الفصل الثالث

الجحيم ليس ببعيد

مارس ٢٠١٢

بحلول عام ٢٠١٢، كانت تمبكتو التي عرفها حيدرة في شبابه قد تبدلت متبعةً الطرق الحديثة المعتادة. كانت حينئذٍ مكانًا يحوي شاحنات تنخر وعوادم ديزل، وسيارات رباعية الدفع ودراجات بخارية ملوِّثة للبيئة، وأضواء كهربائية، وأجهزة تليفزيون ذات شاشات بلازما مسطحة بمقاس أربع وخمسين بوصة وبها مائة قناة فضائية تعيد عرض أفلام «ستار تريك». كانت لوحات الشوارع الإعلانية تعلن عن كوكاكولا وخدمات الهواتف المحمولة بنظام الدفع المسبق، بينما كان المتسوقون الذين يرتدون سراويل الجينز والتيشيرتات يفحصون الملابس الشبابية في متجر هارلم الخاص بألمادو ديكو ومركز فيكتوريا التجاري بما فيه من «موضات الملابس الجاهزة». كان احتمال أن يرتدي الأطفال الذين يلعبون في الشوارع قمصان فريقَي برشلونة وريال مدريد المخططة يضاهي احتمال أن يرتدوا قمصان منتخب مالي بألوانها الحمراء والخضراء والذهبية.

ولكن حتى ذلك الوقت ظلت بعض الأشياء كما كانت دومًا. كانت أوقات الأعياد لا تزال تُحسَب تبعًا للتقويم القمري، والأيام تُضْبَط في الأغلب تبعًا لارتفاع الشمس وتُحدَّد أوقاتها تبعًا لمواقيت الصلاة. فقبل ساعة من شروق الشمس، كان المؤذن يؤذن لصلاة الفجر، فيتوضأ المؤمنون متخلصين من نعاسهم ويصلُّون متوجهين صوب الشرق. كانت النساء اللواتي كن يتولين إدارة مخابز المدينة يُلَقِّمْن الأفران العامة المبنية في كل زاوية شارع بحلقات مسطحة من العجين، ويملأن الهواء بالروائح العتيقة للدخان الناتج عن حرق الخشب وصنع الخبز. وكانت الحمير لا تزال تجرُّ العربات، وكانت الماعز والأغنام لا تزال ترعى وسط بقايا الطعام في الشارع، بعدما أُطْلِقَت من حظائرَ مصنوعةٍ من عصي وحبال ومن — ويا له من ابتكار — سيور مراوح السيارات القديمة.

وعند النهر، كان متعهدو النقل ينزلون من القوارب حاملين حمولات في طريقها إلى السوق الكبير. وفي الطريق إلى المدينة كانوا يمرون بمزارعين يحرثون حقولهم ونساء ينفضن غسيلهن ويضعنه على الشجيرات ليجف. ومع أن ألواح الملح كانت تُجلَب بالشاحنات هذه الأيام، فقد كانت لا تزال تُعرَض للبيع في السوق الصغير، إلى جانب الأسماك الطازجة والمجففة، ولحم الماعز، والضأن، والبقري، والجملي.

بعد صلاة الضحى، كان أهل تمبكتو يعودون للبيت لتناول الطعام، وبعد ذلك، عندما تكون الشمس قد وصلت إلى ذروتها الشديدة، كانوا يجدون لأنفسهم مكانًا ظليلًا ليناموا. وعند وقت صلاة العصر كانوا يستيقظون ويعودون للعمل حتى وقت صلاة المغرب، عند الغسق. وكان من عادتهم بعد ذلك، في المساء العليل، أن يمضوا للقاء أصدقائهم، ليتبادلوا أحاديث النميمة، ويشربوا الشاي، ويعزفوا الموسيقى، ويلعبوا ألعابًا، ويتحدثوا في السياسة والشعر حتى وقت صلاة العشاء، وعندئذٍ كانوا يستعدون للنوم.

طيلة أسابيع، كان الحديث عن الأزمة قد استحوذ على هذه التجمعات المسائية. كان قلة من الناس في الأيام الأولى من العام قد اعتقدوا أن من شأن القتال أن يصل إلى تمبكتو. وفي يناير، سأل محمد دياكيتي، وهو موظف كبير في معهد أحمد بابا، النصيحة من جندي صديق له: هل ينبغي أن يُبقي عائلته هنا أم يتوجه إلى بلد أكثر أمانًا في الجنوب؟ أجاب الجندي قائلًا إنه لن يكون ثمَّة مشكلة في تمبكتو. فالمدينة نفسها ستظل آمنة. ومع ذلك، بعد ذلك بفترة، بدأت وجهة نظر الجندي في التغير. كانت الأمور قد انحرفت عن مسارها، وكشأن الجميع كان لديه الآن «القليل من الخوف.»

ثم بدأت الأمور تتغير بسرعة كبيرة. وبدا الأمر لدياكيتي غير حقيقي، وكأنه حُلْم.

