الفصل الرابع

واصل الجَدُّ روايته: «ابتعدتُ مُسرعًا واتَّجهتُ إلى شارعٍ مُتقاطع، وفي أول زاوية رأيتُ مأساةً أخرى. كان رجلان من طبقة العُمَّال قد أمسكا برجلٍ وامرأة وطفلين وكانا يَسرقانهم. عرفتُ الرجل من شكله، لكنني لم يسبق أن تعرَّفتُ إليه قط. كان شاعرًا طالما أعجبَني شِعره، لكنني لم أذهب لنجدته؛ إذ إنني قد رأيتُ مُسدَّسًا يُطلَق نحوَه على الفور، ورأيتُه يتهاوى إلى الأرض. صرخَتِ المرأة ولكَمَها أحد المُتوحِّشين فطرَحَها أرضًا. صرختُ فيهما مُهدِّدًا وعندئذٍ أطلقا مُسدسَيهما نحوي؛ فجريتُ مُبتعدًا إلى الشارع التالي، وهناك أعاقَني حريقٌ كبيرٌ زاحفٌ. كانت المباني الموجودة على الجانبَين تحترق وامتلأ الشارع بالدُّخان واللهَب. ومن مكانٍ ما في هذه العتمة، أتى صوتُ امرأةٍ تصرُخ صراخًا حادًّا طالبةً العون. غير أنني لم أذهب إليها، إنَّ قلب المرءِ يتحوَّل إلى حديدٍ وسط هذه المناظر، وقد كان هناك الكثير من النداءات التي تطلب النجدة.

عدتُ إلى الزاوية مرةً أخرى. وجدتُ السارقَين قد اختفَيا، كما وجدتُ الشاعر وزوجته مَيِّتَين على الرصيف. كان منظرًا صادمًا. كان الطفلان قد اختفيا أيضًا ولم أكن أدري إلى أين ذهبا. وحينئذٍ عرفتُ السبب الذي جعل الأشخاص الهاربين الذي صادفتُهم في طريقي كانوا يمرُّون خلسةً بمثل تلك الوجوه الشاحبة. في وسط حضارتنا، في الأزقَّة والأحياء التي يسكن فيها العُمَّال، كنا نُربي جنسًا من البرابرة الهمج، والآن في وقتِ بَلوانا، انقلبوا علينا بما فيهم من وحشيةٍ ودمَّرونا، ودمَّروا أنفسهم كذلك.

figure
«والآن في وقتِ بَلوانا، انقلبوا علينا.»

كانوا قد ألهَبوا أنفسهم بالخمور القوية وارتكبوا آلافَ الفظائع، من الشِّجار وقتَلِ بعضهم بعضًا في خِضم حالة الجنون المستشري تلك. وقد رأيتُ مجموعةً أخرى من العُمَّال، كانوا من النوع الأفضل، قد تجمَّعوا معًا وبِرفقتهم نساؤهم وأطفالهم. كانوا يضعون المرضى والمُسنِّين على محفَّاتٍ يحملونها، وتصحَبُهم مجموعةٌ من الخيول تجرُّ ملءَ شاحنةٍ من المؤن، كانوا يجاهدون للخروج من المدينة. كان منظرهم جميلًا إذ ظهروا يتقدَّمون في الشارع وسط الدخان المُتصاعد، غير أنهم كادوا يُطلقون النار عليَّ حين ظهرتُ في طريقهم. وبينما كانوا يمرُّون بي، صاحَ بي أحدُ قادتهم بتفسيرٍ اعتذاريٍّ. قال إنهم كانوا يقتلون اللصوص والناهِبين فور رؤيتهم، وإنهم اتَّحدوا معًا على هذا النحو لأنها الطريقة الوحيدة للهروب من المُتربِّصين.

وهنا، رأيتُ لأول مرةٍ شيئًا سرعان ما تكرَّر كثيرًا بعد ذلك. كان أحد الرجال السائرين قد بدتْ عليه فجأةً تلك العلامة الأكيدة للطاعون. وعلى الفور، ابتعدَ عنه المُحيطون به، أما هو، فبدون اعتراض، تنحَّى جانبًا ليسمح لهم بالمرور. حاولتِ امرأة، كانت زوجته على الأرجح، أن تتبَعَه. كانت تقود صبيًّا صغيرًا من يده، غير أنَّ الزَّوج أمرَها بصرامةٍ بمواصلة المسير، بينما أمسك الآخرون بها لمنعِها من اللحاق به. لقد رأيتُ هذا، ورأيتُ الرجل أيضًا وقد تلوَّن وجهه باللون القرمزي، قد انتحى إلى مدخلٍ على الجهة المقابلة من الشارع. لقد سمعتُ طلقة مُسدسه، ورأيتُه يهوي مَيتًا على الأرض.

