الفصل الرابع

المستكشف الرابع

١٧٩٥–١٨٢٠

في الأول من مايو من عام ١٧٩٧، كتب جوزيف بانكس رسالة قصيرة إلى صديقه المفوض الفرنسي في لندن بيَّنت بإيجاز موقف الرابطة الأفريقية. كانوا يرون أن مسألة إرسال مستكشفين لاستكشاف المناطق الداخلية من أفريقيا هي أمر أصعب مما كانوا يأملون. كتب يقول: «لقد فقدنا بالفعل ثلاثة رجال مؤهلين تأهيلًا جيدًا، دون أن نستجلي قدرًا كبيرًا من الجغرافيا الداخلية للبلاد، لكننا ما زلنا مستمرين في عزمنا.»

في حقيقة الأمر، كان مستكشفان اثنان فقط قد «فُقِدا» على نحوٍ باتٍّ. كان لوكاس قد شدَّ الرحال بعد ليديارد بوقت قصير، مغادرًا إلى طرابلس في أغسطس من عام ١٧٨٨، لكن تمردًا في جنوب ليبيا أعاق طريقه جنوبًا وعاد سالمًا دون مغادرة ساحل البحر المتوسط. بعد ذلك جاء العسكري الأيرلندي المثقل بالدين دانيل هوتون، الذي عرض أن يحاول الوصول إلى الداخل من نهر جامبيا، والعثور على مدينة «تومبوكتو» الشهيرة، ثم اقتفاء المسار المجهول لنهر النيجر؛ كل ذلك مقابل مبلغ إجمالي متواضع قيمته ٢٦٠ جنيهًا إسترلينيًّا. وافقت الرابطة بسرور على عرضه، وانطلق هوتون في رحلته في عام ١٧٩٠. وفي الأول من سبتمبر من العام التالي كتب رسالة قصيرة بالقلم الرصاص من سيمبينج، في مملكة لودامار السودانية، يقول فيها إنه بصحة جيدة، ولم تصل عنه أي أخبار بعد ذلك مطلقًا.

ومع ذلك، كان ثمَّة مستكشف رابع في المجال كان بانكس يأمل بشدة أن يكون الآن في طريق عودته من «تومبوكتو». كان هذا الرجل هو الاسكتلندي ذا الخمسة والعشرين ربيعًا مونجو بارك، الذي كان في تلك اللحظة بعينها يشقّ طريقه بجهد جهيد نحو ساحل غرب أفريقيا بعد رحلةٍ دامت عامين فقدَ فيها كل شيء عدا قبعته المصنوعة من جلد القندس. ومع أن هذا يبدو غير واعد، فسيتضح أن رحلة بارك كانت أعظم نجاح للرابطة الأفريقية، والتي وضعت نموذجًا جديدًا للشخصية البطولية للرجل الأبيض في القارة السمراء والذي فيما بعدُ سيكون المقياس الذي يُقاس عليه المستكشفون اللاحقون. سافر بارك عبر أراضٍ تعج ﺑ «المور» القتلة والحيوانات البرية الشرسة، دون سلاح تقريبًا إلا جرأته البريطانية، وإيمانه الذي لا يتزعزع، وتكوينه الجسماني الرائع. والأهم من كل ذلك أنه سيرجع حيًّا.

تلقَّى بارك، الذي كان ابن مزارع ثري، تدريبًا ليصبح جرَّاحًا، لكن ما اجتذب اهتمام بانكس إليه كان علم النبات. رتَّب له رئيس الجمعية الملكية أن يسافر إلى جزر الهند الشرقية الهولندية للحصول على العينات، واستأجرته الرابطة الأفريقية بعد عودته ومعه ثمانية توصيفات جديدة للأسماك السومطرية. كان شجاعًا ومثابرًا، حتى بعد إخباره باختفاء هوتون؛ إذ كتب: «عرفت أنني كنت قادرًا على تحمل المشقة، واعتمدت على شبابي وقوة تكويني الجسماني ليحفظاني من تأثيرات الطقس.»

أبحر من بورتسموث في الثاني والعشرين من مايو من عام ١٧٩٥، حاملًا معه اعتمادًا مستنديًّا بقيمة ٢٠٠ جنيه إسترليني وتعليمات تنصُّ على «مواصلة الطريق حتى نهر النيجر، عند الوصول إلى أفريقيا … والتأكد من اتجاه ذلك النهر، وأيضًا، إن أمكن، من منبعه ومصبه»، ثم استخدام «قصارى جهده» لزيارة البلدات أو المدن الرئيسية المجاورة له، وتحديدًا «تمبكتو، وهوسة» مع أن هوسة، أو هوسا، لم تكن مدينة وإنما شعب. وباكتمال تلك المهمات، يمكن لبارك أن يعود من أي طريق يختاره.

في الحادي والعشرين من يونيو، وصل المركب التجاري الصغير الذي كان يحمله إلى مصب نهر جامبيا، ثم بدأ المركب يمضي ببطء عكس تيار النهر إلى جالية التجار الأوروبيين في جونكاكوندا، حيث سيوصل البريد ويحمل بضائع شمع العسل والعاج. وُجِّهَت الدعوة إلى بارك أن يقيم على بُعد ستة عشر ميلًا أخرى شرقًا، في قرية بيسانيا، مع أحد معارف بوفوي، تاجر الرقيق جون لايدلي. وهناك مكث ليتعلم لغة الماندينكا ويجمع أي معلومات يمكنه جمعها عما يكمن أمامه في طريقه. بعد ثلاثة أسابيع تعرَّض لأول نوبة ملاريا وأصابه الهذيان، وطوال معظم شهري أغسطس وسبتمبر أُجبِر أن يكون ملازِمًا للمنزل، ممضيًا «الساعات المملة» وهو يستمع إلى الأصوات المروعة للعالم الغريب الذي كان على وشْك أن يُقْدِم على الخوض فيه:

يُمضي الرحَّالة المرتعب الليل في الإصغاء إلى نقنقة الضفادع (التي كانت أعدادها تفوق الخيال)، والصراخ الحاد لابن آوى، والعواء العميق للضباع؛ يا لها من حفلة موسيقية كئيبة، لا يقطعها إلا هدير الرعد الهائل لدرجةٍ لا يستطيع أي شخص أن يستوعبها إلا أولئك الذين سمعوه!

