الفصل السادس عشر

كتاب «تاريخ الفتَّاش»

١٩١١–١٩١٣

طيلة ما يقرب من عقدين بعد عودة دوبوا، تلاعب كتاب «الفتَّاش»، «كتاب السودان الشبح»، بعقول مستشرقي باريس. كان دوبوا قد وصف هذا العمل بمبالغة تقليدية بأنه «الأساس الرئيسي لكل التوثيق التاريخي لمنطقة النيجر»، لكن لم يتمكَّن أي أحد من العثور إلا على عدد قليل من القصاصات المتشابهة على نحوٍ ملحوظ. عندما كان أهل تمبكتو يُسألون عنه، كانوا يهزون أكتافهم ويقولون إنه على قدْر علمهم، كانت كل نسخ المخطوط قد أُتلِفَت.

في عام ١٩١١، بعث الحاكم الفرنسي للسنغال العليا والنيجر بالمستكشف ألبرت بونيل دي ميزيير إلى تمبكتو. هناك، عقد بونيل دي ميزيير صداقةً مع العالم سيدي محمد الإمام بن السيوطي، واكتسب من ثقة التمبكتي ما كان كافيًا لأن يُطلِعه على وثيقةٍ ثمينةٍ من مكتبته الشخصية. لم تكن كاملةً، وكان ورقها متفتِّتًا وحبرها باهتًا، ولكن كان يُعتَقَد أنها النسخة الوحيدة الباقية من كتابٍ قديمٍ عن تاريخ السودان. سأله بونيل دي ميزيير إن كان من الممكن أن يحصل على نسخة طبق الأصل منها، فأشرف ابن الأسيوطي على عمل مخطوطة جديدة، والتي أُرسِلَت إلى أوكتاف هودا وبرفقتها رسالة قصيرة توضح أن هذه كانت «تجميعًا لِسِيَر ملوك سونجاي وجزء من تاريخ ملوك السودان قبل مملكة سونجاي»، وأنه كان يُعتَقَد أنها كُتِبَت في القرن الخامس عشر.

كان بمقدور هودا أن يخمِّن من أول نظرة أنها كانت «وثيقة في غاية الأهمية عن تاريخ السودان الفرنسي»، وأنها تمثِّل معلوماتٍ إضافية لتلك التي كانت مُتَضَمَّنة في كتاب «تاريخ السودان». وحيث إن صفحاتها الافتتاحية كانت قد فُقِدَت، كانت المخطوطة تفتقر إلى العنوان واسم مؤلفها، ولكن سرعان ما اتضح لهودا أنها كانت عبارة عن العمل الذي كان دوبوا قد سمع به، وهو «الفتَّاش».

من أجل ملء الفراغات التي في النص، ألحَّ هودا ومساعده موريس ديلافوس على بونيل دي ميزيير أن يعثر على نسخة أخرى. كتب المستكشف إلى ابن السيوطي يطلب مجددًا مساعدته، وأجاب التمبكتي بحسن نية أنه على الرغم من أنه لم يكن لديه أي علم بوجود المزيد من النسخ، فإنه سيرسل إليه نسخته الأصلية. تلقى المترجمان هذه الوثيقة في مايو من عام ١٩١٢، وأسمياها المخطوطة «أ»، بينما أُسمِيَت النسخة باسم المخطوطة «ب». في وقتٍ لاحق من ذلك العام، عُثِر على وثيقةٍ أخرى ونُسِخَت بأمر من المسئول الاستعماري الفرنسي في مدينة كايس. تضمنت المخطوطة «ج»، وهو الاسم الذي أصبحت معروفة به، تمهيدًا وفصلًا مفقودًا من نسخة ابن السيوطي، وحمل العمل بوضوحٍ اسم «تاريخ الفتَّاش»، أو لإعطائه عنوانه الكامل، «تاريخ الفتَّاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر الناس». كان اسم مؤلفه محمود كعت. وبحسب ما أورد كتاب «تاريخ السودان»، كان كعت قد وُلِد في عام ١٤٦٨ وكان صديقًا مقربًا من أسكيا الحاج محمد.