بعد أن كنتُ قد انتحيتُ جانبًا مرَّتَين بسبب النيران الزاحفة مُجددًا، تمكَّنتُ من الوصول إلى الجامعة. على حدود الحرَم الجامعي، التقيتُ مجموعة من العاملين في الجامعة، وكانوا يسيرون في اتجاه مبنى الكيمياء. كانوا جميعًا رجالًا من أرباب العائلات، وقد كانت عائلاتهم معهم وفيهم المُمرضات والخدَم. حيَّاني البروفيسور بادمينتون، غير أني وجدتُ صعوبةً في التعرُّف إليه. كان قد خاض في اللهب في مكانٍ ما، وسُفِعَتْ لحيته، والتفَّتْ حول رأسه ضمَّادةٌ دامية، كما أنَّ ثيابه كانت مُتَّسِخة.

figure
«أخبرني أنَّ بعض المُتربِّصين قد ضربوه بقسوة.»

أخبرَني أنَّ بعض المُتربصين قد ضربوه بقسوة، وأنَّ أخاه قُتِل في الليلة الماضية دفاعًا عن مسكنهم.

وبينما نحن في منتصف الطريق الذي نقطعه عبْر حرم الجامعة، أشار فجأةً إلى وجه السيدة سوينتُن. بدا اللون القرمزي جليًّا فيه. بدأت النساءُ الأخريات يصرخن على الفور ورُحنَ يبتعدْنَ عنها. كان طفلاها يسيران مع ممرضةٍ وقد جرى هؤلاء مع النساءِ أيضًا. غير أنَّ زوجها الدكتور سوينتُن ظلَّ معها.

توجَّه إليَّ بالحديث قائلًا: «واصِل السير يا سميث، واعتنِ بالطفلين. أما أنا، فسأظلُّ هنا مع زوجتي. إنني أعرف أنه قد قُضي عليها بالموت بالفعل، لكنني لا أستطيع أن أتركها. وإذا نجَوت، فسوف آتي لاحقًا إلى مبنى الكيمياء. ولتترقَّبْني وتسمح لي بالدخول.

تركتُه مُنحنيًا على زوجته يُهدئ من رَوعها في لحظاتها الأخيرة، بينما ركضتُ أنا لكي أُدرك المجموعة. كنَّا آخِر من دخل إلى مبنى الكيمياء. وبعد ذلك، حافظنا على انعزالنا ببنادِقنا الآلية. وفقًا لخُططنا، كنا قد رتَّبنا لوجود مجموعةٍ من ستِّين فردًا في هذا الملجأ. غير أنَّ هذا العدد الذي خطَّطنا له في البداية، قد أُضيفَ إليه عددٌ من الأقارب والأصدقاء وأُسَرٌ بأكملها إلى أن أصبح عددُنا يفُوق أربعمائة فرد. بالرغم من هذا، كان مبنى الكيمياء كبيرًا ومُنعزلًا عن الأماكن الأخرى، ومِن ثَمَّ كنا في مَأمنٍ من الحرائق الكبيرة التي اندلعَتْ في كل مكان في المدينة.

كُنا قد جمعنا كميةً كبيرة من المُؤن، وتولَّت لجنةٌ للغذاء الإشرافَ عليها فكانت تُخصِّص الحِصَص يوميًّا لمختلف الأُسر والمجموعات الذين قسَّموا أنفسهم إلى جماعاتٍ للحصول على الطعام. شكَّلنا عددًا من اللجان، وأنشأنا منظمةً فعَّالة. كنتُ في لجنة الدفاع، غير أنَّ المُتربصين لم يقتربوا في اليوم الأول، لكننا كنا نستطيع رؤيتهم في الطريق، ومن دُخان نيرانهم عرفنا أنَّ عدة معسكراتٍ منهم كانت تَشغل الطرفَ الأقصى من الحرم الجامعي. شاعَ السُّكر بينهم، وكثيرًا ما كُنا نسمعهم وهم يُغنُّون أغانِيَ ماجِنة ويصيحون بجنون. فبالرغم من أنَّ العالَم قد انهار إلى حطامٍ من حولهم وامتلأ الهواء بدُخان احتراقه، فقد أطلقت هذه الكائنات الوضيعة العِنانَ لبهيمِيَّتِهم وقتلوا وسكروا وماتوا. وفي النهاية، ماذا كانت أهمية ذلك؟ لقد مات الجميعُ على أيِّ حالٍ، الخَيِّرون والأشرار، الأقوياء والضُّعفاء، مَن كانوا يُحبُّون الحياة، ومَن كانوا يكرهونها. كلُّهم ذهبوا. كلُّ شيءٍ ذهب.

