الفصل السابع

الأهمية السياسية للتاريخ الإسلامي

كثيرًا ما يُقال إن أحد أهم الاختلافات بين الغرب المسيحي-اليهودي والإسلام أن الإسلام لم يألف فصل «الدين» عن «الدولة»، على الرغم من أن هناك كتبًا كثيرة تتناول مثل هذه القضايا، فهذا الكتاب ليس واحدًا منها. كل ما يمكن قوله إن الأمور ليست بهذه البساطة؛ فبدءًا من القرن العاشر (إن لم يكن قبل ذلك) كان هناك تمييز فعلي بين الإدارات المعنية بالشئون الدينية على صعيد والمعنية بالشئون الحكومية على الصعيد الآخر، مع وجود مجموعات مختلفة تدِّعي السلطة وتمارسها على كل صعيد. ربما يتداخل الصعيدان أحيانًا — فشنُّ الجهاد مرتبط بالدين والحكومة معًا — لكن يظل التمييز بينهما قائمًا بصورة عامة. والواقع أن هذا الفصل بين «الدين» و«السياسة» هو ما يسعى الإسلاميون إلى إلغائه، وهو أيضًا الذي حدَّد نسق هذا الكتاب؛ فقد تناول الفصل السابق تأثير التاريخ الإسلامي على الشئون الدينية، بينما يتناول الفصل الحالي تأثيره على الشئون السياسية.

جميع الناس يفكرون في علاقتهم بالماضي (حتى لو كان ذلك بدافع رفض الماضي فحسب)، والمسلمون ليسوا استثناءً؛ فعندما شبَّه أسامة بن لادن الغزو الأمريكي للعراق بغزو المغول للمنطقة في الخمسينيات من القرن الثالث عشر، كان يضرب على وتر تاريخي لم يتوقف عن الاهتزاز طيلة ٧٥٠ عامًا مضت. لقد دام تدمير المغول للخلافة العباسية في الذاكرة الجمعية للأمة مثلما هو الحال مع موقعة هاستنجز (١٠٦٦) لدى البريطانيين، ولا عجب أن الناس يتذكرون الأحداث المهمة. ما يميز وضع التاريخ الإسلامي بين المسلمين ليس فقط أن الأحداث الكبرى واللحظات المحورية في التاريخ مألوفة ومثيرة للذكريات لدى المسلمين في كل مكان، بل الأمر نفسه يمتد إلى الكثير من تفاصيله (العشوائية غالبًا). علاوةً على ذلك، فإن التقدير الذي يحظى به التاريخ في المجتمعات الإسلامية قد أدى إلى نشره في سياقات سياسية جمهورها المستهدف من غير المسلمين، وهو ما سنوضحه أدناه.

لا تحظى كل فترات التاريخ الإسلامي ومناطقه بالوقع نفسه لدى المسلمين. والقاعدة العامة تقول إنه كلما كان الحدث في زمن مبكر، زادت احتمالية شيوعه على نطاق واسع؛ فالراويات التي تتعلق بمحمد وأصحابه والفتوحات الأولى واسعة الانتشار للغاية. وفقًا لذلك، ومن دون استثناء تقريبًا، يتكون المخزون التاريخي الكامل الذي اعتمد عليه المسلمون في الأغراض السياسية من الفترات (٦٠٠–٨٠٠) و(٨٠٠–١١٠٠) و(١١٠٠–١٥٠٠). والسبب في ذلك أنه — حتى عهد قريب — متى انتشر الإسلام في منطقة جديدة نزع السجل التاريخي الذي يجلبه المسلمون معهم إلى الثبات، مع تكوُّن الفصول التالية من القصة من الأحداث المحلية بدلًا من تلك التي تحدث في أماكن أخرى. في فترات ما قبل العصر الحديث، أتاح الحج للمسلمين من كل مكان إطْلاع بعضهم البعض على المستجدات في الأراضي البعيدة، لكن التكنولوجيا الحديثة وحدها هي التي أعادت تحديد العلاقة بين المجتمعات الإسلامية والتاريخ فيما بعد عام ١٥٠٠ بلفتها انتباه المسلمين في كل مكان إلى آخر الأحداث.

