الفصل الثاني عشر

حياة العلماء

١٨٥٤–١٨٦٥

لم تصل المقتطفات من كتاب «تاريخ السودان»، التي كان هاينريش بارت قد نسخها في جاندو، إلى أوروبا حتى أواخر العام التالي بعد رحلة شاقة عبر الصحراء. أُلقيت مهمة إعادة إنشاء أجزاء المخطوطة من ملاحظات بارت على عاتق المستعرب الألماني كريستيان رالفس، الذي أمضى معظم فصل شتاء عامي ١٨٥٤-١٨٥٥ وهو يحاول فهم الشذرات التي كانت قد أُعطيت له. كانت أقسامٌ كاملة مفقودةً من النَّص، وكانت اللغة العربية المكتوب به النص نفسها جامدة وأحيانًا غير مراعية للقواعد النحوية. ومع ذلك، بحلول فصل الربيع اعتقد رالفس أنه قد تمكَّن من إخراج ترجمة ألمانية أمينة لمقتطفات بارت، ونُشِرَت في دورية الجمعية الشرقية الألمانية في ليبزيج في وقتٍ لاحق من ذلك العام. لم يكن المستكشف نفسه قد عاد بعدُ من أفريقيا.

شغلت هذه «الإسهامات الجديدة إلى تاريخ وجغرافيا السودان» ستًّا وسبعين صفحة، كانت تسع وثلاثون منها مخصَّصة للملاحظات الهامشية الغزيرة للثنائي. من وجهة نظر رالفس، إن النص أظهر الافتقار الشديد لدى كل الإسهامات السابقة إلى الدراية بغرب أفريقيا، وفي ذلك إسهامات ابن بطوطة وليون الأفريقي. كان ليون قد أشار إشارة موجزة إلى أحد ملوك سونجاي، لكن التأريخ المكتشف حديثًا أماط اللثام عن إمبراطورية قوية حكمتها سلالة تُدعى سلالة أسكيا، ومنها «الفاتح العظيم» أسكيا الحاج محمد. لم يكن هذا سوى مثال واحد على ثراء المعلومات التاريخية الجديدة، التي أتاحت حينئذٍ للأوروبيين فكَّ لغز قصة «عالم مجهول تمامًا ومدمر حاليًّا.»

كان قد قيل لبارت أن واضع هذا التأريخ هو أحمد بابا، وبالفعل كان جزءٌ منه كذلك؛ لأنه كان يشتمل على مقتطفات مطولة من معجم التراجم الذي كان قد وضعه عن فقهاء المالكية، «كفاية المحتاج». ومع ذلك كان المستكشِف، في العجلة التي كان فيها، قد غفل عن دليل رئيسي يشير إلى هوية مؤلفه الحقيقي، عبد الرحمن عبد الله السعدي. وُلِد السعدي لأسرة تمبكتية في الثامن والعشرين من مايو من عام ١٥٩٤، وفي الفترة بين عامي ١٦٢٦ و١٦٢٧ عُيِّن إمامًا لمسجد سانكوري في جِني. بعد ذلك بعام عاد إلى مسقط رأسه، وأصبح إمامًا ومسئولًا في تمبكتو. كُتِب تأريخه في القرن السابع عشر باللغة العربية وامتد في ثمانية وثلاثين فصلًا، كان بعضها مستندًا إلى مصادر تاريخية أسبق، والبعض الآخر إلى ملاحظات المؤلف ومقابلاته. كان بناؤه النحوي غيرَ مكتمل مما جعل المؤرخين اللاحقين يعتقدون أن لغة سونجاي، وليس العربية، كانت لغة المؤلف الأولى، واستحضر أسلوبه في بعض المرات إلى الذهن الحكايات الشعبية للأخوين جريم أو حكايات «ألف ليلة وليلة.»

كان بارت، الذي كان ينقصه الوقت وكان يعمل باستماتة لملء الفراغات في المعرفة الأوروبية، قد استخرج قدْر ما استطاع من البيانات، مركِّزًا على أجزاء التأريخ التي كانت مخصصة للملوك، والتواريخ التي يمكن التعرف عليها، والإمبراطوريات. بعبارة أخرى، ركَّز على التاريخ الواسع الشامل.

استُهِل كتاب «تاريخ السودان» بقائمةٍ لحكام سونجاي القدامى، من سلالة زا، ومضى ليروي الأسطورة المؤسسة لمملكتهم. أول هؤلاء الأمراء كان «زا الأيمن». قيل إن هذا الشخص كان قد غادر اليمن مع شقيقه ليسافر حول العالم، وإن القدر أتى بهما، وهما يتضوران جوعًا ويلبسان خرق جلود الحيوانات، إلى مدينة كوكيا، وهي «مدينة قديمة» على نهر النيجر كانت موجودة، حسب ما ورد في التأريخ، منذ زمن المصريين القدماء؛ وإن كوكيا هي المكان الذي جلب منه الفرعون جماعةَ السحرة التي استخدمها في جداله مع موسى. عندما سأل أهل المدينة الغريبين عن اسميهما، أساء أحد الأخوين فهْم السؤال وقال إنهما أتيا من اليمن — «جاء من اليمن» — لذا دعاه أهل كوكيا، الذين كانوا يجدون صعوبة في نطق الكلمات العربية، زا الأيمن.

