الفصل السادس

سوف تكون من نصيبي

١٨٢٤–١٨٣٠
ربما يكون جوزيف بانكس قد مات والرابطة الأفريقية في انحدار، ولكن في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر كان منافس أوروبي جديد على وشْك أن ينضم إلى سباق الوصول إلى تمبكتو. في الثالث من ديسمبر من عام ١٨٢٤، تلقَّت اللجنة المركزية للجمعية الجغرافية المشكَّلة حديثًا في باريس معلومةً مثيرة للفضول من أحد مسئوليها المؤسسين، رسام الخرائط آدم فرانسوا جومار. بحسب محضر اجتماع الجمعية:

أعلن السيد جومار أن أحد الأعضاء تبرع بألف فرنك … لمكافأة أول رحَّالة يشق طريقه حتى مدينة تمبكتو عن طريق السنغال، والذي يتحصل على ملاحظات مؤكدة ودقيقة عن موقع هذه المدينة، وعن مسار الأنهار التي تجري في المنطقة المجاورة لها، وعن التجارة التي هي مركزها؛ ومعلومات مُرضية للغاية حول البلاد التي بين تمبكتو وبحيرة تشاد، بالإضافة إلى اتجاه وارتفاع الجبال التي تشكِّل حوض السودان.

من المؤكد أن فكرة مكافأة تمبكتو قد أسرَت خيال المائتين وسبعة عشر عالمًا الذين كانوا قد أنشئوا الجمعية الجغرافية؛ إذ إن قيمتها بدأت تتعاظم على الفور. فقد أُضيف إليها على الفور مبلغ ألف فرنك على سبيل التبرع من أجل «الاكتشافات الجغرافية» من الكونت جريجوري أورلوف، الذي كان عضوًا في مجلس الشيوخ الروسي وكان يعيش في فرنسا، مما ضاعف الجائزة، ثم ضاعفها مجددًا وزير البحرية الفرنسية. وحتى لا يتفوق عليه أحد، أضاف وزير الشئون الخارجية ألفي فرنك أخرى، وتبرَّع وزير الداخلية بألف فرنك إضافية. قدَّم عدة أعضاء آخرون المزيد، بحيث بلغت قيمة الجائزة في أوائل عام ١٨٢٥ ما يعادل ١٠ آلاف فرنك وهو ما كان مبلغًا ضخمًا، أضافت إليه الجمعية — التي كانت ستقرر مَن هو الفائز — الوعدَ بمنح الفائز جائزةً رفيعة هي «الميدالية الذهبية الكبرى للاستكشاف ورحلات الاكتشاف» إلى جانب المبلغ النقدي.

ومع ذلك، لم يكن استحقاق هذا المبلغ الكبير أمرًا سهلًا. بالإضافة إلى كون المتنافس المنتصر «محظوظًا بما يكفي لأن يتغلب على كل الأخطار المتعلقة ببلوغ تمبكتو» أعلنت «نشرة الجمعية الجغرافية الفرنسية» أنه يتعين عليه أن يتحصل على حقائقَ مفيدة عن جغرافيا البلاد، وإنتاجها الزراعي، وتجارتها. تحديدًا، طلبت الجمعية خريطة مستندة على الملاحظات الفلكية، وتقريرًا مكتوبًا بخط اليد يحتوي على معلومات عن طبيعة الأرض، وعمق الآبار والمياه الموجودة فيها، وعرض المجاري المائية والأنهار وسرعة جريانها، ولونها ونقاوتها، ونتاج الأرض التي تمدها بالمياه، والمناخ، وانحراف الإبرة المغناطيسية وميلها، وأنواع الحيوانات التي تعيش هناك. كان يتعين أيضًا على المتسابقين أن يجلبوا معهم عينات من الأحافير، والأصداف، والنباتات، ودراسة تفصيلية عن سكان المنطقة:

عن طريق مراقبة الناس، على [المستكشف] استقصاء عاداتهم، واحتفالاتهم، وملابسهم التقليدية، وأسلحتهم، وقوانينهم، وعبادتهم، والطريقة التي يتغذون بها، وأمراضهم، ولون بشرتهم، وشكل وجوههم، وطبيعة شَعرهم، وأيضًا أهداف تجارتهم المختلفة.

لأي شخص عاش في بلاد السودان، كان من شأن قراءة هذا أن تكون مقلقة. ومع ذلك، كما كان الحال مع الرابطة الأفريقية، أُجريت الدراسة بداعي الجغرافيا — كانت «حقلًا شاسعًا يتعيَّن تعهده من أجل معرفة الأجناس البشرية»، حسبما أعلنت «النشرة»، و«من أجل تاريخ الحضارات، ومن أجل لغاتها، وملابسها التقليدية، وأفكارها الدينية!» — وأيضًا كانت تلك هي بالضبط نوعية المعلومات التي تتطلبها أي قوة استعمارية. كان من شأن الكرم الذي أغدق به الوزراء أموال الحكومة أن يكون مثيرًا للريبة. في الواقع، كانت «الجائزة الممنوحة لتشجيع القيام برحلة إلى تمبكتو» تشبه كثيرًا محاولة وافد متأخر لإيجاد سبيل له إلى مباراة الاستكشاف الأفريقي التي بدأها منافسه قديم العهد. أقرت «النشرة» بذلك: كانت بعثة للحكومة البريطانية إلى وسط أفريقيا في عام ١٨٢٣ هي التي جذبت انتباه الأوروبيين مجددًا إلى القارة، وكان من الطبيعي أن تولي الجمعية الجغرافية الفرنسية، التي لم يكن قد مرَّ على تأسيسها سوى ثلاث سنوات، وجهتها إلى هذا الاتجاه. كان من مصلحة فرنسا التجارية أن تجد طريقًا إلى الداخل الأفريقي يقتفي أثر الطريق الذي سلكه مونجو بارك، وهو ما من شأنه أن يرتبط ارتباطًا ملائمًا بالمستعمرات الفرنسية، القائمة منذ فترة طويلة، في السنغال.

مع انتشار نبأ الجائزة، أُشيع أن ستة مغامرين كانوا يعدون العدة لمحاولة الوصول إلى المدينة، ولكن كان يوجد شخصان هما مَن أصبحا بوجه خاص مقترنين بالسباق المُحفَّز حديثًا إلى تمبكتو: رينيه كاييه والميجور ألكسندر جوردون لَينج.

كان لينج هو من سيرسل «أول خطاب على الإطلاق يكتبه مسيحي من ذلك المكان»، على حد تعبير القنصل البريطاني في طرابلس، هانمر وارينجتون. عمل لينج، الذي كان ابن مدير مدرسة من أدنبرة، لفترة قصيرة مُعلِّمًا هو الآخر قبل أن يهرب إلى الجيش ويُرسَل إلى أقاليم غريبة هي بربادوس وجامايكا وسيراليون، التي أُرسِل إليها في عام ١٨١٩. في غرب أفريقيا قاد عددًا من الحملات إلى الداخل، مبديًا شجاعةً، وصلابة جسدية، ومقدرة على تعزيز الذات وهي صفات ستصبح أساسية في محاولة الوصول إلى تمبكتو التي كانت بالفعل قد بدأت تتبلور في رأسه. لقد كتب إلى أصدقاء له في عام ١٨٢١: «لقد كان لديَّ طيلة أعوام كثيرة رغبة قوية في التوغل إلى الداخل الأفريقي، وقد تزايدت لديَّ تلك الرغبة تزايدًا عظيمًا بوصولي إلى الساحل [الخاص بغرب أفريقيا].»