تقول قاعدة عامة أخرى إن الأحداث التاريخية التي وقعت في الأراضي الإسلامية المركزية حظيت بانتشار أوسع من الأحداث التي وقعت في مناطق نائية. فكِّر في المثال التالي. في جزء متنازع عليه في العالم الإسلامي، أقيم جدار عازل كبير على يد إحدى الحكومات من أجل فرض رؤيتها فيما يتعلق بالحدود الدولية على منطقة متنازع عليها. يُطلق معارضو هذا الحاجز الذي يمتد مسافة ٢٧٠٠ كيلومتر اسم «جدار العار»، وكثيرون من السكان المحليين الذين يعيشون وراء الجدار يعامَلون معاملة اللاجئين. يمتد الجدار المشار إليه هنا عبر الصحراء الغربية، وبني في الثمانينيات من القرن العشرين على يد الحكومة المغربية التي تفضِّل أن تطلق عليه اسم «الحاجز الترابي» (هل كنت تفكِّر في جدار آخر؟) حقيقة أن هذا الجدار غير معروف نسبيًّا — بينما جدار آخر أقل ارتفاعًا بكثير في الأراضي الفلسطينية-الإسرائيلية اكتسب سمعة سيئة — تعكس انعدام التوازن بين المناطق والحقب المختلفة في العالم الإسلامي؛ فبعض المناطق طالما كان لها على ما يبدو تأثير غير متكافئ على الوعي الجمعي في حين يمكن لمناطق أخرى أن تختفي سريعًا من بؤرة الأحداث. لقد تأخرت المغرب في الانضمام إلى الخلافة في حين بادرت بالانفصال عنها على عكس الأراضي الإسلامية في الشرق الأدنى التي انبثقت منها القوة والنفوذ والتي بقيت فيها الخلافة قرونًا تالية. حتى بين الأراضي الإسلامية المركزية، حازت الأرض المقدسة على أهمية استثنائية بتضمنها الأحداث التاريخية من السيرة، والفتوحات الأولى، وتاريخ الخلافة، وتطرقها إلى الجدل بين الأديان، وكونها موضوع مجموعة هائلة من المؤلفات الدينية على مر العصور.

يمكن تمييز أهمية التاريخ الإسلامي في اللغة السياسية المستخدمة منذ ظهور الإسلام وحتى العصور الحديثة. في بعض الحالات، ربما يقال إن التشابه الملحوظ بين الأشكال القديمة والمعاصرة من اللغة العربية يفسر استخدام المفردات «التاريخية» في السياقات المعاصرة. على سبيل المثال، استُخدمت كلمة «فدائي» لأول مرة بمدلول سياسي في وقت مبكر في الفترة من عام ١١٠٠ حتى عام ١٥٠٠ عند الإشارة إلى الحشاشين الإسماعيليين، لتعاود الظهور بصيغة الجمع — «فدائيين» — في منتصف القرن العشرين بين الإيرانيين، والفلسطينيين، والمصريين، والعراقيين. لكن في حالات أخرى، يكون استخدام المفردات المحمَّلة بالمعاني التاريخية مقصودًا على نحو واضح؛ فقد أشيرَ إلى ثورات البربر ضد الفاتحين الأوائل لشمال أفريقيا باسم «الرِّدة» (في تشابه مع حروب الرِّدة التي أعقبت وفاة محمَّد)، مثلما قدم المصلحون الدينيون الذين أشرنا إليهم في الفصل السابق سيرتهم بتعبيرات مأخوذة من السيرة النبوية. بالمثل، حاولت دول إسلامية معاصرة — وعلى وجه التحديد مصر في عهد جمال عبد الناصر (الذي توفي عام ١٩٧٠)، وأنور السادات (الذي توفي عام ١٩٨١)، وحسني مبارك (الذي ولد عام ١٩٢٨) — تشويه سمعة المعارضين الإسلاميين بوصفهم باسم «الخوارج»، ومن ثم ربط هذه المجموعات بإحداث شقاق وبيل (فتنة) كالذي يُنسب للخوارج في بداية الإسلام.

