الفصل الثامن

مستكشف من فوق مقعده الوثير

١٨٣٠–١٨٤٩

حتى بمقاييس القرن التاسع العشر لرسوم البورتريه، يبدو ويليام ديزبورو كولي مشاكسًا. في رسوم البورتريه التي تصوِّره، نجده عالقًا في مرحلة الكهولة، ينظر إلى المستقبل بفم مقلوب، وعينين منتفختين متشككتين. لن تكون الأجيال القادمة رحيمة بكولي. ولم يكن مستكشفو عصره كذلك؛ إذ كان قليلون من «جغرافيي المقاعد الوثيرة»، حسبما وُصِف على سبيل الاستهزاء، مكروهين أكثر من هذا الشخص. ومع ذلك، كان كولي يمتلك بالفعل قدراتٍ جديرة بالملاحظة. فبينما كانوا يطئُون بأقدامهم مستنقعات أفريقيا الاستوائية وغاباتها الموبوءة بالأمراض مسلحين بالخرائط والبوصلات، كان يصنع اكتشافاتٍ رائدة مماثلة بتصفح الوثائق في المكتبة البريطانية. كان كولي هو من دفع البحث عن تمبكتو وبلاد السودان ليتجاوز مجرد رسم الخرائط، بادئًا الاستقصاء الأوروبي حول تاريخ وسط أفريقيا القديم.

كان قد وُلِد في أيرلندا، على الأرجح في عام ١٧٩٥، وهو العام الذي انطلق فيه بارك لأول مرة من أجل العثور على نهر النيجر. كان كولي ابنًا لمحامٍ وحفيدًا لمهندس معماري مرموق، وتلقَّى تعليمه في جامعة ترينيتي، بدبلن، وانتقل في شبابه للعيش في إنجلترا، حيث التحق بالمشهد الأدبي اللندني، وأصبح كاتب مقالات في مجلة «أثينيوم» وأسهم في دورية «أدنبرة ريفيو». في عام ١٨٣٠، شرع في وضع سرد لاستكشاف أوروبا للعالم، وهو كتاب «تاريخ الاستكشاف البحري والبري»، والذي رسَّخ سمعته بصفته جغرافيًّا، وأصبح واحدًا من أوائل أعضاء نادي الاستكشاف الجديد الذين كانوا يلتقون في غرف جمعية البستنة في شارع ريجينت. بعد ذلك أُطلِق على هذه المنظمة، التي سرعان ما استوعبت الرابطة الأفريقية الآخذة في الانحسار، اسم الجمعية الجغرافية الملكية.

سرعان ما انخرط كولي بروحه القتالية في مسألة تصويب المزاعم المبالغ فيها لبعض معاصريه. في عام ١٨٣٢ حقَّق انتصارًا مبكرًا على منافسٍ لإنجلترا بفضح الأسفار التي كان من الواضح أنها مدلَّسة للمستكشف جان بابتيست دوفيل، الذي زعم أنه وصل إلى عمق المناطق الداخلية لأنجولا ونال على هذا الإنجاز ميداليةً ذهبيةً من الجمعية الجغرافية الفرنسية. بدأ كولي استعراضه لكتاب دوفيل المكوَّن من ثلاثة مجلدات «الرحلة إلى الكونغو والمناطق الداخلية لأفريقيا الاستوائية» بسخرية معتادة؛ إذ كتب: «لم تتمخض أفريقيا، التي تميزت في كل العصور بأنها أرض للمعجزات والعجائب، عن شيء أكثر استثنائية من المجلدات التي بين أيدينا»، قبل أن يثبت أن من شأن الرحلة أن تكون مستحيلة في المدة التي كان دوفيل قد زعم أنها استغرقتها. كانت العواقب كارثية على المستكشف الفرنسي؛ إذ دُمِّرَت سمعته وانتحرت خطيبته خجلةً. تحدَّى دوفيل للمبارزة أي شخص يكرر ملاحظات كولي، لكنه في نهاية الأمر هرب من فرنسا إلى البرازيل، حيث قُتِل على ضفاف نهر الأمازون في عام ١٨٣٧.