كان لدى هودا وديلافوس الآن ثلاث نسخ مما ظنَّا أنه نفس كتاب التأريخ، «تاريخ الفتَّاش»، وكانت كل نسخة منها لها مشاكلها: فالمخطوطة «أ» كانت الأقدم ولذلك كانت الأكثر أصالة، ولكن أقسامًا كاملةً منها كانت مجتزأة أو مفقودة. أما النسخة «ب» فكانت مجرد صورة طبق الأصل من المخطوطة «أ». أما المخطوطة «ج» فكانت كاملة واحتوت على فقرات كثيرة كانت غير واردة في المخطوطتين الأخريين، لكنها كان مليئة بأخطاء جسيمة، كانت ترجع من ناحية إلى أن الناسخ المعاصر لم يكن يتقن اللغة العربية إتقانًا تامًّا، ومن ناحية أخرى إلى أن المخطوطة التي كانت مستمدة منها كانت تالفة جدًّا حتى إن أقسامًا منها كانت قد أصبحت غير مقروءة.

عند القراءة الدقيقة للوثائق، واجه المستشرقان لغزَين محيرَين. بدا أن الأول كان دليلًا على ما كان قد قيل لدوبوا في تمبكتو، وهو قمع أحمد لوبو، سلطان ماسينا، لكتاب التأريخ. إذ بينما كانت الصفحات الافتتاحية المتضررة للمخطوطة «أ» تسجل نبوءات متنوعة بشَّرت بمجيء الخليفة الثاني عشر للسودان، نصَّت بداية المخطوطة «ج» على أن الخليفة أحمد سوف يأتي إلى ماسينا في بداية القرن التاسع عشر. كان هذا مريبًا للغاية؛ فما مدى احتمالية أن تأريخًا بُدِئ في القرن السادس عشر سيحدد بوضوح شديد أن الخليفة هو نفسه سلطان القرن التاسع عشر الذي زُعِم أنه قد قمعه؟ اعتبر هودا وديلافوس أن هذا دليل قاطع على أن هذه الفقرة من المخطوطة «ج» كانت قد زُوِّرَت، وأن أحمد لوبو كان بالفعل قد أمر بأن يُتلاعَب في كل نسخ «تاريخ الفتَّاش» أو أن تُدَمَّر لخدمة مصالحه السياسية.

كان اللغز الثاني لغزًا متعلِّقًا بالمؤلف. ذكرت المخطوطة «ج» أن المؤرخ هو كعت، ولكن سرد «تاريخ الفتَّاش» ينتهي في عام ١٥٩٩، عندما كان سيبلغ من العمر أكثر من ١٣٠ عامًا. كيف يمكن أن يكون قد كتب عن أحداثٍ جرت بعد وفاته؟ خمَّن المستشرقان أنه لا بد أن يكون أحد أحفاده هو الذي أنهى التأريخ، الذي جُمِّع من أوراقٍ كان قد خَلَّفَها وراءه هو وأبناؤه. ومِن ثَمَّ كان «تاريخ الفتَّاش» نتاج تعاون بين ثلاثة أجيال: «كان المحرر الفعلي للعمل هو حفيد محمود كعت، بينما كان الجد هو الذي ألهم به.» كان هذا الحفيد المجهول، الذي تحدَّد لاحقًا أنه «ابن المختار»، هو الذي كان من شأنه أن يكمل العمل في حوالي عام ١٦٦٥.

كانت ألغاز كتاب «تاريخ الفتَّاش» على أحسن الفروض قد حُلَّت جزئيًّا، لكن المؤلفَين شعرا بأن بمقدورهما مع ذلك توليف نسخة كاملة. نشرا نسختهما المجمَّعة من الكتاب — باللغة العربية ومترجمة إلى الفرنسية — في عام ١٩١٣. وسرعان ما اعتُبِر كتاب «تاريخ الفتَّاش» أهم اكتشاف فيما يتعلق بتاريخ المنطقة منذ كتاب «تاريخ السودان»، ونُظر إليه باعتباره قطعة رئيسية في أحجية فهم الحياة أثناء العصر الذهبي لتمبكتو.

بعد حمدلة استهلالية، تبسط نسخة هودا وديلافوس من كتاب «تاريخ الفتَّاش» آيات إجلالها لأسكيا الحاج محمد. أما كراهية كُتَّاب الكتاب لسلفه، سُني علي، فلا تكاد تعرف حدًّا؛ فكان «الملعون» مسلمًا ضعيف الإسلام اقترف «بدعًا فاضحة» و«أفعالًا وحشية دموية» مع الناس واضطهد علماء تمبكتو. لا يمكن للتناقض بينه وبين أسكيا الحاج محمد أن يكون أوضح من هذا. تتدفق كلمات كتاب «تاريخ الفتَّاش» كما يلي: «من الصعب أن نحصي الفضائل والصفات الكثيرة [لأسكيا الأول]، والتي منها مهاراته السياسية الممتازة، وكرمه تجاه رعاياه وانشغاله بالفقراء. لا يمكننا أن نجد نظيره في أي حاكم جاء قبله أو بعده.»

