خاتمة

هذا الكتاب هو كتاب تحليلٍ للتاريخ بقدْر ما هو كتاب تاريخ. وأعني بهذا القول أنه سردٌ للتأويلات عن ماضي تمبكتو بقدْر ما هو قصة ما حدث بالفعل هناك. لقد اتضح السبب في هذا، أو ذلك ما آمله: إن قصة تمبكتو في حالة حراك دائم، تتأرجح إلى الخلف وإلى الأمام بين قطبين متنافسين هما الأسطورة والواقع. تُقَدَّم حججٌ مذهلة ثم تُدحَض ثم ينشأ ادعاء آخر، في دورة متصلة، على ما يبدو، من الافتراض والتصويب.

منذ أيامها الأولى، كان يغذي أسطورة «أورشليم الجديدة عبر الصحراء» — التي أُسميت تمبكتو أو تومبوكتو، أو تنبكت، أو تمبكت — مزيجٌ من المعلومات المضلِّلة والسذاجة والطمع الأوروبي في الذهب. السؤال المهم هو: لماذا هذا المكان بالتحديد؟ لماذا كانت هذه المدينة هي التي صارت بؤرة مفاهيم العالم الخاطئة حول أفريقيا، وليس، مثلًا، جِني أو جاو أو كانو؟ كان السبب في هذا يرجع جزئيًّا إلى الجغرافيا؛ فبسبب أن تمبكتو تقع عند الطرف الجنوبي لطرق القوافل إلى المغرب وليبيا، انتقلت بسهولة الأخبار المبالغ فيها عن ثرائها، التي كانت تُنقَل عبر الصحراء، إلى أوروبا. ساعد في هذا أن المكان كان له اسم رنَّان، شعار لا يُنسى «تلتقطه الأذن وينقل صورًا لعجائب»، بحسب تعبير المؤرخة يوجينيا هربرت. وكان من الأسباب البالغة الأهمية أيضًا استعصاء الوصول إلى المدينة؛ إذ كان يمكنك أن تقول ما شئت عن تمبكتو وما كان أحد سيصحح لك قولك. أخبر روبرت آدامز، وهو بحَّار أمريكي زعم زعمًا غير محتمل مفاده أنه وصل إلى المدينة في عام ١٨١٢، العالَمَ أن المدينة كان يحكمها الملك وولو والملكة فاطمة، اللذان لم يغتسلا أبدًا وإنما كانا يدهنان جسديهما يوميًّا بزبدة حليب الماعز. في حقبة لاحقة، سمع بروس تشاتوين أن التمبكتيين كانوا يأكلون حساء الفئران، التي كانت تُقَدَّم كاملةً بأرجلها الوردية الصغيرة. وحتى عندما كانت الاكتشافات الجغرافية البالغة الأهمية تحدث في القطب الشمالي وأمريكا الجنوبية، فشل المستكشفون مرة تلو أخرى في اختراق المدينة الغامضة. وعندما وصل أخيرًا ألكسندر لينج، بعناء شديد وهو على وشك الموت، إلى المناطق المحيطة بها في عام ١٨٢٦، كان الأوروبيون قد أمضوا خمسة قرون على الأقل ينسجون خيالات حولها.

طغت «تمبكتو التي في الأذهان» على حقيقة المكان، التي لم يكن يُعرَف عنها إلا القليل، ولم يكن تبديد هذه الأسطورة مهمة مستحبة. فبعد أن وصل لينج لما أراد، يبدو أن المغامر المشهور عنه الإطناب في الكلام عجز أن يجد ما يقوله. أقام هناك خمسة أسابيع دون أن يرسل كلمة واحدة إلى الوطن، وعندما كان مجبرًا أخيرًا على أن يخطَّ بالقلم كلمات، لم يفصح عن شيء تقريبًا. يمكننا أن نتخيل السبب؛ إذ كان اكتشافه هو أن المدينة العظيمة التي راودت لزمن طويل الخيال الأوروبي كانت بلدة صغيرة ذات أبنية متواضعة مبنية من الطوب اللبن. في تلك الظروف، مَن الذي لم يكن سيكتب، كما فعل، أن «عاصمة وسط أفريقيا العظيمة» قد «لبَّت توقعاتي تمامًا» — وفي الواقع، كان عليه أن يلوذ بالفرار منها؟