كان من شأن الأشخاص أصحاب الهمم الأقل أن يستسلموا عند ذلك الحد، لكن بارك أظهر دومًا حماسًا استثنائيًّا، وبحلول أوائل شهر ديسمبر، عندما كانت أشعة الشمس الحارقة قد حلت محل الأمطار وانخفض منسوب النهر، شعر بعافية تكفي لأن يبدأ رحلته. غادر بيسانيا بصحبة رجل مُعْتَق يُسمى جونسون، والذي كان قد نُقِل يومًا ما إلى جامايكا وإنجلترا، وأحد عبيد منزل لايدلي، ديمبا، الذي تلقى وعدًا بنيل حريته إذا عاد المستكشف حيًّا. كان بحوزة بارك حصان؛ وتشكيلة صغيرة من الخرز، والعنبر، والتبغ للمقايضة؛ ومظلة؛ وقبعته المصنوعة من جلد القندس. في الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم الثالث من ديسمبر من عام ١٧٩٥، ترك رفاقه الأوروبيين وركب حصانه منطلقًا نحو الغابات الأفريقية. عندئذٍ، كان إدراكه للواقع الخطِر قد حلَّ محل حماسه لفكرة أن يصبح «مستكشفًا»، تمامًا كما كان الحال بالنسبة لليديارد، ولذا، كان في حالة مزاجية كئيبة وانطوائية:

كان أمامي الآن غابة لا حدود لها، وبلد، كانت الحياة المتحضرة غريبة على سكانه، ولمعظمهم كان الرجل الأبيض محل فضول أو نهب. تذكرت متأملًا أنني كنت قد فارقت آخرَ أوروبي ربما تقع عليه عيناي، وربما أكون قد تخليت للأبد عن وسائل الراحة التي يكفلها المجتمع المسيحي.

لم يدُم قنوط بارك طويلًا. فبحلول شهر فبراير كان قد ارتحل مسافة ثلاثمائة ميل إلى الداخل، ووصل إلى مملكة كارتا، حيث أحسن الملك دايزي كوراباري استقباله. وبغية تجنب اندلاع الحرب الوشيك بين دايزي وجاره مانسونج ديارا، ملك البامبارا، اتجه المستكشف شمالًا صوب لودامار، الأرض التي كان هوتون قد اختفى فيها. كان «المور» — وهو الوصف الأوروبي الشامل لمسلمي شمال أفريقيا من البربر أو من ذوي الأصل العربي — يقطنون هذا الإقليم، الواقع بالقرب من حدود مالي وموريتانيا الحاليتين، وكان من شأن تجربة بارك هناك أن تُمثِّل له علامة فارقة لبقية حياته.

في أيامه الأولى في لودامار عرف على الأقل المصير الذي كان قد آل إليه هوتون. كان العسكري الأيرلندي قد دفع لبعض تجار المور مقابل أن يرشدوه للطريق إلى تمبكتو، حسبما قيل لبارك، ولكن بعد يومين أصابه الارتياب من نواياهم وأصرَّ على أن يعود أدراجه، وعندئذٍ سرقه التجار وانطلقوا تاركين إياه دون طعام ولا ماء. وبعد أن سار هوتون أيامًا عدةً وصل إلى بئر، ولكن الناس الذين التقى بهم هناك رفضوا أن يعطوه أي طعام. كتب بارك يقول: «ليس معروفًا على وجه التحديد إن كان قد هلك جوعًا، أو قُتِل على الفور على يد المحمديين المتوحشين.» جُرَّ جسد العسكري إلى الغابة، وأُطْلِع بارك على الموضع بالضبط الذي كان قد تُرِك فيه ليهلك.

لم تُثنِ هذه القصة البشعة بارك عن التعمُّق أكثر في لودامار، ولا تصريح جونسون بأنه سيتنازل عن أي مطالبة بمكافأة في مقابل ألا يمضي قُدُمًا خطوة واحدة أبعد. منحه بارك نسخًا من أوراقه ليعود بها إلى نهر جامبيا وتابع طريقه مع ديمبا، لكنهما تعرَّضا لمضايقات متزايدة من سكان الإقليم، الذين حاولوا استفزاز المستكشف بالفحيح والصياح فيه والبصق على وجهه، وإخباره بأن كونه مسيحيًّا فمن حقهم سلب ما معه من متعلقات. وفي السابع من مارس، دخلت مجموعةٌ منهم الكوخ الذي كان يقيم فيه وقبضوا عليه. أخذوه إلى بينوم، إلى مخيم علي، حاكم البلد؛ الذي كان رجلًا «طاغية وقاسيًا»، بحسب بارك. حبس علي المستكشف وكإهانة إضافية له ربط خنزيرًا خارج الكوخ الذي كان محتجزًا فيه. بعد ذلك عذَّب أتباع مخيم علي — الذين يعدون «أسوأ المتوحشين على وجه الأرض»، من وجهة نظر بارك — كلًّا من الحيوان النجس والمسيحي من شروق الشمس وحتى غروبها:

هنا وجدت صفات الفظاظة، والوحشية، والتعصب، التي تميز المور عن بقية البشر، شخصًا مناسبًا ليمارسوا عليه نزعاتهم. كنت «غريبًا»، وكنت «بلا حماية»، وكنت «مسيحيًّا»؛ وكل اعتبار من هذه الاعتبارات كافٍ لطرد كل شرارة إنسانية من قلب الموري؛ لكن عندما امتزجت، كما في حالتي، في نفس الشخص، وساد الشك في أنني كنت قد جئت بصفتي جاسوسًا إلى البلد، سيسهل على القارئ أن يتخيَّل أنه، في موقف كهذا، كان لديَّ كل الأسباب التي تدعوني إلى الخوف.