يبدو أنه يوجد سبب جلي في أن كلا كتابي التأريخ انهالا بالمديح على هذا المغتصب لعرش سونجاي؛ ففي حكمه ازدهرت تمبكتو كما لم يحدث من قبل. بحسب كتاب «تاريخ الفتَّاش»، كان هذا نتيجة انسجام حدث بين الإمبراطور وتمبكتو. في عامي ١٤٩٨-١٤٩٩، عُيِّن محمود حفيد محمد آقيت في منصب قاضي المدينة. كان في الخامسة والثلاثين من عمره فحسب، وكان أول شخص من نسل آقيت يصل إلى هذا المنصب الأكثر نفوذًا في التسلسل الهرمي الوظيفي في المدينة، وظل في هذا المنصب مدة خمسة وخمسين عامًا.

يحكي كتاب «تاريخ الفتَّاش» أنه في أحد الأيام، أتى أسكيا الحاج محمد إلى تمبكتو ليحتج لدى محمود على عدم إطاعته لأوامره. فتوقف خارج المدينة، وركب القاضي بشجاعة خارجًا إلى معسكر الإمبراطور. بدأ أسكيا اللقاء بسلسلة من الأسئلة الموجهة: هل كان القاضي محمود بطريقةٍ ما أفضل أو أَجَلَّ من كل أسلافه العظماء، الذين بدأ يعدِّدهم وكانوا قد أطاعوا ملوك سونجاي السابقين؟ فأجاب القاضي محمود بالنفي في كل مرة. فسأله أسكيا: فلماذا إذن طرد مرارًا وتكرارًا رسل الإمبراطور دون أن يفعل ما قيل له؟ أجاب الشيخ بانتهار:

هل نسيت أم تناسيت يوم جئتني في داري وأخذت برجلي وثيابي فقلت: «جئت أدخل في حرمتك وأستودعك نفسي أن تحول بيني وبين جهنم. فانصرني وأمسِك بيدي حتى لا أقع في جهنم. وأنا وديعتك.» فهذا سبب طردي رسلك ورد أمرك.

كان سني علي دون شك سيقتل القاضي في التو واللحظة عقابًا له على صفاقته، لكن أسكيا الحاج محمد كان رجلًا متدينًا وبدلًا من ذلك قال: «نسيت ذلك والله!» وحيث إن القاضي محمود كان قد ذكَّره بواجبه الديني، فقد استحق مكافأة سخية:

أطال الله إقامتك بيني وبين النار وغضب الجبار. فأنا أستغفر الله وأتوب إليه. وحتى الآن أنا وديعتك آخذ بذيلك. فاثبت في هذا المكان، ثبَّتك الله وادفعن عن نفسي!

بعد ذلك ركب الإمبراطور حصانه ورجع «فرحًا مسرورًا»، بحسب ما أورد كتاب «تاريخ الفتَّاش».

طيلة المائة السنة التالية سيعيش حكام سونجاي في كنف الحماية الروحية لعلماء تمبكتو، بينما وُفِّرَت للمدينة بدورها الحماية الدنيوية من جانب أباطرة جاو. كان هذا زمن الازدهار، الفترة التي ستحظى فيها تمبكتو باشتهارها كمدينة عظيمة للعلماء. في عهد القاضي محمود، أُعيد تنظيم أبنية المدينة الرئيسية ووُسِّعَت، وفي ذلك مسجد جينجربر. كانت مكانًا مسالمًا — كانت مكانًا هادئًا جدًّا، بحسب كتاب «تاريخ الفتَّاش»، حتى إن المرء يمكن أن يمر بمائة رجل من أهلها، فلا يجد مع أحد منهم حريشًا ولا سيفًا ولا مديةً — وكبيرًا؛ إذ كان يوجد ما يكفي من السكان لإعالة ستة وعشرين بيتًا من بيوت الخياطة، التي كان يشرف على كلٍّ منها شيخٌ رئيسٌ مُعَلِّم عنده من المتعلمين نحو خمسين. انتقلت أعداد كبيرة من العلماء وطلبة العلم إلى تمبكتو، فتضخم المجتمع الأكاديمي ليصل إلى حجمٍ غير مسبوق ويملأ ما بين ١٥٠ و١٨٠ مدرسة لتحفيظ القرآن، التي كان بكل منها عشرات وحتى مئات من التلاميذ. إحدى هذه المدارس، التي كانت تابعة لشخص يُدعى علي تكريا، كان بها ما بين ١٧٣ و٣٤٥ تلميذًا، بحسب كتاب «تاريخ الفتَّاش»، الذي ذكر أنه كان يوجد من ألواح الصبيان ١٢٣ لوحًا يتدرَّب عليها التلاميذ على الكتابة في عَرَصَةِ داره، تكفي لأن تكون جملة القرآن محصلةً فيها. من شأن هذه الأعداد أن تُستخدَم لوضع تقديرات بأنه كان يوجد ٢٥ ألف تلميذ في تمبكتو في هذا الوقت، ولكن بحساب أكثر اتزانًا يمكن أن نقدر أن عدد تلاميذ المرحلة الابتدائية كان أربعة إلى خمسة آلاف، وأن تعداد المدينة لم يكن يزيد عن خمسين ألفًا. ومع ذلك، كان من شأن هذا أن يجعلها مدينة عالمية كبيرة في بداية القرن السادس عشر.

