة إلى مجموعتين؛ فتبع البعضُ ابنه إسماعيل (ومن هنا أُطلق عليهم الشيعة الإسماعيلية) في حين تبع آخرون ابنًا آخر اسمه موسى. واصلت المجموعة الأخيرة اتباع الأئمة حتى عام ٨٧٤ حينما اختفى الإمام الثاني عشر (ومن هنا أُطلق عليهم الشيعة الاثني عشرية) أو مات حسبما يقول معارضوهم. وفي ظل الرعاية الفاطمية خضعت الشيعة الإسماعيلية (والشيعة الاثني عشرية تحت حكم البويهيين) لتنظيم دقيق، وتحدى الفاطميون منافسيهم السنَّة ناحية الشرق على جميع المستويات. كان رد فعل أهل السنة لتحدي الشيعة مذهلًا؛ إذ جُمعت كتب الأحاديث النبوية الست الأعلى مقامًا في الفترة من عام ٨٠٠ حتى ١١٠٠، وتوافقت الاتجاهات الفلسفية واللاهوتية والصوفية في الإسلام مع المذهب السني، وظهرت المذاهب الإسلامية الأربعة. وبحلول نهاية القرن الحادي عشر، اعتُقد أن المذهب السني قد تبلور أخيرًا، مع تأكيد العلماء أن باب الاجتهاد قد أُغلق من الآن فصاعدًا.

في التسعينيات من القرن الحادي عشر أغلقت أيضًا الأبواب التي انتقلت عبرها سلطة ونفوذ السلاجقة والفاطميين؛ فبوفاة الخليفة الفاطمي عام ١٠٩٤ انقسمت الحركة الفاطمية إلى مجموعتين عُرفت إحداهما في أوروبا باسم «الحشاشين» الذين شرعوا في هزيمة أعدائهم ليس عن طريق التغلب على جيوش هؤلاء الأعداء ولكن عن طريق استهداف قادتهم (واسم الحركة مشتق من استخدامهم المشتبه فيه للحشيش لتثبيت أعصاب منفذي الاغتيالات قبل أن يندفعوا إلى موت شبه مؤكَّد). ومن أشهر ضحاياهم الأُوَل الوزير السلجوقي نظام المُلْك الذي كان المحور الذي تدور حوله سلطة دولة السلاجقة. بعد ذلك ضعُف الحكام الفاطميون والسلاجقة في إيران والعراق واحدًا تلو الآخر. لكن بحلول ذلك الوقت كان أهل السنة والشيعة قد استقروا على دروبهم، وصار اعتمادهم على رعاية الدولة أقل من ذي قبل. علاوةً على ذلك، فإنه بانتهاء تلك الفترة، فاق المسلمون غيرَهم عددًا في الأراضي الإسلامية؛ فبلغ الإسلام سن الرشد بكلا المعنيين.

١١٠٠–١٥٠٠

كثيرًا ما يشار إلى الفترتين الأوليين على أنهما الفترتان «التأسيسية» و«الكلاسيكية» من التاريخ الإسلامي، وهما القرون الأكثر أهمية لدى معظم المسلمين (الذين يجدر الإشارة إلى أنهم لا يميلون إلى استخدام هذه المصطلحات أو التقسيمات المرتبة زمنيًّا). لكن من شبه المؤكد أن الأغلبية الساحقة من المسلمين في العالم كانت ستظل على إلحادها لولا الأحداث التي وقعت في الفترة ما بين عامي ١١٠٠ و١٥٠٠. ومع أن الإسلاميين المعاصرين (الذين يرون الإسلام نظامًا سياسيًّا ودينيًّا أيضًا) يسلطون الضوء على عهد النبي والخلفاء «الراشدين»، فإن الحركات الإسلامية لم تظهر إلا استجابة لأحداث هذه الفترة. من منظور أوروبي، تلك هي الفترة التي لولاها لما كانت لتركيا حجة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي (ولا لأن تكون هناك «تركيا» من الأساس)، ولولاها لما كانت لروسيا «مشكلات» مع المسلمين في الجنوب. وإليك ما حدث.

في ظل هيمنة المسلمين على جيرانهم طيلة قرون وتحديدهم مسار تاريخهم، كثيرًا ما وجد المسلمون أنفسهم بدءًا من نهاية القرن الحادي عشر فصاعدًا يستجيبون لأفعال الآخرين — مسلمين وغير مسلمين — الذين عاشوا خارج حدود الإسلام السياسية. وهؤلاء الأجانب اتخذوا ثلاث صور: الأتراك المسلمون، والغزاة غير المسلمين (المسيحيون في الغرب والمغول في الشرق)، وأخيرًا الغزاة المسلمون (التيموريون).

في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، واصلت موجات من القبائل التركية الهجرة غربًا متخذين طريق المراعي التي اعتمدوا عليها عبر شمال إيران وفي أذربيجان والأناضول. ومن هناك شنوا غزوات (كثيرًا ما كانت ذات دوافع دينية) داخل الأراضي البيزنطية، مما أثار رد فعل عسكريًّا. هزم الأتراك القوات البيزنطية في معركة «ملاذ كرد» عام ١٠٧١، وفي غضون عقدين كانت معظم أجزاء سوريا وفلسطين والأناضول تحت سيطرتهم. وبحلول القرن الثالث عشر، صارت الأناضول تضم عددًا كبيرًا من السكان المسلمين، وساهم وصول موجات متتابعة من الأتراك في القضاء على انتشار الثقافة اليونانية في المنطقة. كان الحكم التركي في الأناضول لامركزيًّا تحكمه — كما كان من قبل — سلالات حاكمة متنافسة لا ينتسبون إلا من بعيد إلى السلاجقة الكبار في إيران. أدت الغزوات المستمرة للأتراك داخل الأراضي البيزنطية إلى سعي الإمبراطور لطلب المساعدة من المسيحيين الغربيين؛ الأمر الذي ينقلنا إلى الصورة الثانية من التدخل الخارجي في الأراضي الإسلامية.

لم تكن الحروب الصليبية استجابةً لطلب الإمبراطور البيزنطي العون ضد الأتراك فحسب؛ فامتدادها على نطاق ثلاث قارات طيلة خمسة قرون يمثل الكثير للعديد من الأشخاص. حتى الحملة الصليبية الأولى التي شُنت عام ١٠٩٥ كان ارتباطها بالنزاعات التركية البيزنطية أقل من ارتباطها بالسياق الأعم للاعتداءات المسيحية على الإسلام وبالطبع استعادة القدس والأرض المقدسة. فسَّر المؤرخون المسلمون — على حد اهتمامهم بالحملات الصليبية (وكثيرون منهم لم يكونوا مهتمين) — في ذلك الوقت الحملات الصليبية في سياق المكاسب المسيحية ضد المسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية وإيطاليا وفي أماكن أخرى. أُعيد غزو صقلية التي كانت خاضعة للحكم الإسلامي منذ منتصف القرن العاشر على يد قوة مشتركة من النورمان من إيطاليا والجنود الإيطاليين فيما بين عامي ١٠٦١ و١٠٩١ على الرغم من أن رحيل آخر المسلمين منها لم يحدث إلا في الأربعينيات من القرن الثالث عشر. كذلك أعيد غزو الأندلس تدريجيًّا: فبقدر ما كانت مقاومة المسيحيين الكبيرة للحكم الإسلامي في الشمال والغرب منذ القرن الثامن، استغرقت «حروب الاسترداد» نحو ٨٠٠ سنة إجمالًا، لتكتمل فقط بسقوط غرناطة على يد فرديناند وإيزابيلا عام ١٤٩٢. ومع ذلك لم يستطع المسيحيون إحراز تقدم حقيقي في المنطقة إلا بدءًا من نهاية القرن الحادي عشر مع عودة طليطلة إلى الحكم المسيحي عام ١٠٨٥.
fig5
شكل ١-٣: العالم الإسلامي نحو عام ١١٠٠.