يمكن القول، بالنظر إلى سلوك الأوروبيين في المستقبل في أفريقيا، إن بارك كان «بالفعل» جاسوسًا، مع أنه كان من شأن بانكس أن يقول إن رحلته كانت تجري من أجل دافع أنقى يتمثل في زيادة المعرفة البشرية. على أي حال، كانت هذه هي أسوأ فترة في حياة الشاب، وستظل تطارده في أحلامه لأعوام لاحقة. بينما كان يعاني نوبات الملاريا، قيل له بطرق مختلفة إنه سيُعْدَم أو تُقْطَع يده أو تُفقأ عيناه، وتعرَّض لإعدام وهمي. حُرِم من الطعام، وعندما حل موسم الحر وأصبح الماء شحيحًا، صار يشرب الماء من حوضٍ للماشية، حيث خشي المسلمون من أن تسمم شفتاه المسيحيتان أوعيةَ شربهم. وإذ لم يكن الأمر واضحًا له بالفعل، ففي أبريل، وصل شريفٌ — وهو رجلٌ زَعَم أنه ينحدر مباشرةً من نسل النبي محمد — إلى المخيم وفسَّر له سلوك قبائل الصحراء تجاه المسيحيين. كان الشريف قد قضى عدة سنوات في تمبكتو وسأل بارك إن كان ينوي أن يسافر إلى هناك. وعندما أجاب بارك بأنه ينوي ذلك، ما كان من الرجل إلا أن «هز رأسه، وقال إن هذا «غير مقبول»؛ وذلك لأنه كان يُنْظَر إلى المسيحيين هناك باعتبارهم أبناء الشيطان، وأعداء النبي.»

من الواضح، مع ذلك، أن الشريف أشفق على الاسكتلندي الشاب وأخبره بموقع المدينة الأسطورية. ومن أجل أن يبلغها، كان عليه أولًا أن يسافر إلى والاتا، على مسيرة عشرة أيام، وكانت تمبكتو تبعُد عنها مسيرة أحد عشر يومًا أخرى. سأله بارك مرارًا وتكرارًا عن الاتجاه الذي تقع فيه المدينة، ودومًا كان الشريف يشير إلى جهة الجنوب الشرقي، دون أن يغيِّر الاتجاه مطلقًا قيد أنملة.

في أواخر يونيو من عام ١٧٩٦، بعد ثلاثة شهور في الأسر، تمكَّن بارك من الهرب، وإن كان قد تعيَّن عليه أن يترك وراءه ديمبا، الذي كان قد أُخذ ضمن جيش عبيد علي. سافر بارك عبر السافانا، مختبئًا من مجموعات «المور»، ودنا من نهر النيجر بالقرب من سيجو عاصمة أمة البامبارا. وفي العشرين من يوليو أخبره رفقاؤه في السفر أنه سيرى النهر العظيم نفسه في اليوم التالي. كان متحمسًا للغاية لدرجة أن النوم قد جافاه وأسرج حصانه قبل أن يطلع النهار، لكن بوابات القرية التي كان يقيم فيها كانت تُبقى موصدة ليلًا لإبعاد الأسود عنها، وانتظر بفروغ صبر أن يطلع الفجر. وأخيرًا فُتِحَت البوابات، وبعد ساعتين من السفر أبصر جائزته:

بينما كنت أنظر حولي بتلهُّف بحثًا عن النهر، صاح أحد [رفقائي]: «انظر إلى الماء»؛ وإذ نظرت أمامي، رأيت بسرور لا حدَّ له الهدف العظيم لمهمتي؛ نهر النيجر المهيب الذي طال السعي إليه، يتلألأ تحت أشعة شمس الصباح، في اتساع نهر التيمز عند وستمنستر، ويتدفق ببطء «في اتجاه الشرق».

كان قد أصبح أول مستكشف أوروبي تقع عيناه على نهرٍ كان وجوده مصدرًا للتكهنات منذ زمن هيرودوت. لم يفاجئه أن يجد أنه يتدفق في اتجاه شروق الشمس — في الاتجاه المضاد لذلك الذي اعتقده علماء الرابطة الأفريقية — إذ كان ذلك ما قاله له كثير من الناس الذين قابلهم. أما عن مصبه، فحتى التجار الذين سافروا فيه لم يكن يبدو أنهم يعرفون في أي موضع يبلغ البحر، لكنهم فقط قالوا إنهم يعتقدون أنه يجري «إلى نهاية العالم.»

هُرع إلى حافة النهر، وشرب بعضًا من مائه، ثم صلَّى صلاة شكر حارة إلى الرب لأنه كلل مساعيه بالنجاح.