بذل رينيه كاييه في وصفه لتمبكتو بأنها «ليست سوى كتلة من المنازل القبيحة المنظر» جهدًا أكبر لتصحيح التصور الخاطئ، لكنه قوبل إلى حدٍّ كبير بعدم التصديق، ولم يفعل أولئك الذين جاءوا في أعقابه سوى أنهم نقَّبوا أكثر عن الأسطورة. بعد ذلك بسبعين عامًا، كان ملحوظًا حماس الصحفي فيليكس دوبوا عند اكتشافه الخلفية التاريخية الوهمية لثقافةٍ أسَّسها قدماء المصريين والتي «لا تزال مبهرة … بعد ثلاثة قرون من أفول نجمها». لم يكتفِ بتراث المدينة الحقيقي من العلم، فضخَّمه، معيدًا تقديم تمبكتو في صورة قرطاج والإسكندرية مجتمعتين، وظلت أجزاء من خرافة «جامعة تمبكتو» التي صاغها تعاود الظهور بعد ذلك بقرن. أما هاينريش بارت، الذي كان أحد عباقرة الاستكشاف الأفريقي، فأدخل هو الآخر، عن طريق الخطأ، تقليد قراءة كتاب «تاريخ السودان» على أنه تاريخ، في حين أنه ثبت في الواقع أن روايته مصطنعة؛ إعادة صياغة تخيلية للأحداث الماضية لتلائم سياسات ذلك الوقت. تفاقم هذا الالتباس على يد المستشرقين هودا، وبينوا، وديلافوس، الذين فهموا أن اللغة العربية الضحلة لكُتَّاب الوقائع التاريخية تعني أنه لم يكن بوسع مؤلفيها سوى أن ينقلوا المعلومات التي وضعها أسلافهم بدقة، وليس اختراع التاريخ من جديد. وطيلة قرن، طغت الحقائق المفترَضة في كتب الوقائع التاريخية على الأدلة المستقاة من النقوش المكتوبة التي كانت مناقِضة ولكنها أكثر موثوقية.

لم تكن أوروبا هي المبتدع الوحيد لأساطير تمبكتو؛ فقد لعب مواطنو المدينة دورًا مدهشًا في تعظيمها. فلم يُفَوِّت كتاب «تاريخ السودان» ولا كتاب «تاريخ الفتَّاش» فرصة الإطناب بشأن المدينة التي وصفها السعدي بأنها «الطيبة الطاهرة الزكية ذات بركة ونجعة»، والتي قال عنها كتاب «تاريخ الفتَّاش» إنها «لا نظير لها في البلدان من بلاد السودان.» وأفرط أحمد بابا، الذي كتب في عصرٍ أسبق، في امتداح مآثر فقهاء تمبكتو الإعجازية؛ فقد كان بمقدور هؤلاء الأولياء أن يسيروا على الماء ويحموا الناس من سهام العدو والنار. وربما تكون المبالغة بشأن روحانية المدينة قد نشأت كوسيلة لحمايتها، نوع من الدفاع الروحي، مثلما كان القديسون في أوروبا في العصور الوسطى يُستحضَرون لتخويف الغزاة المحتملين.