زادت وتيرة «حروب الاسترداد» وزخمها في القرن الحادي عشر في ظل الاختلال السياسي للمسلمين. ففي عام ١٠١٣ استولى بعض البرابرة على قرطبة ونهبوها، وفي عام ١٠٣١ انتهت الخلافة الأموية وانقسمت أراضيها إلى دول-مدن إقليمية صغيرة حاربت بعضها البعض بلا توقف. وأمام عجز الحكام المسلمين عن التصدي لتقدم القوات المسيحية، ناشدوا المرابطين الذين كانوا يحكمون شمال أفريقيا أن يقدموا لهم المساعدة. كان المرابطون بربرًا «متزمتين» هدفهم الأول نشر رؤيتهم عن مذهب سني إسلامي أكثر صرامة ليحل محل ما اعتبروها أشكالًا سطحية وزائفة من الإسلام في ذلك الوقت. حكم المرابطون الأندلس من عام ١٠٨٦ حتى عام ١١٤٧ حينما حلت محلهم سلالة حاكمة أخرى من البربر هم الموحدون. تراجع الموحدون أنفسهم إلى شمال أفريقيا بحلول منتصف القرن الثالث عشر حينما سقطت معظم أجزاء الأندلس في يد المسيحيين (قرطبة عام ١٢٣٦، وإشبيلية عام ١٢٤٨). أثارت المذاهب الدينية المتشددة لهذه السلالة الذعر في نفوس المسلمين المحليين (الذين لم يطلبوا مجيئهم) وأيضًا قوات «حروب الاسترداد». وكانت المعاناة الأكبر من نصيب اليهود والمسيحيين الأصليين الذين ترعرعوا في ظل الحكم الأموي؛ فمع قدوم السلالات الحاكمة البربرية المسلحة، كثيرًا ما كان هؤلاء اليهود والمسيحيون يُجبرون على الاختيار بين اعتناق الإسلام أو الهجرة أو الموت. فرَّ البعض إلى مناطق مسيحية في إسبانيا والبرتغال أو إلى أراضٍ أخرى في دول البحر الأبيض المتوسط.

إلى جانب إشعال الأتراك المنتسبين من بعيد إلى السلاجقة بقدر ما فتيل الحملات الصليبية، فإنه يُنسب إليهم أيضًا الفضل في مقاومة الحروب الصليبية والانتصار عليها في نهاية الأمر. ففي أوج نفوذهم، عهد السلاجقة الكبار بأراضيهم إلى أمراء من العائلة صغار السن إلى حدٍّ لا يستطيعون معه إدارة حكم مستقل. لذا كان يرافق هؤلاء الأمراء أوصياء (أتابكة) يمارسون السلطة الحقيقية؛ لفترة مؤقتة نظريًّا وعلى نحو دائم عمليًّا. ومن بين هؤلاء «الأتابكة» زنكي حاكم الموصل وحلب (امتدت فترة حكمه من عام ١١٢٨ حتى عام ١١٤٦) الذي استطاع أن يُلحق أول هزيمة منكرة بالصليبيين حينما انتزع منهم مدينة الرها عام ١١٤٦. ووحَّد ابنه نور الدين سوريا، واستولى أحد مرتزقة نور الدين الأكراد على مصر من الفاطميين عام ١١٦٩. وبعد ذلك وحَّد كردي سني آخر — معروف لدى الأوروبيين باسم صلاح الدين — مصر وسوريا؛ ليضع بذلك نهاية للسلالة الشيعية للفاطميين عام ١١٧١ (محققًا بذلك أهدافه المعلنة) ويعيد القدس للمسلمين عن طريق هزيمة الصليبيين في معركة حطين عام ١١٨٧ (محققًا بذلك الشهرة).

شغل النزاع المستمر خلفاء صلاح الدين في السلالة الأيوبية التي أوجدها (١١٧٤–١٢٥٠)؛ ولهذا السبب كانوا كثيرًا ما يعقدون هُدنات استراتيجية مع الصليبيين، ويحيطون أنفسهم بجنود عبيد أتراك تابعين لهم (يسمون المماليك). أطاح هؤلاء المماليك (الذين امتدت فترة حكمهم من عام ١٢٥٠ حتى عام ١٥١٧) بالأيوبيين، وحكموا منطقة كبيرة شملت مصر، وسوريا، وأجزاء من العراق، وشبه الجزيرة العربية، وشمال أفريقيا وشرقها. أنشأ ارتباطهم بنظام جلب الجنود العبيد — الذي كان يستلزم الاستجلاب الدائم لدفعات جديدة من الأتراك — مجتمعًا قويًّا ومستقرًّا عسكريًّا قادرًا على التصدي للتحديات الخارجية. وبدلًا من عقد هُدنات مع الفرنجة (مثلما فعل السابقون)، طردوا الصليبيين من فلسطين بحلول عام ١٢٩١، بعد أن كانوا قد هزموا المغول في معركة عين جالوت عام ١٢٦٠، وهي انتصارات وضعت نهايةً لذلك التهديد الثنائي الذي كان يواجهه المسلمون في الشرق الأدنى.

على الرغم من ذلك لم ينجُ المسلمون في أماكن أخرى من غزوات المغول، وحتى وقت حديث نسبيًّا — ووقتها لا شك — حاز المغول وليس الصليبيين على انتباه المسلمين في جميع أنحاء العالم. ومثلما فعل النبي محمَّد، حقق «تيموجن» (الذي امتدت فترة حكمه من عام ١٢٠٦ حتى عام ١٢٢٧) القوة عن طريق توحيد عدة قبائل بدوية تحت حكمه، وسُلِّطت عليه الأضواء في سن الأربعين تقريبًا حينما أعيد تسميته باسم جنكيز خان (الحاكم الأعلى). ومثل محمَّد أيضًا، لم يعِش جنكيز خان حتى يشهد اتساع دولته إلى إمبراطورية عالمية؛ فمع وفاته، كان المغول قد غزوا جزءًا كبيرًا من آسيا الوسطى، لكن كان لا يزال أمامهم ضم أجزاء من الصين، وكوريا، وأوروبا الشرقية، والقوقاز، والعالم الإسلامي، وكلها ستشكل في النهاية الإمبراطورية المغولية. وفي وقت سابق كان المغول قد غزوا أجزاء مهمة من شمال إيران وآسيا الوسطى المسلمة، وهو ما كان له تبعات مدمرة؛ فالروايات المتداولة عن الدمار الذي أحدثه المغول تثير الفزع حتى وإن نقِّحت بغية تجنب المغالاة. كان غزو المغول لإيران والعراق في الخمسينيات من القرن الثالث عشر من أكثر الغزوات التي ألحقت دمارًا بالمسلمين؛ إذ دُمر نظام الري الضعيف الذي كانت تقوم عليه الزراعة في العراق، وحدث الشيء نفسه مع المكتبات والمساجد، وشعوب كاملة في مدن وقرى بارزة. لكن الحدث الأبرز في الذاكرة الإسلامية هو نهب بغداد عام ١٢٥٨ الذي وضع نهاية للخلافة العباسية بعد ٥٠٠ عام من قيامها. وفي النهاية اعتنق حكام إيران والعراق المغول (الإيلخانيون ١٢٦٥–١٣٣٥) الإسلام، وحاولوا كسب ود المسلمين المحليين عن طريق رعاية الفنون، وتعيين مدراء من الفرس، وخفض الضرائب. لكن وقتها — مثلما هو الآن — كان يُنظر إلى المغول على أنهم أوغاد لئام لدورهم في القضاء على الخلافة العباسية.