أيضًا صيغت النزاعات التي شهدتها المجتمعات الإسلامية الحديثة بمصطلحات تشير إلى صراعات قديمة وقعت في التاريخ الإسلامي. ففي نزاع بين مجموعتين في السودان في القرن التاسع عشر على موارد المياه المحلية، ادعت المجموعتان أنهما تنحدران من سلالة الأمويين والعباسيين على التوالي. وما بين القرنين السابع عشر والعشرين، عندما اندلع النزاع بشأن بسط النفوذ بين الفصائل المتناحرة في لبنان وفلسطين أثناء العهد العثماني، وصف الجانبان أنفسهما باسم «قيس» و«يمن». يقال إن هذين الاسمين مشتقان من أزمان سابقة للعصر الإسلامي حينما انضم مهاجرون من الجنوب (أو اليمن، ومن ثمَّ جاء الاسم «اليمنيَّة») إلى سكان شمال شبه الجزيرة العربية (القيسية)؛ مما أدى إلى تكون اتحادين كبيرين من القبائل العربية. ويُعتقد أن أوجه الاختلاف قد أعيدت صياغتها في منتصف القرن السابع عندما استقر أفراد من كلتا المجموعتين القبليتين في ثكنات في الشرق الأدنى، وأعادوا تتبع نسبهم لينعكس ذلك في التحالفات وأنماط الاستقرار الجديدة التي نتجت عن اضطراب المجتمع العربي بسبب الفتوحات. وبدءًا من عام ٧٠٠ تقريبًا — عندما وضعت الحرب الأهلية الثانية (٦٨٠–٦٩٢) أوزارها — ظهر فصيلان «قيسي» و«يمني» هيمن النزاع بينهما على عالم السياسة في عهد الخلافة الأموية. لا يوجد اتفاق بين المؤرخين على جذور النزاع أو طبيعته أو ثقله؛ وعلى النقيض من ذلك كان الإسناد التاريخي لدى سكان فلسطين ولبنان في الماضي القريب إسنادًا عفويًّا.

لا شك أن مدلول الاعتماد على مفردات التاريخ في السياقات السياسية قد يكون محدودًا؛ فعندما يشير متحدثو الإنجليزية إلى الولادة بعبارة «عملية قيصرية»، فإنهم لا يشيرون إلى التاريخ الروماني والأساطير المتعلقة بيوليوس قيصر. من المهم إذن أن نلاحظ أن ثمة قضايا سياسية معاصرة يلعب التاريخ الإسلامي فيها أدوارًا مقصودة ومتعمدة من نوعين. في بعض الحالات، يكون ذلك وسيلة لحشد الأمة ككل وراء إحدى القضايا السياسية؛ وفي حالات أخرى يكون لتوضيح وجهة نظر أحد الحكام بشأن قضية سياسية والتنويه إلى الكيفية التي يتوقع أن تُحلَّ بها، وذلك بالإشارة إلى أحداث في التاريخ الإسلامي عاقبتها معروفة بالطبع. تكفي دراستا حالة اثنتان ذواتا صلة بالقراء المعاصرين لتوضيح ذلك، وهما: الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الحالي، والحرب العراقية الإيرانية (١٩٨٠–١٩٨٨).