في يوم الخميس، التاسع والعشرين من مارس، بعد أسبوع من الانقلاب في باماكو، أعلن كبراء المدينة عن اجتماع في فدان الرمال الواسع بجوار مسجد سانكوري ليحاولوا توحيد صفوف المجتمعات المحلية خلف الميليشيا العربية في المدينة، قوة دلتا. دُعي الناس من كل مجموعات تمبكتو العرقية — السونجاي، والفولانيين، والبامبارا، والطوارق، والبيلا، والدوجون — لتقديم أي شيء بوسعهم توفيره لدعم المقاتلين الذين كانوا حينئذٍ معقد أملهم. فقدموا مالًا، وحبوبًا، وماشية، ولفاتٍ من القماش، وقُدِّم كل ذلك مع إظهار قدْر عظيم من التضامن، وشعروا بالأمان بقدر أكبر قليلًا.

في اليوم التالي، عادت الأنباء تأخذ منعطفًا سيئًا. كانت بلدة كيدال، التي كانت تضم حامية عسكرية وتقع في أقصى الشمال الشرقي، قد سقطت في قبضة المتمردين. سرت موجةٌ جديدةٌ من الخوف عبر تمبكتو، وبدأ الناس يحزمون أمتعتهم ليتحركوا جنوبًا. وفي صباح ذلك اليوم، قال مدير معهد أحمد بابا، محمد غالا ديكو، لموظفيه السبعين أن يأخذوا معهم إلى البيت قدر ما يستطيعون من معدات المؤسسة المكتبية. إذا سقطت تمبكتو، فعلى الأقل لن تُنهَب أجهزة الكمبيوتر، والكاميرات، ومحركات الأقراص الصلبة. البعض، مثل الباحث، القاضي معيجا، لم ينزعج؛ فقد كانت كيدال بلدة نائية في منطقة صراعات؛ موقع أمامي أكثر عرضة للخطر من تمبكتو ذات الشهرة العالمية.

وقال أشخاص آخرون إن المدينة كانت بالفعل محاصرة.

في الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم، وبينما كانت الشمس تغرب، انطلق رَكب صغير من سيارات الدفع الرباعي من تمبكتو، متَّجهًا شرقًا بمحاذاة النهر نحو الصحراء. كانت قد ذاعت بين الميليشيا العربية أنباءٌ بأن متمردي الحركة الوطنية لتحرير أزواد كانوا يريدون عقد اجتماع معهم، ومن ثَمَّ اختير وفد من شيوخ المدينة، إلى جانب عدد من المقاتلين من قوة دلتا. كان من بين المندوبين الأربعة قادر خليل، الذي كان رجلًا في الخامسة والستين من عمره ذا وجه طويل كوجه لي مارفن وصوت خشن، وآراء مفعمة بالحيوية عادةً ما كانت تُسمَع في راديو بوكتو، المحطة الإذاعية المحلية التي كان يديرها من مقصورة من الطوب خلف مكتب رئيس البلدية.

بينما كانت السيارات تقفز على الطريق الوعر، كان خليل يشعر بتعاسة شديدة. كان منهكًا وخائفًا، وكانت قرح معدته تتعاظم، وظن أنه هو ورفاقه من أهل تمبكتو كانوا يُقتادون إلى فخ، ولكن لم يكن لديهم خيار: إذا أراد الناس منك أن تفعل شيئًا، فلا يمكنك أن ترفض.

في السابعة والنصف مساءً، توقفوا في قرية بِر لينتظروا تعليمات المتمردين، واتَّصل خليل بزوجته ليخبرها أنه لن يكون في البيت لتناول العشاء. وقال لها: «ربما تكون هذه هي آخر مرة تسمعين فيها صوتي.»

كان الوقت قد قارب منتصف الليل عندما عاد الركب الصغير من سيارات الدفع الرباعي إلى الانطلاق مجددًا، وهذه المرة متَّجهًا صوب جهة الشمال الشرقي. وعلى بُعد ستة أميال من قرية بِر، رَنَّ الهاتف المحمول لقائد الميليشيا وأصغى خليل بتشكك إلى نبرة الحديث. هل كان مهذبًا أكثر من اللازم، وحريصًا للغاية على إرضاء مُحَدِّثه؟ قال رجل الميليشيا عندما انتهت المكالمة إنهم لا بد أن يطفئوا أنوارهم، حتى لا ينكشف موقع معسكر المتمردين. تابعت السيارات سيرها مطفأة الأنوار مسافة ثلاثة أميال أخرى، وتوقفت في منطقة رمال ناعمة، وحشائش صحراوية، وأشواك سنط.

ترجَّل الرجال من السيارات، وهم يطئُون الأرض المظلمة بحرص. جاءت نقاط الضوء الوحيدة من إشعال سيجارة أو عود ثقاب، لكن حتى في العتمة كان بوسع خليل المكتئب أن يتبين عددًا كبيرًا من الرجال المسلحين، وبنادقهم الكلاشينكوف التي كانت في كل مكان وعمائمهم الثقيلة، وشاحنات صغيرة رابضة تحت شبكات تمويه أو متوارية عن الأنظار بالأشجار الصحراوية المنخفضة.