على الجانب الآخر، ظهر المماليك في صورة الأبطال. لقد كان السبب وراء الاستعانة بالعبيد الأتراك في الفترات الأولى من الخلافة العباسية أن وضعهم كعبيد كان يحول دون ادعائهم الحق في تولي الخلافة. وعلى الرغم من أنهم لم يدَّعوا الحق في الخلافة، ظلت خلفيتهم القائمة على العبودية مشكلة للسلاطين المماليك؛ ولهذا الغرض قدموا أنفسهم على أنهم دعاة جهاد ضد الكفار، وجاءوا بأحد أعمام آخر خليفة عباسي إلى مصر حيث منح وجوده الشرعية للحكم المملوكي. شمل السلاطين أيضًا العلماء برعايتهم، وقدموا الدعم لعدد من المؤسسات الدينية ومشروعات البناء. وكتب العلماء الذين عيَّنوهم كتب التاريخ وقالوا خير الكلام عنهم. لكن حتى المماليك — المدافعون عن الإسلام ضد المغول والصليبيين — عجزوا عن مقاومة الطاعون الأسود في الأربعينيات من القرن الرابع عشر، وهو الذي ساعدوا دون قصد في نشره، ولم يتعافوا منه تمامًا.

على الصعيد السياسي ونحو نهاية هذه الفترة كانت الأراضي الإسلامية المركزية تعاني حالة من الفوضى. لم يقتصر الأمر على ضعف المماليك، لكن الحاكم المغولي التركي تيمور (تيمورلنك ١٣٣٦–١٤٠٥) شن حملة مدمرة من بلاد ما وراء النهر في الشمال الشرقي على غرار الغزوات المغولية الأولى. كان تيمور يعتنق الإسلام، لكن ثقافته وهويته كانتا مغوليتين عن وعي (حتى الإسلام الذي كان يمارسه هو وأتباعه كان متأثرًا بالعادات المغولية)، ويبدو أنه لم يستهدف سوى الأراضي التي غزاها جنكيز وخلفاؤه. ومع أنه هزم الجيوش الإسلامية في دلهي (عام ١٣٩٨)، وحلب (عام ١٤٠٠)، ودمشق (عام ١٤٠١)، والأناضول (عام ١٤٠٢) وأماكن أخرى، فإنه لم يؤسس إمبراطورية دائمة. وفور وفاته عام ١٤٠٥، قُسمت الأراضي التي كان يحكمها بين أربعة أبناء لم يكن لدى أي منهم طموح عسكري مثل والدهم.

تفيد الغزوات التي شنَّها تيمور في إبراز مواطن القوة والضعف لدى نظم الحكم الإسلامية المختلفة في بداية القرن الخامس عشر. وإنه لأمر كاشفٌ أن نعرف أن ما اكتسبه من غنائم من غزواته في الهند المسلمة تفوق بكثير ما حققه من أي مكان آخر، علاوةً على أنه في الهند والمناطق المجاورة حقق الحكم والدين الإسلاميين تقدمًا مبهرًا في هذه الفترة. كانت الهند محل استهداف ممنهج من قبل الحكام المسلمين منذ عهد الغزنويين، لكن لم يتمتع المسلمون بالحكم المستقل فيها إلا بدءًا من أواخر القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر؛ أولًا تحت حكم الغوريين من أفغانستان (١١٤٨–١٢١٨) ثم السلالتين التركية والأفغانية اللتين شكلتا سلطنة دلهي (١٢٠٦–١٥٢٦). ومثلما حدث كثيرًا في التاريخ الإسلامي، انشق أحد الجنود العبيد من إحدى السلالتين عن أسياده وأسس سلالة حاكمة لنفسه. وفي هذه الحالة، كان هذا الجندي هو أيبك — أحد غلمان الغوريين — الذي غزا دلهي عام ١٢٠٦ وأسس دولة المماليك في الهند. ومع أنه مات بعد خمس سنوات في حادث غريب أثناء اشتراكه في أحد سباقات الضرب بالصوالجة، فقد خلفه أحد غلمانه الذي أسس سلالة حاكمة من الجنود العبيد استمرت حتى عام ١٢٩٠. وعلى مدار القرنين التاليين تشكلت ثقافة إسلامية هندية في المنطقة، وانتشر الإسلام في شبه القارة وما وراءها فيما يعرف الآن بماليزيا وإندونيسيا.

على الرغم من أن المغول وتيمور نشروا الدمار في جميع أنحاء الأراضي الإسلامية، أدت غزواتهم أيضًا إلى انتشار كل شيء بدءًا من الأدب الفارسي حتى أوراق اللعب. والنقطة المهمة أن ضعف الخلافة العباسية — والمؤسسات والهياكل السياسية بوجه عام — وسقوطها سارا في توازٍ (وترابط) مع تأسيس هياكل سياسية واجتماعية بديلة داخل المجتمعات الإسلامية، وأبرزها المؤسسات الصوفية. والصوفية — بوصفها منهجًا روحيًّا للوصول إلى الله — قديمة كقدم الإسلام في بعض النواحي، مع أن مذاهبها الرسمية لم تظهر إلا في القرن التاسع، ولم تكتسب الفروع المحددة للصوفية طابعًا مؤسسيًّا إلا بدءًا من القرن الثالث عشر. تلك «المؤسسات» (أو الطرق)، بمقرَّاتها (الخوانق أو الرباطات أو الزوايا حسب المنطقة المقامة فيها)، ورؤسائها (ممن يحملون لقب شيخ أو بير أو غيرها من الألقاب)، وطقوس الانتماء إليها، وشعائرها الغريبة ربما تحيي في أذهان الغرب صور الماسونية في اتخاذها من الروحانية أساسًا لها. لكن على عكس الماسونية، فإن للصوفية تأثير اجتماعي وسياسي وديني حقيقي، وينسب الكثير من الفضل إلى شيوخ الصوفية المؤثرين في تعريف أجزاء كبيرة من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وجنوب آسيا وجنوبها الشرقي بالإسلام.