يبدو أن تلك الحادثة التعيسة جعلت كولي يتذوق طعم الإطاحة بالأشخاص. من المؤكد أن الأمر عزز من سمعته؛ ففي عام ١٨٣٢ انتُخِب لعضوية مجلس الجمعية الجغرافية الملكية، وبعد ذلك بثلاثة أعوام أصبح نائب الرئيس، ولكن صعوده عبر مناصب المؤسسة الإنجليزية توقف فجأة عندما افتعل شجارًا مع سكرتير الجمعية الجغرافية الملكية، العقيد ألكسندر ماكونوكي، متهمًا إياه بسوء السلوك المالي. تصاعدت الواقعة، التي ربما يكون قد أشعل شرارتها أمرٌ تافه بقدر إضاعة رسوم اشتراك كولي، حتى وصلت إلى دعوات للمبارزة، وأُجبِر كولي على التنحي من منصبه الرسمي. ومنذ ذلك الحين، كرَّس نفسه للبحث عما أطلق عليه الشخصية الرائدة والبارزة في الاستكشاف الفيكتوري، ديفيد ليفينجستون، «الاكتشافات النظرية»، والتي، مع ذلك، أعطت منهجًا وموثوقيةً للأفكار الأوروبية بشأن أفريقيا، وعلى الأخص غرب السودان.

في عام ١٨٣٤، أجرى كولي مقابلةً مع تاجر عربي وعبده الأسود في لندن بشأن جغرافيا شرق أفريقيا. وربط بين معلوماته وبين المصادر البرتغالية وغيرها من المصادر وأخرج عملًا رائدًا عن المناطق الداخلية في القارة، اقترح فيه فكرة وجود بحر داخلي غير مكتشف في شرق أفريقيا يُسمى بحيرة نياسي، والتي تُعرَف حاليًّا باسم بحيرة تنجانيقا. قاده هذا إلى استكشاف شامل لمجموعةٍ أخرى من المصادر، والتي كانت حتى ذلك الحين مستخدمة استخدامًا قاصرًا؛ وهي المصادر الجغرافية العربية القديمة. بالاستعانة بهذه المصادر اعتقد أن بوسعه تصويب أخطاء أسلافه، وبخاصة رسام الخرائط الفرنسي اللامع من القرن الثامن عشر جان بابتيست بورجينيون دانفيل ورسام الخرائط الخاص بالرابطة الأفريقية، جيمس رينيل:

تطرح الجغرافيا العربية لأفريقيا، في الوقت الحاضر، قدرًا كبيرًا، ولكنه مشوش، من المادة العلمية، التي أحيانًا ما يستعين بها الكتَّاب المعاصرون، ليختار كلٌّ منهم ما يبدو أنه يخدم غرضه، ويكيفه بما يتلاءم مع وجهات نظره بتأويلٍ يكافئ في ضحالته وتحيزه طريقته في البحث. سمح جغرافيون معاصرون — دانفيل ورينيل على غير المتوقع — لأوجه تشابه متخيَّلة في نطق الأسماء أن تقودهم بعيدًا عن الحقيقة وعن مسار الاستقصاء القويم … جرَّدت الفوضى التي أدخلتها هذه الطريقة الخاطئة في الأسلوب الأعمال الجغرافية الأولى عن وسط أفريقيا من كل قيمة لها.

عزم كولي على «فحص أعمال المؤلفين العرب الأعظم قيمة» وتطوير المعلومات الواردة فيها. ساعده في هذه المهمة صديق، هو المستشرق الإسباني باسكوال كيانجوس، الذي كان يضع مخططًا لتاريخ الإسلام في بلده بالعودة إلى مخطوطات المؤرخين العرب ومقارنتها بالروايات الأوروبية الموجودة. استعان كولي بنفس التقنية؛ وهي المقارنة المرجعية بين المصادر العربية ومصادر مؤرخين أوروبيين، مثل المؤرخ البرتغالي جواو دي باروس والإسباني لوي دل مارمول كربخال، بالإضافة إلى الكتابات الأحدث لبارك وكاييه. بهذه الطريقة استطاع تقدير مدى موثوقية كل مصدر وتحديد أصل المعلومات. كان من شأنه أن يبدأ من الصفر، متخليًا عن كل الفرضيات السابقة عن مواضع إمبراطوريتي غانا ومالي. وبهذه المعالجة الحيوية، التي دعاها «تصحيح المصادر»، استُبعِدَت التقارير الأكثر خيالية والروايات المستقاة من مصادر غير مباشرة.