وجد زا الأيمن أن أهل هذا البلد كانوا يعبدون شيطانًا كان يظهر في النهر على هيئة سمكة لها حلقة في أنفها. في هذه الأوقات كان يتجمع حشدٌ من الناس ليسمعوا أوامر الشيطان، التي كان يتعيَّن على الجميع طاعتها. بعد أن شهد زا الأيمن هذا الطقس وأدرك أن الناس كانوا يتبعون صراطًا ضالًّا، صمَّم زا الأيمن على أن ينهي حياة هذا المخلوق. فقذف السمكة بحربةٍ وقتلها، وبعد ذلك سرعان ما أقسم الناس بالولاء لقاتل الإله-السمكة وجعلوه ملكًا. أصبح «زا» هو لقب كل الأمراء الذين حكموا من بعده. وسجَّل السعدي: «فتناسلوا وتكاثروا حتى لا يعلم عِدتهم إلا الله سبحانه.» ثم أضاف: «وكانوا ذوي قوة ونجدة وشجاعة وعِظَم جثة وطول قامة.»

في وقت لاحق في تاريخها أُخضعت بلاد سونجاي على يد مالي، الإمبراطورية التي حلت محل غانا القديمة في غرب السودان، لكن المملكة ظفرت باستقلالها بفضل أميرين من أمراء سونجاي، وهما الأخوان غير الشقيقين علي كولون وسليمان ناري. حسب العادة كان أمراء الولايات التابعة مثل سونجاي يذهبون لخدمة الإمبراطور المالي وكانوا يختفون من وقتٍ لآخر طلبًا للمنفعة. كان لدى علي كولون، الذي كان أميرًا «لبيبًا عاقلًا فطنًا كيِّسًا جدًّا»، مشروع آخر في ذهنه: وهو تحرير مملكته. فأخذ يمهِّد الطريق ببراعة، مسافرًا مبتعدًا عن بلاط السلطان ومقتربًا من موطنه سونجاي، واستعد بالأسلحة والأزودة وكمَّنها في مواضعَ معروفاتٍ في طريقه. في أحد الأيام، علف الأخوان حصانيهما علفًا صحيحًا جيدًا، وهربا. أرسل سلطان مالي في إثر الهاربَين رجالًا كثيرين وحدثت مناوشات كثيرة، لكن الأميرين كانا دومًا يدحران خصومهما ووصلا بأمان إلى موطنهما. بعد ذلك، بحسب التأريخ، أصبح علي كولون ملك سونجاي. وتسمَّى بلقب «سُنِّي» وأنقذ شعبه من نير الحكم المالي.

خصَّص السعدي فصلًا كاملًا لتأسيس تمبكتو. وكتب أن المستوطنة تأسست في بداية القرن الثاني عشر على يد الطوارق الذين جاءوا إلى المنطقة ليرعوا قطعانهم. في الصيف كانوا يخيِّمون على ضفاف نهر النيجر، وفي الموسم المطير كانوا يهاجرون إلى آبار الصحراء في أروان، التي تبعُد مائة وخمسين ميلًا شمالًا. في النهاية اختار بعضٌ منهم الاستقرار على هذا الطريق، على مسافة قريبة من النهر:

ثم اختاروا موضع هذه البلدة الطيبة الطاهرة الزكية الفاخرة ذات بركة ونجعة وحركة التي هي مسقط رأسي وبغية نفسي. ما دنستها عبادة الأوثان ولا سُجِد على أديمها قطُّ لغير الرحمن، مأوى العلماء والعابدين، ومألف الأولياء والزاهدين، وملتقى الفلك والسيار.

سرعان ما بدأ المسافرون الذين كانوا يأتون إلى ملتقى الطرق هذا في استخدامها للتخزين. وائتمن التجار على متاعهم وزروعهم أَمَةً تُدعى تنبُكتُ — وهي كلمة، أورد السعدي أنها تشير إلى شخصٍ لديه «نتوء» أو ربما سرة ناتئة — ومنها جاء اسم الموضع المبارك. أخذ المستوطنون يأتون بأعداد كبيرة من المناطق المجاورة — من ولاته، المركز التجاري لغانا القديمة، في موريتانيا الحالية، وأيضًا من مصر، وفزان، وغدامس، وتوات وفاس وسوسة وبيط — وشيئًا فشيئًا أصبحت تمبكتو مركزًا تجاريًّا للمنطقة. امتلأت بالقوافل من كل البلاد، وتوافد عليها العلماء والصالحون من كل جنس. وأدَّى ازدهار تمبكتو إلى سحب كل القوافل التجارية من ولاته، ونجم عنه خراب تلك المدينة. في أثناء ذلك، في تمبكتو، أخذت الأكواخ المبنية بالقش والمحاطة بالأسوار تحل شيئًا فشيئًا محل المنازل المبنية بالطمي، التي كانت تُحاط بجدار منخفض، بحيث من وقف في خارجها يرى ما في داخلها.

تسارع تطور المدينة بعد أن عاد مانسا موسى من رحلته للحج في عام ١٣٢٥. وفي طريق عودته من مكة، أمر موسى — الذي كان «رجلًا عادلًا وتقيًّا، ولا يضاهيه أحد من سلاطين مالي الآخرين في هاتين الصفتين» — ببناء مسجد في كل مكان كان يذهب إليه في يوم الجمعة. فبنى مسجدًا في جاو، ثم انتقل غربًا إلى تمبكتو، وأصبح أول حاكم يستولي عليها. وعيَّن ممثلًا له هناك وأمر ببناء قصر ملكي. وقيل أيضًا إنه بنى مئذنة مسجد جينجربر، حسبما دوَّن السعدي. وحكم موسى وخلفاؤه تمبكتو مائة سنة.