الصراع الفلسطيني الإسرائيلي

يمارس التاريخ الإسلامي نفوذًا سياسيًّا إزاء هذه القضية أكثر من غيرها لسببين يتفقان مع القواعد العامة الموضحة أعلاه. أولًا، من السهل ربط الصراع المعاصر بوقائع ذُكرت تفصيلًا في السيرة، وفيها توصف علاقات محمَّد باليهود بأنها محورية فيما يتعلق بسيرته في المدينة (وفي المرتبة الثانية في الأهمية فحسب في علاقاته بأهل مكة). وفقًا لذلك، يمكن الاستشهاد بالسيرة الذاتية لمحمد (المتأثرة بعدة مئات من الأحاديث ذات الصلة) لتوضيح أن «اليهود» غير جديرين بالثقة، ومخادعون، ومتعجرفون، ومتآمرون، ويستحقون قصاص المسلمين منهم. «اليهود» هو المسمى الأكثر شيوعًا عند الحديث عن «الإسرائيليين» في معظم وسائل الإعلام الإسلامية. ومن هنا سُمع أعضاء حزب الله وهم يهتفون «خيبر خيبر يا يهود، جيش محمَّد سوف يعود»، في إشارة إلى هزيمة محمَّد لليهود في واحة خيبر عام ٦٢٨، وتشبيه للإسرائيليين المعاصرين باليهود في عهد محمَّد. بل وصل الأمر حدَّ إلباس اليهود في إسرائيل ثوب أعداء محمد المكيِّين المشركين (الذين لا يمكن لنسلهم الحالي أن يجسدوا معارضة للأمة لأنهم، باعتبارهم مسلمين، جزء منها). ومن ثم، أُطلق على الهجوم المصري على خط بارليف الإسرائيلي (سلسلة من التحصينات على امتداد قناة السويس) عام ١٩٧٣ الاسم الرمزي «عملية بدر» في إشارة إلى هزيمة محمد لأهل مكة في غزوة بدر عام ٦٢٤. وأخيرًا، فإن الإصرار المتكرر لياسر عرفات على أن يكون أي اتفاق سلام مع إسرائيل «صُلحَ حديبية» مثال على استناد أحد الزعماء المسلمين إلى التاريخ الإسلامي كتعبير عن نواياه السياسية. ربما فات المراقبون غير الملمِّين بالتاريخ الإسلامي المعنى الضمني بأن تكون هدنة السلام مع إسرائيل — مثلما كان اتفاق محمَّد مع أهل مكة في الحديبية عام ٦٢٨ — عشر سنوات فقط يمكن نقضها إثر أقل استفزاز (أنهى محمَّد الصلح عام ٦٢٩).

ثانيًا، كانت فلسطين مركزًا لعدد من الأحداث المحورية في التاريخ الإسلامي، ومعظمها يعتمد على قدسية المنطقة. وفقًا للمصادر القديمة، توجه المسلمون في البداية في صلاتهم نحو القدس، ولم يتغير اتجاه الصلاة (القبلة) إلى مكة إلا بعد عام ٦٢٤. تقول المصادر العربية الأولى أيضًا إن عبد الملك بنى قبة الصخرة في محاولة منه لتحويل الحج من مكة (التي يتخذ غريمه السياسي الرئيسي منها مركزًا له) إلى القدس، ويقال إنه من أجل ذلك أكدت السلطات الدينية في ذلك الوقت على تساوي القدس مع مكة، بل وأفضليتها عليها. ويوضح الباحثون المعاصرون أن فتح القدس قبل عقود مضت كانت له دلالات مسيحية لليهود المعاصرين (وللمسلمين أيضًا وفقًا للمجازفين من الباحثين). أقامت محاولات البيزنطيين والمحاولات ذائعة الصيت للصليبيين أن يستردوا القدس والأرض المقدسة محققين درجات متباينة من النجاح الدليل على أهمية المنطقة والحاجة إلى المحاربة من أجلها؛ وقد أوجدت الحملات الصليبية لونًا من الأدب الإسلامي يلهج بتعداد فضائل القدس ويؤكد على مسئولية الأمة عن حمايتها من المعتدين الملحدين.
fig17
شكل ٧-١: صدام حسين ونبوخذ نصر (الذي حكم البلاد من عام ٦٠٥ حتى عام ٥٦٢ قبل الميلاد).1
وكالمتوقع، أُعيدت الانتصارات التاريخية على غزاة فلسطين إلى الذاكرة من قِبل سياسيين سعوا إلى تقديم أنفسهم في صورة أبطال مسلمين ذائعي الصيت؛ فكل من الرئيس السوري حافظ الأسد (الذي حكم البلاد من عام حتى عام ٢٠٠٠) والرئيس العراقي صدام حسين (الذي حكم من عام ١٩٧٩ حتى عام ٢٠٠٣) بنى تمثالين لصلاح الدين في عاصمتي بلديهما.
fig18
شكل ٧-٢: تمثال صلاح الدين (دمشق، سوريا).2