نجح الإسلام أولًا في كسب معتنقين بين شعوب الشرق الأدنى الذين كانوا على علاقة وطيدة بعقيدة التوحيد السامية؛ فلم يكن الانتقال من اللغة الآرامية إلى العربية ومن «أبراهام» إلى «إبراهيم» كبيرًا. كانت علاقة اليهودية والمسيحية بالإسلام علاقةً وثيقةً للغاية حتى قيل إن اليهودية والمسيحية كانتا في الأصل الدين الإسلامي نفسه، لكنه حُرِّف بمرور الوقت؛ ولهذا السبب أراد الله أن يذكِّر البشرية بالصراط المستقيم بأن يبعث إليها محمدًا ويُنزل عليها القرآن. ولا يمكن أن يتسع نطاق هذا القول ليشمل الهندوسية، أو البوذية، أو الأديان الوثنية في أفريقيا وجنوب شرق آسيا، لكن شيوخ الصوفية أثبتوا عكس ذلك. باختصار، أقنعت الدعواتُ التبشيريةُ الصوفيةُ الوثنيين والمشركين أنهم مسلمون «بالفعل» في الأساس، لكن آلهتهم وطقوسهم تختلف في مسمياتها في لغة الإسلام. ولكن لكي ينجح هذا المنهج لا بد من نشر نسخة سطحية للغاية من الإسلام، ولا بد من ملاءمة العناصر الخاصة بالأديان السابقة للإسلام التي لا نظير لها في الإسلام مع الدين الجديد للمتحولين (مثلما وجد عيد القديس فالنتين، وعيد القديسين، وأشجار عيد الميلاد طريقها إلى الثقافات المسيحية). حدث هذا بسلاسة بين المتحولين الموحِّدين؛ فإعادة رواية قصص الإنجيل — المعروفة باسم «الإسرائيليات» — وجدت طريقها إلى كتب التراث الإسلامية دون أن يلحظها أحد في كثير من الأحيان. أما في حالات الوثنيين والمشركين، كانت النتيجة حدوث توفيق ديني اعتُبر إهانة بالغة للمسلمين السنة. وقد تعرفنا على حالة سابقة تعكس هذا الأمر متمثلة في رد فعل المرابطين تجاه إسلام البربر، ولمعظم الحركات الإسلامية الحديثة تاريخ من محاولات مماثلة لتطهير المجتمعات الإسلامية من النماذج التوفيقية للعقيدة والعبادة وغيرها من النماذج الزائفة.

في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، كانت الحركات الصوفية فاعلة ومؤثرة بين الأتراك في الأناضول وأذربيجان (وفي معظم المناطق الأخرى). وتدريجيًّا في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، تفككت العناصر المختلفة للسنة والشيعة والصوفية الابتداعية وغيرها من الأفكار التي كانت قد تضافرت بعضها مع بعض في هذه المنطقة؛ ليظهر العثمانيون السنَّة والصفويون الشيعة الذين تشكَّل الشرق الأدنى الحديث من إرث إمبراطورياتهم وخلفائهم.

١٥٠٠ إلى الآن

متى ينتهي التاريخ الإسلامي؟ على الرغم من أن نهايته لا تظهر بأي حال في بعض أجزاء العالم، ثمة ثلاث وجهات نظر مهمة يمكن من خلالها القول بأن التاريخ الإسلامي قد انتهى في الفترة «من عام ١٥٠٠ إلى الآن». أولًا، وكما سيتضح في الفصلين السادس والسابع، فإن الوقائع التي تشكل المخزون التاريخي لدى جميع المسلمين تخص الفترات الثلاث التي تعرضنا لها سابقًا. ثانيًا، التاريخ الذي يخص الإسلام والمسلمين في هذه الفترة هو تاريخ «عالمي» لعب فيه الإسلام والمسلمون دورًا أكثر من كونه تاريخًا «إسلاميًّا». ولأن هذا الدور كثيرًا ما يكون ثانويًّا، فإن النظر للأحداث التي شهدتها هذه الفترة على أنها جزء من التاريخ «الإسلامي» يمنح الإسلام والمسلمين قدرًا من السيطرة على مجريات الأمور، وهي فكرة مضلِّلة على أحسن تقدير. وهكذا، فإنه عندما احتل الفرنسيون مصر عام ١٧٩٨، كان البريطانيون هم من طردوهم؛ المصريون أنفسهم اكتفوا بالمشاهدة. ثالثًا، تلك هي الفترة التي شهدت تلاشي العديد من السمات البارزة للتاريخ الإسلامي وللمجتمعات الإسلامية فيما قبل العصر الحديث، بما في ذلك الاعتماد واسع النطاق على الجنود العبيد (وسلاح الفرسان بوجه عام)، والتمييز القانوني بين المسلمين وغيرهم في الأراضي الإسلامية، ومحورية الحج (والشبكات الدينية الأخرى) فيما يتعلق بترابط الأمَّة، وسيطرة العلماء على السلطة الدينية وغيرها من الأمور الأخرى.

بسبب كل هذه العوامل، فإن نسبة كبيرة من مسلمي اليوم تنحدر أصولهم من أولئك الذين اعتنقوا الإسلام في تلك الفترة، وكما ذكر أحد المؤرخين فإنه «في القرن السادس عشر من زمننا، كان يمكن لزائر من المريخ أن يظن أن عالم البشر على وشك أن يصبح مسلمًا». ربما توصل ضيفنا القادم من كوكب المريخ إلى هذه النتيجة بسبب الوجود المعاصر للحضارات والإمبراطوريات الإسلامية الكبرى التي أقامها العثمانيون (١٣٠٠–١٩٢٢)، والصفويون (١٥٠١–١٧٢٢)، والمغول (١٥٢٦–١٨٥٨). وإليك صورة لما بدا عليه الحال.

كانت الإمبراطورية العثمانية أول دولة إسلامية عظمى يبزغ نجمها في هذه الفترة وآخر دولة يأفل نجمها أيضًا؛ إذ استمرت بشكل أو بآخر من بداية القرن الرابع عشر وحتى بداية القرن العشرين. بزغ نجمها نحو عام ١٣٠٠ عندما استطاع قائد طموح لمجموعة من المحاربين على الحدود التركية في الأناضول الغربية أن يؤسس دولة إسلامية مستقلة في المنطقة. اتسعت الدولة — التي سُميت باسم مؤسسها عثمان — سريعًا على حساب الإمبراطورية البيزنطية. وفي عام ١٤٥٣ فتح العثمانيون القسطنطينية (وتُنطق بالتركية إسطنبول). وعلى مدار القرن التالي، انتزعوا القدس ومكة والمدينة من سلطنة المماليك (التي فتحوها عام ١٥١٧)، وانتزعوا بغداد من الصفويين عام ١٥٣٤، إلى جانب التوسع غربًا في أوروبا ليضيفوا إلى أراضيهم بلجراد والمجر ويحاصروا فيينا عام ١٥٢٩. سارع السلاطين العثمانيون بالاستفادة من مكاسبهم ليحققوا النفوذ والثروة والهيبة، فاستجلبوا الأموال والمكتبات والمحفوظات والعلماء إلى إسطنبول من المناطق التي فُتحت مؤخرًا في مصر وسوريا، وادعى السلاطين وراثتهم لسلطة الحكام الذين فُتحت بلادهم ولأراضيهم أيضًا، وأطلقوا على أنفسهم ألقاب «قيصر» و«شاهنشاه» و«خليفة»؛ بل و«خليفة الله» في بعض الأحيان. وكالمتوقع، تولى السلاطين أو «الخلفاء» أدوارًا دينية، فأصدروا المراسيم الدينية، وعيَّنوا القضاة، وضموا العلماء إلى السلطة الحاكمة. وفي هذه الفترة، اشتهر السلطان سليمان (الذي امتدت فترة حكمه من عام ١٥٢٠ حتى عام ١٥٦٦) لدى الأوروبيين بفضل نجاحاته العسكرية باسم «سليمان العظيم»، واشتهر بين المسلمين باسم «سليمان القانوني» بسبب دمجه القانون العرفي في الشريعة.