بحسب السعدي، تلاشت قوة مالي في القرن الخامس عشر، وسيطر زعيم الطوارق السلطان عقيل على تمبكتو من عام ١٤٣٣ / ١٤٣٤ وحتى ظهور ملك سونجاي سُني علي، الذي حكم أربعًا وعشرين سنة، بداية من ١٤٦٨ / ١٤٦٩. كان سُني علي طاغيةً كبيرًا ومُضطهِدًا لعلماء تمبكتو، بحسب ما كتب السعدي، لكنه كان رجلًا ذا قوة وطاقة جسدية هائلة وحوَّل مملكته سونجاي إلى إمبراطورية عظيمة. وبعد موته، خُلِع ابنه على يد واحد من حكام الأقاليم التابعين لسُني علي، وهو محمد ابن أبي بكر الطوري، الذي استولى على العرش في ١٤٩٣ وكان أول مَن حمل اسم «أسكيا». لا يكيل السعدي إلا الثناء لأسكيا الحاج محمد، أو أسكيا العظيم، كما صار معروفًا. لقد أسَّس سلالة أسكيا واعتمد على فتوحات سلفه ليجعل سونجاي أكبر إمبراطورية شهدتها منطقة غرب أفريقيا على الإطلاق، ممتدةً من نهر السنغال غربًا إلى أغاديس شرقًا، ومن مناجم الملح في مدينة تاغزة (تغاز) شمالًا إلى بورجو جنوبًا، وهي منطقة بحجم غرب أوروبا. امتد حكم سلالة أسكيا ١٠١ سنة، حتى أرسل سلطان مراكش جيشًا عبر الصحراء ليستولي على أراضي سونجاي.

من وجهة نظر بارت، كان كتاب «تاريخ السودان» بالغ الأهمية. وكتب: «ليس لديَّ أي شك في أن [الكتاب] سوف يكون واحدًا من أهم الإضافات التي أضافها العصر الحالي إلى تاريخ البشرية، في فرعٍ كاد في السابق أن يكون مجهولًا.» أظهرت المقتطفات أن تمبكتو كانت موطنًا لمجتمع ثري ومتطور قادر على تسجيل روايته الخاصة للماضي، وأخيرًا منح أوروبا إمكانية الوصول إلى ما هو أكثر من بضع حقائق منفصلة سجَّلها زوارٌ أجانب للإمبراطورية من أمثال البكري، وابن خلدون، وليون الأفريقي. كذلك أطاح الكتاب بكثير من الأفكار التي كانت لدى الأوروبيين عن هذا الجزء من أفريقيا؛ إذ كانت ممالك المنطقة أقدمَ بكثير مما اعتقد أي أحد، وحُدِّدَت مواضعها الجغرافية أخيرًا تحديدًا دقيقًا، وأخيرًا بدا التسلسل الزمني لإمبراطوريات غانا القديمة ومالي وسونجاي كاملًا.

بالطبع اشتمل التأريخ على رواياتٍ كانت مستندة على أساطيرَ وقصصٍ تاريخية شفوية — هل يحتمل أن الإله-السمكة كان معتمدًا على حيوان خروف البحر، وهو كائن حقيقي من حيوانات نهر النيجر؟ أم هل كان تمثيلًا للنهر المقدس نفسه؟ — ولكنه كان عملًا تاريخيًّا بلا شك، وسيصبح مكتشفه الأب المؤسس لفرع دراسات سونجاي.

أنهى رالفس ترجمته بالدعاء لبارت أن يعود سالمًا حتى يتمكَّن من أن ينعم ﺑ «التوقير والإعجاب» اللذين استحقهما عن جدارة.

وصل المستكشِف إلى لندن في السادس من سبتمبر من عام ١٨٥٥، بصحبة عبدين كان أوفرويج قد اشتراهما وأعتقهما، هما دوروجو وأبيجا، اللذان كان بارت قد وعد برعايتهما. أذهلتهما إنجلترا، البلد الذي كان به منازلُ ضخمة، ولكن دون أن يكون على أرضها حبَّة رمل واحدة. استُقْبِل البروسي، الذي كان غائبًا قرابة خمس سنوات ونصف وسافر أكثر من عشرة آلاف ميل، مسجِّلًا كل قرية، وقبيلة، وتضاريس جغرافية في طريقه، ﺑ «حفاوة بالغة» من بامرستن، الذي كان في ذلك الوقت رئيس الوزراء، واللورد كلاريندون، الذي كان عندئذٍ وزير الخارجية. هنَّأه كلاريندون على «ثباته ومثابرته وحسن تقديره للأمور» أثناء الحملة الاستكشافية.

لم تورِد صحيفة «ذا تايمز» اللندنية، التي كانت قد أوردت تقريرًا كاذبًا عن وفاة بارت، أي إشارة إلى عودته سالمًا. في العقود التالية، ستكيل هذه الصحيفة وصحفٌ أخرى المديح لمستكشفينَ تالينَ لأفريقيا، من أمثال ليفينجستون، وبرتون، وجون هاننج سبيك، وجيمس جرانت، وصامويل بيكر. غير أنه لم يكن لدى بارت أي اهتمام بذلك. وكان هذا يمثِّل إشارة منذرة بسوء إلى الطريقة التي سيعامله بها الرأي العام.

في الأول من أكتوبر غادر إنجلترا ليرى عائلته في هامبورج، وفي صحبته دوروجو وأبيجا.