علاوة على ذلك، شبَّه صدام نفسه علانيةً بكلٍّ من صلاح الدين ونبوخذ نصر (بختنصر)؛ إذ كان الأول من تكريت (شمال بغداد) واشتهر بطرده الصليبيين من الأرض المقدسة، والثاني كان حاكمًا للعراق (أو بلاد بابل) واشتهر بطرده اليهود من الأرض المقدسة في الأزمان القديمة. كان غرض صدام واضحًا: فهو الحاكم الذي سيقدم المساعدة للمسلمين في فلسطين عن طريق هزيمة اليهود، ومن ثم إعادة الأرض إلى الحكم الإسلامي. وهكذا أصبح «اليهود» من جانبهم نظراء «الصليبيين» في الخطابات السياسية، والنقاشات العامة، وحتى كتب الأطفال المدرسية في أجزاء من العالم الإسلامي. ولذا، شُبِّه الحصار الإسرائيلي لبيروت عام ١٩٨٢ في وسائل الإعلام المحلية بحصار الصليبيين لعكا في الفترة ١١٨٩–١١٩١؛ وفي هذا المثال (الذي ليس سوى مثال واحد من بين عدة أمثلة) لا يقتصر الأمر على أن المسلمين عقدوا مقارنة واضحة وسطحية بين الغزاة المعاصرين لفلسطين وغزاة العصور الوسطى، لكن ما حدث أن واقعة ملتبسة نسبيًّا من تاريخ العصور الوسطى قد استُشهد بها عرضًا واعتُبرت جلية بوجه عام. والانشغال التام للغرب حاليًّا بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي (الذي يتجاهل في الأغلب صراعات أخرى أكثر عنفًا أو تكلفةً) هو اعتراف من الدرجة الأولى بأهمية القضية لدى المسلمين.

الحرب العراقية الإيرانية

استغل صدام حسين التاريخ الإسلامي سياسيًّا على أوسع نطاق أثناء الحرب العراقية الإيرانية؛ وهو ما حدا بآية الله الخميني والإيرانيين أن يردُّوا بدروس تاريخية متعلقة بهم. اعتبر كلا الجانبين التاريخ الإسلامي أداة دعائية قوية يمكن من خلالها حشد التأييد العسكري والشعبي لحملتيهما، داخل كل من إيران والعراق وداخل الأمة بوجه عام.

وكالمتوقع، ركَّز شيعة إيران على موقعة كربلاء، واستشهاد الحسين بن علي، وطغيان الخليفة الأموي يزيد الذي استعرضه في هذا السياق الرئيس العراقي. ومن المرجح أن تكون هذه الإشارات التاريخية قد ألهبت مباشرةً حماس القوات الإيرانية التي «استُشهدت» منها أعداد هائلة أثناء الحرب (إذ فاقت الخسائر في أرواح الإيرانيين مليون شخص ما بين قتيل ومصاب). أُطلق اسم «عملية كربلاء» على ما لا يقل عن عشر عمليات عسكرية إيرانية، وإن كان جديرًا بالذكر أيضًا أن القضية الفلسطينية اعتُبرت جديرة بالاستغلال هنا أيضًا؛ فإحدى الهجمات الإيرانية على البصرة سُميت «عملية خيبر»، بينما نادى أحد الشعارات الأولى للحرب الإيرانية بأن «الطريق إلى القدس يمر ببغداد».

حتى قبل الحرب، انعكست كراهية صدام لإيران وشعبها في بيانات عامة عن دور «الفرس» في مقتل الخلفاء الراشدين الثاني والثالث والرابع. وعشية الحرب العراقية الإيرانية وطوال فترة الحرب، كان يشار إلى الإيرانيين عادةً باسم «الفرس»، وهي اللفظة المستخدمة في التاريخ الإسلامي للإشارة إلى الفارسيين الذين عاشوا قبل ظهور الإسلام والذين فتحت الأمةُ بلادَهم في القرن السابع. وقعت المعركة المحورية في غزو إيران في القادسية عام ٦٣٧؛ وهو ما جعل صدام يطلق على الصراع بأكمله اسم «قادسية صدام»، مؤكدًا على انتصار العرب (العراق) على الفرس (إيران). كانت تلك الإشارة التاريخية من الأهمية بمكان، حتى إن القادة الإيرانيين ردُّوا على ذلك بأن الحرب العراقية الإيرانية كانت بالفعل قادسية أخرى تصور انتصار إسلامي (إيراني) على قوى كافرة (الحكومة العراقية العلمانية). مع ذلك، كان العراقيون وغيرهم من أهل السنة في المنطقة هم من دأبوا على التفاخر بالانتصار في القادسية، ومن ذلك تسمية جامعات في الأردن والعراق وأندية كرة قدم في الكويت والسعودية باسم الموقعة. كذلك كان التاريخ الإسلامي أيضًا مصدر إلهام لفرق كرة القدم الإيرانية المعاصرة؛ فنادي «أبو مسلم» في مدينة «مشهد» سمِّي باسم المخطِّط الرئيسي للثورة العباسية (٧٤٧–٧٥٠).