في عام ١٨٢٤، أُرسِل إلى الديار، معتل الصحة، ليكتب تقريرًا لوزير الدولة للحرب والمستعمرات، اللورد باتهورست، عن الهزيمة الكارثية للبريطانيين على يد إمبراطورية الأشانتي في نسامانكو. مستعينًا بالتملق والاسترضاء، حظي الميجور البالغ من العمر تسعًا وعشرين سنة بقبول باتهورست الذي عيَّنه قائدًا ﻟ «حملة إلى تمبكتو»، وكان ذلك من دواعي غضب عارم لدى قائده المباشر في سيراليون، السير تشارلز تيرنر، الذي اشتكى من أن لينج كان «يفتقر إلى الحكمة، وإلى الانضباط العسكري، وجبانًا» وأن «أعماله العسكرية كانت أسوأ [حتى] من نظمه للشِّعر.» وفي مايو من عام ١٨٢٥ وصل لينج إلى طرابلس، حيث استقبله بترحاب وارينجتون، الذي كان سكِّيرًا ومحبًّا لوطنه، وكان يُشاع أن زوجته كانت ابنة غير شرعية للملك جورج الرابع، وعلى الفور دخل في علاقة عاطفية صاخبة مع ابنة القنصل، إيما. وتزوجا في ضيعة والدها الكبيرة في ضواحي المدينة في الرابع عشر من يوليو، قبل أربعة أيام من انطلاق العريس في رحلته إلى تمبكتو. كان وارينجتون قد رأى كثيرًا من المستكشفين الذين ينطلقون إلى هلاكهم في الصحراء ورفض أن يسمح للعروسين أن يتمما زواجهما حتى عودة لينج. وفي واحدة من أكثر المكاتبات التي تلقتها وزارة الحرب والمستعمرات غرابةً، كتب إلى باتهورست يقول: «سأحرص بشدة على أن تظل ابنتي طاهرة وعفيفة كالثلج.»

استأجر لينج تاجرًا، هو الشيخ باباني، ليأخذه إلى تمبكتو مقابل مبلغ ٢٥٠٠ دولار، ودفع له ألفًا مقدمًا. كان لدى كلٍّ من المستكشف والقنصل ثقة كبيرة في الشيخ باباني، الذي قيل إنه عاش في المدينة الغامضة أعوامًا كثيرة. كان رجلًا «ممتازًا في كل شيء»، حسبما أورد لينج، «هادئ الطبع، غير مؤذٍ، ومسالمًا»، بينما اعتبره وارينجتون «من خيرة مَن رأيت في حياتي، وذو طبع معتدل للغاية، ويتصف بأكثر طلعة جذابة وقعت عليها عيناي.» اتُّفِق على أن يأخذ الشيخُ لينجَ إلى تمبكتو في شهرين ونصف، وفي نهاية تلك المدة سيترك لينج في رعاية صديقه المقرب، «الشيخ الكبير والزعيم مارابوط مقتة»، الذي كان لديه من النفوذ ما يضمن للمستكشف مرورًا آمنًا إلى الساحل. بخلاف باباني، ضمت الحملة الاستكشافية بحَّارَين أفريقيَّين، كان لينج يأمل أن يبنيا له قاربًا يبحر به في نهر النيجر؛ ومترجمًا يهوديًّا؛ ونافخَ بوق عسكريًّا كثيرَ الأسفار، مولودًا في جزر الكاريبي، يُدعى جاك لي بور، والذي كان الخادم الشخصي للمستكشف. كان النهج الذي كان لينج ينوي أن ينتهجه تنقصه الفطنة: كانوا سيسافرون في ملابس إسلامية، ولكن لئلا يخطئ أحدٌ في تحديد هويتهم الحقيقية، كان سيتلو صلوات مسيحية على مساعديه كل يوم أحد، حيث سيظهرون جميعهم معًا «مرتدين ملابس رجال إنجليز.»

انطلقت الحملة الاستكشافية إلى الصحراء في أوج فصل الصيف، عندما كان مقياس الحرارة يصل دومًا إلى ١٢٠ درجة وكانت الأرض جدباء لدرجة أنه، حسب لينج، «كان العشب الذي يمكن العثور عليه يماثل في قلته ما يمكن أن تجده في قعر منجم قصدير في كورنوول.» استغرق الأمر قرابة شهرين للوصول إلى مدينة وواحة غدامس القديمة، على بُعد أقل من ثلاثمائة ميل من طرابلس، بعد أن قاد باباني القافلة في طريقٍ ملتوٍ مسافة ألف ميل. أصاب العرج سبعة جمال في هذا الجزء الأول من الرحلة، بينما نفد طعام الرجال وتراجعت حصصهم من الماء حتى وصلت إلى آخرها. أيضًا تحطَّم معظم معدات لينج العلمية، وكذلك بندقيته الوحيدة، التي كان جمل قد داس عليها «بخفه المتورم الكبير.»

لكن روح لينج الرومانسية كانت هي ما مثَّل معظم التهديد المبكر الكبير للحملة الاستكشافية. ففي غدامس تلقى حزمة من الخطابات من عروسه الجديدة، من بينها صورة شاحبة لها كانت قد رُسِمَت في طرابلس. جعله مظهر حبيبته الدال على إصابتها بالسل يدخل في نوبة هيستيرية. في صباح اليوم التالي كتب إلى وارينجتون، مهدِّدًا بالتخلي تمامًا عن مهمته إذ كان جليًّا أن إيما مشتاقة إليه:

إن حبيبتي إيما مريضة، ومكتئبة، وتعيسة — تطارد مخيلتي عيناها الغائرتان، وخدها الشاحب، وشفتها عديمة اللون، ووداعًا للصمود — لو كنت على مسيرة يوم من تمبكتو، وبلغني أن حبيبتي إيما مريضة، فسأرجع، وأقتفي أثر خطواتي عائدًا إلى طرابلس؛ ما تمبكتو؟ وما نهر النيجر؟ ما أهمية العالم لي دون حبيبتي إيما؟

ولكن بحلول الساعة السادسة مساءً، كان قد تعافى من هذه النوبة الرومانسية وعاد ليكتب من جديد، طالبًا أن يُلتَمَس له العذر عن «اضطرابه صباحًا.» في اليوم التالي كان يتعهد مجددًا بأن يؤدي واجبه «مثل رجل طروادي.»

بعد البقاء ستة أسابيع في غدامس، غادرت قافلة الشيخ باباني صوب الجنوب الغربي، ووصلت عين صالح، في إقليم توات، في الثاني من ديسمبر. هنا، بعيدًا عن متناول السلطات الطرابلسية، بدأ الباباني يتغيَّر: كان حينئذٍ «معوزًا وجشعًا إلى أبعد حد»، كما كتب لينج. في التاسع من يناير انطلقوا من جديد. كان يشعر أفراد القافلة بالتوتر. كانت كل شجيرة بعيدة تُعتَبَر عصابة من لصوص الطوارق، وفي إحدى المرات ظُنَّ عن طريق الخطأ أن لينج هو مونجو بارك، لكنه لم يُعِر اهتمامًا كبيرًا للخطر الذي انطوى عليه ذلك. في سهل تنزروفت القاحل الكبير، الذي كان «منبسطًا مثل مسطح بولينج أخضر، ومنعدم الخضرة مثل جزيرة ميلفيل [في الدائرة القطبية الشمالية] في ذروة الشتاء»، انضمت إليهم مجموعة مدججة بالسلاح من طوارق الأهقار على جمال سريعة، وسارت جنبًا إلى جنب مع القافلة. وبعد بضعة أيام، بعد ما وصفه لينج بأنه فعل ينطوي على «خيانة خسيسة» من جانب الباباني، أحاط الطوارق في صمتٍ بخيمته في الساعة الثالثة فجرًا وأطبقوا عليه. حاول المترجم أن يلوذ بالفرار لكنهم أمسكوا به وقتلوه، وحدث الأمر نفسه مع واحد من البحَّارين الأفريقيين. جُرِح الآخر في ساقه، بينما تمكَّن جاك لي بور من الهرب. أما لينج فأُصيب بطلقات وطُعِن أربعًا وعشرين طعنة وتُرِك بعدما اعتُبِر في عداد الأموات.

بطريقةٍ ما، تمكَّن المستكشف المثخن بجراحٍ خطيرة من أن يصعد على جملٍ في ذلك الصباح. حمَلَه الجمل مسافة أربعمائة ميل أخرى إلى منطقة شيخ قبيلة عرب كونتا ذي النفوذ، سيدي محمد، حيث كتب في العاشر من مايو من عام ١٨٢٦ إلى حميه بيده اليسرى المشوَّهة، يخبره بالتفصيل عن إصاباته المروعة. وحتى بينما كان لينج يتعافى، اجتاحت كارثةٌ مخيمَ سيدي محمد الصحراوي. ففي الأول من يوليو، كتب لينج مجددًا إلى وارينجتون بالأنباء، مُعَيِّنًا هذه المرة مكان كتابة خطابه بأنه «أزواد»:

بذهنٍ مكتئب مع الأسف بالمرض، والحزن، وخيبة الأمل، أكتب إليك بقلمٍ مُكرهٍ لأطلعك على أنني لم أمضِ في رحلتي أبعدَ مما كنتُ حين كتبت إليك آخر مرة.