•••

بينما كان بارت في ألمانيا، ظهرت في أوروبا مقتطفاتٌ من نصٍّ مهمٍّ ثانٍ كتبه عالم تمبكتي. كانت هذه المقتطفات مأخوذة من معجم تراجم أحمد بابا الخاص بفقهاء المذهب المالكي السني، «كفاية المحتاج»، وهو نفس العمل الذي كان تضمينه الجزئي في كتاب «تاريخ السودان» قد زاد من الارتباك حول مؤلف الكتاب التاريخي. كان بارت قد قرأ هذا النص، ولكن في عجلته لتسجيل البيانات التاريخية، لم يكن قد نسخه. في ذلك الوقت، كانت نسختان من هذا المعجم قد أُرسِلتا إلى المستشرق الفرنسي البارز أوجست شربونو، الذي نشر أجزاءً مترجمة منه في «حولية الجمعية الأثرية بقسنطينة»، إلى جانب مقالة تمهيدية عن الأدب العربي في السودان.

تحمَّس شربونو لمعجم تراجم أحمد بابا كما كان بارت بشأن كتاب تأريخ السعدي؛ كتب شربونو يقول إنه «كشْف فريد وغير متوقَّع عن حركة أدبية في قلب أفريقيا، في تمبكتو!» والذي فتح «آفاقًا جديدة» لم يكن الأوروبيون قد توقعوا وجودها قط. احتوى الكتاب على تراجمَ قصيرة عديدة لفقهاء المذهب المالكي البارزين، الذين وُلِدوا في تمبكتو أو جاءوا إليها لتعليم الناس. كشف الكتاب عن وجود نظام تعليمي في تمبكتو كان يضارع النُّظم التعليمية في المدن الإسلامية العظيمة مثل قرطبة وتونس والقاهرة، وكان يضم مدارسَ يديرها رجال مثقفون ويحضرها عدد كبير من الطلاب. أظهر الكتاب أنه كان يوجد في المدينة مكتباتٌ مهمة كانت تحتوي على مئات الكتب وأوضح كم كان أمراء البلد يدعمون بشغفٍ الفقهاءَ. وكتب شربونو أن كتاب أحمد بابا أظهر بجلاء مشاركة الأعراق السوداء في الحياة الفكرية، وكشف عن العدد الكبير للغاية للصلات التي كانت موجودة بين غرب السودان والعالم العربي.

بعدما قرأ الأوروبيون المقتطفات المأخوذة من معجم تراجم أحمد بابا جنبًا إلى جنب مع تلك المأخوذة من كتاب تأريخ السعدي، صارت لديهم صورة واضحة عن الحياة العملية لصفوة علماء تمبكتو.

بحلول منتصف القرن الرابع عشر، كانت المدينة مركزًا تجاريًّا حيويًّا وشيئًا فشيئًا ازداد عدد العلماء الذين كانوا يأتون للاستقرار هناك. وفي أوجها، كان يوجد ما يُقَدَّر بمائتين إلى ثلاثمائة عالم في قمة المجتمع، ينتمون إلى العائلات التي تتصدر المشهد في المدينة. كان أكثر المواطنين نفوذًا في الصفوة هم «القضاة»، الذين كانوا يقيمون العدل استنادًا إلى معرفتهم بالشريعة الإسلامية. وبعدهم كان يأتي كل صنوف علماء الدين الآخرين، وفي ذلك الأئمة، والفقهاء، والمرشدون، الذين كانوا يأتون غالبًا من طبقة التجار الثرية، إلى جانب معلمي المدارس، وعمال المساجد، والكَتَبة، بالإضافة إلى عدد كبير ممن كان يُطلَق عليهم «الألفة»، وهم رجال دين من عائلاتٍ دنيا كانوا يكسبون رزقهم من تعليمهم الإسلامي. كان حي سانكوري هو مركز النشاط العلمي في المدينة، وكان هذا هو المكان الذي استقر فيه الأحفاد ذوو النفوذ من نسل محمد آقيت، الجد الأكبر لأحمد بابا. كان علماء تمبكتو على اتصالٍ منتظم بشمال أفريقيا ومصر، وبعضهم سافر إلى هناك، بينما قَدِم آخرون إلى الجنوب للدراسة في تمبكتو. لذلك كانوا على دراية بطيف واسع من العلوم الدنيوية، وفي ذلك الرياضيات، والفلك، والتاريخ، على الرغم من أن كل تلك المعارف كانت تُدَرَّس في سياق إسلامي.

لم يكن علماء تمبكتو البارزون مجرَّد قادة ومعلمين دينيين؛ إذ كان يُعتقَد أيضًا أنهم يمتلكون نعمةً إلهية، أو ما يُطلَق عليه «البركة»، التي مكَّنتهم من إتيانِ أفعالٍ من شأنها أن تكون مستحيلة على البشر العاديين. أحد أقدم رجال الدين الذين ذكرهم أحمد بابا كان يُعْرَف ببساطة باسم الحاج؛ وكان قد أتى إلى تمبكتو من ولاته وشغل منصب «القاضي» في أوائل القرن الخامس عشر، أثناء الأيام الأخيرة للحكم المالي. في أحد الأيام، كانت مجموعةٌ من الناس جالسة لتناول الطعام عندما سمعوا أن جيشًا من مملكة موسي المجاورة كان يقترب من تمبكتو. تمتم الحاج بشيء ما في الطبق الذي كانوا يتشاركون في تناول الطعام منه وأمرهم بأن يأكلوا، ثم قال لهم: «اذهبوا إلى القتال. ولن يضركم من سهامهم شيء.» دُحِر جيش موسي، وعاد الرجال كلهم عدا واحد؛ هو زوج ابنة الحاج الذي لم يكن قد أكل؛ لأن تناوله الطعام مع والد زوجته من شأنه أن يكون علامةً على عدم الاحترام.