كان للأدب سيطرةٌ غير عادية على هذا المجتمع، الذي عانى من «ولع شديد باقتناء الكتب»، على حدِّ تعبير أحد الأكاديميين. في ثقافة متقشفة كان فيها متاع الدنيا مستهجنًا، صار استيراد المخطوطات ونسخها إحدى صور الهوس المستحوذة على النخبة؛ فكان من شأنهم أن يتوددوا إلى الزوار على أمل أنهم قد يكون بحوزتهم عمل جديد يمكن شراؤه أو استعارته، بينما أدت زيادة الطلب إلى رفع أثمان الكتب إلى مستوياتٍ مُبالَغ فيها. يروي كتاب «تاريخ الفتَّاش» أن أسكيا داود، خلف أسكيا محمد، ساعد محمود كعت في شراء قاموس نادر بقيمة ثمانين مثقالًا، أو ما يعادل تقريبًا ٣٤٠ جرامًا من الذهب، وهو ما سيساوي ١٦ ألف دولار أمريكي بأسعار وقتنا الحالي. كان يوجد كتب أرخص تُباع في تمبكتو — بِيع مجلدٌ واحدٌ مستعملٌ من كتاب عنوانه «شرح الأحكام» مقابل ما يزيد قليلًا عن أربعة مثاقيل — وربما كان القاموس الذي ثمنه ثمانون مثقالًا مزخرفًا زخرفة جيدة خاصة ويتألف من مجلدات متعددة. يحكي كتاب «تاريخ الفتَّاش» عن قاموسٍ آخر كان مملوكًا لأحد التمبكتيين وكان يضم ثمانية وعشرين مجلدًا. أدَّى الطلب على الكتب إلى قيام صناعة نسخ احترافية كبيرة في المدينة وفي الإمبراطورية عمومًا. عَيَّن أسكيا داود نُساخًا لديه لنسخ المخطوطات وكثيرًا ما كان يقدِّم هذه المخطوطات إلى العلماء كوسيلة لكسب الحظوة والنفوذ في تمبكتو.

يمكن العثور على معلومات مفصلة عن الكيفية التي كانت تُنتَج بها الكتب في حَرْد المتن، وهو التوصيف القصير لأصل المخطوطة الذي كان يُدرَج عادةً في نهاية الكتاب. يصف حَرْد المتن لستة مجلدات من نسخة من القرن السادس عشر لقاموس «المحكم» لابن سِيدَه قائمة بالمدفوعات والمواعيد النهائية، مما يبين أن النَّسَّاخ الذي كان يعمل بدوام كامل كان يحتاج إلى ثلاثة وعشرين يومًا لنسخ مجلدين من الكتاب، بمجموع ١٧٩ مطوية (ورقة). كان يوجد تسعة عشر سطرًا من النصوص في الصفحة؛ لذا كان النسَّاخ يكتب في المتوسط ٢٨٥ سطرًا من النصوص في اليوم. استغرق نَسَّاخ آخر تسعة عشر يومًا إضافية ليضيف التشكيل من أجل النطق السليم لهذه المجلدات، بمعدل ٣٠٠ سطر من النصوص تقريبًا في اليوم. عادةً ما كان يُدفَع للنسَّاخ مثقال واحد في الشهر، بالإضافة إلى ذلك كان نصف مثقال يُدفَع لمصححٍ مُلِمٍّ بالموضوع، والذي كان يصحح الأخطاء. كانت تكلفة العمالة وحدها لعمل كبير مثل «المحكم» تصل إلى حوالي واحد وعشرين مثقالًا، أو تسعين جرامًا من الذهب، وتُضاف أيضًا إلى ذلك تكلفةُ الورق التي كان يجب أخذها في الاعتبار؛ إذ كان غالي الثمن، لأن معظمه كان يُستَورَد من شمال أفريقيا ومصر. كان من المرجح أن يكلف الورق المستخدم في أي مجلد كبير خمسة مثاقيل أو أكثر.