كان مرضٌ ما، «شيء يشبه الحمى الصفراء»، قد اجتاح المخيم وقتل نصف تعداده، وفي ذلك الباباني، وسيدي محمد نفسه، وجاك لي بور. كانت الحمى قد أصابت لينج هو الآخر، لكنه كان قد تعافى منها، وكان حينئذٍ الفرد الوحيد من جماعته الأصلية الذي بقي على قيد الحياة. كان لا يزال يعاني من «آلام مريعة» في رأسه، ناشئة عن شدة جراحه. ومع ذلك، مدفوعًا بشعور، يقترب من الجنون، بأن هذا هو مصيره، صمم على أن يمضي قُدُمًا.

كان على بُعد مسيرة بضعة أيام قليلة فقط من تمبكتو، لكن توقيت وصوله لم يكن من الممكن أن يكون أسوأ من ذلك: كانت المدينة في طريقها للوقوع تحت سيطرة الحاكم المسلم لإمبراطورية ماسينا الفولانية، أحمد لوبو. كان لوبو قد تلقى منذ وقت قريب تحذيرًا من سلطان خلافة صُكُتُو القوية بألَّا يدع الأوروبيين يزورون بلاد السودان بسبب الانتهاكات ووقائع الفساد التي كانوا قد ارتكبوها في مصر وفي أماكن أخرى، وكتب عندئذٍ إلى حاكم تمبكتو، منذرًا بالشر ويخبره أن «ينتزع [من لينج] كل أمل في العودة إلى ممالكنا.» حذَّر شيخ كونتا الجديد، نجل سيدي محمد الأكبر، المختار الصغير، مرارًا وتكرارًا المستكشف داعيًا إياه ألَّا يتابع طريقه، لكن لينج أصر. فعل الشيخ المختار ما في وسعه؛ إذ أعطاه مرشدًا إلى تمبكتو وكتب إلى حاكم المدينة، طالبًا منه أن يحمي لينج.

بلغ لينج المدينة في الثالث عشر من أغسطس من عام ١٨٢٦، بعد ما يزيد قليلًا عن عام من مغادرته طرابلس، وبعد خمسة أسابيع كتب خطابه الوحيد من تمبكتو إلى وارينجتون. لم يكن، بالمعنى الدقيق للكلمة، أوَّل أوروبي يبلغ تمبكتو — فعلى أية حال، كان ليون الأفريقي قد وُلِد في أوروبا وعاش في إيطاليا، وقاتل مرتزقة ومرتدون أوروبيون في صفوف الجيش المغربي الذي غزا المدينة في عام ١٥٩١ — لكنه كان أول مستكشف يصل إلى هناك ويرسل إلى الوطن إفادة بذلك، رغم ما كانت عليه من اقتضابٍ وغموض. لو كانت المدينة مخيبةً للآمال، ما كان لينج سيقول ذلك الآن. من المرجح أنه أمضى أسابيع في تمبكتو يملأ يومياته بملاحظات كان يأمل أن تُنشَر يومًا ما، لكنه لم يكن يرغب بعدُ في أن يُطْلِع عليها الحكومة البريطانية، وفجأة لم يكن ثمَّة وقت: كان من المتوقع مجيء وفد من الفولاني وكان قد أُلِحَّ عليه في المغادرة على الفور. ومع ذلك، لم يستطِع أن يخيِّب أمل قرائه كليًّا، ولذلك ذكر ببساطة أن «المدينة العظيمة في وسط أفريقيا» كانت قد «أوفت تمامًا بتوقعاته» من كل ناحية فيما عدا مساحتها، ووعد بأن يكتب على نحوٍ أوفى من سيجو، مع أن الطريق أمامه كان «سيئًا»، وكان يعرف أن الأخطار لم تكن قد انتهت.

غادر لينج تمبكتو في حوالي الثالثة عصرًا في اليوم التالي، الموافق الثاني والعشرين من سبتمبر، بصحبة عبدٍ مُعتَق يُدعى بونجولا، وصبي عربي. انطلق شمالًا إلى الصحراء، صوب أرَوان، في طريقٍ ملتوٍ الغرض منه تجنُّب رجال لوبو. ثم، كشأن كثيرين قبله، اختفى.

•••

احتفظت الصحراء الكبرى بقليل من الأسرار. فعلى الرغم من مساحتها الهائلة وصغر تعداد سكانها، كانت الشائعات تنتقل سريعًا. كانت القوافل تلتقط الشائعات من كل مستوطنة كانت تمر بها، من الأسواق الكبيرة وحتى أصغر الواحات، وتحملها معها إلى وجهاتها. كان هذا دومًا مصدر دهشة لدارسي الصحراء الكبرى، وأورد المؤرخ إي دبليو بوفيل أن «في هذه الصحراء الهائلة كان الأمر يبدو كما لو أن الجميع يعرفون ما يفعله جميع الناس الآخرين.» في أوائل القرن التاسع عشر، كان القليل من المعلومات ينتقل على نحوٍ أسرعَ مما تنتقل به أخبار أوروبي دخيل.

وصلت الأصداء الأولى لمتاعب لينج إلى وارينجتون في طرابلس في مارس من عام ١٨٢٦: أنه قد حدث هجومٌ غادِرٌ على جماعته وأن المستكشف قد أُصيب إصابات بليغة. بعد ذلك، توقَّفت الأخبار الآتية من الصحراء. بصفته القنصلَ وكذلك حما المستكشف، كان وارينجتون في موقفٍ حرجٍ زاد من سوئه فجيعة ابنته وعلمه بمخادعة البلاط الطرابلسي. كان لينج قد سافر تحت حماية باشا طرابلس القوي، يوسف القرمانلي، وكان وارينجتون يضغط الآن على القرمانلي ضغطًا كبيرًا من أجل أن يأتيه بأخبار عن لينج. ففي ربيع عام ١٨٢٧، قدَّم الباشا إلى وارينجتون نسخةً من إفادةٍ أرسلها الشيخ المختار نفسه.

كان قادة تمبكتو في حرجٍ بين رغبتهم في رعاية ضيفهم ومطالب ملكهم الجديد، أحمد لوبو، حسبما أوضح الشيخ:

من أجل التوفيق بين المصلحتين، سمحوا له بأن يبقى في تمبكتو قرابة شهر … حتى التقى بعدو الله ورسوله، أحمد ولد عبيدة ولد رشال البربوشي، الذي أقنعه بأن بوسعه أن يرشده إلى أروان، ومن هناك يركب النهر من سانساندينج، وأن يتابع طريقه من هناك إلى المحيط الكبير.

كان «عدو الله» هو شيخ عرب البرابيش، الذي كان يُعرَف أيضًا باسم أحمدو لعبيدة. غادر هو ولينج تمبكتو معًا، لكن في منتصف الطريق أمر المرشد خَدَمه أن يمسكوا لينج ويقتلوه. بعد ذلك فتَّشوا أمتعته، التي كانت «كل الأشياء العديمة النفع فيها، من [نحو] أوراق، وخطابات، وكتب، قد مُزِّقت وأُلقيت لتذروها الرياح، خشيةَ أن تحتوي على بعض السحر، واحتُفِظ بالأغراض القيِّمة.» قال الشيخ المختار إن هذه كانت القصة الصادقة لملابسات وفاة لينج.