في منتصف القرن الخامس عشر عندما كان زعيم الطوارق عقيل يحكم المدينة، بلغ تدفُّق العلماء المسلمين إلى تمبكتو مستوياتٍ لم يسبق لها مثيل. استمر عقيل وشعبه في اتباع أسلوب حياتهم شبه البدوي خارج المدينة، تاركين المدينة في رعاية حاكم عَمِل على تعزيز أنشطتها العلمية. كان أحد الرجال البارزين الذين وصلوا في هذا الوقت هو موديبو محمد الكابري (مودب محمد الكابري). بحسب ما كتب أحمد بابا، إن الكابري «بلغ ذروة العلم والصلاح»، وكان يوجه عددًا كبيرًا من التلاميذ، وكان أيضًا مصدر الكثير من المعجزات. في إحدى المناسبات، بدأ عالم مغربي مؤثِّر يقدح فيه، قائلًا، متلاعبًا بالألفاظ، إنه لم يكن الكابري بقدر ما كان «الكافري» أي الكافر. يحكي أحمد بابا أن الله سلَّط على هذا الرجل الجذام عقابًا له على ذلك. وجُلِب له الأطباء من كل جهة ومكان لعلاجه، وأوصى أحدهم بأن العلاج الوحيد أن يأكل قلب صبي صغير. ذُبِح صبيةٌ كثيرون، لكن الرجل مات «في أسوأ حال» بسبب إهانته للقاضي العظيم.

قيل حتى إن الكابري كان قادرًا على السير على الماء. في سنةٍ من السنوات، في يوم عيد تاباسكي (عيد الأضحى كما يُصطَلَح على تسميته باللغة المحلية)، احتاج إلى عبور النهر لأخذ كبش أضحية، لذا سار ببساطة عابرًا فوق سطحه. قرَّر أحد تلاميذه أن يتبعه، لكنه غرق، وعندما بلغ الشيخ الضفة الأخرى ورأى تلميذه يصارع الغرق في النهر، ذهب لينقذه. وصاح فيه: «ما حملك على ما فعلت؟»

«لما رأيتك فعلتَ، فعلتُ مثلك.»

لم يتعاطف الشيخ معه. وسأله: «أين قدُمك من القدمِ التي ما سارت في معصيةٍ قط؟»

لم تكن حياة العلماء الفاضلة مليئةً بالبركة الإلهية فحسب؛ كان من الممكن أيضًا أن تكون متمتعة بالصحة والعمر المديد. رُزِق القاضي كاتب موسى بصحة غير عادية في البدن، حسبما قيل، حتى إنه لم يَسْتَنِبْ ولو في صلاة واحدة في المسجد. وأرجع هذه الصحة العظيمة إلى أربعة أمور بسيطة؛ أنه لم يبت في العراء ولو ليلة واحدة، ولم يبت ليلة واحدة إلا ودهن جسمه، وكان يستحم بعد الفجر بالماء الساخن، وما كان يخرج لصلاة الصبح قط إلا بعد الفطور.

ربما كان أشهر مهاجر إلى تمبكتو في القرن الخامس عشر هو سيدي يحيى التادلسي. دُعي سيدي يحيى إلى تمبكتو من قِبَل حاكمها، محمد نض، الذي بنى المسجد الذي ما زال يحمل اسمه. في وصف أحمد بابا، إن سيدي يحيى «انتشر ذكره في الآفاق والأقطار، وظهرت بركاته للخاصة والعامة. فكان ذا كرامات ومكاشفات.» وفي اليوم الذي مات فيه الكابري وأُسجي جسده في أحد الأضرحة، رثاه سيدي يحيى، رثاءً كان واحدًا من أول الأمثلة على الشعر التمبكتي. واشتمل على الأبيات التالية:

محمد الأستاذ مودب ذي النُّهى
رباطًا صبارًا أمره في التزايد.
فيا عجبًا هل بعده من مبين!
ويا عربًا هل بعده من مجالد؟!

قيل عن سيدي يحيى أنه «ما طرأت قدمٌ تنبكتَ قطُّ إلا وسيدي يحيى أفضل من صاحبها.» كان معلمًا يُسعى إليه، وفي أحد الأيام كان يلقي درسًا تحت الصومعة، فإذا بسحاب مكفهر تجمَّع فوق الرءوس وسُمِع صوت الرعد. سارع تلاميذه إلى جمْع أشيائهم والتوجه للداخل، لكن سيدي يحيى أمرهم ألَّا يبرحوا أماكنهم. وقال: «على رسْلكم، فاسكنوا.» ثم أضاف: «[المطر] لن ينزل هنا والمَلَك يأمره بالنزول في أرض كذا.» فتجاوزهم المطر. لم يكن التنبؤ بالطقس موهبةَ سيدي يحيى الوحيدة؛ ففي مناسبة أخرى، أمضت جواريه اليوم بطوله في محاولة طبخ سمكة، لكن النار لم يكن لها تأثير على لحمها. فقال لهن: «إن رجلي مسَّت شيئًا مبلولًا في السقيفة، حين خرجت لصلاة الصبح اليوم؛ لعل هو [يقصد السمكة]. والنار لا تُحْرِق ما مسَّه جسدي.»