نتج عن ولع تمبكتو باقتناء الكتب أن أعدادًا كبيرةً من المخطوطات تكدست في المدينة. لم تكن هذه المخطوطات تُجمَع في مكتبات عامة من قبيل تلك التي كانت موجودة في مراكز التعليم الإسلامي الأخرى مثل بغداد أو القاهرة؛ إذ كان مسجد الأزهر يتباهى بأنه يضم عشرات الآلاف من المخطوطات بالإضافة إلى نطاق مذهل من الخدمات للقراء. في تمبكتو، كانت المجموعات مملوكة لعائلات علمية، كان من شأنها أن تعيرها بسخاء إلى الزملاء والطلاب. ربما كان غياب المجموعات العامة يعكس حقيقة أن العلماء في تمبكتو أتوا من النخبة الثرية — مع وجود استثناء ملحوظ هو فئة «الألفة» — لذا لم يكن القراء العاديون بحاجة إلى الوصول بانتظام إلى الأعمال الأصعب التي لن يفهموها. ومع ذلك، تنامت المجموعات الخاصة حتى وصلت لأحجام هائلة. تألفت مكتبة أحمد بابا الشخصية، التي ذكر أنها كانت «الأصغر بين مكتبات أي من أقربائي»، مما لا يقل على ١٦٠٠ مجلد، بينما وصلت مكتبة أحمد عمر إلى ما يقرب من ٧٠٠ مجلد وقت وفاته. يتضح اتساع نطاق القراءة المتاحة في تمبكتو أيضًا من استشهادات في أعمال أخرى كُتِبَت في المدينة. كتب العالم التمبكتي أحمد ابن أند آغ محمد رسالة في النحو استُقيت من أربعين عملًا آخر، بينما استشهد قاموس تراجم بابا بثلاثة وعشرين مصدرًا مالكيًّا.

بحلول النصف الثاني من القرن السادس عشر، كانت عجائب وروائع تمبكتو قد وصلت إلى آفاقٍ كان يستحيل حصرها، بحسب «تاريخ الفتَّاش». لم يكن لها نظير في بلاد السودان:

فتنبكت يومئذٍ لا نظير لها في البلدان من بلاد السودان إلى أقصى بلاد المغرب من بلاد مل [مالي]، مروءة وحرية، وتعففًا وصيانة وحفظ العرض، ورأفة ورحمة بالمساكين والغرباء وتلطفًا بطلبة العلم وإعانتهم.

لذا عندما حلَّت النهاية كانت صدمة هائلة.

•••

حكم أسكيا الحاج محمد ستًّا وثلاثين سنة قبل أن يعزله ابنه موسى في الخامس عشر من أغسطس من عام ١٥٢٩. بعده جاء تعاقب من أناسٍ حملوا لقب أسكيا: محمد بُنكن، وإسماعيل، وإسحاق الأول، وداود، والحاج، ومحمد بان، وإسحاق الثاني، ومحمد كاع، ونوح. ومع أن تمبكتو استمرت في الازدهار في ظل حكمهم، لم يقترب إلا داود من نيل الثناء الذي انهال به مؤرخو المدينة على أسكيا الأول، وبمرور الزمن دخلت الإمبراطورية في طور الانحطاط. يسجل كتاب «تاريخ السودان» أن الناس «بدلوا نعم الله كفرًا وما تركوا شيئًا من معاصي الله تعالى إلا وارتكبوها جهرًا من شرب الخمور ونكحة الذكور والزنى.» واستسلموا للغاية لهذه الرذيلة الأخيرة حتى إن المرء كان سيحسب أن هذا الأمر لم يكن محظورًا، بحسب ما يسجل كتاب «تاريخ السودان»، وحتى أبناء السلاطين ارتكبوا زنا المحارم مع أخواتهم.