بحلول منتصف القرن السادس عشر، أسس العثمانيون إمبراطورية قوية مركزية عالمية ضمت بعض أهم المدن والموارد الإسلامية — والعالمية أيضًا — لها مرتكَز في كلٍّ من أوروبا وآسيا وأفريقيا. لكن عالمية هذه الإمبراطورية كانت لها نتائج إيجابية وأخرى سلبية؛ فمن ناحية نشطت التجارة والثقافة في المدن العثمانية عن طريق استيعابها عشرات الآلاف من اللاجئين اليهود من محاكم التفتيش الإسبانية. وتكونت الآلة العسكرية العثمانية في جزء منها من شباب مسيحيين («الإنكشاريين» أو «الجنود الجدد» في اللغة التركية). ولأن العثمانيين قد انتقل إليهم حكم مجموعات متباينة من التركمان الذين سكنوا الأناضول بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، فقد حكموا عددًا كبيرًا من الشيعة والصوفيين (الذين كانوا أحيانًا يعتنقون معتقدات غير تقليدية) وكذلك مجموعات متنوعة من المسيحيين. ولم يكن التكوين العرقي للإمبراطورية أقل تنوعًا. ومن الناحية الأخرى، بات واضحًا بنهاية القرن التاسع عشر أنه ليس هناك الكثير مما يمكن فعله لتوحيد هذا النسيج المتنوع من السكان. علاوةً على ذلك فإنه على الرغم من أن العثمانيين اتخذوا ألقابًا دينية، وسيطروا على العلماء، وأظهروا الفخر بما لهم من نفوذ على المدن المقدسة، فالحقيقة أنه حتى في ذروة مجد الإمبراطورية العثمانية كان نصف الرعايا بالكاد من المسلمين وأقل من نصف مسلمي العالم عثمانيين. وتوحيد الأمة على النحو الذي حققه الخلفاء الأوائل (وإن كان سياسيًّا فحسب) كان يمكن أن تكون جدواه لحاكم مسلم أكبر من جدوى السيطرة السياسية على ألبانيا وكرواتيا. علاوةً على ذلك فإن التطورات التي شكَّلت أهمية حقيقية للإسلام والمسلمين كانت تقع أيضًا في أماكن أخرى؛ أي في الأراضي الصفوية والمغولية.

قريبًا من الوقت الذي كان عثمان يؤسس فيه دولته في الأناضول، أسس أحد أبناء أذربيجان واسمه صفي الدين (١٢٥٢–١٣٣٤) رابطة صوفية في أردبيل عُرف أتباعها باسم الصفويين. وبحلول نهاية القرن الخامس عشر، تطورت هذه الرابطة إلى حركة صوفية-شيعية مقاتلة آمنت بأن قائدها إمَّا الإمام المختفي أو الله نفسه. ومع نهاية القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر، خرج قائد الجماعة الصفوية — وهو مراهق يُدعى إسماعيل — من مخبئه وشرع في غزو إيران. وبحلول عام ١٥٠١ كان قد أصبح شاه المنطقة متخذًا من تبريز عاصمة له. مع ذلك هُزمت القوات الصفوية عام ١٥١٤ على أيدي العثمانيين في معركة جالديران التي ترتب عليها ثلاث نتائج مهمة. أولًا، رُسمت الحدود الإيرانية التركية المعاصرة. ثانيًا، لما خسر شاهات الصفويين المعركة (وادعاءهم الألوهية) أمام استخدام العثمانيين البارود، فإنهم استجلبوا البارود هم أيضًا. ثالثًا، نقل الشاهات اللاحقون عاصمتهم شرقًا بسبب تعدِّي القوات العثمانية على أقاليمهم الغربية؛ ليستقر الصفويون في النهاية في أصفهان تحت حكم الشاه عباس الأول (الذي امتدت فترة حكمه من عام ١٥٨٧ حتى عام ١٦٢٩).

بالانتقال شرقًا، كان الصفويون يبعدون أنفسهم عن مركز قوتهم التركماني الأصلي، ويثبتون أقدامهم في قلب الأراضي الإيرانية. تخلصت الشخصية الدينية للدولة من أفكارها الراديكالية التي حلت محلها الشيعية الاثنا عشرية (بينما حلت النخبة الفارسية محل النخبة التركية). فُرض هذا الشكل من أشكال المذهب الشيعي قسرًا على قطاع كبير من أهل السنَّة، واستُقدم العلماء الشيعة من البحرين والشام والعراق إلى أصفهان حيث ازدهرت الثقافة الدينية والدنيوية. نقل عباس أيضًا إلى عاصمته أصفهان سكانًا من المدن الإقليمية لينشئ مركزًا ثقافيًّا واقتصاديًّا. وهكذا، فإنه في ظل حكم الصفويين سُلِّطت الأضواء على الحدود الحديثة لإيران وعلى هويتها الثقافية والدينية؛ وذلك في تناقض واضح مع التنوع المتسم بقبول الآخر الذي كان يميز الإمبراطورية العثمانية. وصل الأدب الفارسي ذرًى جديدة؛ وعلى قدر استخدام العثمانيين والمغول اللغة الفارسية لغة للثقافة الرفيعة (في الأناضول قبل الحكم العثماني والهند قبل الحكم المغولي)، كان الصفويون في قلب الحضارة الإسلامية. مع ذلك بدأ أفول نجمهم بعد وفاة عباس الثاني (الذي امتدت فترة حكمه من عام ١٦٤٢ حتى عام ١٦٦٦)؛ إذ اجتمعت الكوارث الطبيعية (المجاعات والزلازل وانتشار الأمراض) مع وجود حكام ضِعاف، مما خلَّف فراغًا سياسيًّا ملأه العلماء الشيعة أو الملالي الذين أحكموا قبضة الشيعة على المجتمع. وفرضُ الدين بالقوة ليس بأي حال سبيلًا لكسب الأصدقاء والتأثير في الناس، وهكذا أطاح رجال القبائل السنَّة الحانقون من أفغانستان بالصفويين عام ١٧٢٢، ووضعوا نهاية لحكمهم. وعادت الوحدة السياسية — والمذهب الشيعي — إلى إيران على أيدي القاجاريين (١٧٩٤–١٩٢٥) الذين قادوا إيران إلى الحداثة.