كانت استعانة كولي بالنصوص العربية مؤشرًا على النهج الذي كان يتبعه، والذي كان واسع الأفق مقارنةً بعصره. كانت الجغرافيا الأوروبية من وجهة نظره ضيقة الأفق؛ وأكدت كتاباته على حقيقة أن الأفارقة السود كان لهم ماضيهم الخاص بهم، وكانت إلى حدٍّ كبير متحررة من العنصرية التي ظهرت بعده. على سبيل المثال، لم يغفل، عند وصفه لعمليات الإعدام «الهمجية» في بلاط مواتا يامفو في شرق أنجولا، عن ملاحظة أن القوانين الجنائية في البلدان الأوروبية كانت شديدة القسوة على نحوٍ مماثل.

كان جغرافيَّان عربيَّان مفيدين بوجهٍ خاص لكولي؛ وهما الأندلسي أبو عبيد الله البكري، الذي كُتِب أهم عمل له، كتاب «المسالك والممالك»، في عام ١٠٦٨، وابن خلدون، وهو عالم وُلد في تونس في عام ١٣٣٢. لاحظ كولي أن هذين المؤلفين كانا قد كتبا باستفاضة عن حضارات غرب أفريقيا. كان البكري مفيدًا على نحوٍ خاص فيما يتعلق بإمبراطورية غانا القديمة، والتي كانت، على خلاف الدولة الحديثة التي تحمل نفس الاسم، تقع على بُعد ثلاثمائة ميل غرب تمبكتو وكانت لا تزال في تصاعد عندما كان على قيد الحياة. أما ابن خلدون فكان المصدر الرئيسي للمعلومات عن إمبراطورية مالي، التي امتدت من جاو إلى الساحل السنغالي وتضمنت غانا في القرن الثالث عشر.

لاحظ البكري أن اسم غانا كان يعني أشياء متنوعة. كان لقبًا يُعطى لحكام المملكة، ولكن كان يوجد أيضًا ما سُمي «مدينة غانا» التي هي:

مدينتان سهليتان. إحداهما المدينة التي يسكنها المسلمون، وهي مدينة كبيرة فيها اثنا عشر مسجدًا أحدها يجمعون فيه. ولها الأئمة والمؤذنون والراتبون، وفيها فقهاء وحَمَلَة عِلْمٍ. وحواليها آبار عذبة منها يشربون وعليها يعتملون الخضراوات.

على بُعد ستة أميال من مدينة غانا كانت تقع «مدينة الملك»، والتي كانت تُسمَّى «الغابة». وكان فيها قصر، ومسجد، ومبانٍ مقبَّبة، وحولها غابات كانت تحتوي على سجون، وكذلك بساتين وأدغال حيث كان يسكن «سحرتهم، وهم الذين يقيمون دينهم». كان الملك وثنيًّا، يتحلى بحلي النساء في العنق والذراعين ويجعل على رأسه الطراطير المذهبة، لكنه كان يحيط نفسه بمترجمين ووزراء مسلمين. وحول قبَّته عشرة أفراس بثياب مذهبة ووراء الملك عشرة من الغلمان يحملون الحَجَفَ والسيوفَ المحلاة بالذهب، وعن يمينه أولاد ملوك بلده قد ضفروا رءوسهم بأنواع الذهب وعليهم الثياب الرفيعة. وعلى باب القبة كلاب منسوبة لا تكاد تفارق موضع الملك تحرسه، في أعناقها سواجير الذهب والفضة يكون في الساجور عدة رمانات ذهب وفضة.