تندرج قصة تمبكتو العظيمة في القرن الحادي والعشرين، رواية وقائع إجلاء المخطوطات، تمامًا ضمن هذا التقليد. كما أوضح جوزيف جيتاري، تبدو هذه القصة وكأنها قصة من قصص إنديانا جونز، ولكنها في عالم الواقع، قصة أنقذ فيها أهل مدينة الأولياء، بقيادة رجال المكتبات، تراثهم شبه السحري من أيدي الجهاديين الذين يحرقون الكتب. بهذا التأثير، السمة العالمية للخير في مواجهة الشر، والكتب في مواجهة البنادق، والمتطرفون في مواجهة المعتدلين، أثبتت هذه الحكاية الشعبية المعاصرة أنها لا تُقاوَم. لقد كانت أعظم بكثير من أن تكون مبنية على نواة حقيقية، تمامًا مثلما كانت أساطير ماضي المدينة الأروع: فلن ينكر إلا أكثر الأكاديميين تشكُّكًا أن تمبكتو كانت يومًا ما مركزًا مهمًّا للفقه الإسلامي في غرب السودان. عمل مالكو المخطوطات، بحسب ما أعتقد، على حماية تراثهم الأدبي من خطر النهب، غالبًا عن طريق إخفاء الوثائق، وأحيانًا عن طريق إجلائها في عملياتٍ أشرفت عليها منظمة سافاما. أُنقِذَت مخطوطات أحمد بابا تحديدًا بالطريقة التي شُرِحَت لي. ومما لا شك فيه أن هذه العمليات استلزمت جرأة وشجاعة، من رجال المكتبات وأيضًا من الزملاء الأصغر الذين تحدَّوا العقوبات التي فرضتها شريعة الجهاديين. من هذه الأسس، نُسِج حول هذه العملية شيء أكبر وأخطر مما كانت عليه حقًّا.

إن الخرافة، بطبيعتها، تبسيط مفرط. يصف إي بي تومبسون النزعة إلى تبسيط حياة السابقين باعتباره نوعًا من «التعالي الهائل من جانب الأجيال التالية» يمكننا أن نضيف تعالي التباعد، نزوع ثقافةٍ ما إلى تخيُّل أن الأفراد المنتمين إلى ثقافة أخرى أقل تطورًا وأدنى عمقًا مما هم عليه في الواقع. كان هذا ما أدَّى بالغرب إلى الوقوع في خطأ اعتبار كتب وقائع تاريخ تمبكتو تاريخًا من الدرجة الأولى، ولكن أدب من الدرجة الثانية، في حين أن العكس كان صحيحًا؛ فقد بالغ المؤرخون في تزيين الماضي بشدة، مما أدَّى إلى إنتاج أبدع كتابات خرجت من المدينة على الإطلاق. وكما أشار فارياس في هذا السياق، فإننا نحن الغرباء نقلل من شأن الأصالة الفكرية للتمبكتيين متحملين العواقب. لا تزال الروايات عن المكان وتاريخه مشوهة بسبب هذا الفشل؛ المتمثل في عدم قدرتنا على تخيُّل التعقيد الكامل للمدينة. ومع ذلك، فإن الأخطاء في قراءتها كانت من صنع تمبكتو. فما الذي عساه يمكن أن يجذب العالم أيضًا إلى هذه المدينة النائية غير الأساطير، والشائعات، و«شهرتها النائية» بحسب وصف لينج؟ وكم كانت ستغدو المدينة أدنى من دونها؟

أتخيَّل قصة تمبكتو كسلسلة من الأساطير والتصحيحات وُضعت واحدةً فوق الأخرى. ربما في المستقبل سيخترق أحد خبراء الجغرافيا النفسية كل هذه الطبقات المدمجة التي تصل إلى عمق الماضي السوداني. سيجد في القاع قصة زا الأيمن الذي يقتل الإله-السمكة في كوكيا. سوف يشاهد علي كولون وهو يركب حصانه مارًّا به في طريقه لتحرير السونجاي، وقد عُلِف حصانه بعلفٍ خاصٍّ مقوٍّ. سوف يراقب الأَمَةَ القويةَ تنبكت، بسُرَّتها البارزة، وهي تقيم مخيمها الصحراوي، ويرى الأسطول المالي وهو يستعد للمغادرة إلى الأمريكتين، والحرفيين وهم يغلِّفون قصر موسى بالذهب. وعلى قمة تلك الطبقات، الأقرب إلى الوقت الحاضر، سوف يشاهد مروحيات قتالية تحوم حول قافلة كبيرة من قوارب نهر النيجر التي تشق طريقها في اتجاه منبع النهر، حاملةً حمولتها من الكتب القيمة. عدة مئات آلاف من الكتب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