أحال وارينجتون الأخبار إلى وزارة الحرب والمستعمرات، دون أن يصدِّقها تصديقًا تامًّا. وبعد بضعة شهور فُجِع الدبلوماسي البريطاني لدى سماعه بأمر خطاب أُرسِل في الخامس من أبريل إلى الصحيفة الفرنسية «ليتوال»، والذي ذكر وفاة لينج باعتبارها حقيقةً واقعة. لم يُرفَق اسمٌ بالخطاب، لكن ذُكِر في ترويسته أنه كُتِب في «سوقارة في طرابلس»، التي تصادف أنها كانت مقر إقامة القنصل الفرنسي، البارون جان بابتيست روسو. كان وارينجتون يكره الفرنسيين عمومًا وروسو بوجه خاص، وحينئذٍ كان قد وجد هدفًا لغضبه وحزنه. كيف استطاع روسو أن يعرف ما لم يعرفه وارينجتون. تصوَّر في مخيلته مؤامرة محكمة بين الفرنسيين، والقرمانلي باشا، ووزير خارجية الباشا، والذي كان رجلًا محبًّا للفرنسيين ومثقلًا بالديون يُدعى حسونة الدغيس. اعتقد وارينجتون أن هذا الرجل كان متواطئًا مع الباباني منذ البداية، وربما حتى يكون قد موَّل قاتل لينج في نهاية المطاف. عندما أرسل وارينجتون بتقارير يلمِّح فيها إلى هذه المؤامرة، حولت فرقاطة من البحرية الملكية مسارها إلى طرابلس لإقناع الباشا بالتعاون أكثر مع تحريات القنصل. في ذلك اليوم، الموافق الثاني والعشرين من أبريل من عام ١٨٢٨، اعترف الباشا لأول مرة بأن لينج قد لقي حتفه. في أغسطس، وصل بونجولا إلى طرابلس، حيث أكَّد أن شيخ البرابيش قد «قتل [المستكشف]، بمعاونة خَدَمه السود بطعنات كثيرة أثناء نومه.» لم يكن ثمَّة شك في مصير لينج.

كان للأمر وقعٌ كارثي على إيما التي كانت بالفعل معتلة، والتي تزوجت مرةً أخرى وانتقلت للإقامة في إيطاليا، لكنها توفيت في العام التالي، في الثامنة والعشرين من عمرها، بعد أربعة أعوام فقط من مشاهدتها لحبيبها يشد الرحال مغادرًا إلى تمبكتو. بينما انصب اهتمام والدها اليائس على يوميات المستكشف، رافضًا أن يصدِّق تأكيد الشيخ المختار بأنها قد أُتلِفَت. لم يكن ثمَّة شك في أنه كان من شأنها أن تحتوي على معلومات حيوية عن الداخل الأفريقي كانت ستجعل اسم زوج ابنته بارزًا، وبنفس القدر من الأهمية، تدعم أي مطالبة بريطانية مستقبلية بالأحقية في السيطرة على الداخل الأفريقي الغني بالثروات. اتجهت شكوكه مجددًا إلى الدغيس والقنصل الفرنسي.

في أثناء ذلك أجج روسو عن غير عمد جنون الارتياب لدى خصمه بتصريحه بأنه قد اكتشف وجود تاريخ لتمبكتو، وهو ما كان يأمل أن يكون في حوزته عما قريب. نُشِرَت رسائل البارون التي تعلن اكتشافاته في «نشرة الجمعية الجغرافية الفرنسية» في عام ١٨٢٧ ومن شبه المؤكد أنها تعتبر أول ذكر لما يُعرف باسم كتاب «تاريخ السودان» في الكتابات الأوروبية، على الرغم من أنه لم يكن يعرف أنه كان يُسمى بذلك الاسم. كُتِب كتاب «تاريخ السودان»، الذي عادةً ما يُنسَب على وجه الخطأ إلى أحمد بابا، في القرن السابع عشر على يد عالم تمبكتي آخر، هو عبد الرحمن بن عبد الله السعدي. وما إن عُثِر على هذا الكتاب، حتى أصبح النص الأساسي للمؤرخين عن المنطقة.

في رسالته الأولى، ذكر روسو متأملًا أن عاصمة بلاد السودان، «تِن بُكتو»، أفلتت دومًا من أكثر الاستقصاءات مثابرةً. قال: «الجميع يتحدث عنها، ولم يرَها أحدٌ بعد.» كان يأمل أن يأتي مستكشف، مدفوعًا بما أعلنته الجمعية الجغرافية الفرنسية عن «منافسة نبيلة وسخية» وأن «يسعد بأن يميط عنها … لثام الغموض وهو ما من شأنه أن يكشفها أمام أعين الباحثين الأوروبيين.» واستطرد القنصل الفرنسي قائلًا إنه، إلى أن يحدث ذلك، كان قد تمكَّن من جمع القليل من المعلومات عن الموضوع:

يبدو أنه يوجد تأريخ مفصل لهذه المدينة، كتبه شخصٌ يُدعى سيدي أحمد بابا، المولود في أروان، وهي بلدية في الإقليم [المسمَّى كونتا]، وهو تأريخ يحدد وقت تأسيسها بأنه عام ١١١٦ ميلادية. في هذا العمل، هذه هي الكيفية التي تُروى بها الملابسات التي أحاطت بتأسيس تِن بكتو:

«استقرت امرأة من قبيلة الطوارق، تُسمى بُكتو، على حافة نيل الزنوج، في كوخٍ تظلله شجرة كثيفة الأغصان؛ وكانت تمتلك بعض النعاج، وودت أن تمارس كرم ضيافتها مع المسافرين من قومها الذين كانوا يمرون من ذلك الطريق. وسرعان ما أصبح منزلها المتواضع ملاذًا مقدَّسًا، ومكانًا لراحة وسرور القبائل المحيطة، التي أطلقت عليه اسم «تِن بكتو»، أي مِلك بكتو (كلمة «تِن» في اصطلاحهم هي ضمير الملكية للغائب). بعد ذلك جاءت هذه القبائل من كل الجهات لتجتمع وصنعت مخيمًا شاسعًا، تحوَّل فيما بعدُ إلى مدينة شاسعة وآهلة بالسكان.» هذا، بحسب سيدي أحمد بابا، هو أصل الاسم وأصل تأسيس تِن بُكتو، التي ربما كانت شهرتها في نهاية المطاف هي مجرد وهم، سيزول ما إن نتمكن من قهر العقبات الكثيرة التي تمنع الوصول إليها.

نُشِرَت رسائلُ أخرى لروسو، مؤرخة في الثالث من مارس وفي الثاني عشر من يونيو، ١٨٢٨، في «نشرة الجمعية الجغرافية الفرنسية» في العام التالي. هذه المرة خلط هو أو محررو النشرة بين اسم أحمد بابا والبطل الشعبي علي بابا: إذ كتب روسو: «آمل أن يكون بحوزتي قريبًا تاريخ تمبكتو الذي كتبه سيدي علي بابا من أروان، والذي أترقب وصوله من توات.»

أما وارينجتون فاعتبر هذا دليلًا إضافيًّا على الحيل الفرنسية القذرة. كيف أمكَّن لروسو أن يكون في وضعٍ يتيح له أن يتحصَّل على تاريخ تمبكتو الذي كتبه «علي بابا» بينما لم يكن أي فرنسي قد وصل إلى المدينة؟ هل كان هذا هو الكتاب الذي كان لينج قد ألمح إليه في خطابه الوحيد من ذلك المكان، والذي كان قد كتب فيه أنه قد «كوفئ بسخاء» في عمليات بحثه عن سجلات المدينة؟ كان يوجد تفسير بسيط للأوراق المفقودة: وهو أن الفرنسيين قد سرقوه. وكلما واصل في هذا المسار من التحقيقات، ازداد عدد الشهود الذين تقدموا ليعطوه الإجابة التي رغب فيها. أخبره بونجولا بأن الدغيس قد استحوذ على أوراق لينج، بينما قال موظف سابق لدى روسو إنه قد رأى الدغيس يسلِّم وثائقَ إلى القنصل الفرنسي مقابل مبلغ من المال. خمَّن وارينجتون أنه لا بد أن يكون الدغيس قد حصل على ثمار رحلة لينج، وباعها للفرنسيين ليساعدوه على دفع ديونه.

بينما كان وارينجتون يتأهب لمواجهة روسو بشأن أوراق لينج المفقودة، كانت الأنباء على وشك أن تذيع بشأن أن أوروبيًّا ثانيًا قد وصل إلى تمبكتو. كان هذا التطور سيئًا على نحوٍ مضاعف لوارينجتون؛ لأن المستكشف كان فرنسيًّا.