وكان يقال إن مَلِك غانا كان إذا احتفل يضع مائتي ألف رجل في الميدان، منهم رماة أزيد من أربعين ألفًا. وكان يمول قوته العسكرية بفرض الضرائب على المواد الخام التي كانت تُستخرَج في المملكة، بحسب ما أورد البكري:

ولملكهم على حمار الملح دينار ذهب في إدخاله المملكة وديناران في إخراجه. وله على حمل النحاس خمسة مثاقيل وعلى حمل المتاع عشرة مثاقيل. [المثقال، وهو المكافئ السوداني للدينار أو الدوقية، كان حوالي ٤٫٢٥ جرامات من الذهب.] وأفضل الذهب في بلاده ما كان بمدينة غياروا، وبينها وبين مدينة الملك مسيرة ثمانية عشر يومًا في بلادٍ معمورة بقبائل السودان التي مساكنها متصلة … وإذا وُجِد في جميع معادن بلاده الندرة من الذهب استصفاها الملك، وإنما يترك منها للناس هذا التبر الرقيق. ولولا ذلك لكثر الذهب بأيدي الناس حتى يهون. والندرة تكون من أوقية إلى رطل.

وفقًا للبكري، كان الملك يمتلك ندرة من الذهب في حجم حجر ضخم.

بعد ذلك بثلاثمائة عام، في عام ١٣٧٤، شرع ابن خلدون، الذي كان قد سافر أسفارًا واسعة في شمال أفريقيا وإسبانيا، وعمل في بلاط فاس وغرناطة وتلمسان والقاهرة، في كتابة كتاب ضخم من سبعة مجلدات عن تاريخ العالم. احتوى آخر مجلدات الكتاب، الذي يُعرَف عادةً باسم «تاريخ البربر»، على معلوماتٍ قيِّمة عن غرب السودان، وعن حكام إمبراطورية مالي. وذكر أنه، في حقبته، كانت الإمبراطورية الغانية قد ضمتها مملكة مالي، التي امتدت حتى جاو، على بُعد مائتي ميل شرق تمبكتو، وكانت قد صارت «بالغة القوة.» كانت إمبراطورية مسلمة؛ إذ اعتنق ملوك مالي الأوائل الإسلام في القرن الثالث عشر، وحجَّ كثير منهم إلى مكة. أفاض ابن خلدون بوجه خاص في الحديث عن رحلة حج عام ١٣٢٤ التي أداها مانسا موسى، الذي كان «رجلًا مستقيمًا وملكًا عظيمًا.» وظلت الحكايات عن موسى تُحكى في شمال أفريقيا بعد ذلك بخمسين عامًا. جلب موسى معه العديد من العلماء المسلمين عند عودته من مكة، ومن ضمنهم الشاعر والأديب الأندلسي أبو إسحاق الساحلي. قال أحد هؤلاء الرفقاء لابن خلدون:

كنا نواكبه أنا وأبو إسحاق الطونجق [الساحلي] دون وزرائه ووجوه قومه نأخذ بأطراف الأحاديث، نتمتع. وكان متحفًا في كل منزل بطُرَف المآكل والحلاوات. والذي تحمل آلته وحربته من الوصائف خاصة اثني عشر ألفًا لابسات أقبية الديباج والحرير اليماني.

عاد الساحلي مع الملك إلى عاصمته، حيث تمنَّى أن يكون له منزل مبني بالكلس، وهو ما كان غير معتاد في أرضه، فنهض الأندلسي بالمهمة، وأقام بنايةً مربعة الشكل لها قبة. قيل لابن خلدون إنه قد: «استفرغ فيها إجادته. وكان صَنَاع اليدين.» ثم أضاف المتحدث: «وأصفى عليها من الكلس ووالى عليها بالأصباغ المشبَّعة فجاءت من أتقن المباني. ووقعت من السلطان موقع الاستغراب لفقدان صنعة البناء بأرضهم، ووصله باثني عشر ألفًا [حوالي ٥٠ كيلوجرامًا] من مثاقيل التبر مَثُوبةً عليها، إلى ما كان له من الأثرة والميل إليه والصلات السَّنية.» قيل أيضًا إن الساحلي بنى قصرًا لموسى في تمبكتو، وأول تجسيد لمسجد جينجربر.

دام حكم موسى خمسة وعشرين عامًا، بحسب ابن خلدون، وسرعان ما انهارت الإمبراطورية المالية بعده، أثناء حكم حفيده ماري جاطه. وصف مصدر ابن خلدون، الذي كان قاضيًا شرعيًّا مغربيًّا، والذي عمل في جاو، ماري جاطه بأنه «كان أشرَّ والٍ عليهم بما سامهم من النكال والعسف وإفساد الحُرَم.» أهدر جاطه ثروة الإمبراطورية ﺑ «سرفه وتبذيره»، بل إنه اضطُر حتى لبيع حجر الذهب الذي كان أنفس ذخائر الخزانة المالية. وعند وفاته في عام ١٣٧٣ / ١٣٧٤، كان المُلك في أزمة، ولم يتمكن خلفه، الذي كان حاكمًا أفضلَ منه بكثير، من الحفاظ على السلطة.