اقتيدوا صعودًا على كثيب إلى موضع كان قد بُسِط فيه بساط. وبعد برهة، اقتربت مجموعةٌ، يقودها رجل شاحب الوجه من الطوارق في العقد السادس من عمره وعلى وجهه مسحة من شارب أسود. كان هذا الرجل هو محمد آغ ناجم، وهو عقيد سابق في الجيش الليبي وكان حينئذٍ قائد أركان جيش الحركة الوطنية لتحرير أزواد. تكلم بالعربية، التي ترجمها قائد ميليشيا تمبكتو إلى الفرنسية.

قال ناجم: «مرحبًا.» وأضاف: «رجاءً، اعتبروا أنفسكم في بيتكم.»

في وجود الرمال والسيارات والسماء المفتوحة، وهمهمة الحديث، وصوت طائر في الصحراء، شعر المندوبون وكأنهم في موقع تصوير فيلم سينمائي.

قال خليل: «ما نطلبه هو هذا.» وأضاف: «هل يمكنك أن تترك تمبكتو وشأنها؟»

أجاب آغ ناجم: «هذا مُحال.»

«إذن لا بد أن تمنحنا الوقت لتحضير الناس حتى يستطيعوا أن يقرروا إما أن يبقوا أو يغادروا.»

«كم من الوقت تريدون؟»

«شهرًا.»

كرَّر آغ ناجم قوله: «هذا مُحال.» كان رجاله قد حُشِدوا وكانوا سيصلون إلى تمبكتو في تلك الليلة لو لم يوافق كبراء المدينة على المقامرة بالمجيء للقاء ناجم. ولكن ما داموا قد أبدوا الشجاعة للمجيء، فسيمنحهم خمسة أيام، إذا استوفوا شروطًا معينة، وهي أنه يتعيَّن على كل أولئك الذين لا يريدون أن يعيشوا في دولة أزواد المستقلة أن يغادروا، كما يتعين ذلك على كل المنتمين إلى عرق البامبارا، وهم سكان الجنوب ذوو البشرة السوداء الذين سيطروا على الطبقة الإدارية والجيش في مالي. عندئذٍ فقط سيتعهد بأن يدخل تمبكتو دون أن يقصفها.

قال آغ ناجم: «بحلول يوم الخميس، سيبقى أولئك الذين يمكنهم البقاء معنا في تمبكتو، ولكن أولئك الذين يريدون أن يلوذوا بالفرار لا بد أن يفروا منها.»

كان الوقت قد شارف على الفجر عندما سارع المندوبون بالعودة إلى سياراتهم من أجل رحلة العودة إلى المدينة.

•••

في صباح ذلك اليوم، السبت، الحادي والثلاثين من مارس، استيقظت تمبكتو على خبر سيِّئ آخر: كانت جاو، أكبر مدينة في الشمال ومركز قيادة الجيش المالي في الإقليم، قد سقطت.

جالت بفكر القاضي خاطرة بسيطة عندما سمع بهذا، والتي كانت: «لقد انتهى أمر تمبكتو.»

كان خليل في هذا الوقت يسابق الزمن للعثور على رئيس البلدية، هلي عثمان سيسيه، ليوصل له إنذار الحركة الوطنية لتحرير أزواد. أخبر خليل سيسيه بأن المتمردين في طريقهم إلى تمبكتو، وأنه لم يكن الآن ثمَّة شك في الأمر. كانوا قد وعدوا بألَّا يأتوا حتى يوم الخميس التالي، ولكن خليل لم يثق بهم: يمكن أن يكونوا هنا في أي وقت، حتى اليوم. سرعان ما هُرِع رئيس البلدية سيسيه بدوره للقاء كبيري ممثلي الدولة — محافظ تمبكتو، الكولونيل ميجور مامادو مانجارا، وقائد المنطقة العسكرية، العقيد جاستون دامانجو — ليبلغهما بما كانت الحركة الوطنية لتحرير أزواد قد قالته: سيدخل المتمردون المدينة بسلام فقط إذا كان كل العسكريين والعاملين الحكوميين قد غادروها.

قال لهما رئيس البلدية سيسيه: «يجب ألا نضحي بالسكان.» ثم أضاف: «يتعين عليكما المغادرة الآن. إن لم تفعلا، فمن الذي سينقذنا؟»

لم تدُم مقاومة القائدين العسكريين طويلًا. فلم يكن ثمَّة شيء بوسعهم فعله، على أية حال. كان المجلس العسكري في باماكو قد أصدر أوامره للقوات المالية بالانسحاب من قاعدتها في جاو للحيلولة دون وقوع خسائر في أرواح المدنيين، وكان قد صدر حالًا أمرٌ لرتل تعزيزات كان قد وصل إلى تمبكتو في الساعات الأولى من صباح اليوم بأن يتراجع صوب الجنوب. كان هذا الآن عبارة عن انسحاب في حالة من الفوضى. ما الأمل الذي تركه ذلك للحامية، التي بالفعل انهارت معنوياتها وأضعفتها حالات الانشقاق والفرار من الخدمة؟ استحضر مانجارا ذكرياته قائلًا: «في أعقاب الانقلاب لم تكن توجد قوات يمكن أن تدافع عن تمبكتو، على الرغم من وجود الرغبة في ذلك.» وافق المحافظ على ترك المدينة.