المغزى هنا — كما في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي — أن المسلمين لا يستندون إلى اللحظات المهمة من التاريخ فحسب، بل إلى أسماء أشخاص ومدن ومعارك وأحداث أخرى وقعت منذ نحو ١٣ قرنًا. وحقيقة أن الاستخدامات السياسية للتاريخ الإسلامي ربما تتضمن ما يتعدى كونه تعريضًا خاطفًا لحدث تاريخي من القرون الأولى والأراضي المركزية للإسلام، توضح ما للتاريخ الإسلامي من تأثير حتى في عامة الشعب الذين من بينهم كُثُر غير مثقفين بل وأميين. يحتل التاريخ بين الشعوب الإسلامية مكانًا في مقاهي المجتمع وأزقَّته وبين النخبة أيضًا.

القومية والتاريخ الإسلامي

اتحدت الأهمية السياسية والدينية للتاريخ الإسلامي — مقرونتين بالأفكار الوليدة عن القومية والهوية والتاريخ التي جُلبت إلى العالم الإسلامي من الغرب في القرن التاسع عشر — لتوجِد روايات «عِرقية» متمايزة. بعض هذه الروايات استعمل التاريخ الإسلامي بصورة مباشرة، بينما حرَّف البعض الآخر رسالته وقصته المتوارثة. وهكذا تكون القراءة العراقية «القومية» للتاريخ الإسلامي التي رُوِّج لها أثناء الحرب العراقية الإيرانية — والتي ساهمت عن قصد في تأليب الأبطال العرب ضد الأوغاد الفرس — مدينة لمنهج تبناه القوميون العرب والفرس والأتراك تجاه التاريخ قبل ثمانينيات القرن العشرين بوقت طويل.

يُروى عن محمد أنه قال: «حب الوطن من الإيمان.» لكن الواقع أن ولاء المرء لوطنه كثيرًا ما يتعارض مع ولائه للأمة. من ناحية، تبنت الحركات القومية أفكارًا «إسلامية»؛ فالقوميون العرب مثلًا قرروا عدم الانتماء إلى «شعب» عربي بل إلى «أمة» عربية. من الناحية الأخرى، تطلب التشكيل الواعي لهويات جديدة تسخير التاريخ نفسه لخدمة أحد الشعوب؛ وخصوصًا بين الشعوب التي لعب التاريخ دورًا تشكيليًّا في تحديد مكانها في العالم. ومن ثم، أعاد القوميون تفسير التاريخ الإسلامي كي يلائم الروايات الجديدة والأغراض السياسية الجديدة بدلًا من التخلي عنه كلية.

بسبب تضارب المصالح المحتمل بين القومية والهوية الإسلامية، ولأن العرب والفرس والأتراك الذين روجوا للحركات القومية كانوا في العادة مسلمين علمانيين أو غير مسلمين على الإطلاق، استُبدلت بالنسخ الإسلامية القديمة من التاريخ وجهات نظر تاريخية تجاوزت حدود الدين؛ فمصادر الإلهام والفخر الوطني التُمست في الرموز الإسلامية، وأيضًا في رموز ما قبل العصر الإسلامي الذين ربما تكون سمعتهم مطعون فيها في المصادر القديمة. وعلى هذا النحو، أصبح نبوخذ نصر والفراعنة المصريون أبطالًا عربًا وليسوا أوغادًا من موحِّدي الشرق الأدنى؛ وتتبع الأتراك في تباهٍ نسبهم إلى شعوب قديمة (غير موحِّدة) مثل الحيثيين والسومريين؛ واسترد اللبنانيون تراثهم الفينيقي (حقيقةً كان أو خيالًا)؛ وتذكَّر الفلسطينيون أنهم ينحدرون من سلالة الكنعانيين (وهو ما مكَّنهم بلا عناء من الدفاع عن أحقيتهم في الأرض المقدسة قبل الإسرائيليين).