من مكان آخر في أفغانستان وفي أوائل القرن السادس عشر، شن أحد الأمراء ويُعرف باسم بابُر غارة ناجحة على الهند. ومع ادعاء بابر أنه ينتسب لكل من جنكيز خان وتيمور، كان مؤكدًا أنه سيحاول غزو بلد ما. وهذا ما فعله عام ١٥٢٦ حينما هزمت قواته سلطان دلهي وأسست سلالة حاكمة في الهند. ومع ذلك، لم تؤسس الإمبراطورية المغولية إلا تحت حكم حفيده أكبَر (الذي امتدت فترة حكمه من عام ١٥٥٦ حتى عام ١٦٠٥)، وعلى مدار قرن ونصف قرن تاليين، ازدهر حكم أكبر وخلفائه واتسعت أراضيهم. وبحلول الفترة التي حكم فيها أورنكزيب (١٦٥٨–١٧٠٧)، كاد المغول يحكمون جميع أجزاء شبه القارة الهندية وأجزاء من إيران وآسيا الوسطى بلغ عدد سكانها نحو ١٠٠ مليون نسمة. ومع أن الغالبية العظمى من هؤلاء الرعايا لم يكونوا مسلمين، فإنهم اندمجوا بالكامل داخل المجتمع على كافة مستوياته، وتمتعوا بدرجة غير مسبوقة من التسامح؛ إذ أُعفوا من دفع الجزية، وتزوج الأباطرة المغول زوجات هندوسيات، واستبدل السلطان أكبر بالتقويم القمري الإسلامي تقويمًا شمسيًّا. كذلك مزجت الثقافة المغولية العادات الإسلامية بالعادات الهندية لتوجِد أشكالًا جديدة وترسي معايير جديدة في الرسم، والشعر، والعمارة. ويمكن رؤية إرث إنجازاتهم اليوم في عظمة «تاج محل» واستخدام لفظة «المغول» إشارةً إلى من يملكون النفوذ والثروة.

على الرغم من ذلك، لم يطبِّق خلفاء السلطان أكبر جميع أفكاره عن طيب خاطر. ففي عام ١٥٨١، وضع أكبر ما أطلق عليه اسم «الدين الإلهي» الذي يهدف إلى التوفيق بين الحقائق العديدة لجميع الأديان المعروفة له داخل منظومة واحدة. حتى الدعوات التبشيرية الصوفية لم تفلت من ذلك المخطط، وجاءت المعارضة الأعلى صوتًا لهذه الهرطقة من قبل الزعيم الصوفي أحمد سرهندي (١٥٦٤–١٦٢٤). ولم تستمر تجربة السلطان أكبر بعد وفاته، وفي النهاية أثار فرط التسامح مع غير المسلمين تعصبًا زائدًا؛ إذ شن أورنكزيب الجهاد ضد الهندوس وهو ما كان له تبعات متنوعة. وصلت حدود الإمبراطورية إلى أقصى مدًى يمكن الوصول إليه؛ لكن في ظل وجود الكثير من الأراضي الخاضعة للحكم وعدد أقل من السكان المستعدين لإبداء التعاون، انهار حكم المغول سريعًا؛ إذ فقدوا نفوذهم المؤثر في وقت مبكر يعود إلى عام ١٧٢٥ (مع أن الدولة استمرت حتى عام ١٨٥٧). وفي عام ١٨٠٣، وفي ظل انقسام المنطقة بين الحكام البريطانيين والهندوس المحليين، أعلن أحد قادة العلماء في دلهي أن الهند لم تعد دولة مسلمة.

لكن ما الذي كان يفعله البريطانيون — وغيرهم من الأوروبيين — في آسيا من الأساس؟ الإجابة السريعة — آنذاك والآن أيضًا — هي «شراء السلع». فبدءًا من القرن السادس عشر، سعت دول صغيرة لديها سفن كبيرة (هولندا والبرتغال) ولاحقًا دول كبيرة لديها سفن كبيرة (بريطانيا وفرنسا) إلى بسط نفوذها على الطرق التجارية الممتدة إلى الشرق الأقصى التي يمكن منها شراء التوابل والسلع الأخرى مباشرةً (ومن ثمَّ بأسعار زهيدة). لقد استفادت الدول والمجتمعات الإسلامية طيلة قرون من موقعها الاستراتيجي الذي كان يشكل جسرًا بين أوروبا وآسيا. وفيما قبل العصر الحديث، اجتمعت مركزية العالم الإسلامي جغرافيًّا مع ثقافته الرفيعة، وتنظيمه السياسي، وقوته العسكرية، وهو ما أتاح للمسلمين الهيمنة على أجزاء كبيرة من أفرو-أوراسيا في وقت كان فيه الأوروبيون — بشكل نسبي — يتسلقون الأشجار ويعيشون حياة بدائية. لكن في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر تحديدًا تزامن أفول نجم الإمبراطوريات الإسلامية الكبرى مع بزوغ نجم الإمبراطوريات الأوروبية.

نتيجةً للثورة الصناعية، حظي الأوروبيون بمزايا مهمة في مجالي الإنتاج والاتصالات؛ ووجهت الحروب النابليونية (١٧٩٣–١٨١٥) الجهود الصناعية لخدمة الأغراض العسكرية؛ وحشدت الثورة الفرنسية قطاعات كبيرة من السكان عن طريق تشجيع الحس الوطني والأفكار الخاصة بخدمة البلاد؛ وقدَّم عصر التنوير تبريرًا علميًّا لوجود تسلسل هرمي من الحضارات (يقبع الأوروبيون على قمته لا شك). ولما كانت الإمبراطوريات الإسلامية الثلاث الكبرى مكونةً في الأغلب من اليابسة، فقد كانت عاجزة عن محاربة السفن الأوروبية، حتى وإن كانت في ذروة قوتها، وهي لم تكن كذلك. فقد المغول والصفويون قوتهم في بداية القرن الثامن عشر، ولم يستمر العثمانيون إلا بإعادة تنظيم إمبراطوريتهم على غرار الإمبراطوريات الأوروبية. حرَّر الحصار العثماني الفاشل لفيينا عام ١٦٨٣ والهزائم المخزية في الحرب الروسية العثمانية (١٧٦٨–١٧٧٤) السلاطين العثمانيين من وهم الاعتقاد بأنهم متفوقون عسكريًّا على القوى الأوروبية، أو حتى مساوين لها. وساهمت لامركزية الإمبراطورية، والشقاق الحزبي داخل البلاط العثماني، وانعدام الاستقرار الداخلي في تعزيز الانطباع بأن الإمبراطورية العثمانية هي «رجُل أوروبا المريض». واستجابةً لذلك، سعى السلاطين بدءًا من عهد سليم الثالث (الذي امتدت فترة حكمه من عام ١٧٨٩ حتى عام ١٨٠٧) إلى إعادة التأكيد على نفوذهم عن طريق اتخاذ تدابير داخلية أدت إلى «إعادة تنظيم» الإمبراطورية فيما عُرف باسم «التنظيمات» (١٨٣٩–١٨٧٦)، وفيها حل القانون المدني محل الشريعة، وتساوى غير المسلمين مع المسلمين، وجرى تحديث الإدارة العثمانية في معظم جوانبها. أدخل الحاكم المستبد (أو «الخليفة» كما كان يرى نفسه) عبد الحميد الثاني (الذي امتدت فترة حكمه من عام ١٨٧٦ حتى عام ١٩٠٩) شبكة خطوط سكة حديدية إلى الإمبراطورية [المتقلصة]، وكثَّف الاستثمار في مشروعات البناء. وجدير بالملاحظة أنه بينما كان السلاطين السابقون يتباهون بتكفلهم إقامة المساجد وغيرها من المنشآت الدينية الأخرى، كادت مشروعات عبد الحميد تكون كلها دنيوية بحتة. كان التحديث واسعُ النطاق باهظَ التكلفة؛ ولذا وجدت الدول الإسلامية نفسها مدينة بمبالغ كبيرة إلى الدول الأوروبية، وسرعان ما وجد الأوروبيون أنفسهم يتولون السلطة السياسية على الأراضي الإسلامية.