على الضفة البعيدة كانت توجد سيجو، العاصمة العظيمة لأمة البامبارا، التي شكَّلت احتمالًا لوجود «حضارة وعظمة» من نوعٍ لم يكن بارك يتوقع أن يجده في أفريقيا. نُقِل نبأ وصوله إلى ملك البامبارا، لكن مانسونج كان متشكِّكًا في بارك ورفض أن يسمح له بالدخول، لذا التمس المستكشف مأوًى في قرية قريبة. وطوال اليوم انتظر تحت شجرة، وهو المكان التقليدي الذي يجلس فيه الغرباء حتى يتقدم مضيِّف ويستضيفهم، لكن أهل القرية نظروا إليه بدهشة وخوف ورفضوا أن يُضَيِّفوه. عند الغسق كان جائعًا وقلقًا: كانت الريح تتصاعد، والمطر ينذر بالهطول، وكان وجود الوحوش البرية الكثيرة في المنطقة يعني أنه سيتعين عليه أن يحاول النوم على أفرع الشجرة. أخيرًا ضيَّفته امرأةٌ عائدة من عملها في الحقول، وأعطته ماءً، وسمكةً حلوة المذاق جدًّا لعشائه، وحصيرة لينام عليها، وبينما كان يستريح، كانت الفتيات في الأسرة يغزلن القطن ويغنين تكريمًا له أغنية حلوة وحزينة تأثَّر بها وسجَّلها:

هدرت الرياح، وهطلت الأمطار.
الرجل الأبيض البائس، الضعيف والخائر القوى
جاء وجلس تحت شجرتنا.
إنه لا أمَّ له لتحضر له لبنًا،
ولا زوجة لتطحن له الذرة.

الجوقة:

هيا نشفق على الرجل الأبيض؛
فلا أمَّ له.

ربما بسبب ما كان قد عاناه بارك في مخيم علي، كان متأثرًا بشدة بهذا التصرف الكريم. فبعد ستة شهور من التهديد والتوتر، أطلق كرم هذه المرأة العِنان لعاطفة قوية لديه. كتب قائلًا: «كان الموقف مؤثرًا لأقصى درجة.» ثم أضاف: «أسرني ذلك اللطف غير المتوقع؛ وطار النوم من عيني.» كان هذا واحدًا من كثير من أعمال الخير التي أُظهِرَت نحوه في غرب أفريقيا، ونموذجًا للمعاملة التي تلقاها من النساء. كتب متذكِّرًا: «لا أذكر حالة واحدة من القسوة نحوي من النساء.» ثم أردف: «في كل تجوالي هائمًا على وجهي وبؤسي، وجدتهن عطوفاتٍ ورحيماتٍ على وتيرةٍ واحدة.»

عندما وصلت كلمات فتيات البامبارا إلى بريطانيا، أصبحت موضع فضول وسرور. كانت «مشاعر بسيطة وشجية»، حسبما قال البعض، لكنها أظهرت أن بوسع هؤلاء الوثنيين أن يُظْهِروا إنسانيةً اعتقد كثيرون أنها حكرٌ على المسيحيين. تأثرت المؤلفة والناشطة السياسية جورجيانا كافنديش، دوقة ديفونشاير بهذه الكلمات وأعادت نظْمَها في قصيدة مقفاة، ولحنتها:

امضِ، أيها الرجل الأبيض، امضِ؛ ولكن احمل معك
مرتجى الزنوج، وصلاة الزنوج،
وذكرى رعاية الزنوج.

في الصباح، منح بارك مضيِّفته الأشياء الوحيدة ذات القيمة التي كان لا يزال يمتلكها: زرين نحاسيين من صدريته.

•••

راجع بارك الآن تعليماته التي كانت واضحة، ولكنها ملحَّة. كان قد حقق واحدًا من الأهداف الرئيسية التي حددتها له الرابطة الأفريقية، وهو: العثور على نهر النيجر وتحديد اتجاهه. ما تبقى — بصرف النظر عن الطلب المستحيل بأن يكتشف أيضًا منبع النهر ومصبه — كان مهمة استخدامه «قصارى جهوده» لزيارة المدن والبلدات الواقعة على امتداده، وبخاصة تمبكتو. كان هذا هو الهدف الذي شرع بارك في تحقيقه. تتبَّع مسار النهر مسافة مائة ميل في اتجاه الشمال الشرقي، وصولًا إلى سيلا في نهاية يوليو. وهناك، تغلَّب عليه أخيرًا الإرهاق الناتج عما بذله من جهود. كتب يقول: «كنت مرهقًا بسبب المرض، ومنهكًا بسبب الجوع والمشقة، وشبه عارٍ، وليس معي أي غرض ذي قيمة يمكنني أن أدبِّر به مؤنًا، أو ثيابًا، أو مأوًى.» وفوق كل ذلك أدرك أنه كان متجهًا على نحوٍ أعمق في منطقة أولئك «المتعصبين العديمي الرحمة»؛ المور. وخوفًا من أنه إن قُتِل فستموت اكتشافاته معه، قرَّر أن يعود أدراجه، لكنه كان عليه أولًا أن ينتزع من تجار سيلا كلَّ المعلومات التي يستطيع انتزاعها عن تمبكتو، «الهدف العظيم للاستكشاف الأوروبي»، والتي قيل له إنها تقع على مسافةٍ أبعدَ في اتجاه الشمال الشرقي. مما لا شك فيه أن أسئلة بارك ركَّزت على مضطهديه، وقيل له بحق إن المدينة كانت مليئة بالمسلمين الذين كانوا «أشد قسوة وعدم تسامح في مبادئهم من أيٍّ من القبائل المورية الأخرى في هذا الجزء من أفريقيا.» ذكر رجل أسود مسن، كان في زيارته الأولى لتمبكتو، كيف أن المالك في نزله كان قد بسط حصيرة على الأرض ووضع عليها حبلًا، قائلًا: «إن كنتَ مسلمًا فأنت صديقي، واجلس؛ ولكن إن كنتَ كافرًا، فأنت عبدي، وبهذا الحبل سأقتادك إلى السوق.»

ومع ذلك، إن كان بمقدور أي أحد أن يتغلب على هذه الصعوبات، فإن الجوائز ستكون عظيمة، حيث بدا أن استفسارات بارك عن ثراء المدينة تؤكد الشائعات:

الملك الحالي لتمبكتو يُسمَّى أبو أبراهيما؛ ويُقال إنه يمتلك ثرواتٍ هائلة. ويُقال إن زوجاته ومحظياته يلبسن الحرير، وإن كبار رجال الدولة يعيشون في أبَّهة كبيرة. كل نفقات حكومته تُحَمَّل، حسب ما قيل لي، على ضريبة على السلع، تُجبى على بوابات المدينة.