أُبلِغ كبار ممثلي الدولة أنه يتعين عليهم أن يغادروا وأن يأخذوا معهم ما يمكنهم أخذه. وعندما انتشر نبأ أن ممثلي الحكومة كانوا ينسحبون، بدأ الذعر يسري في المدينة.

وفي صبيحة ذلك اليوم، كان القاضي متلهِّفًا إلى الاستجابة إلى طلب مديره بأن ينقل كل الأغراض القيِّمة من معهد أحمد بابا. ركب دراجته البخارية وانطلق مغادرًا المنزل الذي كان يسكن معه فيه زوجته، وطفلاهما الصغيران، وشقيقه في حي أباراجو في شمال غرب المدينة. وبينما كان يقود دراجته البخارية عبر السوق صوب مبنى معهد أحمد بابا في شارع شيمنيتز، رأى الناس يجرون في كل اتجاه، بعضهم من أجل أن يحملوا عائلاتهم ومتعلقاتهم في الشاحنات، والحافلات، وسيارات الدفع الرباعي التي كانت تتجه جنوبًا، وآخرون من أجل أن يتركوا أطفالهم مع أصدقائهم أو أقاربهم الذين كانوا يعيشون في مناطقَ أكثر أمنًا في المدينة، بعيدًا عن معسكر الجيش. وأينما كان القاضي يتوقف، كان يسمع الناس يتحدثون عن أفضل الطرق للهروب. وعندما وصل إلى المعهد، أخذ الكمبيوتر المحمول الخاص به، وكاميرا من طراز كانون، ومحرك أقراص صلبة كان يستخدمها لرقمنة المخطوطات، ووضعها في حقيبة، ثم قاد دراجته البخارية عائدًا عبر فوضى السوق إلى منزله، حيث ظل بقية اليوم.

كان إخوته في المملكة العربية السعودية، وبوركينافاسو، وكوت ديفوار يتصلون به على مدى عدة أيام، يستحثونه للوذ بالفرار من الإرهابيين. ورغبت زوجته، فطومة، هي الأخرى في المغادرة، لكن القاضي ارتأى أن لحظات الذعر هذه هي الأخطر، حيث إن ذلك هو الوقت الذي يفقد فيه الناس صوابهم. قال لها إن الموقف سيستقر وإنها سترى ذلك. جلسا أمام التليفزيون، يتنقلان بين قنوات الجزيرة، وفرنسا ٢٤، وبي بي سي وورلد نيوز. أحيانًا، عندما كان يشتد قلقهما، كانا لا يشاهدان أي شيء على الإطلاق.

عندما مضى وقتُ ما بعد الظهر وحلَّ المساء، أصبح الطريق جنوبًا من تمبكتو مختنقًا بأناسٍ يحاولون الهرب، فرارًا نحو العبَّارة في كوريومي، والمعبر الصحراوي الطويل المؤدي إلى دوينتزا والجنوب. غادر مانجارا ودامانجو في الساعة السادسة مساءً. أما العسكريون الآخرون الذين لم يتمكنوا من الهرب أو لم يرغبوا في ترك عائلاتهم في تمبكتو، فهجروا معسكر الجيش وحاولوا الاختباء وسط السكان. وفي استعجالهم للفرار من قاعدتهم، تركوا وراءهم متعلقاتهم وتجهيزاتهم: الماشية، وأدوات الطبخ، وأجهزة التليفزيون. وحيث إنهم لم يتلقوا أوامر واضحة، تركوا أيضًا مخزونهم الاحتياطي من الأسلحة والذخيرة.

عند الغسق، ذهب إسماعيل ديادي حيدرة، مالك مكتبة فوندو كاتي، إلى سانكوري للقاء أصدقائه، الذين كانوا يجتمعون هناك كل ليلة. كان يسيطر على المدينة الآن نوعٌ من «الذهان الاجتماعي»، حسبما تذكر إسماعيل، وهو رجل دمث الخلق يضع نظارة مستديرة صغيرة. قال البعض إن المتمردين سيصلون في أي لحظة؛ بينما قال آخرون إن هذا غير صحيح، وإنهم لن يأتوا أبدًا. كان أشد ما يعتريهم هو الشعور بالعجز. فكَّر في ابنيه الصغيرين، اللذين كانا معه في تمبكتو، وفي آلاف المخطوطات في المكتبة التي كانت في الناحية المقابلة من منزله في حي هامابانجو الشرقي.