غير أنه لم يكن هناك مفر من كل ذلك، وفي بعض المناطق في العالم الإسلامي تحركت الأوضاع في اتجاه مختلف تمامًا. ففي القرن السادس عشر، تحرك البدو من الصحراء الكبرى نحو الشمال ليسيطروا على قلب الأراضي المغربية مؤسسين سلالة من «الأشراف» (هؤلاء الذين زعموا انتسابهم إلى النبي) تولوا حكم البلاد من مراكش؛ ومن يومها وهم يحكمون المغرب. استطاعت سلالة السعديين (التي امتدت فترة حكمها من عام ١٥٥٤ حتى عام ١٦٥٩) أن تجتاز الصحراء التي كانت تُعتبر في السابق منيعة عسكريًّا، ودمَّرت دولة سُنغاي في غرب أفريقيا وعاصمتها الشهيرة تِمبُكتو عام ١٥٩١. قادت هذه السلالة أيضًا حركة المقاومة ضد القوات الإسبانية والبرتغالية عام ١٥٧٨، وصمدت أمام التحديات العثمانية جزئيًّا عن طريق تأليب البريطانيين والإسبان ضد بعضهم البعض، وجميعها عوامل ساعدتهم على البقاء دولة إسلامية مستقلة. نجحت الدول الخاضعة لحكم الأشراف في درء خطر الأوروبيين حتى أواخر القرن التاسع عشر، وكان الأشراف العلويون (الذين امتدت فترة حكمهم من عام ١٦٦٦ حتى الآن) أول من يعترف بدولة الولايات المتحدة الأمريكية حين نالت استقلالها. مع ذلك، حتى هذه السلالة لم تسلم من الاستعمار في النهاية؛ ففي عام ١٩١٢ فرض الفرنسيون وصايتهم على المغرب، ولم ينل المغاربة استقلالهم إلا عام ١٩٥٦ في عهد السلطان محمد الخامس (الذي امتدت فترة حكمه من عام ١٩٢٧ حتى عام ١٩٦١).

خضعت معظم المجتمعات الإسلامية للحكم الأجنبي على مدار الألفية السابقة عندما حكم الأتراك، والمغول، والبرابرة، وكذلك العرب — في بعض الفترات والمناطق — بوصفهم أجانب، وعادةً ما كان يصاحب ذلك عدم مراعاة للعادات والاهتمامات المحلية. الاستعمار الأوروبي على وجه التحديد لاقى مقاومة لثلاثة أسباب. أولًا، كانت القوى الاستعمارية — مثلها مثل الصليبيين — غير مسلمة، وكثيرًا ما كانت في تنافس مباشر مع المسلمين لنشر عقيدتها (وهي منافسة عادةً ما كان يفوز فيها المسلمون). لكن على عكس الصليبيين، كانت هذه القوى تتمتع بحضور دائم وعلى علاقة بجميع المسلمين تقريبًا. ثانيًا، كانت المجتمعات الإسلامية في هذه الفترة قد أصبحت على دراية بآليات مقاومة الاستعمار وبدائله، وذلك بعيدًا عن مفهوم الجهاد الذي ناصره البعض. حذت الحركات المنادية بالوحدة الإسلامية والوحدة العربية والوحدة التركية حذو حركات التحرير الوطنية في أماكن أخرى؛ الأمر الذي زاد من تطلع المسلمين إلى التغلب على الحكم والنفوذ الأجنبيين. ثالثًا، في ظل انتشار وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة ذاعت الحقائق المرتبطة بالنقطتين السابقتين في كل مكان.

بدايةً من القرن التاسع عشر (وقبل ذلك)، بزغ في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي نجم عدة حركات تهدف إلى إعادة تمكين الإسلام وتطهيره، واستهدفت تلك الحركات القوى الخارجية (الاستعمار) والقوى الداخلية (ما أُطلق عليه الممارسة السطحية أو التوفيقية للإسلام، وكذلك علمنة المجتمعات الإسلامية وحكَّامها). وعلى الرغم من أن الحركات الفردية عادةً ما كانت لديها شِكاية معينة، فإنه مع الوقت أصبح عدد كبير من هذه الجماعات — ومعظم أتباعها — يجمع بين عدد مختلف من صرخات الحرب أو يختصر الشكايات في مجرد شعور عام بأن «الأمور ليست على ما يجب أن تكون عليه»، وأن الحل هو التغيير على خطًى إسلامية متشددة. وما أثار حنق هذه الجماعات على وجه الخصوص أنها كانت ترى أن القيادة الإسلامية تساهم في المشكلة بدلًا من حلها. وقد مال هؤلاء المفكرون والناشطون إلى تسمية أنفسهم باسم «المجددين»، بينما نميل إلى تسميتهم باسم «الإسلاميين» (وهو مصطلح يشمل مجموعات أخرى عديدة أيضًا). ومع أن جذور الإسلام السياسي غالبًا ما تعود إلى محمد بن عبد الوهاب (الذي توفي عام ١٧٨٧)، فإنه قد شهد تحولًا في القرن العشرين بتأسيس حسن البنَّا (الذي توفي عام ١٩٤٩) جماعة الإخوان المسلمين (مصر ١٩٢٨) وتأسيس أبو الأعلى المودودي (الذي توفي عام ١٩٧٩) الجماعة الإسلامية (الهند ١٩٤١). استهدفت الجماعة الأولى المستعمرين الأجانب والعلمانيين من أهل البلاد، بينما انصب تركيز الجماعة الثانية على البريطانيين وحلفائهم الهندوس. وسرعان ما اتسع نطاق هذه الحركات دوليًّا، وأصبحت لها فروع عديدة؛ فقد أثرت أفكار المودودي في المفكر الإسلامي المصري البارز سيِّد قطب (الذي توفي عام ١٩٦٦) الذي ينتمى هو نفسه لجماعة الإخوان المسلمين (التي أسس أعضاؤها حركة حماس عام ١٩٨٧).

يقال إن أساس فهم المجتمعات الإسلامية في القرن التاسع عشر هو الاستعمار، مع أن ثمة عاملًا آخر لا يسلَّط الضوء على أهميته الكبرى، هو انتشار الطباعة في جميع أنحاء الأراضي الإسلامية في هذه الفترة. لقد أدت الطباعة — وأشياء أخرى — إلى انتشار الصحف، فظهرت الصحف الحكومية في مصر (١٨٢٤)، وتركيا والأقاليم العثمانية الأخرى (١٨٣١)، وإيران (١٨٣٧)، وأماكن أخرى في سنوات لاحقة. والجدير بالذكر أن الرواد من الإصلاحيين الإسلاميين أشرفوا على تحرير الصحف، ونشروا أفكارهم عبرها. أصدر الأيديولوجيون أمثال محمد عبده (الذي توفي عام ١٩٠٦) وجمال الدين الأفغاني (الذي توفي عام ١٨٩٧) صحيفة دينية مجانية اتُّخذت منبرًا لبث الأفكار الإسلامية والمناهضة للبريطانيين، ووصلت إلى القراء في أنحاء العالم الإسلامي (فيما عدا مصر والهند حيث حظرها البريطانيون). أيضًا أشرف رشيد رضا (الذي توفي عام ١٩٣٥) — وهو أحد تلاميذ محمد عبده — على تحرير المجلة الإسلامية «المنار» لمدة تصل إلى ٤٠ عامًا قام خلالها بنشر أفكار أستاذه على نطاق واسع بالإضافة إلى مقترحاته بشأن تأسيس خلافة إسلامية موحدة.