بعدما انتهت أبحاثه، عاد بارك المنهك إلى الوطن. سافر بحذاء نهر النيجر في اتجاه الجنوب الغربي إلى باماكو، التي كانت في ذلك الوقت أكبر قليلًا من قرية، حيث ترك النهر العريض ليمضي غربًا نحو الساحل. كان الوقت هو الموسم المطير وكان السفر صعبًا: تعيَّن عليه ثلاث مرات أن يسبح في خضم مجارٍ مائية فائضة، وهو يدفع حصانه أمامه، ودفتر يومياته مدسوس في قمة قبعته. وعلى بُعد مسافة قصيرة من باماكو، سلبه اللصوص الأشياء القليلة التي كانت باقية بحوزته، ولم يعيدوا له إلا أسوأ قمصانه وبنطالًا، لكنه أبى أن ييأس، وأمر كبير القرية التالية أحد خَدَمِه أن يعثر على ملابسه وحصانه وأن يعيدهما إليه. أعطاه بارك الحيوان الهزيل على سبيل الشكر، قبل أن يتابع طريقه بجهد جهيد إلى بلدة كاماليا الصغيرة. بحلول ذلك الوقت كان في وضعٍ خطِر: كان محمومًا، وأحد كاحليه مصاب مما يعني أنه لم يكن بوسعه إلا أن يمشي وهو يعرج، ولم يكن معه طعام أو أغراض ليقايض بها. كان أمامه خمسمائة ميل أخرى إلى بيسانيا، وسرعان ما سيمضي به طريقه عبر براري جالونكادو الكئيبة، حيث كان يوجد المزيد من الأنهار الخطرة التي كان سيتعين عليه أن يعبرها ولا مأوى لخمسة أيام. كتب يقول: «كدت أن أحدِّد المكان الذي كان محكومًا عليَّ فيه … بالهلاك.»

في كاماليا، حالف الحظ بارك بأن يصادف حُسنَ ضيافة مثالية أخرى.

أبصر مجموعةً من الناس ينصتون إلى رجلٍ يقرأ من نصٍّ باللغة العربية. لاحظ القارئ، الذي كان تاجر رقيق يُسمَّى كارفا تورا، بارك وسأله بابتسامة إن كان قد فهم ما كان مكتوبًا في الكتاب. لم يكن بارك يقرأ العربية، لذا طلب تورا من أحد رفقائه أن يأتي بمجلد صغير كان قد جُلِب من الغرب. عندما فتحه بارك، وجد أنه كان «كتاب الصلاة المشتركة». شعر الرجلان بسعادة غامرة في تلك اللحظة — كان ما أسعد تورا هو حقيقة أن هذا الغريب ذا الأسمال البالية يستطيع قراءة الكلمات الإنجليزية التي لم يكن بوسع أي أحد آخر أن يفهمها؛ أما ما أسعد بارك فقد كان اكتشاف نصٍّ مسيحي ﺑ «اللغة الإنجليزية» في غرب أفريقيا — ونشأت رابطة فورية بين الرجلين. عرض تورا أن يوفِّر لبارك مسكنًا مجانًا حتى ينتهي الموسم المطير، وقال إنه سيرشده بعد ذلك إلى نهر جامبيا مع مجموعة العبيد التي كان سيأخذها إلى الساحل. وقبِل بارك عرضه. بعد ثلاثة أيام شعر بإعياء شديد لدرجة أنه لم يستطِع السير، وظل في كاماليا طيلة الشهور السبعة التالية، وأخذ يسجِّل ملاحظاتٍ عن الحياة في المدينة عندما بدأ يسترد عافيته. أثناء هذا الوقت أصبح أول أوروبي يسجل أن المخطوطات كانت تُستخدَم في الداخل الغرب أفريقي.

عندما رحل تورا في رحلة عمل، ترك بارك في رعاية معلم مسلم يُسمَّى فانكوما، والذي كان يمتلك عددًا كبيرًا من المخطوطات. كان قد عُرِض على بارك وثائقُ مماثلة في أماكنَ أخرى أثناء أسفاره، لكن الآن كان لديه الوقت ليناقشها بتفصيل:

مستعلِمًا من المعلم حول الموضوع، اكتشفت أن بحوزة الزنوج (من ضمن مخطوطات أخرى) نسخةً عربيةً من «بانتاتيك موسى» [الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم]، والتي يطلقون عليها «توراة موسى». هذا الكتاب ذو قيمة كبيرة حتى إنه عادةً ما يُباع بقيمة عبد من النخبة.

كان لدى السودانيين أيضًا نُسَخٌ من المزامير ومن سفر إشعياء، وكانت تحظى بتقديرٍ كبير، واكتشف بارك أن أناسًا كثيرين في كاماليا كانوا يعرفون قصص العهد القديم؛ وفي ذلك قصص آدم وحواء، ومقتل هابيل، وطوفان نوح، وسيرة حياة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وقصة يوسف وإخوته، وقصص موسى وداود وسليمان. وأصيب بالدهشة عندما وجد عددًا من الناس الذين كان بوسعهم أن يسردوا عليه هذه القصص بلغة الماندينكا، وأذهلهم أن يكتشفوا أنه كان هو الآخر يعرفها.