في الساعة السابعة مساءً، عاد إسماعيل إلى البيت. وعندما خلد الابنان إلى النوم، ذهب إلى المكتبة. كان قد نقل بالفعل بعضًا من مخطوطاته إلى مخبأ، والآن بدأ ينقل بقيتها من فوق الأرفف إلى خزائن. وجد من المستحيل أن يحدِّد الأولويات؛ «أي مخطوطات يمكنني أن آخذ؟ وأيها سأترك لتتعرض للإتلاف؟ إن الأمر كما لو كنت تسأل والدًا أن يختار من بين أبنائه، مَن سينقذ ومَن سيضحي به.» ظل يعمل حتى الساعة الحادية عشرة مساءً، ثم مضى إلى فراشه. وفي أنحاء تمبكتو رقد الناس مستيقظين، يصغون إلى أصوات المدينة وهي تخلو من سكانها.

•••

كان الظلام لا يزال مخيِّمًا عندما غادر إسماعيل منزله في الصباح التالي ليتمشَّى على الكثبان الرملية. كانت قد نمت لديه عادة تمضية ساعة عند بزوغ فجر كل يوم في التجول في المدينة، مستنشقًا هواء الفجر العليل، ومستقبِلًا أول ضوء شاحب، وبدء الحياة كل يوم. كان الشارع خاليًا من المارة وهو ينسل عبر باب الجدار الخارجي للمجمع السكني ويغادر متجهًا نحو حافة المدينة. لم يكن قد مضى إلا بضع مئات من الخطوات عندما رآه أحد جيرانه. قال له الرجل إن الخروج من المنزل ليس آمنًا. قال إسماعيل محتجًّا: «إنني ذاهب للتمشية لبعض الوقت»، لكن الجار كان لجوجًا، فقرر أن يعود أدراجه. عاود الدخول إلى ساحة المنزل بعد بضع دقائق، بينما بدأت الشمس تطلع. وعندما جاء ابنه ذو الأربعة عشر ربيعًا خارجًا من المنزل للقائه، سمعا صوتًا حادًّا لطلقتين من أعيرة نارية.

«أبي، هل سمعت ذلك؟ لقد جاء المتمردون.»

قال إسماعيل: «سمعته.»

كان هذا بعد الساعة السادسة صباحًا بقليل.

بعد بضع دقائق، جعلت قعقعة الأعيرة النارية الناس يستيقظون مفزوعين في سائر أنحاء تمبكتو. استيقظ ديادي حمدون معيجا، الذي كان نائبًا سابقًا لرئيس البلدية، في بيته في ساراكينا، شرقي المدينة، على صوت رنين طلقات نارية «في كل مكان». في أباراجو، وجد القاضي، الذي كان مستيقظًا منذ الساعة الخامسة، أن طقسه اليومي الذي يشتمل على الاستيقاظ، والصلاة، والاستماع إلى الأخبار، قد قاطعته أصوات فرقعة الأعيرة النارية. قال له شخصٌ ما إنه صوت طائرة، لكنه كان يعرف أنه لم يكن كذلك.

في منزل دياكيتي بالقرب من مسجد سيدي يحيى، كانت الأسرة قد استيقظت قبل الفجر على صوت قرع متعجل على الباب. اندفع أحد الجيران، الذي كان رجلًا عسكريًّا، داخلًا دون أن يخلع حذاءه أو يضع بندقيته. قال: «عليك أن تسعى لإنقاذ أسرتك.» وأضاف: «لقد تلقينا الأوامر بأن نترك المدينة.» وغادر مجددًا، ليتخلص من بندقيته ويغيِّر ملابسه ليتخلص من زيه العسكري، وبعد دقائقَ سمع دياكيتي صوتًا سيتذكره بوضوحٍ لأعوام تالية: صوت انطلاق أعيرة نارية من سلاح آلي.

بعد أن قاد إسماعيل ابنه إلى الداخل، عاد إلى مدخل الباب. ومن نهاية الشارع أتى صوت هدير مركبات، ثم مر ركْب مسرعًا، متجهًا إلى ميدان الاستقلال، ومبنى المحافظة، ومعسكر الجيش. رأى آخرون رجالًا مسلحون يصلون سيرًا على الأقدام: سارت مجموعة في الطريق الرملي لفندق بوكتو المنخفض ذي الطلاء الرمادي في الطرف الغربي للمدينة وبدءُوا يطلقون النار فوق رءوس عمال الفندق. سار الرجال داخلين إلى منطقة الاستقبال بالفندق، التي تحوي طاولات الطعام الأنيقة والأرضية ذات اللونين الأحمر والأبيض كرقعة الشطرنج، ونهبوا محتويات درج النقود، التي لم تكن سوى فرنكات تافهة تعادل خمسين دولارًا، ثم طلبوا مفاتيح سيارة اللاند كروزر الجديدة التي كانت واقفة في الواجهة، بجوار الحديقة المزروعة بزهور ونكة مدغشقر الوردية. على عجل أحضر مالك السيارة المفاتيح، لكن سرعان ما اتضح أن الرجال المسلحين لم يكونوا يعرفون كيفية قيادة السيارة.