•••

كان رينيه كاييه من نواحٍ كثيرة يمثِّل نقيض لينج. كان شخصًا بسيطًا، وابن مجرم مدان، وصار يتيمًا في الحادية عشرة من عمره، كما كان طفلًا مهمَلًا يتسم بشخصية حالمة، بل كئيبة. كانت إحدى بوادر حظه الحسن المبكر القليلة هي أن ظهر في حياته معلِّم شجعه على قراءة قصص المغامرات. كان ما ألهب مخيلة كاييه على وجه خاص هو رواية دانييل ديفو، «روبنسون كروزو»، لكن لم يُثِر حماسه شيء في الأدب بقدر خريطة أفريقيا. في طفولته، كان قد تمعَّن في شكل القارة الذي يشبه تركيبًا مأخوذًا من أجسام حيوانات ثديية، من ردف مستدير إلى قرن وحيد القرن، وتأمَّل طويلًا تعليقاتها التوضيحية المدهشة. أي مدن تقع في تلك الفجوات غير المكتشفة؟ وأي مخلوقات غير منظورة؟ وأي حضارات مجهولة؟ ازداد شغفه بالجغرافيا حتى صار ولعًا. وقرَّر أن يصنع لنفسه اسمًا بارزًا باكتشافٍ ما مهم في هذه القارة التي لم يُستكشَف منها إلا القليل. انعزل عن أصدقائه، ونبذ الرياضة ووسائل اللهو الأخرى، وكرَّس وقت فراغه للكتب والخرائط. في السادسة عشرة من عمره — وهو نفس عدد الأعوام التي كانت قد مرت من القرن التاسع عشر — ترك وطنه وفي جيبه ستون فرنكًا، متجهًا إلى أفريقيا.

كان العقد الأول من حياة كاييه المهنية في الاستكشاف بمثابة تعلُّم للأخطاء التي يمكن أن يقع فيها المغامرون الأوروبيون. أبحرت سفينة «لوار»، التي عمل على متنها مقابل أن تحمله جنوبًا، من فرنسا بصحبة الفرقاطة «ميدوسا»، وهي سفينة لاسمها سمعة سيئة. تحطمت «ميدوسا» في مياه أرجين الضحلة السيئة السمعة، وهي جزيرة قبالة الساحل الغربي بالقرب من كيب بلانكو، وعندئذٍ هرب القبطان والضباط إلى القوارب، وأودعوا ١٤٧ فردًا من أصحاب الرتب الأدنى طَوْفًا مؤقتًا جنح بهم بعيدًا عن الشاطئ. لم ينجُ إلا خمسة عشر شخصًا من مشاهد القتال المخمور، والمجاعة، وأكل لحوم البشر التي اندلعت على متن الطوف، والتي خلَّدها تيودور جيريكو في لوحته «طَوْف ميدوسا»، كناية عن فساد الصفوة الفرنسية.

سرعان ما وجد كاييه كوارثَ كبرى مماثلة تجري على البر. كان من بين هذه الكوارث حملةٌ استكشافية بريطانية كبيرة إلى الداخل الأفريقي وتمبكتو بقيادة الميجور جون بيدي، كانت قد انطلقت من منطقة مستنقعات ينتشر بها داء الملاريا من عند مصب نهر نونيز. توفي بيدي جراء الحمى قبل حتى أن يترك الساحل، ولم تقطع حملته إلا ثلاثمائة ميل في الداخل حتى أُجبرت على العودة ومعها نصف ضباطها موتى. لم يفتَّ ذلك من عضد البريطانيين، وحاولوا مجددًا، هذه المرة بدءًا من نهر جامبيا، لكن ملك بوندو استنزف الحملة الاستكشافية بخبرةٍ كبيرة حتى إن قائدها، الميجور ويليام جراي، سرعان ما اضطر إلى أن يرسل إلى الساحل في طلب المزيد من الهدايا. انضم كاييه إلى قافلة إعادة التموين، التي حملت قدرًا أكبر بكثير مما يلزم من الأمتعة وأقل مما يلزم بكثير من المياه إلى الصحراء. أصبحت عينا الشاب مجوَّفتين بسبب الجفاف، وشاهد اليأس يستولي على الرجال الآخرين حتى إنهم شربوا بولهم. ولاحقًا، أصابته الحمى، وكان من حسن حظه أن تمكَّن من العودة إلى فرنسا على قيد الحياة. وهناك سمع أن هذه الحملات العسكرية البريطانية الفاشلة كانت قد تكلفت مبلغًا خياليًّا يصل إلى ٧٥٠ ألف جنيه إسترليني، وهو ما يعادل ٣٫٤ ملايين دولار في هذا الوقت.

ومع ذلك ظل كاييه مثابرًا. في عام ١٨٢٤ عاد إلى أفريقيا ومعه فكرته الخاصة عن الهجوم على الداخل الأفريقي. على خلاف حالات الفشل التي كان قد شهدها، كانت مهمته ذات تكلفة قليلة ومتسمة بالحذر. كان سيتنكر في هيئة عربي مصري بائس كان قد تعرَّض للاختطاف على يد القوات الفرنسية في طفولته وكان الآن متوجهًا إلى الإسكندرية عائدًا إلى الديار. أمضى ثلاث سنوات في التحضير لدوره، فتعلَّم العربية والنصوص الإسلامية، وأتقن قصته الملفقة، وتعلَّم كيف يرتدي ثيابه، ويصلي، ويأكل مثل المسلمين. لم يكن الفرنسيون والبريطانيون سيوفرون التمويل المالي لمهمته المنفردة، لكن كان من شأن جائزة الجمعية الجغرافية الفرنسية أن تكون مكافأةً كافية له. كان سيعطي المال لأخته، التي كانت تعيش في فقر في فرنسا.

أقسم في نفسه: «حيًّا أو ميتًا، سوف تكون من نصيبي.»

غادر كاييه ساحل غينيا في التاسع عشر من أبريل، عام ١٨٢٧، في لباسٍ عربي، وهو يحمل معه مصحفًا والمظلة الضرورية. ارتقى مستنقعات الملاريا إلى مرتفعات غينيا، وبذل جهدًا جهيدًا وهو يمر عبر الممرات الجبلية والوديان والسيول الزاخرة بالعواصف المدارية. استظل من الشمس تحت أشجار البومباكس الوارفة وأكل ثمار التمر الهندي ليدرأ الحمَّى التي كانت تهدده دومًا بأن تباغته. وفي مرتفعات فوتاجلون، عبر نهر النيجر — وحتى هنا، بالقرب من منبعه، كان عرضه يبلغ مائتي ياردة — وبالقرب من كانكان نجا من محاولة مرشده اكتشاف أنه مسيحي. تفشَّت في قدميه جروحٌ نازفة وأدت إصابته بالإسقربوط إلى تعرية سقف حلقه حتى صار عظمه مكشوفًا، لكنه تعافى من ذلك. وواصل مسيره. وفي مارس من عام ١٨٢٨ بلغ بلدة جِني أو جينيه على نهر باني، حيث وجد قاربًا يأخذه شمالًا إلى نهر النيجر، ثم ٢٥٠ ميلًا أخرى إلى كابارا، مرفأ تمبكتو. وفي التاسع عشر من أبريل، من عام ١٨٢٨، بعد مرور عام من انطلاقه في رحلته، كان أخيرًا قد اقترب من غايته.

في الساعة الواحدة من بعد ظهر ذلك اليوم، كان يختبئ في قعر القارب عندما ناداه الطاقم ليخبروه أنهم يقتربون من كابارا، فسارع بالصعود إلى السطح. للوهلة الأولى لم يتمكَّن من رؤية أي شيء إلا مستنقع تغطيه طيور مائية؛ ثم ظهر المرفأ الصغير الذي يخدم تمبكتو، طافيًا فوق خط الفيضان على تلة صغيرة. كانت المياه في النهر ضحلةً للغاية بحيث لم تكن تسمح للقارب بأن يقترب؛ لذا ركب قاربًا صغيرًا جرَّه العبيد عبر المياه الضحلة.