استخدم فانكوما مخطوطاته لتعليم السبعة عشر صبيًّا والبنتين الذين كانوا في مدرسته. كان الصبية يتعلمون في الصباح والمساء ويؤدون الواجبات المنزلية لمعلمهم أثناء اليوم، وكان ذلك أثناء ما كان يعلم البنات. كان التلاميذ يتعلمون قراءة القرآن وتلاوة عدد من الأدعية، وعندما يصبحون جاهزين، كانت وليمةٌ تُعَد ويجتاز التلميذ اختبارًا، أو «[يأخذ] درجته»، على حد تعبير بارك. حضر المستكشف ثلاثة من هذه الاحتفالات، واستمع بغبطة إلى «الإجابات المميزة والذكية» التي أجاب بها كل واحد من التلاميذ. وعندما يصبح الممتحنون راضين، كانت الصفحة الأخيرة من القرآن توضع في يد التلميذ، ويُطلَب منه أو منها أن تتلوها جهرًا. وأخيرًا كان كل العلماء ينهضون، ويصافحون كل واحد من التلاميذ ويسبغون على كل واحد منهم لقب «بوشرين» أو عالِم.

كان آباء الصبية يعطون المعلم عبدًا أو السعر المعادل لذلك عند تخرُّج أطفالهم. (لم يقل بارك إن كان نفس الأمر ينطبق على الفتيات أم لا.) ذكر بارك أن هذا كان يحدث دومًا إذا كان بمقدور الآباء تحمُّل تكلفته، وإلا يظل الصبي بمثابة الخادم المنزلي للمعلم إلى أن يتمكن من جمع أموال كافية ليفتدي نفسه بها. ومع أن التلاميذ كانوا يتلقون تعليمًا إسلاميًّا، فقد ذكر بارك أن معظم تلاميذ فانكوما لم يكونوا مسلمين، وأن هدف آبائهم من إدخالهم المدرسة كان يتمثَّل فقط في تعليم أطفالهم. لم يكن وجود مدرسة في كاماليا أمرًا غير مألوف. إذ كان قد لاحظ أنه «كان ثمَّة تشجيع … يُولَى للتعلُّم (على عِلَّاته) في أنحاء كثيرة من أفريقيا.»

بعد كتابة هذه الملاحظات عن هذا النظام التعليمي الأفريقي الذي كان سائدًا في القرن الثامن عشر، غادر بارك كاماليا في أبريل من عام ١٧٩٧. سافر مع قافلة تورا المكونة من خمسة وثلاثين عبدًا، الذين كان بعضهم قد بقي مكبلًا بأغلالٍ حديدية لسنوات وكان بالكاد يستطيع السير، ولكنهم كانوا الآن في طريقهم إلى حياة بائسة في الأمريكتين أو إلى ميتة مريعة أثناء نقلهم. استغرق الأمر شهرين لعبور الأميال «المملة والمرهقة». وعندما اقتربوا من بيسانيا، التقى بارك بامرأةٍ تتحدث الإنجليزية والتي كانت تعرفه قبل أن ينطلق في رحلته لكنها حينئذٍ ظنَّت خطأً أنه مسلم. عندما أخبرها بهويته، نظرت إليه «بدهشة عظيمة، وبدت غير مستعدة للإقرار بما شهدت به حواسها.» كان قد قيل لتجار نهر جامبيا منذ وقت طويل إن بارك قد أُردي قتيلًا في لودامار، ولم يتوقعوا أبدًا أن يروه مجددًا.

•••

بلغ بارك فالموث قبل أعياد الميلاد المجيد لعام ١٧٩٧ مباشرةً، بعد غيابٍ عن إنجلترا دام لعامين وسبعة شهور. ابتهجت بريطانيا باكتشافاته، وكان الأكثر ابتهاجًا بها هم أعضاء الرابطة الأفريقية، الذين صار لديهم أخيرًا ما يحتفلون به. كان بوفوي قد توفي سنة ١٧٩٥، لذا أعد المستكشف سردًا لرحلته مع سكرتير الرابطة الجديد، براين إدواردز. نُشِر كتاب «أسفار في المناطق الداخلية لأفريقيا» الذي تضمَّن خرائط جديدة رسمها رسام الخرائط البارز جيمس رينيل، في عام ١٧٩٩. كان الكتاب عبارة عن قصة مغامرات واقعية، أعطى فيها بارك القراء الأوروبيين أول سرد صحيح عن بلاد السودان وشعبها، وسرعان ما صار من الكتب الأكثر مبيعًا. وأصبحت تمبكتو ونهر النيجر حديث أوروبا.

كانت الرابطة الأفريقية قد نمت نموًّا هائلًا في العقد الذي مضى منذ تأسيسها. في الخامس والعشرين من مايو من عام ١٧٩٩، التقى أعضاؤها في حانة «ستار آند جارتر» في شارع بول مول، حيث هنَّأ بانكس الجمْع على كتاب بارك، «الذي تلقاه الجمهور بقبول حسن.» وفي حين أنه لم يكن قد أُحسِن اختيار لوكاس وهوتون، فقد أظهر بارك «قوةً لبذل الجهود، وبنيةً جسدية تتحمل المشقة، ورباطة جأش قادرة على تحمل الإهانات بصبر، وشجاعة للاضطلاع بمجازفات خطِرة، وحسن تقدير لوضع حدود لجهوده عندما كان من المحتمل أن تكون الصعوبات التي واجهها مستعصية.»

كان موقف أوروبا تجاه أفريقيا قد تغيَّر في العقد الذي مر منذ أنشأ نادي السبت الرابطة. كانت بريطانيا وفرنسا في خضم سلسلة طويلة من الحروب، وكان نابليون قد احتل مصر ليحاول تهديد المصالح البريطانية في الهند. كان ثمَّة قيمة استراتيجية لركن واحد على الأقل من القارة الأفريقية، وتحدَّث بانكس، الذي عمل دومًا على تعزيز مصالح الأمة، صراحةً الآن عن استغلال معلومات بارك الجديدة من أجل الربح، وذلك بالوسائل العسكرية. كان بارك قد فتح «بوابةً على الداخل الأفريقي»، حسبما قال بانكس، يمكن «لكل أمةٍ» أن تدخل من خلالها وتوسِّع تجارتها. وأضاف: «عن قريب ستجعل فصيلة من ٥٠٠ من الجنود المختارين ذلك الطريق ميسورًا، وستبني موانئ على [نهر النيجر] — إذا ركب ٢٠٠ من هؤلاء سفينة ومعهم قطع حربية ميدانية فسيكون في مقدورهم التغلب على كل القوات التي يمكن لأفريقيا أن تجلبها في مواجهتهم.» وبالاستعانة بالتكنولوجيا الأوروبية، يمكن تلقين «المتوحشين الجهلة» المنتمين إلى الداخل الأفريقي كيفية التنقيب عن ذهبهم بطريقة أفضل، وسيكون من المرجح أن تزيد قيمة العائد السنوي، التي قدَّرَها بأنها حاليًّا مليون جنيه إسترليني، بمقدار مائة ضعف.