مع تصاعد إطلاق الأعيرة النارية، أغلق الناس أبوابهم وحاولوا أن يُبقُوا أنفسهم وأطفالهم هادئين. وأخذ البعض يصلي. أخذ إسماعيل ابنه وابنته إلى المكتبة، ثم أغلق الباب وتابع المهمة التي كان قد بدأها في الليلة الماضية، وهي مهمة نقل مخطوطاته بعناية إلى الخزائن. نزل آخرون إلى الشارع ليروا ما يحدث ووجدوا هرجًا ومرجًا. كان رجال مسلحون ينطلقون في الجوار في شاحنات صغيرة، وهم يطلقون النار ويصيحون، بينما كان مدنيون يركضون في كل الاتجاهات، والبعض يحاول أن يغادر المدينة بأي طريقة ممكنة: بالسيارات، أو الدراجات البخارية، أو الحمير، أو حتى سيرًا على الأقدام، رغم أن المسافة إلى أقرب طريق مسفلت كانت ١٣٠ ميلًا.

كانت الهيستيريا التي تسبَّب فيها الرجال المسلحون «شديدة»، على حد قول حوداي آغ محمد، أحد المسئولين الحكوميين القلائل الذين لم يكونوا قد لاذوا بالفرار بعدُ. بدا له الأمر أنه استراتيجية متعمدة لتخويف أي جنود ماليين باقين يريدون القتال، وقد كانت ناجحة: عندما نزل إلى الشارع، وجد مجندين مغتمين يجاهدون لخلع ملابسهم العسكرية، والتخلص من أسلحتهم، والعثور على مكانٍ للاختباء. ومع اهتزاز حي سان فيل الجنوبي الذي كان يعيش فيه جراء الانفجارات المتكررة، سارع بالعودة إلى منزله وصاح في أفراد أسرته طالبًا منهم أن يدخلوا غرفهم ويغلقوها عليهم لأن «الجحيم ليس ببعيد!» بُعَيد ذلك سمع همهمة حديث خافتة تحت نافذة منزله ووجد مجموعة من الجنود كانت قد تسللت إلى مجمعه السكني. توقعت زوجته معركة ضارية في داخل بيتهم، وقالت إنه لم يَعُد أمامهم ما يفعلونه سوى انتظار ملاقاة حتفهم. إلا أن حوداي اقترب بحذر من الشباب، الذين عرضوا عليه أن يأخذ عدة دجاجات وسياراتهم العسكرية ليعتني بها. رفض هداياهم وأقنعهم بدلًا من ذلك أن يختبئوا في منزل أحد جيرانه والذي كان قد غادر.

في سائر أنحاء المدينة كان الجنود يحاولون العثور على ملجأ لهم. ظهرت مجموعةٌ منهم على عتبة منزل إسماعيل. ظنًّا منه أن بنايته كانت بالفعل هدفًا بما يكفي، بمكتبة مخطوطاتها الشهيرة ووجود عمود هاتف على السطح، أقنعهم بأن يذهبوا إلى أي مكان آخر. أدخل أشخاص آخرون جنودًا إلى بيوتهم: رحَّب دياكيتي، الذي ظل ملازمًا أسرته، بعودة صديقه العسكري، الذي كان حينئذٍ غير مسلح ويرتدي ملابس مدنية متمثلة في تيشيرت وبنطال. كان سيبقى لعدة أيام، ومعه أحد زملاء دياكيتي وبعض الطلاب من المدرسة الفرنسية العربية.

كانت عملية السلب والنهب، التي كانت قد بدأت في فندق بوكتو، حينئذٍ آخذة في الانتشار. كان رجال الميليشيا يعرفون جيدًا معسكر الجيش منذ الأيام التي تلقوا فيها تدريباتهم مع القوات الحكومية، ولذا أخذوا يستولون على كل شيء تركه الجنود، من الثلاجات والكراسي إلى الأسلحة وصناديق الذخيرة، ويُحَمِّلون غنائمهم في شاحنات صغيرة وعلى دراجات بخارية ويحملونها متوجهين صوب الصحراء. كانت سيارات الدفع الرباعي مكدَّسة عاليًا لدرجة أن أحد السكان شاهد صناديق القنابل اليدوية تسقط عنها، والمتفجرات تصطدم بالأرض وتتدحرج مثل حبات المانجو الساقطة من شجرة. كانت السيارات من أهم أهداف اللصوص. اختفى صفٌّ من سيارات الدفع الرباعي التي كان الجيش المالي قد أوقفها بجوار معسكر الجيش، وكذلك كان حال معظم السيارات المملوكة للدولة وللمنظمات غير الحكومية.

في صباح ذلك اليوم، شاهدت فطومة هاربر، وهي مدرِّسة في المدرسة الفرنسية العربية، شابًّا يتأهب للنهب. قال: «إذا اقتحموا البنوك فسأبحث عن حصتي من المال.» وأضاف: «وإلا فالسلاح سيجدي نفعًا.» انطلق صوب المعسكر. وبعد بضع دقائق، خارج أحد المساجد، دخل في مشادة مع أحد المراهقين على بندقية مسروقة: كانا يتجاذبان إياها عندما ضغط الصبي على الزناد وأرداه صريعًا.