ومع ذلك كان الأمر الأخطر أن الإمبراطورية كانت آخذة في التخلف عن جارتها الشمالية، المغرب. كانت سلالة السعديين التي حكمت ذلك البلد تقاتل الغزاة البرتغاليين، والإسبان، والعثمانيين لقرون، وكانت حتى قد عقدت تحالفًا مع إنجلترا ضد إسبانيا. كانت النتيجة هي مجتمع عسكري كانت قواته مدربة جيدًا ومسلحة بمدافع إنجليزية، والذي كان قد اتبع استخدام بنادق المسكيت والقربينة (الهركوبة)، مستعينًا في استخدامها بالمرتزقة و«المرتدين»؛ وهم عصابات من المساجين والهاربين المسيحيين الذين تحولوا إلى الإسلام.

كان سلطان السعديين هو أحمد المنصور، الذي كان رجلًا هادئًا ذا طموح هائل وميل إلى الانفجار في نوبات من الغضب الشديد. زعم هو الآخر أنه الخليفة الثاني عشر، وحيث إن دور الخليفة كان استعادة وحدة العالم الإسلامي، كان يتعين على الحكام المسلمين للممالك السودانية أن يخضعوا له ويسلموه ثروتهم. كان بالفعل قد أنفق مبالغَ طائلة على «القصر الذي لا مثيل له» المترف في مراكش، ذي الأسقف المذهبة والأرضيات الرخامية، وتعيَّن عليه أن ينفق المال على أعداد كبيرة من الجنود، والجواسيس، والعملاء. بدأ بمطالبة الأسكيين بدفع خراج على كل حمولة من الملح كانت سونجاي تستخرجها من المناجم في الصحراء بالقرب من مدينة تاغزة، التي تقع في منتصف المسافة تقريبًا بين تمبكتو ومراكش؛ ففي نهاية المطاف، كانت جيوشه هي التي أبقت منطقة جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية آمنة من المسيحيين. فقبَّح أسكيا إسحاق الثاني للمنصور في الجواب، مرسلًا له رمحًا ونعلين من حديد. كان المقصود ضمنيًّا من الهدية أنه حتى يبلى نعل السلطان من الجري، لن يكون في مأمن أبدًا من رماح سونجاي. حينئذٍ أصبح لدى السلطان ذريعته للحرب، واختار مخصيًّا قصيرًا أزرق العينين يُدعى جَودار لينفذ خطته.

مُنِح جودار أعتى قوة أُرسِلَت على الإطلاق عبر الصحراء الكبرى: كانت تتألف من جيش نخبة ومتطور من أكثر من أربعة آلاف جندي، من بينهم ألفان من المرتدين المسلحين ببنادق القربينة، وخمسمائة من الرجال المسلحين على صهوة الخيل، وسبعون من المرتزقة المسيحيين المسلحين بالبنادق القصيرة، وألف وخمسمائة من الخيالة المغاربة. كان معهم أيضًا هاونات ومدافع وحملوا معهم مائة وخمسين طنًّا من البارود في قافلة متاع كانت بطول عشرة آلاف جمل. تفاخر السلطان قائلًا إن غزوة السودان ستكون «سهلة»؛ لأن السودانيين لم يكن لديهم ما يقاتلون به إلا الرماح والسيوف.

بلغ المغاربة منحنى نهر النيجر في منتصف الطريق بين جاو وتمبكتو في الثامن والعشرين من فبراير من عام ١٥٩١، وأخذوا إسحاق الثاني على حين غرة. سارع الأسكيون إلى جمع قوة كبيرة تلاقت مع المغاربة عند تونديبي، التي تقع على بُعد ثلاثين ميلًا شمال جاو، بعد أسبوعين. ساق السونجاي ألف رأس من الماشية إلى العدو، ولكن عندما سمعت البهائم أصوات إطلاق النار، ارتدت متشتتة في فرار جماعي مخترقةً صفوف السونجاي، وبعد ذلك انكسر الأسكيون «في طرفة عين»، بحسب ما أورد كتاب «تاريخ السودان». فرَّ إسحاق، وسار جودار بجيشه نحو جاو. عرض أسكيا بنود السلم: وهي أن يتعهد بالولاء للمنصور، ويسلِّمه حقوق تجارة الملح، ويعطيه مائة ألف مثقال من الذهب وألف عبد. أجاب جودار بأنه سيرسل البنود إلى السلطان ليأخذ منه الموافقة.