لم يكن المرفأ مثل لو هافر أو مرسيليا، لكن كان ثمَّة الكثير من الضجة حول كابارا. كان رصيف الميناء مزدحمًا برجال ونساء يحملون البضائع جيئةً وذهابًا، بينما أخذ نجَّارو السفن يعملون على إصلاح قوارب صغيرة كانت قد نُقِلَت إلى الشاطئ. كانت شوارع المدينة الضيقة نفسها مليئةً بصخبِ أناسٍ يبيعون السمك، واللبن، وجوز الكولا، والفستق، بينما أخذت مجموعاتٌ متتابعة من الحمير والجمال تمر باستمرار، تحمل البضائع إلى تمبكتو. كان ذلك اليوم هو اليوم الأخير من شهر رمضان، وعند الغسق عجَّت المدينة بالرقص والاحتفالات.

في الساعة الثالثة والنصف من عصر اليوم التالي، انضم كاييه إلى قافلة صغيرة كانت تتجمع على الطريق إلى تمبكتو.

كان الطريق شمالًا أبيض برمال لامعة ناعمة جدًّا حتى إنها جعلت السير عليها صعبًا. مر الطريق ببحيراتٍ غيرِ متوقعة كانت ضفافها مكسوَّة بغزارة بالنباتات، وعبْر غابة قزمة من النخيل وشجيرات الميموزا وصمغ الأكاسيا. وطيلة معظم الرحلة كانوا يتبعهم رجل من الطوارق كان على صهوةِ جوادٍ بديعٍ وكان هذا الرجل قد نظر إليه نظرات متفحصة وسأل سائقي القافلة عن الجهة التي جاء منها، لكن الفارس فقد اهتمامه بعد أن أخبروه أن كاييه كان مصريًّا فقيرًا. وعلى بُعد ميلين ونصف الميل على المسار، في منتصف الطريق بين كابارا وتمبكتو، بلغوا موضعًا اشتهر بأنه كانت تُرتكب فيه جرائم القتل وكان يُعرَف باسم «لا يسمعون»؛ لأنه من ذلك الموضع لم تكن صيحات الاستغاثة تُسمَع في أيٍّ من المدينتين. مضت القافلة آمنةً عبره. وبعد مسيرة ميلين آخرين، كانت الشمس في الأفق عندما صعد المسار كثيبًا رمليًّا قاحلًا. وأخيرًا، من فوق قمته، استطاع كاييه أن يبصر مقصده.

كانت المدينة أمامه منبسطةً ومنخفضةً، ممتدةً بين سماء هائلة وصحراء شاسعة. كتب رحَّالة لاحق عن بلوغ هذه البقعة: «لا شيء يُنقِص من المشهد الشاسع الذي يضيئه الوهج النابض لشمس الصحراء القوية.» وأردف: «حقًّا إنها متوجة في الأفق بجلال ملكة. إنها بالفعل مدينة الخيال، تمبكتو التي حكت عنها الأسطورة الأوروبية.» استحوذ الانفعال على كاييه:

الآن رأيت عاصمة بلاد السودان هذه، وصار ما كان لأمد طويل موضعَ أمنياتي في متناولي. لدى دخولي هذه المدينة الغامضة، التي هي موضع فضول وبحث أمم أوروبا المتحضرة، شعرت برضًا لا يُوصَف. لم أشعر من قبل بمشاعرَ مماثلةٍ وكانت نشوتي مفرطة.

لم يكن بوسعه أن يشاطر فرحه مع الآخرين خوفًا من أن تنكشف هويته. وبدلًا من ذلك شكر ربه في صمت؛ فقد بدت العقبات والأخطار مستعصية، لكن بحفظ الرب ورعايته حقَّق ما كان يطمح إليه.

ولكن عندما اقترب أكثر، بدأت حماسته تتلاشى. لم تكن تمبكتو رائعةً بقدر ما كان يتوقع:

لم تكن المدينة، لأول وهلة، سوى كتلة من المنازل القبيحة المنظر، المبنية من الطين. لم يكن ثمَّة ما يُرى في كل الاتجاهات سوى سهول هائلة من رمال متحركة ذات لون أبيض مصفر. كانت السماء بلون أحمر شاحب على امتداد الأفق: اكتست الطبيعة كلها بمظهر كئيب، وساد سكون عميق للغاية؛ فلم يكن يُسمَع حتى صوت تغريد طائر.

لم تكن أبنيتها عالية ولا ضخمة ضخامة مميزة؛ وكان معظمها يتألف من طابق واحد. لم يكن للمدينة أسوار. لم يكن ثمَّة نسمة ريح، وعندما استلقى لينام جعلته الحرارة الخانقة يشعر بعدم الراحة أكثر من أي وقت مضى. وفي صباح اليوم التالي، بعدما تفحص المدينة في ضوء النهار، وجد أنها لم تكن كبيرة ولا مزدحمة بقدر ما كان قد انساق إلى أن يعتقد. كان سوقها الفاخر صحراء جرداء مقارنةً بسوق جِني. كان جوُّها يبعث على الخدر. أورد قائلًا: «كان لكل شيء مظهر كئيب.» ثم أضاف: «دُهشتُ من الركود، بل يمكنني حتى أن أقول الجمود، الذي تجلَّى في المدينة.»

كما كان البارون روسو قد توقَّع، كانت المدينة العظيمة ذات المنازل المسقوفة بالذهب مجرَّدَ وهم. كتب كاييه أن «التصورات المبالغ فيها» عن هذه المدينة التي كانت «موضع فضول لعصور عديدة» كانت قد سادت، مشتملةً تعدادها، وحضارتها، وتجارتها مع بلاد السودان. كانت مدينة صغيرة، قطرها ثلاثة أميال، ومثلثة الشكل تقريبًا، وكانت قائمةً على تربةٍ كانت «غير صالحة للزراعة على الإطلاق» ولم يكن فيها أي نباتات سوى أشجار متقزمة وشجيرات.

ومع ذلك، كان للمدينة بعض الميزات الإيجابية التي كان من شأنها أن تقلل من خيبة أمله. كانت شوارعها نظيفة، وأهلها متأنقين، ولطفاء وميَّالين لمساعدة الغرباء، على النقيض مما كان قد قيل لبارك. لم تكن النساء محجبات مثل النساء في المغرب وكان مسموحًا لهن الخروج متى شئن وزيارة مَن شئن. كان يوجد في المجمل سبعة مساجد، منها مسجدان كبيران، وكانت تعلو كلًّا منها مئذنةٌ من الطوب. وعندما ارتقى كاييه برج مسجد جينجربر الكبير، لم يسعه إلا أن يعبِّر عن إعجابه بحقيقة أن مدينةً قد بُنيت هنا أصلًا: «لم يسعني سوى أن أتأمل في ذهولٍ المدينةَ المذهلة التي أمامي، التي لم تُنشأ إلا لدواعي التجارة، والمفتقرة إلى كل موردٍ عدا ما يتيحه موقعها العرضي بصفتها مكانًا لتبادل السلع.»

كان حاكم تمبكتو تاجرًا يُدعى عثمان، كان قد ورث ثروة كبيرة من أسلافه، وكان «ثريًّا جدًّا» على نحوٍ مُرضٍ. استقبل الحاكم كاييه بينما كان جالسًا على بساط جميل عليه وسادة فاخرة:

بدا أن الملك كان ذا طبيعة ودودة للغاية؛ ربما يكون عمره حوالي خمسة وخمسين عامًا، وكان شعره أبيضَ ومجعدًا. كان متوسط الطول، وكان لونه قاتمَ السواد. كان له أنف معقوف، وشفتان رفيعتان، ولحية رمادية، وعينان واسعتان، وكانت طلعته في مجملها مقبولة؛ أما ملبسه فكان، كملابس المور، يتألَّف من أشياء أوروبية الصنع. كان على رأسه طاقية حمراء، تلتف حولها قطعة كبيرة من نسيج قطني على هيئة عمامة. كان حذاؤه مصنوعًا من جلد الماعز المدبوغ، على شكل النعال التي نرتديها في الصباح، ومصنوعًا محليًّا. وكان كثيرًا ما يزور المسجد.