ما إن أخذ الرجال المسلحون قدْر ما يمكنهم حمله، حثوا المارة على أخذ ما تبقَّى. رأى إسماعيل أشخاصًا يُهرعون وهم يحملون قطع أثاث على رءوسهم. وحتى الأطفال الصغار كانوا من ضمن الحشود التي مارست عمليات النهب.

في الساعة التاسعة صباحًا، هزَّ المدينة انفجار كبير. سمع القاضي «صوت انفجار هائل» وركض إلى الفناء ليجد السماء ممتلئة بدخان أسود. شعر إسماعيل، الذي كان أكثر قربًا من معسكر الجيش، بأن المنزل يهتز. كان بوبكر ماهامان، أحد شيوخ المدينة والذي كان يُلَقَّب «جانسكي» تيمنًا بأحد نجوم كرة القدم في غرب أفريقيا في سبعينيات القرن الماضي، جالسًا في حديقة سطح منزله في السوق الكبير عندما سمع صوت التفجير. قال متأملًا: «آه، أجل.» ثم أضاف: «الآن بدأ الحفل حقًّا.» كان رجال مسلحون، وهم يحاولون كسر قفل مستودع ذخيرة في المعسكر، قد أصابوا المتفجرات التي كانت بالداخل، وعندئذٍ أخذت القذائف تتطاير خارجًا في كل اتجاه، ودمرت أجزاءً من سور المعسكر وسقطت على المنازل القريبة. انجرفت سحب دخان وأبخرة كريهة الرائحة جنوبًا مع هبوب النسيم، فجعلت الهواء في سان فيل يكاد يكون غير صالح للتنفس.

فيما يتعلق بإسماعيل، كانت هذه هي أكثر لحظات اليوم مرارةً، اللحظة التي أدرك فيها أن المدينة قد سقطت. قال: «قلت لنفسي إنه لا يوجد ما يمكننا فعله؛ فكل شيء قد ضاع.»

•••

عندما رأى ديادي، نائب رئيس البلدية السابق، مَن الذي كان يطلق النار، أدرك على الفور أنهم رجال الميليشيا العربية، قوة دلتا، وعرف أن تمبكتو قد تعرَّضت للخيانة. لم تكن الحركة الوطنية لتحرير أزواد متخلِّفة عن الرَّكب. وبناءً على نصيحة من شقيقه، وهو ضابط شرطة من ذوي الرتب العالية، اختبأ خليل وأسرته في الدور الأرضي لمنزله في السوق الكبير عندما سمعوا صوت سيارة تتوقف في الخارج وطرقًا على الباب. فتح الباب ليجد رجلًا يرتدي العمامة الثقيلة التي يلبسونها في عمق الصحراء.

قال المبعوث: «محمد آغ ناجم عند مدخل المدينة ويريد أن يقابلك فورًا.» وأضاف: «لديه بعض المعلومات المهمة جدًّا.»

أوضح له خليل أن الوقت ليس مناسبًا، وربما يستطيع أن يعود في وقتٍ آخر. لكن المبعوث أصر، وبعد أن تطوَّع ابن خليل ذو الخمسة وعشرين ربيعًا أن يرافقه، تبع المذيع المسن على مضض المتمرِّد خارجًا إلى الشارع.

مضوا بالسيارة خروجًا عبر الفوضى — وهو مشهد وصفه جانسكي بأنه «يبدو مثل نهاية العالم» — إلى جنوب المدينة، وكان خليل في حالة من الاهتياج المتزايد. وبالقرب من الاستاد على طريق كابارا، وهم يمرون بمجموعة من الشاحنات الصغيرة الممتلئة برجال مسلحين ملثمين في طريقهم إلى المدينة، طلب أن يعودوا قائلًا: «إن لم تذهب بي إلى البيت، فسأخرج من السيارة!» رفض السائق أن يتوقف، فاتصل خليل بآغ ناجم على الهاتف المحمول الذي كان قد أعطاه رقمه على الكثيب خارج بِر.

قال لقائد الحركة الوطنية لتحرير أزواد: «يجب أن أعود!»

قال آغ ناجم، وصوته يعلو على الضجيج الذي حوله، لخليل: «تعالَ لخمس دقائق.» ثم أضاف: «لديَّ تصريح عاجل جدًّا أريد منك أن تذيعه.»

قال خليل: «أخي، لا أريد أن أُقْحَم بين المطرقة والسندان! غدًا أو بعد غد، عندما تصبح الأمور أهدأ، يمكنك أن تتصل بي.»

وافق آغ ناجم، واستدار السائق عائدًا أدراجه.