بعد ذلك تقدَّم جودار إلى تمبكتو، ودخل المدينة في الثلاثين من مايو. مضى مباشرة إلى القاضي، الذي كان في هذا الوقت عمر الطاعن في السن، ابن القاضي محمود، وأخبره بأنه يحتاج إلى «رحبة واسعة فنبني بها قصبتنا [حصننا] وندخل فيها، إلى أن يأتيني أمر السلطان بالرجوع إليه»، بحسب ما أورد كتاب «تاريخ الفتَّاش». بعد ذلك أخرج رجال جودار السكان من حي التجار الأثرياء، «وهجموا عليهم بالكلام القبيح والانتهار والضرب»، قبل أن يشرعوا في العمل ويضموا المنازل لتشكيل قصبة. أرغم الجنود جميع مَن وجدوهم في الشوارع على العمل في البناء، بينما أُمر تجار المدينة بإخراج كمية كبيرة من الحبوب.

جاء العمل القسري ومصادرة الطعام بمثابة صدمة للمدينة المقدسة، التي كانت محل تبجيل لقرن من الزمان. كتب مؤلفو كتاب «تاريخ الفتَّاش» يقولون: «لا فتنة أعظم ولا أكبر على أهل تنبكت ولا أَمَرَّ منها»:

ولا يُحاط باطراد ما نزلت بتنبكت من المصائب والإتلاف عند نزولهم [المغاربة] بها. ولا يحصروا مما أحدثوه فيها من الزور والكبيرة.

ومع ذلك، لم تكن هذه إلا البداية.

عندما تلقَّى السلطان رسالة جودار التي تحدِّد الخطوط العريضة لاتفاق السلام، غضب غضبًا شديدًا واستبدل به رجلًا من شأنه أن يقضي على السونجاي للأبد. كان هذا الرجل قائدًا سابقًا للمرتدين، ذا مزاج متقلب، واسمه محمود بن زرقون. وصل الباشا محمود إلى تمبكتو في السابع عشر من أغسطس من عام ١٥٩١، وتولى قيادة قوة السلطان، وعلى الفور انطلق شرقًا وجودار في عقبه، مطاردًا بقية السونجاي. وأثناء غيابه الذي دام سنتين، ثارت تمبكتو على الحكم المغربي، وفي خريف عام ١٥٩٣، عاد محمود ومعه خطة موضوعة بعناية لمعاقبة الرجال الذين اعتقد أنهم كانوا يساندون التمرد سرًّا طول الوقت؛ العلماء ورجال الدين بالمدينة. أمر بالقبض على اثنين من كبار أشراف المدينة وإعدامهما، وأعلن أنه يجب على الناس أن يأتوا إلى مسجد سانكوري في مجموعات لتجديد البيعة للسلطان. في اليوم الأول كان دور التجار من بلدات الواحات في الصحراء الكبرى، وفي اليوم الثاني كان دور الناس من بلدات القوافل في الغرب. في اليوم الثالث، الموافق العشرين من أكتوبر، وهو تاريخ وصفه أحمد بابا بأنه يوم الخراب، كان دور العلماء.

عندما جاءت اللحظة، أحضروا المصحف وكتب الحديث إلى مسجد سانكوري واصطف صفوة رجال الحياة الفكرية في تمبكتو في الداخل. وُضِع رجال مسلحون على المخارج وعلى سطح المبنى، وغُلِّقَت الأبواب، وكُبِّل الفقهاء وبعد ذلك سُحِبوا إلى الخارج، واحدًا تلو الآخر. أمر محمود بأن يُؤخذ الأسرى مشاةً عبر المدينة إلى قصبته في فريقين. أُركِب القاضي عمر، الذي كان شيخًا كبيرًا للغاية ولا يقدر على السير، على حمار صغير اقتيد عبر وسط المدينة، بينما سلك فريق ثانٍ طريقًا شرقيًّا حول المدينة. بالقرب من مسجد سيدي يحيى، استل أحد الأسرى سيف أحد الرماة وهاجمه به، وعندئذٍ بدأ رجال السلطان موجة من التقتيل، فقطعوا رءوس السجناء المحيطين بهم. قُتِل أربعة عشر من التمبكتيين على الفور، وفي ذلك تسعة علماء من سانكوري.

يروي كتاب «تاريخ الفتَّاش» أن القاضي عمر كان مع خادم يمسك مقاليد داره عندما أُبلِغ بخبر المذبحة. انخرط الخادم في البكاء، فضربه جندي مغربي بالسيف فقتله على الفور. عندئذٍ بدأ القاضي يضحك. عندما سُئل عن سبب ذلك، أجاب: «كنت أحسب أنا خير من هذا الغلام فظهر فضله عليَّ الآن، وقد سبقني إلى الجنة.» وُضِع بقية العلماء تحت الحراسة في القصبة، بينما مضى جنود الباشا محمود يفتشون في منازلهم، ويأخذون كل ما له قيمة. سجل السعدي في كتاب «تاريخ السودان»: «ونهب أتباعه ما اتصلوا بها [أي كل ما وقعت عليه أيديهم من ممتلكاتهم] وكشفوا عوراتهم وجردوا حرائرهم، وفعلوا بهن الفواحش.» وكان من ضمن ما نُهِب مكتبة أحمد بابا الكبيرة.