من كل الفضائل التي كانت موضع تقدير في تمبكتو في القرن الخامس عشر، لم يكن التواضع على ما يبدو واحدًا منها.

وقرب نهاية حياته، كان محمد نض قد رأى حلمًا رأى فيه أن الشمس تغرب والقمر يختفي بعدها من فوره. فحكى الحلم لصديقه سيدي يحيى، الذي قال له إنْ وعدَه ألَّا يخاف، فسيفسر له الحلم.

فقال محمد نض إنه لن يخاف.

أثنى سيدي يحيى على ذلك. وقال: «إن معناه أنني سأموت وأنك ستموت بعدي بوقت قصير.»

فأصاب محمد نض حزنٌ شديد.

قال سيدي يحيى: «ألم تقل لي إنك لن تخاف؟»

قال الحاكم: «إن حزني ليس بسبب خوفي من الموت، وإنما لقلقي على أولادي الصغار.»

ردَّ سيدي يحيى: «اتركهم في رعاية الله سبحانه وتعالى.»

سرعان ما مات رجل الدين الفقيه، وتَبِعه محمد نض إلى القبر. ودُفن الصديقان بعضهما إلى جوار بعض في المسجد نفسه.

أما العالِم الذي يُكِنُّ له أحمد بابا أعظم حب، والذي يروي قصة حياته بأشد تفصيل، فهو معلِّمه محمد باغايوغو. كان باغايوغو رجلًا ذا روح مهذبة وعطوفة، وكان «مطبوعًا على الخير وحسن النية.» وكان يتسم «بسلامة الطوية والانطباع على الخير واعتقاده في الناس حتى كاد يتساوى عنده الناس في حسن ظنه بهم وعدم معرفة الشر.» وكان يمتلك قدْرًا عظيمًا من الصبر؛ فكان من الممكن أن يُعَلِّم طوال النهار دون أن يمل أو يتعب، وكان يولي اهتمامًا خاصًّا بالشخص البليد، لدرجة أن أحمد بابا سمع ذات مرة أحد زملائه يقول إنه ظن أن باغايوغو لا بد أنه «شرب ماء زمزم لئلا يمل في الإقراء.»

يقدم بابا وصفًا تفصيليًّا ليوم باغايوغو المتسم بالعمل الشاق. فكان يبدأ دروسه من بعد صلاة الصبح، ولا يتوقف إلا لأداء صلاة الضحى، التي كان بعدها أحيانًا ما يذهب إلى القاضي في أمر الناس الذين طلبوا مساعدته. وفي فترةِ ما قبل الظهر كان يعود للتدريس ثانيةً، ثم يؤدي صلاة الظهر، وبعد ذلك كان يتناوب بين التدريس والصلاة حتى المساء، وعندئذٍ كان يعود إلى بيته. وحتى عندئذٍ لم يكن يومه قد انقضى؛ فقد كان يمضي الجزء الأخير من الليل في صلاة القيام.

كانت براعة باغايوغو تتجلى بخاصة عندما كان الأمر يتعلق بكتبه، التي كان بعضها نادرًا وقيِّمًا «من جميع النواحي.» وكان سخيًّا في إعطائه لهذه الكتب حتى إنه كان يقرضها ولا يطلب حتى إعادتها، وفي هذا الشأن، كتب بابا:

وربما يأتي لباب داره طالب فيرسل له براءة فيها اسم كتاب يطلبه فيخرجه من الخزانة ويرسله له من غير معرفته مَن هو. فكان في ذلك العجب العجاب إيثارًا لوجهه تعالى، مع محبته للكتب وسعيه في تحصيلها شراءً ونسْخًا.

ذكر بابا أن باغايوغو بهذه الطريقة وهب من كتب مكتبته قدْرًا كبيرًا.

•••

من الأقوال المأثورة أن المسافر يعقد صداقات مع أشخاصٍ غيرِ متوقعين بالخارج ويجد عداواتٍ غيرَ متوقعة في بلاده، ولكن هذا كان بالتحديد الوضع الذي وجد فيه بارت نفسه. صحيح أنه كان قد جاب الصحراء الكبرى مرتين؛ وكان قد تمكَّن من الخروج من عشرات من الورطات الفتاكة، بل إنه كان حتى على وشك الموت، ولكن كان من شأنه أن يبرهن أنه لم يكن يجيد التعامل مع المسئولين في الغرف المعبَّأة بدخان السجائر في المجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر. في عالمٍ يتسم بالعدل، كان من شأن رحلته البطولية أن تصادق على الفور على سمعته باعتباره مستكشِفًا وعالمًا عظيمًا، وأن يُوضَع اسمه في نفس المرتبة مع اسم هومبولت. كان من شأنه في هذا الأمر، كما في نواحٍ كثيرة، أن يخيب أمله. كان الشاب السريع الانفعال ذو الثمانية والعشرين ربيعًا الذي كان قد غادر إلى أفريقيا قد عاد بسلوك فخور ويكاد يكون متغطرسًا، وكانت صفة انعدام الثقة المتأصلة فيه قد بلغت الآن مستويات مقلقة. كتب زوج أخته شوبرت: «أينما ذهب، كان يشعر بأن محاولات متعمدة ومحسوبة كانت تجري لاستغلاله.»