وضع الاجتماع مذكرةً لتقديمها للجنة المجلس الملكي الخاص للتجارة والمزارع، محددًا أجندةً استعماريةً صريحةً. نصحوا بأن «أول خطوة للحكومة يجب أن تتمثل في أن تؤمِّن للتاج البريطاني، إما بالغزو أو بالمعاهدات، سائر ساحل أفريقيا من أرجين إلى سيراليون؛ أو على الأقل أن تحصل على تنازل عن نهر السنغال.»

تزوَّج بارك في ذلك العام وعاد إلى اسكتلندا ليعمل طبيبًا، لكن العمل لم يناسبه وسرعان ما اشتاق إلى العودة إلى أفريقيا. أخبر الكاتب الروائي والشاعر السير والتر سكوت أنه كان يعاني من خلل عصبي كان يجعله يستيقظ فجأة ليلًا معتقدًا أنه ما زال سجينًا في خيمةِ علي في لودامار. عندما عبَّر سكوت عن استغرابه من أنه لا يزال يريد العودة إلى القارة، أجاب بارك قائلًا «إنه يفضل أن يواجه أفريقيا وكل أهوالها عن أن يضيع حياته في جولات طويلة وشاقة بحصانه عبر تلال اسكتلندا، والتي كان مقابلها كافيًا بالكاد للحفاظ على تماسك الروح والجسد.»

بحلول موسم شتاء عامي ١٨٠٣-١٨٠٤، كانت وزارة الحرب وشئون المستعمرات تناقش إرسال قوة عسكرية لاحتلال تمبكتو، بعدما تزايد قلقها من المحاولات الفرنسية للسيطرة على غرب أفريقيا. في النهاية اتُّفِق على إعادة إرسال أنجح مستكشفي الرابطة الأفريقية مع فصيلة صغيرة من الجنود. أبحرت حملة بارك الاستكشافية الثانية هذه من إنجلترا في الثلاثين من يناير من عام ١٨٠٥، وكُلِّفَت بأن تتبع مسار نهر النيجر «إلى أقصى مسافة ممكنة يمكن تتبعه إليها.»

إن كان العامل الرئيسي لنجاح رحلته الأولى هو طبيعتها التي لم تكن تشكِّل تهديدًا — مدعومة بلطف مضيِّفي بارك، وقليل من الحظ الحسن، وقوة احتمال شخصية هائلة — فقد كانت الحملة الثانية تستهدف القتال. مضى بارك برتبة نقيب، وراتب ٥٠٠٠ جنيه إسترليني، و٥٠٠٠ جنيه إسترليني أخرى للنفقات، وفريق يضم خمسة وأربعين فردًا، يشمل سرية من الجنود، وبحارة، ونجارين، وزوج أخته ألكسندر أندرسون، وصديقًا من سيلكيرك، هو جورج سكوت. جُنِّد الجنود من جوري، وهي جزيرة قبالة ساحل السنغال كان الإنجليز قد استولوا عليها مؤخرًا من الفرنسيين، لذا كانوا متأقلمين جزئيًّا مع غرب أفريقيا، لكن المرض ظل يودي بحياتهم بسرعة في الداخل. وبحلول وقت بلوغهم باماكو، كان واحد وثلاثون من الأوروبيين قد لقوا حتفهم. لكن الرهان على بارك كان أعلى من أي وقت مضى، وتابع طريقه بتصميم. بلغ سانساندينج في أكتوبر، حيث بنى مركبًا شراعيًّا طوله أربعون قدمًا وأطلق عليه اسم قارب صاحب الجلالة «جوليبا»، وهو اسم نهر النيجر بلغة الماندينكا. واستأجر مرشدًا، هو أمادي فطومي، واشترى ثلاثة بحارة عبيد للمساعدة في تشغيله، ولكن بحلول وقت استعدادهم لمغادرة سانساندينج لم يكن باقيًا إلا خمسة أوروبيين، وكان أندرسون وسكوت قد توفِّيا.

لا بد أن الناجين بحلول ذلك الوقت كانوا يعرفون أنه من غير المحتمل أن تُكتَب لهم النجاة في المنطقة الداخلية، وأصاب اضطراب عقلي واحدًا من الجنود على الأقل. ومع ذلك، لم يكن أي شيء سيجعل بارك يحيد عن مساره. أبلغ لندن في برقيته الأخيرة أن لديه «تصميمًا راسخًا على أن يكتشف نهاية نهر النيجر أو أن يهلك دون ذلك»، مضيفًا أنه إن فقد حياته فعلًا، فعلى الأقل سيموت في النهر. أبحر قارب صاحب الجلالة «جوليبا» في نوفمبر من عام ١٨٠٥، وانقطعت أخبار بارك بعد ذلك للأبد.