•••

في عام ١٨٤١، نشر كولي عمله غير المسبوق «نيجرولاند العرب، مفحوصة ومشروحة». كان أول سرد موثوق فيه عن الجغرافيا التاريخية لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ومَثَّل بزوغ فجر فرع جديد من فروع المعرفة، وهو تاريخ غرب أفريقيا. لم يعترض أهل الخبرة اللاحقون على معظم تحديداته لأسماء الأماكن المأخوذة من المؤرخين والجغرافيين العرب في العصور الوسطى، وشكَّل كتاب «نيجرولاند» أساسًا لكل جهود البحث اللاحقة. وعادةً ما كان يستمتع بالأخطاء التي كان قد اكتشفها في أعمال الآخرين؛ إذ خلط رينيل بين كانو، في نيجيريا المعاصرة، وغانا، وبرهن كولي على أن الاسمين كانا مختلفين من ناحية الأصل. كذلك أدرك أن «غانا» كانت تمثل مملكة وأيضًا اسم الملك نفسه، وأن العاصمة التي أقام بها الحاكم لم تكن دومًا نفس المدينة، ولكن ربما كانت «اسمًا متنقلًا» استُخدِم لوصفِ أماكنَ مختلفة في أزمنة مختلفة.

ومع ذلك ظلَّ كولي شخصية محلَّ جدل — «طائر نوء هائج»، على حدِّ وصف أحد النقاد — ولم يكن ثمَّة اعترافٌ يُذكَر بإسهاماته أثناء حياته. بعد وفاته في عام ١٨٨٣، وصفه التأريخ الرسمي لجمعية هاكلوت، وهي مؤسسة كانت قد أُنشئت لنشر روايات المستكشفين لرحلاتهم، بأنه «عبقري غريب الأطوار إلى حدٍّ ما.» شككت تأبينات أخرى صراحةً في قواه العقلية استنادًا إلى آرائه الثابتة على نحوٍ غير عادي. ومع أنه كان قد استنتج على نحوٍ صحيح وجود جبلي كليمنجارو وكينيا، فإنه أصرَّ على أنهما لا يمكن أن يكونا مغطَّين بالثلوج بعد وقت طويل من رؤية مستكشفين أوروبيين أنهما كانا كذلك، واعتقد أن بحيرتي مالاوي وتنجانيقا الأفريقيتين العظيمتين كان يضمهما مسطح مائي واحد عملاق، على النقيض من مشاهدات ليفينجستون. مات كولي فقيرًا في منزلٍ خلف نهايتي السكة الحديدية لمحطتي كينجز كروس ويوستن، في لندن، ولكن عمله عن غرب السودان سيظل واحدًا من الأعمال القليلة في تلك الحقبة التي «ترقى إلى مستوى متطلبات الدراسات الحديثة»، كما كتب المؤرخ جون رالف ويليس.

أيضًا كان عمل كولي هو العمل المفضل لمستكشفٍ يبدو أنه كان قد أقام معه علاقة احترام متبادل، وهو رجل لم يكن يخلو من ميول كراهية للبشر، بل تشارك مع كولي في ميله إلى الصلف العلمي العنيد. كتب المستكشف: «قبل رحلتي إلى إقليم نهر النيجر، لم تكن توجد أية بيانات معروفة تُذكَر فيما يخص تاريخ هذه البقعة الواسعة والمهمة، عدا حقائقَ قليلة منفردة، توصَّل إليها السيد كولي بعبقرية وبحث عظيمين.»

كان هذا هو الرجل الذي سيمضي ليميط اللثام عن أسرار أكبر مملكة في تاريخ غرب أفريقيا، وهي إمبراطورية تزامن أوجها مع أوج تمبكتو، وكانت أوروبا على جهلٍ تامٍّ بها. كانت المملكة تُسمى سونجاي، وكان اسم المستكشف هو هاينريش بارت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