استُقبِل في بداية الأمر في ألمانيا استقبالًا حسنًا. أشاد به هومبولت وتناول الطعام مع ملك بروسيا. ومُنِح ميداليةً ذهبية من مدينة هامبورج، وقُدِّمَت له شهادات دكتوراه فخرية وأوسمة، ودُعي إلى إلقاء خطبة في الجمعية الجغرافية في برلين. وحتى في إنجلترا، جرى الاعتراف بإنجازاته والاحتفاء بها؛ فمنحته الجمعية الجغرافية الملكية ميدالية الراعي الذهبية المرموقة الخاصة بها، ورُشِّح لنيل لقب رفيق وسام الحمام. لكن بريطانيا كانت تفضِّل أن يكون أبطالها بريطانيين، وبحسب ما كان هانمر وارينجتون قد بَيَّن قبل ذلك بثلاثة عقود، فإن أفعال السادة الأجانب مثل بارت كانت عرضة للتشكك الذي كان يقترب من الارتياب. وحتى عندما كان في رحلته، كان المسئولون في لندن قد راودتهم شكوك حول ولائه. تساءلت وزارة الخارجية لماذا كان يرسل رسائله غير المنتظمة إلى سفير بروسيا في لندن وليس إلى الحكومة التي كانت تدفع مقابل حملته؟ لماذا كانت تقاريره تظهر في الدوريات الألمانية قبل أن تصل إلى الجمعية الجغرافية الملكية؟

في نهاية أكتوبر، تلقَّى بارت خطابًا سيئ الصياغة من سكرتير الجمعية الجغرافية الملكية، نورتون شو، يطلب فيه منه تناول العشاء مع بعضٍ من أعضاء الجمعية قبل الخطاب الذي كان من شأنه أن يلقيه هناك. غضب بارت لافتراض شو أن قبوله كان مسلَّمًا به، فردَّ بخطاب شديد اللهجة يقول فيه إنه لن يشارك في مثل هذا الشيء وإنه لن يخاطب أي مؤسسة علمية حتى يكون مستعدًّا لنشر روايته لرحلته، متناسيًا محاضرته أمام الجمعية الجغرافية في برلين. بعد ذلك أصبح شو عدائيًّا على نحوٍ صريح، وتَبِع ذلك عداءٌ محرج استمر حتى العام الجديد، عندما عاد المستكشف إلى لندن. لم تكن هذه هي مشكلة بارت الوحيدة؛ فعلى الرغم من حقيقة أن حملته كانت لأعوام تفتقر إلى المال، فقد نشرت صحف بريطانية عديدة قصصًا عن إنفاقه المفرط المزعوم. وازداد الانطباع بوجود مخالفات مالية، سواء على يد القنصل البريطاني في مرزق، بفزان، الذي اتهمه بالسعي إلى تحقيقِ مصالحَ تجاريةٍ ألمانيةٍ قبل المصالح التجارية البريطانية، ووجد نفسه يتعرَّض للاستجواب من قِبل وزارة الخارجية.

بدأ يتمنى لو أنه لم يَعُد أبدًا. قال لشوبرت: «كم أتوق إلى التخييم في الصحراء، في ذلك الاتساع الذي لا يمكن تخيله حيث، بدون طموحات، وبدون آلاف الأشياء الصغيرة التي تُعَذِّب الناس هنا، أتذوق حريتي وأنا أتقلب في فراشي في نهاية يوم طويل من السير، بينما ممتلكاتي، وهي جمالي، وحصاني، حولي. أكاد أندم أنني وضعت نفسي في هذه الأغلال.»

على سبيل الإلهاء، شغل بارت نفسه بكتابة سرد رحلاته. ظهرت المجلدات الثلاثة الأولى لكتابه «رحلات واكتشافات في شمال ووسط أفريقيا» في أبريل من عام ١٨٥٧، ونُشِرَت بنحوٍ أنيقٍ من قِبَل دار نشر لونجمان، مع رسومات توضيحية ملونة معتمدة على رسومات بارت الأولية. وكان المجمل هو خمسة مجلدات، تضم ٣٥٠٠ صفحة مكتظة بالمعلومات، والتي كانت تمثِّل عملًا عظيمًا بأبعاد هومبولتية. من وجهة نظر جغرافي لاحق، هو اللورد رينيل رود، إن من شأن هذا العمل أن يرفع بارت إلى مرتبة «ربما أعظم رحَّالة زار أفريقيا على الإطلاق»، لكن التقييمات النقدية في ذلك الوقت كانت أقل كرمًا. قال النقاد إنه لا يمكن أن يُتَوقَّع أن يُبقي أي قارئ عادي على اهتمام بالمنطقة على مثل هذا النطاق الهائل. ودللت هذه الاستجابة على الانفصال بين بارت والرأي العام؛ إذ كان يعتقد أن دوره كان توصيل كميات ضخمة من البيانات الجديدة عن أفريقيا، كما فعل معلمه هومبولت، الذي كان قد وضع ثلاثة وعشرين مجلدًا من الملاحظات العلمية من جولته في مناطق أمريكا الإسبانية. لكن الجمهور البريطاني كان معتادًا على قصص مغامرات أقصر كتلك التي كان مونجو بارك قد أصدرها. كانوا قد تلقوا بتلهُّف طبعة تلو طبعة من رواية بارك لرحلته الأولى في أفريقيا، بينما كان من شأن كتاب ديفيد ليفينجستون «رحلات وأبحاث تبشيرية في جنوب أفريقيا» أن يبيع أكثر من خمسين ألف نسخة. على النقيض، باعت المجلدات الأولى من رواية بارت لرحلته أعدادًا قليلة، وطبعت دار نشر لونجمان ألف نسخة فقط من كل مجلد من المجلدين الأخيرين.