أسفرت الطباعة أيضًا — وإن كان بغير قصد — عن إضفاء طابع الديمقراطية على السلطة الدينية. ففي الماضي، كانت التعاليم الإسلامية تنتشر من خلال التفاعلات الشخصية مع العلماء أو الزعماء الصوفيين. وحدهم الزعماء المبجلون الذين يستطيعون — بفضل تعليمهم الديني وسمعتهم — اجتذاب جماعة من الأتباع هم من كانوا يتركون تأثيرًا لدى الناس. أما في ظل انتشار وسائل الإعلام الحديثة (بدءًا بالطباعة وليس انتهاءً بها)، كان بوسع أي شخص يستطيع الوصول إلى التقنية المطلوبة أن يؤثر في ملايين الأشخاص. لم تعد السُّمعة المحلية والشهادات الدينية تحظى بأهمية وسائل الاتصال. وكثيرًا ما تسبب هذا التطور في اختلال التوازن المتحقق بين العلماء والسلطات السياسية؛ وهو توازن كان بقاؤه يعتمد على السيطرة على العلماء أو مساندة المذعنين منهم على حساب الطرق الصوفية الشهيرة. وهكذا تعقدت المصفوفة بظهور الإسلاميين الذين كان لديهم وقت قليل لمعظم الصوفيين وللسياسيين المسلمين المتغرِّبين (أو العلماء الذين تنازلوا لهم عن كل شيء).

كل هذا يوضح بلا شك أنه من السطحية اعتبار الإسلام السياسي رفضًا تفاعليًّا للغرب ولمناهجه. لقد سعِد الإسلاميون بحصولهم على معدات الحضارة الغربية الحديثة وبرامجها والاستفادة منها في خدمة قضيتهم. ولا يخفى على أحد أن آية الله الخميني نشر رسالته الثورية من خلال شرائط التسجيل المسموعة، واستفاد تنظيم القاعدة أقصى استفادة من تكنولوجيا الاتصالات في بث رسائله إلى القنوات الإعلامية، والتواصل عبر غرف الدردشة المتاحة عبر شبكة الإنترنت، واستغلال الاهتمام الإعلامي الذي يثار حول عملياته في اجتذاب أعضاء جدد. ومن الأمثلة الأخرى على هذا الاستعداد للاستفادة من مثل هذه التقنيات رسائل الاستشهاد ومقاطع قطع الرءوس المروعة المتداولة على المواقع الإلكترونية. أما فيما يتعلق بالبرامج، فقد استُغلت الأفكار الغربية حتى من قِبل من يسعون إلى التحرر من تأثير الغرب؛ ومع أنه قد يقال إن الوحدة الإسلامية تمتد جذورها إلى ما قبل العصر الحديث، فإن حركات التحرير الوطنية — بدءًا من الشيشان إلى فلسطين وشينجيانج — منقولة من الغرب. وبالمثل، فإن النظريات المعادية للسامية المؤيَّدة على نطاق واسع من قبل المسلمين بهدف التصدي لآثار الاستعمار (التي يُسأل عنها اليهود على حد زعم هذه النظريات) هي نفسها منتجات غربية إمبريالية؛ إذ لم تظهر مثل هذه النظريات في المجتمعات الإسلامية إلى أن استجلب العرب [المسيحيون] الأفكار من أوروبا إلى الأراضي الإسلامية في القرن التاسع عشر. وفيما يتعلق بالغالبية العظمى من المسلمين الذين يرفضون أيديولوجيات الإسلاميين، فإنهم يستخدمون التقنيات الحديثة ويعتنقون الأفكار الغربية على نحو يتزايد يومًا بعد يوم، مما أدى إلى ظهور نتائج مثيرة للاهتمام؛ فقد أوضح البعض (على نحو مقنِع) دور الإسلام في نشأة العلم الحديث والطب والتكنولوجيا، بينما حاول آخرون (على نحو أقل إقناعًا) بيان أن أفكار الغرب من ديمقراطية وحقوق إنسان ومساواة بين البشر ترجع أصولها إلى الإسلام. ومع أن هذا الأمر قد يشير إلى عملية التغريب المتزايدة للمسلمين، فإنه يوضح أيضًا مدى سهولة تكيف التغريب مع الإسلام.
fig6
شكل ١-٤: العالم الإسلامي نحو عام ١٧٠٠.

ملخص

إذن ذلك هو ما حدث بوجه عام. وكما يُتوقع من أي استعراض لفترة تساوي ١٤٠٠ عام من التاريخ على نطاق ثلاث قارات، فقد تطرقنا إلى قدر كبير من الحكام، والمعارك، والتواريخ، والأسماء التي تبدو متشابهة. ولقد حاولت أن أوازن بين ذلك وبين بيان كيفية تطور الإسلام نفسه في كل فترة، وسوف أقتصر هنا على استنتاج واحد يرتبط بالتطورات السياسية والدينية المشار إليها أعلاه.

فور قيام إمبراطورية في أعقاب الفتوحات الإسلامية الأولى، لم يكن يحدث تداخل بين انتشار الإسلام بوصفه دينًا من ناحية وبين القوة السياسية من ناحية أخرى؛ فالواقع أنه في حالات عديدة كان الإسلام يبلي بلاءً حسنًا حين كان أداء الحكام المسلمين سيئًا للغاية. ولذا اعتنق الإسلام الكثيرون أثناء الحكم الاستعماري الأوروبي بخلاف أي فترة أخرى، وفي فترة ما بعد الاستعمار ازداد التوزيع الجغرافي للمسلمين زيادة هائلة؛ فبدون وجود البريطانيين في الهند والفرنسيين في شمال أفريقيا، لكان هناك قلة من الباكستانيين في بريطانيا وقلة من الجزائريين في فرنسا. ومع أن حركة الديوبندية قد بدأت كرد فعل تجاه الحكم البريطاني في الهند، فإن ذراعًا تبشيريًّا للحركة يتحكم الآن فيما يقرب من نصف المساجد في المملكة المتحدة، ويقدَّر عدد أفرادها بأكثر من ثلاثة أرباع رجال الدين المسلمين المدربين داخليًّا، وتخطط لإقامة أكبر مسجد في أوروبا بجوار الموقع الذي أقيمت فيه دورة الألعاب الأوليمبية عام ٢٠١٢ في لندن. ومن التبعات المثيرة للاهتمام لذلك أنه حتى لو نجحت محاولات إقامة خلافة إسلامية عالمية — على افتراض دوام الاتجاهات التاريخية — فلن يصاحبها بالضرورة انتشار للإسلام نفسه. والواقع أنه لو دامت الاتجاهات الديموغرافية والإحصائية، فإن ثلث البشر قد يكونون من المسلمين — حتى دون قيام خلافة — قبل مرور وقت طويل.

هوامش

(1) © Sonia Halliday Photographs.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