كانت التجارة هي شريان الحياة لهذه المدينة التي كانت «واحدة من أكبر المدن» التي رآها كاييه في أفريقيا، و«المركز التجاري الرئيسي» لهذا الجزء من القارة. كان يوجد الكثير من المغاربة هنا، والذين كانوا يقيمون من ستة إلى ثمانية شهور ليبيعوا بضائعهم ويشتروا المزيد من البضائع التي يحملونها إلى الشمال. كتب كاييه أنه، فيما يتعلق بالتجارة، كان الناس مجتهدين وأذكياء؛ وكان التجار عمومًا أثرياء، ويسكنون أفضل المنازل في المدينة ويمتلكون الكثير من العبيد. تألفت السلع بالأساس من الملح وبضائعَ أخرى كانت تصل إلى تمبكتو عن طريق القوافل أو بالقوارب. وكانت توجد حتى أغراض من أوروبا؛ إذ وجد كاييه بنادق ذات ماسورتين عليها علامة مصنع الأسلحة الفرنسي المملوك للدولة في سانت إتيان، إلى جانب مصنوعات أوروبية «زجاجية، وعنبر، ومرجان، وكبريت، وورق، وما شابه.» كان ما أورده كاييه عن «الورق، وما شابه» هو أقرب إشارة جاء على ذكرها فيما يتعلق بالمخطوطات.

أقام الفرنسي في المدينة أسبوعين. وكرَّس أيامه القليلة الأخيرة لمحاولة معرفة ما أصاب لينج، الذي كان قد سمع اسمه في جِني، وأراه أحدُهم الموضعَ الذي قيل إنه قد قُتِل فيه. بكاه كاييه سرًّا؛ إذ كان ذلك هو «الإعراب الوحيد عن الأسف الذي يمكنني تقديمه للرحَّالة المنكود.» غادر كاييه تمبكتو في الرابع من مايو، من عام ١٨٢٨، مرتحلًا مع قافلة تحمل ريش النعام، والعاج، والذهب، والعبيد إلى أسواق المغرب. وأعطاه مضيفه، سيدي عبد الله شبير، الذي كان «رجلًا رائعًا»، بضاعةً كافية لتمويل رحلته القادمة واستيقظ مبكرًا في يوم الرحيل ليرافقه لبعض المسافة، قبل أن يصافح كاييه بمودةٍ ويتمنَّى له التوفيق.

كان رجال القافلة أقلَّ تمسكًا بكرم الضيافة. لم يُظْهِر سائقو القافلة أي رحمة بالمسافر المُعْدَم، وكانوا أسوأ مع العبيد. كان الماء شحيحًا دومًا حتى إن كاييه شعر باستمرار أنه على وشك الموت، ورفض سائقو القافلة أن يعطوه المزيد حتى عندما توسَّل إليهم. انطوت العواصف الرملية على خطر أن تُطمَر القافلة كلها، متخذةً في بعض الأحيان هيئة زوابع ترابية هائلة. وحتى عندما كانوا يرتحلون تحت السماء الحارقة، لم يسعه إلا أن ينبهر برحابة الطبيعة الصحراوية، بآفاقها التي لا حدود لها، وسهولها الشاسعة البراقة.

•••

بلغ كاييه القنصلية الفرنسية في طنجة في السابع من سبتمبر، بعد ٥٠٧ أيام من انطلاقه. كان منهكًا، ومعتلًّا، ويرتدي أسمالًا، لكن كان بوسعه أخيرًا أن يتخلى عن تنكُّره، فارتدى ملابسَ أوروبية، وعثر على سفينةٍ متجهة إلى تولون. وهناك كتب إلى جومار في الجمعية الجغرافية الفرنسية، الذي أرسل إليه على الفور خمسمائة فرنك لتغطية نفقات رحلته إلى العاصمة الفرنسية. وفي باريس، استجوب جومار وزملاؤه الرحَّالةَ من أجل التحقق من روايته، التي أعلنوا أنها حقيقة؛ فقد حقَّق «كل شيء ممكن … أكثر مما كان يؤمل بما كان لديه من الموارد»، وقد «نجح نجاحًا كاملًا.» وعلى الرغم من الاعتراضات البريطانية، مُنِح كاييه الجائزة المالية، وفي عام ١٨٣٠، مُنِح الميدالية الذهبية، على الرغم من أنه اتُّفِق على أنه ينبغي تقاسمها مع لينج.

قُوبِل انتصار كاييه بصيحات تفاخر مزهوة في فرنسا. فصرَّحت إحدى الصحف الفرنسية: «ها نحن ذا لدينا ما هو محط فخر لفرنسا، ومحط غيرة من منافِستِها الدائمة!» وأضافت: «ما عجزت إنجلترا عن إنجازه، بمعاونة مجموعة كاملة من المستكشفين، وبتكلفة تجاوزت عشرين مليونًا، فعله رجل فرنسي بموارده الشخصية الشحيحة وحدها، وبدون أن يكلف وطنه أي نفقات.» رد البريطانيون بغضب عارم. كيف استطاع فرنسي بسيط، متواضع التعليم، أن يبلغ الهدف الذي كانوا يسعون إليه لعقود؟ كانت شدة حمى بلوغ تمبكتو قد تمخَّضت عن العديد من الادعاءات الكاذبة في الأعوام الأخيرة؛ ومن المؤكد أن رواية كاييه كانت مجرد كذبة أخرى. الأمر الأرجح أن السفينة التي كان على متنها قد تحطمت على الساحل البربري وأنه سمع بعض المعلومات المبهمة عن الداخل الأفريقي وتظاهر بأنها من عنده. لم يؤدِّ تظاهره بالإسلام إلا إلى زيادة الغضب البريطاني؛ لأنه إن كان المستكشف على استعداد لأن يُبَدِّل دينه طوعًا، فكيف يمكن لملاحظاته أن تكون محل ثقة؟

ذكرت دورية «كوارترلي ريفيو» أن «هذا الصياح والأنين الأبدي حول «غيرة» و«منافسة» إنجلترا» لا يدل إلا على «إدراك دائم التكرر للأفضلية الفكرية والجسدية لمواطنينا على مواطنيهم»، ومضت بعد ذلك لتبذل قصارى ما في وسعها للطعن في «تدليس» كاييه. وأردفت أن لينج كان المكتشف الحقيقي لتمبكتو، بينما كان كاييه «شخصًا جاهلًا»، وأن جومار لم يفعل ما يمليه عليه ضميره في التحقق من رحلته. وأضافت: «إننا لن نبدي أي رأي بشأنِ ما إذا كان السيد كاييه قد بلغ تمبكتو أم لم يبلغها، لكننا لن نتردد في أن نقول، فيما يتعلق بأي معلومات عاد بها، بشأن جغرافيا وسط أفريقيا، أو بشأن مسار «جوليبا»، إنه ربما كان من الأفضل لو أنه كان قد بقي في وطنه.» واختُتِم النقد اللاذع برواية مطولة وجيدة الإحاطة لنظرية المؤامرة البريطانية التي مفادها أن روسو والدغيس قد سرقا أوراق لينج.

تأذَّى كاييه بشدة من هذه الهجمات، التي أثَّرت فيه، حسبما قال، أكثر من «كل المشقَّات، والمتاعب والشِّظاف» التي كان قد جابهها في الداخل الأفريقي.

في طرابلس، دفع الاحتفال بالفرنسي وارينجتون إلى أن يمشط الصحراء أكثر مما مضى بحثًا عن يوميات لينج، التي كانت حينئذٍ تتحمل عبئًا مزدوجًا من إنقاذٍ لمجد بلاده ومجد زوج ابنته. وفي أكتوبر من عام ١٨٢٨، كتب إلى وزارة الحرب والمستعمرات عن «المؤامرة البائسة» التي كان لديه فيها «ما يدعو إلى الاشتباه في أن القنصل الفرنسي ربما يكون قد سرق أوراق الميجور لينج.» وبحلول شهر مايو من عام ١٨٢٩، كان يبلغ الحكومة البريطانية بأن الدغيس لم يكن ينتظر فحسب وصول نسخة من كتاب «تاريخ تمبكتو» وإنما أيضًا وصول مؤلفه «سيدي علي بابا الأرواني» من توات. (هذا بغض النظر عن حقيقة أن «أحمد» بابا كان قد تُوفي منذ أكثر من مائتي سنة.)