استغرق الأمر من الحكومة البريطانية ستة أعوام حتى تكتشف ما حدث. في عام ١٨١١، تعقَّب واحد من مرشدي بارك السابقين فطومي، الذي كان قد كتب روايته عن الأيام الأخيرة للحملة الاستكشافية باللغة العربية. كان القارب «جوليبا» قد أبحر مع تيار النهر مسافة ١٥٠٠ ميل، واختار بارك، الذي كانت تجربته مع «المور» لا تزال تطارده، ألا يرسو حتى يبلغوا الساحل. وكلما واجهوا تهديدًا كانوا يشقون طريقهم خلاله وهم يطلقون النار، ومع انتشار الأنباء عن عدوان المسيحيين، كذلك انتشرت المقاومة في طريق تقدُّمهم. لا تذكر رواية فطومي البسيطة عن مرور «جوليبا» بتمبكتو سوى تلميحات عن الأيام الأخيرة للطاقم الذي أنهكته الأمراض بينما كان أفراده على شفير الجنون:

وصلنا إلى [كابارا]؛ ولدى مروري بها، جاءت ثلاثة زوارق صغيرة لتعترض طريقنا، فدرأناها بالقوة كما في السابق؛ ووصلنا إلى [تمبكتو]؛ ولدى مرورنا بها تعرضنا من جديد لهجوم من ثلاثة زوارق صغيرة أخرى، ودرأناه؛ ومررنا [بجورما]، وبعد مرورنا بها [جاءت] سبعة زوارق صغيرة في إثرنا، وبالمثل درأنا هجومها؛ وفقدنا رجلًا أبيض، بسبب المرض؛ بعد ذلك لم يكن على متن [«جوليبا»] سوى أربعة رجال بيض، وأنا، وثلاثة عبيد كنا قد اشتريناهم، أي إن عددنا مجتمعين كان ثمانية؛ وكان لكل واحد منا ١٥ بندقية مسكيت، ملقمة جيدًا، وجاهزة دومًا للقتال … جاء في إثرنا [ستون] زورقًا صغيرًا، فدرأنا هجومها بعد أن قتلنا كثيرًا من السكان الأصليين، وهو ما كنا قد فعلناه في كل اشتباكاتنا السابقة.

في هذا القتال الأخير كان واحد من الجنود القليلين الباقين على قيد الحياة، وهو الملازم جون مارتين، في حالة تعطش وحشي للدماء وأخذ يطلق طلقات كثيرة لا داعي لها حتى إن فطومي أمسك بيديه وحاول أن يكبح جماحه. وقال لمارتين: «لقد قتلنا ما يكفي.» ثم أضاف: «فلنتوقف عن إطلاق النار!» حوَّل الجندي غضبه إلى المرشد، لكن بارك تدخل لينقذه.

بجهد هائل نابع من الإرادة، بلغ المركب الدموي بلدة يلوا، في نيجيريا المعاصرة، في أوائل عام ١٨٠٦، حيث غادرهم فطومي. كانوا على بُعد خمسمائة ميل فقط من دلتا نهر النيجر، حيث يصب نهر النيجر في خليج غينيا، لكنهم لن يصلوا لأبعد من ذلك. مباشرةً فوق شلالات بوسا شديدة الانحدار، تعرضوا لهجوم من ضفة النهر. انجرف المركب نحو ضفة النهر، وقفز بارك والأوروبيون الثلاثة الباقون إلى النهر، حيث غرقوا جميعًا.

•••

بحلول عام ١٨٢٠ كانت الحكومة البريطانية قد أخذت على نحوٍ متزايد تضطلع بدور الرابطة الأفريقية في استكشاف القارة. كان نفوذ الرابطة قد تضاءل وكذلك عدد أعضائها، من خمسة وسبعين عضوًا في عام ١٨١٠ إلى ستة وأربعين بحلول عام ١٨١٩. كانت قد ملأت كثيرًا من الفجوات في خرائط أفريقيا واستحدثت نموذجًا جديدًا للاستكشاف ستستند عليه الجمعيات الجغرافية التي كانت على وشك أن تظهر فجأة وبسرعة في سائر أنحاء العالم. ومع ذلك، كانت اكتشافات الرابطة قد أُحرِزَت بتكلفةٍ ما؛ إذ إن جميع «مستكشفيها»، باستثناء سيمون لوكاس، قد لقوا حتفهم خارج البلاد. وصل الألماني الشاب فريدريك هورنمان إلى فزان متنكرًا في هيئة مسلم في عام ١٧٩٩ وأرسل معلومة مفادها أن «تمبكتو هي بالتأكيد المدينة الأبرز والأهم في الداخل الأفريقي»، قبل أن يختفي. وبعد عشرين عامًا بلغ بريطانيا نبأ موته في عام ١٨٠١ في نيجيريا الحالية. أُرسِل هنري نيكولز من خليج غينيا في عام ١٨٠٤ للعثور على نهاية نهر النيجر، دون أن يدرك أن هدف بحثه كان هو نفس الموضع الذي كان قد انطلق منه. وتوفي في عام ١٨٠٥، ربما بسبب الملاريا. وفي عام ١٨٠٩ أرسلت الرابطة يوهان لودفيك بركهارت، الذي تجوَّل في الشرق الأوسط تسعة أعوام، تعلَّم خلالها اللغة العربية وأعاد اكتشاف مدينة البتراء، التي كانت قد فُقِدَت منذ ألف سنة، والمعبد العظيم لرمسيس الثاني في أبو سمبل، الذي كان مدفونًا بالرمال. وعندما جهَّز نفسه أخيرًا ليتجه صوب بلاد السودان في أواخر عام ١٨١٧، أُصيب بالدوسنتاريا ومات.

في هذا الوقت كان بانكس قد صار مسنًّا. كان بدينًا ومصابًا بالنقرس وأمضى ساعات استيقاظه على كرسي متحرك، ومع ذلك استمر في رئاسة الجمعية الملكية حتى وفاته، التي حدثت في التاسع عشر من يونيو من عام ١٨٢٠. استغرق الأمر ستة أعوام أخرى قبل أن يصل مستكشف أوروبي أخيرًا إلى تمبكتو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