لم يقتصر الأمر على تعظيم القوميين للشخصيات التاريخية غير الإسلامية (بل والمعادية للإسلام)، لكن التاريخ الإسلامي نفسه انعكس عبر عدسات جديدة. فالقوميون العرب على سبيل المثال مجَّدوا عن وعي «الجاهلية». وبالمثل، ردَّ بعض مؤيدي الوحدة العربية الاعتبار إلى الخلفاء الأمويين الذين سجَّل التاريخ الإسلامي انعدام تقواهم واستيلاءهم على منصب الخلافة وفقًا للباحثين في العصر العباسي ومن اعتمدوا عليهم. ووفقًا لأحد الباحثين السوريين الذين كتبوا في الأربعينيات من القرن العشرين، كانت دمشق في عهد الأمويين:

موطن الملوك والخلفاء … أهمَّ عاصمة للعالم القديم، ومقر الحضارة والثقافة، والمركز الإداري لإمبراطورية عظمى وجيش عظيم. [كان عهد الأمويين] حينما تلاقى الشعر، والأدب والفن، وقيادة الفكر، والعلم، والحرب، والإدارة على ضفاف أنهارها الصغيرة، وحينما كانت دمشق هي العالم والعالم هو دمشق.

قد لا يرى المسلمون التقليديون هذه النسخة من التاريخ مقبولة، لكن نوع الاستخدامات السياسية التي يوضع من أجلها التاريخ في هذه الحالة ينبغي أن يكون أكثر شيوعًا لديهم.

التاريخ الإسلامي والمجتمعات الغربية

من الواضح أن للتاريخ الإسلامي أهمية دينية وسياسية مباشرة للمسلمين في كل مكان، سواء أكانوا من أهل السنة أم سلفيين إسلاميين، أم سلفيين معاصرين، أم شيعة أم غيرهم. في العقود الحديثة، كانت هناك أيضًا محاولات (من قِبل أهل الغرب والمسلمين أيضًا) لمشاركة بعض دروس التاريخ الإسلامي مع غير المسلمين في الغرب من أجل خدمة أجندات سياسية.

أفضل مثال على هذا الاتجاه الأسطورة والأسطورة المضادة للعصر الذهبي الإسباني. تقول الرواية إن المسلمين والمسيحيين واليهود عاشوا في الأندلس تحت الحكم الإسلامي في مدينة فاضلة تجمع بين مختلف الأديان وازدهروا في ظل الحماية المستقرة للحكم الإسلامي. استُخدمت هذه الفكرة من قبل الباحثين اليهود الألمان الذين عرضوها في نهاية القرن التاسع عشر من أجل توبيخ زملائهم المحليين — الذين يُفترض أنهم مثقفون — على عدم منحهم اليهود الألمان المستوى نفسه من المساواة الذي أتاحه (حتى) المسلمون قبل العصر الحديث. ومؤخرًا، استُخدمت فكرة العصر الذهبي الإسباني من قبل الإسلاميين ومعادي الصهيونية ليقولوا إن الصراع الحالي في المنطقة سببه تأسيس دولة إسرائيل، موضحين أن المسلمين واليهود عاشوا جنبًا إلى جنب سابقًا في سلام ووئام، وأن الحركة الصهيونية هي التي كدَّرت هذا الوضع الإيجابي. يرى معادو الصهيونية أنه لا بد من تفكيك إسرائيل حتى يمكن استعادة الوئام إلى المنطقة؛ أما الإسلاميون فيرون ضرورة أن يحيا غير المسلمين كافة تحت حكم إسلامي، لأنه لا يمكن لجميع الأديان أن تعيش في سلام إلا تحت مظلة الإسلام.