قال وارينجتون إنه، في البداية، كان يميل إلى السخرية من فكرة أن تأريخًا لتمبكتو قد صدر في أفريقيا؛ لأنه لم يكن يعتقد أن أي أفريقي سيهتم بماضي بلده. وتساءل: «هل من المحتمل أن يكون سيدي علي بابا هذا قد فحص السجلات وكتب تاريخ تمبكتو؟ صدقني، إن قصعة كسكسي لهي موضع للبحث عند أي من المور أكثر من تاريخه.» ومع ذلك، كان حينئذٍ مقتنعًا بأن لينج لا بد أن يكون قد تحصل في تمبكتو على تأريخ «علي بابا»، وأن هذا من ثَمَّ كان دليلًا على المخطط الفرنسي. وأعلن أنه «من المؤكد أنه يحق لنا أن نصدق أن لينج كان بحوزته تاريخ تمبكتو.» كانت ثمَّة خطوة قصيرة ما بين هذا التوهم واستنتاج أن مَن كان بحوزته نسخة من هذا «التاريخ» فإن بحوزته أيضًا يوميات لينج.

لإجبار الباشا على إخراج الوثائق، قطع وارينجتون العلاقات الدبلوماسية في يونيو من ذلك العام ونكَّس العلم البريطاني. أما الباشا، الذي اعتمد بقاؤه على أن يستعين بالنفوذ البريطاني في مواجهة الفرنسيين، فقد أصابه الذعر. وفي الخامس من أغسطس أعلن أن مجموعة من الناس كانوا آتين من الصحراء سيشهدون بالتأكيد بأن أوراق لينج قد أُعطيت إلى الدغيس والقنصل الفرنسي. وبعدما استقرأ الدغيس الرياح السياسية، قرَّر أن يهرب؛ وبعد ثلاثة أيام هُرِّب إلى خارج طرابلس على متن فرقاطة أمريكية صغيرة. وبعد ذلك بوقت قصير، أمر الباشا بتنكيس العلم الفرنسي من فوق قنصلية روسو.

تتكشف حالة وارينجتون العقلية في رسالةٍ كتبها إلى وكيل وزارة المستعمرات، آر دبليو هاي، في العاشر من أغسطس، من عام ١٨٢٩، والتي قال فيها بوضوح: «إن رغبت في أن تتخذ أي خطوات مع السلطات الفرنسية فيمكنك أن تتخذها باطمئنان وثقة؛ لأنني أخشى من أن السيد روسو سيهرب إلى أمريكا هو الآخر، ما إن يسمع بأن فعلته الشائنة قد اكتُشِفت. إنه لم يختلس من الحكومة الإنجليزية يوميات ومخطوطات الميجور لينج فحسب، وإنما أيضًا سرق خطابات لزوجته، ولي، ولعائلتي.»

واختتم وارينجتون بقوله إن الأمر «حقًّا مروِّع للغاية ولا يمكنني المتابعة.»

وبعد يومين، تُوِّج هجوم وارينجتون المخبول على روسو بعرضٍ للمبارزة. كان البارون بالفعل قد تحمَّل ما فيه الكفاية؛ وخوفًا على حياته، طلب من الولايات المتحدة أن تساعده في الهروب من طرابلس، وهُرِّب، مثل الدغيس، على متن سفينة أمريكية. وبعد أن صارت «مسألة لينج» أزمة دبلوماسية كاملة، عينت الحكومة الفرنسية لجنةً للتحقيق في مزاعمِ وارينجتون. وفي وقتٍ لاحق من ذلك العام، أعلنت أن روسو بريء من كل التهم.

لم تكن التداعيات قد انتهت بعد. كانت تلك الأحداث قد جعلت فرنسا تبدو بلهاء واحتاجت إلى تدارك ذلك. في عام ١٨٣٠، وصلت سفينة حربية فرنسية إلى مرفأ طرابلس وأمر الباشا علنًا بأن يسحب كل التهم التي وجهها إلى القنصل الفرنسي وأن يسدد إلى دائنيه الفرنسيين ديونًا بقيمة ٨٠٠ ألف فرنك. وإذ كانت قاعة عرش الباشا في نطاق المدافع الفرنسية، اضطر إلى أن يقبل. وبعد أن أصبحت الأسرة الحاكمة القرمانلية مفتقرةً إلى المال وكذلك إلى المصداقية، كان حكمها يشارف على نهايته؛ وفي عام ١٨٣٢ أُطيح بالباشا من فوق عرشه وعُين حاكم عثماني بعد ذلك بفترة وجيزة. توفي الرجل، الذي كان يومًا ما حاكم طرابلس القوي، وهو يرتدي أسمالًا باليةً في كوخ على مسافة قصيرة من القصر الذي كان قد سكنه وقتًا طويلًا جدًّا.

كان حال روسو أفضل قليلًا. يبدو أنه لم تصل إليه أي نسخة من كتاب «تاريخ السودان»، وهو المخطوط الذي كان من الممكن أن يجعل اسمه بارزًا. وبعد التدخل الفرنسي، عاد إلى طرابلس، لكن الشكوك في باريس ولندن ظلت قائمةً بشأن مسلكه، ومات بعد ذلك بوقت قصير، في عام ١٨٣١. انتهت قصة كاييه نهاية أسعد قليلًا. اختير عضوًا في جوقة الشرف وكوفئ بمعاشٍ منتظم، وجعله الكتاب الذي يحوي روايته لأسفاره في ثلاثة مجلدات، والذي نُشِر على نفقة الدولة في عام ١٨٣٠، رجلًا مشهورًا. وعلى الرغم من أنه لم ينجح في أن يحظى بدعمٍ من أجل المزيد من الحملات إلى أفريقيا، فقد عاش مع زوجته وأطفاله في مزرعة في غرب فرنسا حتى وقع ضحيةً لمرض السل وتوفي في السابع عشر من مايو من عام ١٨٣٨. أما وارينجتون فبقي في طرابلس حتى عام ١٨٤٦، وعند ذلك الحين أُجْبِر على الاستقالة بعد شجار مع قنصل نابولي على علبة سيجار. وانتقل إلى باتراس، باليونان، حيث مات في العام التالي. ولم يكن قد عُثِر على يوميات لينج.

أما فيما يتعلق بالمدينة التي كانت موضع الاشتهاء الأوروبي؛ فقد تحقق هدف الوصول إلى تمبكتو، ولكن ليس بالطريقة التي كان يتمنَّاها أي أحد. ومع ذلك، ألهم تبديد كاييه العلني للأسطورة الذهبية التي كانت قد دامت منذ العصور الوسطى طالبًا جامعيًّا في كامبريدج في التاسعة عشرة من عمره أن ينظم شعرًا عنها. ففي عام ١٨٢٩، العام التالي لعودة المستكشف الفرنسي، اشترك الشاب ألفريد، اللورد تنيسون، بقصيدته «تمبكتو» في مسابقة الجامعة الشعرية. تروي القصيدة حكاية كيف بدَّد «الاستكشاف» حلم الشوارع الفضية والقباب المرتعشة التي كان يُعتقَد يومًا ما أنها موجودة في المدينة الكائنة في الصحراء الكبرى:

أيتها المدينة! أيها العرش الأخير! حيث نشأتُ
على أنه لغز من الحُسن
في كل العيون، اقترب الوقت
الذي يتعين عليَّ فيه أن أترك هذا الوطن المجيد
إلى الاستكشاف المتبصر: قريبًا الأبراج المتألقة القاصية
ستُعتِم بتلويح عصاه السحرية؛
ستُعتِم، وتتضاءل وترتعش متحولةً إلى أكواخ،
بقعٍ سوداء وسط صحراء من رمال كئيبة،
مستوطنات بربرية منخفضة البناء، ذات جدران طينية.
كم تبدلت من هذه المدينة الجميلة!

وفي نهاية القصيدة، قال: «القمر/قد سقط من سماء الليل، وكل شيء صار ظلامًا!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