حينئذٍ كانت شاحنات الحركة الوطنية لتحرير أزواد تقوم بجولات مع الميليشيا العربية. ومع أنه كان من الصعب على المرء أن يتبين رجلًا مسلحًا من آخر، كانت عربات الحركة الوطنية لتحرير أزواد تحمل شعارات الاستقلال باللغة العربية وأحيانًا علم الحركة ذا الألوان الأخضر والأحمر والأسود والذهبي، الذي رفعه المقاتلون فوق مكتب رئيس البلدية، ومبنى المحافظة، وقسم الشرطة، ومعسكر الجيش. تسارعت حينئذٍ وتيرة عمليات النهب إذ تسابقت مجموعات المسلحين المختلفة بعضها مع بعض على الجوائز الأقيم: المكاتب الحكومية، والمتاجر الكبيرة، والبنوك، والخدمات العامة. وحتى منزل المحافظ جُرِّد مما كان يحتويه من أغراض.

بحلول الساعة الواحدة بعد الظهر، كانت المدينة قد استُنزفت. شاهد سيدو بابا كونتا، وهو مرشد سياحي عاطل عن العمل ومعروف عالميًّا باسم باستوس، مجموعةً من رجال الحركة الوطنية لتحرير أزواد يصلون إلى البنك المقابل لمنزله ويبدءُون في مداهمته ويطلقون النار في الهواء بينما كانوا يفعلون ذلك. كانت زوجته وأطفاله السبعة في المنزل، لذا سار عابرًا الطريق. وقال للرجال المسلحين: «انهبوا البنك عن آخره، لا مانع عندي.» ثم أضاف: «ولكن أيمكنكم أن تتوقفوا عن إطلاق النار في كل مكان؟»

استمرت دفعات من أسلحة صغيرة تقعقع عبر المدينة حتى المساء، مختلطةً بالدخان الأسود المنبعث من المعسكر المحترق.

في الساعة السادسة إلا أربع دقائق، وهو وقت تزامن مع هدوء في إطلاق النار، صدر تصريح على موقع الويب «توماست للأنباء» التابع للمتمردين معلنًا أن الحركة الوطنية لتحرير أزواد قد وضعت للتو نهايةً للاحتلال المالي لتمبكتو. الآن، على حد قولهم، كان علم الحركة الوطنية لتحرير أزواد يرفرف في كل مكان في الإقليم.

•••

كان حيدرة على الطريق طيلة اليوم. وفي ليلة يوم السبت نام في موبتي، المدينة الرئيسية في وسط مالي، وفي الصباح شقَّ طريقه صوب تمبكتو. ترك سيارته في سيفاري — كان قد قيل له إنه إن مضى بها أكثر من ذلك، فمن المرجَّح أن تُسْرَق — وتابع طريقه مع سائقه بوسائل النقل العام، ماضين عكس تيار اللاجئين والجنود المتجهين جنوبًا. في دوينتزا، على بُعد ١٣٠ ميلًا من تمبكتو، حيث انحرف الطريق الرئيسي المؤدي إلى المدينة عن الطريق المرصوف ومضى مجتازًا الصحراء، وجدا عربة أجرة أدغال ذات دفع رباعي يمكن أن تأخذهما إلى معبر النهر في كوريومي. بدا أنهما الشخصان الوحيدان المتجهان شمالًا.

وصلا إلى العبَّارة في الساعة الواحدة بعد الظهر، ولكن قيل لهما إن العبور كان خطرًا للغاية: كان القتال على الضفة الأخرى في غاية الاحتدام. وهكذا مضيا مع مجرى النهر مسافةً قصيرةً وقابلا في الطريق قارب صيد صغيرًا. أخذهما صياد السمك إلى قرية هوندوبونجو على الضفة الشمالية، حيث أجرى حيدرة اتصالًا بصديق له في تمبكتو.

قال له صديقه: «يوجد إطلاق نار في كل مكان.» وحتى مع ذلك، إن انتظرا، فسيرى ما بوسعه فعله.

في الساعة الرابعة عصرًا، وصل الصديق في سيارة من طراز مرسيدس كان قد تمكَّن من أن يقترضها. كان الخروج من المدينة صعبًا؛ أما العودة إليها فكانت أصعب. تذكَّر حيدرة أنه كل بضع مئات من الياردات كان يوقفهم رجال مسلحون يطلقون نيران أسلحتهم في الهواء عندما يقتربون، وفي كل توقُّف كانوا يواجهون وابلًا من الأسئلة. مَن هم؟ سيارة مَن هذه؟ لماذا كانوا قادمين إلى المدينة؟ كيف وصلوا إلى هنا؟ أين السيارة التي جلبتهم إلى تمبكتو؟ استغرق الأمر منهم ساعتين لاجتياز ثمانية أميال إلى البوابة التي كانت علامةً على مدخل المدينة.

أثناء مضيهم بالسيارة دخولًا إلى تمبكتو في الظلام تلقى حيدرة لمحةً أولى عن الفوضى التي كانت سائدةً طيلة معظم اليوم: كان دوي إطلاق النار متواصلًا، رغم أنه لم يستطِع حتى أن يحدِّد أي المجموعات كانت تطلق النار. هرول مسرعًا إلى منزله في الجانب الشرقي، والذي يوجد على مسافة قصيرة من مكتبته في هامابانجو، وأغلق الباب.

ولم يخرج مجددًا طيلة أسبوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