أثارت هذه الرواية بشأن العصر الذهبي الإسباني رد فعل على نفس الدرجة من السطحية من قِبل أولئك الذين أوجدوا أسطورة مضادة (وهم في الأغلب يهود طُردوا من الأراضي الإسلامية في الماضي)؛ وتقول تلك الأسطورة المضادة إن اليهود والمسيحيين كانوا دائمًا يتعرضون لسوء المعاملة من قبل الإسلام والمسلمين على مدار التاريخ في إسبانيا وغيرها من الأماكن أيضًا. في ظل الإسلام، كان غير المسلمين مواطنين من الدرجة الثانية معرضين لنزوات حكام متعصبين نشروا الإسلام بالسيف ونهبوا ممتلكات رعاياهم الكفار كيفما اتفق. تفتقر أسطورة العصر الذهبي الإسباني والأسطورة المضادة لها إلى أدنى درجات المنطقية من عدة نواحٍ. من ناحية، من الصعب القول إنه كانت توجد بالفعل مدينة فاضلة تجمع بين الأديان المختلفة في الأندلس؛ فحتى موسى بن ميمون (١١٣٥–١٢٠٤) — خيرُ من يمثل الوحدة الإبراهيمية والالتقاء بين الأديان — أُجبر على الفرار من موحِّدي إسبانيا مثلما التمس الكثيرون من اليهود ملجأً من عنف المرابطين في المدن التي أعاد المسيحيون فتحها في أواخر القرن الحادي عشر. وعلى الرغم من أن الثقافة التي أوجدها غير المسلمين في الأندلس مبهرة كمًّا وكيفًا، فإن الغرض الذي وُضعت من أجله فكرة العصر الذهبي لإسبانيا يتعلق بتسامح سياسي مبالغ فيه، وقلما وُجدت هذه الظروف في الأندلس (ربما باستثناء قرطبة في الفترة من منتصف وحتى أواخر القرن العاشر). ومن ناحية أخرى، من الخطأ أيضًا الحديث عن غير المسلمين بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية. فحتى مع تجاهل المفارقة التاريخية، من الواضح أن بعض المسيحيين واليهود تمكنوا في معظم المجتمعات الإسلامية على مدار التاريخ من الوصول إلى مناصب إدارية عليا، بينما كان بعض جيرانهم المسلمين يكافحون من أجل امتلاك قوت يومهم.

ما يهمنا هنا ليس الدقة التاريخية لهذه النظريات، وإنما حقيقة توظيفها من الأساس من جانب أهل الغرب ومن أجلهم. ومع أنه واضح أن للتاريخ الإسلامي أهمية دينية ضئيلة لدى غير المسلمين (على الأقل في ظل غياب خلافة عالمية)، فهناك إدراك قد بدأ لتوه لأهميته السياسية، وهي نقطة سنعود إليها في خاتمة الكتاب.

ملخص

ربما وجد المتحولون إلى الإسلام من غير العرب في القرن الأول من ظهور الإسلام أن الطابع العربي للدين غريب إلى حد ما، لكن من اعتنقوا الإسلام منذ العصور العباسية استُوعبوا بسلاسة داخل الدين، واستطاعوا على الفور دمج تجاربهم وثقافتهم وماضيهم في شبكة المجتمعات الإسلامية الآخذة في النمو. علاوةً على ذلك، ومثلما أشرنا في الفصلين السابقين، استطاع هؤلاء تبني مخزون تاريخي جاهز ومعروف وثري والاستفادة منه في السعي وراء تحقيق أهداف دينية وسياسية.

لهذه الأسباب، ربما يكون التاريخ الإسلامي هو الموروث الديني الوحيد الذي لا يختص تاريخه التأسيسي والكلاسيكي بقومية أو عرقية. فقليل من الأشخاص هم من يختارون اعتناق اليهودية من الأساس (ناهيك عن تاريخها)، ومع أن هناك كثيرين اعتنقوا المسيحية، فالعلاقة بين الموروث المسيحي وكيان تاريخي مميز هي علاقة ضعيفة. حتى وقائع التاريخ المسيحي التي احتفظت بأهميتها في العصور الحديثة — مثل الحملات الصليبية — لها صدًى لدى بعض المسحيين (مثل الأوروبيين الغربيين) أكبر مما لها لدى آخرين (مثل الأمريكيين الجنوبيين). وقد قال جورج بوش في تصريح شهير: «أظن أننا نتفق على أن الماضي قد انتهى.» وهو ليس سوى تصريح واحد من بين عدة تصريحات يختلف معها معظم المسلمين.

هوامش

(1) © D’Agostini/Photolibrary Group.
(2) © eye ubiquitous/hutchison.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