لا شيء من ذلك كان سيصبح مهمًّا لو حاز بارت على الإشادة الأكاديمية التي كان يتوق إليها، لكن لم تَعرض عليه أي جامعة بريطانية منصبًا فيها، وحتى كولي كان رافضًا لاكتشافاته، فلم يُشِر على الإطلاق إلى المصادر الجديدة التي كان بارت قد اكتشفها في تقييمه لعمل المستكشِف في دورية «أدنبرة ريفيو»:

من شأن إمبراطورية رائعة وقوية في نيجرولاند، يمتد نفوذها شمالًا إلى الصحراء، أن تكون جديرة بالملاحظة بالقدر الكافي، لو كان يوجد أي إثبات على وجودها. ولكن لا توجد أي براعة في التخمين، ولا أي تكييف لطيف للتقاليد الجافة والهزيلة، يمكن أن يحوِّل هذه الأمجاد الافتراضية إلى تاريخ.

يمكن أن يتجلى المزيد من الإهانة لبارت في معاملة الحكومة لصديقه الشيخ أحمد البكاي. كان بارت قد حثَّ الشيخ التمبكتي على إقامة علاقات دبلوماسية مع الحكومة البريطانية، معتقدًا أن ذلك من شأنه أن يكون في مصلحة الطرفين؛ فمن شأن بريطانيا أن تحصل على شريك تجاري في قلب أفريقيا؛ ومن شأن البكاي أن يحصل على حمايةِ قوةٍ عظمى لتقف بجانب تمبكتو في وجه الفرنسيين الذين كانت ضراوتهم في ازدياد. عمل الشيخ بنصيحة بارت، وأرسل مبعوثِين إلى طرابلس في عام ١٨٥٧ للبدء في مباحثات مع الحكومة البريطانية. لكن بريطانيا وفرنسا كانتا حليفتين في ذلك الوقت، وعندما طلب المبعوثون الإذن بالذهاب إلى لندن، قالت وزارة الخارجية إنه إذ كان الوقت في شهر أكتوبر فمن شأن الطقس أن يكون باردًا على الرجال ذوي الدماء الحارة، وسألتهم هل يمكنهم الانتظار إلى الربيع. فهِم الوفد هذا الرفض على حقيقته، وعاد جنوبًا بينما كتب البكاي خطابًا إلى الملكة فيكتوريا يشتكي فيه بشأن المعاملة التي تلقَّاها وفده.

في العام التالي، عاد بارت إلى برلين، بعد أن ضاق ذرعًا بإنجلترا، آملًا أن يجد التقدير الذي كانت بريطانيا قد عجزت عن تقديمه له. وبدلًا من ذلك اصطدم بصورةٍ طبق الأصل من المشكلة التي كان قد واجهها في لندن؛ إذ استهزأ به البروسيون لعمله لصالح البلد الذي كان في ذلك الوقت يمنع توحيد ألمانيا. ومن جهة أخرى، كان دليله على عمق واتساع نطاق الثقافة والتاريخ في وسط وغرب السودان وموقفه الإيجابي تجاه الإسلام لم يكونا ما أرادت النخبة المثقفة في ألمانيا أن تسمعه في ذلك الوقت. وفي عام ١٨٥٩، رُفض ترشيحه للعضوية الكاملة في الأكاديمية الملكية للعلوم، والتي تُعَد أحد أعلى درجات التكريم في الأوساط الأكاديمية الأوروبية. كان قد عارضه المؤرخ ليوبولد فون رانكه، الذي حاجج بأنه بينما كان بارت بلا شك مغامرًا جريئًا، فإنه لم يكن باحثًا جادًّا.

تابع بارت أسفاره، فسافر إلى إسبانيا، وإلى البلقان، وإلى جبال الألب. وفي عام ١٨٦٥، عاد من إحدى رحلاته ليعرف أن البكاي كان قد لقي حتفه في معركة، وهو يقاتل دفاعًا عن تمبكتو. وفي وقتٍ لاحق من ذلك العام، في الثالث والعشرين من نوفمبر، أُصيب المستكشِف بألمٍ شنيع في بطنه؛ إذ كانت معدته قد انفجرت، على الأرجح نتيجة لاعتلال معوي كان قد أصابه في أسفاره. عاش يومين آخرين وهو يعاني ألمًا مبرحًا قبل أن يموت في الخامس والعشرين من نوفمبر. وكان حينها في الرابعة والأربعين من عمره.

بعد ذلك بقرن تقريبًا، في عام ١٩٥٨، أسندت «الدورية الجغرافية» التابعة للجمعية الجغرافية الملكية لمحاضر شاب من جامعة ليفربول، هو رالف مانسيل بروثيرو، مهمة كتابة تقييم لإسهامات بارت في الاستكشاف الأفريقي. وصف بروثيرو، الذي أصبح لاحقًا أستاذَ جغرافيا بارزًا، كتاب بارت «رحلات واكتشافات» بأنه «من دون شك أعظم إسهام للمعرفة فيما يتعلق بغرب السودان» وعلَّق بأنه كان من الغريب أنه فيما بعد كان قد تعرَّض للتجاهل. أذهلت حقيقة واحدة على وجه الخصوص بروثيرو؛ إذ كان قد فتَّش في فهرس الجمعية الجغرافية الملكية عن كل الدراسات المنشورة في بريطانيا التي كانت قد تناولت عمل بارت. وكان من دواعي دهشته أنه لم يجدْ إلا دراسة واحدة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