وبعد أن بقي العلماء محبوسين في القصبة مدة خمسة شهور، أُمر بأن يؤخذ العلماء الذين اعتُبِروا خطرين — الذين كان معظمهم من أفراد عائلة آقيت — عبر الصحراء إلى مراكش مع أُسَرِهم. أُرسِل ما كان جملته سبعين أسيرًا مكبلين بالسلاسل. كانت الرحلة شاقة على العلماء الذين لم يكونوا يهتمون بمتاع الدنيا؛ وفي إحدى مراحلها، سقط أحمد بابا، مثقلًا بأغلاله، من على جمله، وكُسِرَت رجله. بلغوا مراكش في الحادي والعشرين من مايو، من عام ١٥٩٤، وأُودِعوا السجن. ومات القاضي عمر الطاعن في السن هناك.

بعد عامين، أُطلِق سراح الأسرى الباقين على قيد الحياة وأُودعوا في شكل من أشكال الإقامة الجبرية، وسُمِح لأحمد بابا بمقابلة السلطان. وجد الحاكمَ العظيمَ محتجبًا عن أنظار البشر العاديين بستار، ورفض أن يتكلم معه حتى أُزيح الستار؛ إذ قال بابا إنه بالكلام من وراء حجاب، كان المنصور يتشبه بالله. عندما أذعن السلطان لطلبه، سأله بابا السؤال الذي لا بد أنه كان يعتمل بداخله لسنوات: «أي حاجة لك في نهب متاعي وتضييع كتبي وتصفيدي من تنبكت إِلَى هُنَا؟» أجاب المنصور بأن هذا جزء من سعيه لتوحيد العالم الإسلامي وأنه بما أن بابا كان واحدًا من أعيان المسلمين في بلده، فإن إذعان بقية مملكة سونجاي من المؤكد أنه سيتبع إذعانه.

كان العقد الذي أمضاه بابا في العاصمة المغربية هو أغزر المراحل إنتاجًا في حياته العملية. أصبح مشهورًا بصفته فقيهًا ومدافعًا عن حقوق الإنسان، وذاع صيته في سائر أنحاء المغرب. فكان يُعَلِّم النحو، والبلاغة، والتوحيد، والفقه المالكي، وكتب بغزارة: إذ كُتِب ستة وخمسون كتابًا من أعماله المعروفة في هذه الفترة. لكنه كان يشتاق إلى وطنه، كما تحكي قصيدة كتبها في المغرب:

أيا قاصدًا كاغو [جاو]، فعج نحو بلدتي
وزَمزِم لهم باسمي وبلغ أحبتي
سلامًا عطيرًا من غريب وشائق
إلى وطن الأحباب رهطي وجيرتي.

في عام ١٦٠٧، عندما كان السلطان قد مات، سُمِح لأحمد بابا بأن يغادر مراكش. وصل إلى تمبكتو في العام التالي وكان الوحيد من الفقهاء المبعدين الذي رأى مدينته الأم مجددًا. عاش هناك تسعة عشر عامًا أخرى، يُعَلِّم ويكتب، وتوفي في الثاني والعشرين من أبريل من عام ١٦٢٧.

خلَّده علم تمبكتو؛ فقد كُتبَت كتب التراجم والتاريخ، في نهاية المطاف، بعد وفاته. ولكن الدمار الذي خَلَّفه الباشا محمود كان قد خرَّب المدينة، بنص كلمات كتاب «تاريخ الفتَّاش»:

صارت تنبكت جسمًا بلا روح. وانعكس أمورها وتغيَّر حالها وتبدَّل عوائدها. ورجع أسفلها أعلاها وأعلاها أسفلها. وساد أرذالها على عظمائها. وباعوا الدين بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى. وعُطِّل أحكام الشريعة، وأُميتَت السُّنَّة وأُحيِيَت البدع، ولا بقي فيها مَن يتمسك بالسنة، ولا مَن يسير على منهج التقوى في ذلك الوقت، سوى محمد بغيغ بن أحمد وحده.

قبل مائتي سنة تقريبًا من إرسال الرابطة الأفريقية أولَ مستكشِف لها إلى الجنوب، كانت تمبكتو قد بدأت في انحطاطها الطويل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