حين مرَّت أربعٌ وعشرون ساعة دون ظهور أيٍّ من علامات الطاعون، هنَّأنا أنفسنا وبدأنا في حفْر بئر. لقد رأيتُم الأنابيب الحديدية الضخمة التي كانت تحمِل المياه في تلك الأيام إلى جميع ساكني المدينة. لقد خَشِينا أن تؤدي الحرائق المُشتعلة في المدينة إلى انفجار الأنابيب وتفريغ الخزَّانات؛ لذا مزَّقنا طبقة الإسمنت بالبهو المركزي في مبنى الكيمياء، وحفرنا بئرًا. كان معنا الكثيرُ من الشباب من طلبة الجامعة، وكنا نعمل في البئر ليلَ نهار. تحقَّقت مخاوفنا، وقبل أن نصل إلى المياه بثلاث ساعاتٍ، جفَّت الأنابيب.

مرَّت أربعٌ وعشرون ساعة أخرى دون أن يظهر الطاعون بيننا. ظننا أننا قد نجَونا، لكننا لم نكن نعرف ما قرَّرْتُ بعد ذلك أنه الحقيقة، وهو أنَّ فترة حضانة جراثيم الطاعون في جسم الإنسان تبلُغ عدة أيام. لقد كان يفتك بالمرءِ بسرعة فور أن يكشِف عن نفسه؛ فظننا أنَّ فترة الحضانة بالسرعة نفسها؛ ولهذا، عندما مرَّ يومان ونحن سالمون كنا مُبتهجِين للغاية بفكرة أنَّ العدوى لم تصل إلينا.

غير أنَّ اليومَ الثالث نزع عنَّا أوهامنا. لا يمكنني أن أنسى أبدًا الليلة التي سبقَتْه. كنتُ مسئولًا عن الحراسة الليلية من الساعة الثامنة إلى الثانية عشرة، ومن سطح المبنى، رأيتُ زوال جميع الأعمال المجيدة التي صنعَها الإنسان. لقد كانت الحرائق المحلية مُريعة للغاية حتى إنَّ السماء بأكملها توهَّجَت؛ فكان من الممكن للمرء أن يقرأ أصغر خطوط الطباعة على هذا الوهَج الأحمر. بدا العالم كلُّه مَحفوفًا باللهَب. وكانت سان فرانسيسكو تنفُث الدخان والنيران التي كانت تتصاعد من مجموعةٍ من الحرائق العظيمة كانت أشبَهَ بعددٍ كبير من البراكين الثائرة. وكانت أوكلاند وسان ليندرو وهايواردز كلُّها تحترق، وفي اتجاه الشمال وصولًا إلى بوينت ريتشموند، كانت هناك حرائقُ أخرى تندلع. لقد كان مشهدًا يبُثُّ الرَّهبة في النفوس. الحضارةُ يا أحفادي، كانت الحضارة تتلاشى وسطَ هذا اللهب المتصاعد وذلك الموت المُحقَّق. في الساعة العاشرة من تلك الليلة، انفجرَتْ مخازن البارود الضخمة الواقعة في بوينت بينول في تعاقُبٍ سريع. وقد كانت الارتجاجاتُ قويةً للغاية حتى إنَّ المبنى القوي اهتزَّ وكأنَّ زلزالًا قد وقع، وتهشَّمت كلُّ الألواح الزجاجية. وحينئذٍ غادرتُ السطح ونزلتُ إلى الممرَّات الطويلة أتنقَّل من غرفةٍ لأخرى كي أُطمئن النساءَ المذعورات وأخبرهنَّ بما حدَث.

بعد ذلك بساعة، أتاني من نافذة بالدور الأرضي صخَبٌ يعمُّ معسكرات المتربصين. سمعتُ أصوات بكاءٍ وصراخٍ وطلقات نارٍ من العديد من المُسدسات. ومثلما ظننا، كان المُحفِّز لهذا الشجار هو محاولة من جانب الأصحَّاء لطرد المرضى. على أي حال، هرب عددٌ من المُتربصين المُصابين بالطاعون عبر الحرم الجامعي وتجمَّعوا أمام أبوابنا. حذَّرناهم بأن يعودوا، لكنهم وجَّهوا لنا السباب وأمطرونا بوابلٍ من الرصاص. قُتل البروفيسور ميريويذر عند أحد النوافذ في الحال؛ فقد أصابته الرصاصة بين عينيه مباشرةً. رددْنا عليهم بإطلاق النار وهرب جميعُ المُتربصين ما عدا ثلاثة، وكان منهم امرأة. كان الطاعونُ يسري في أجسادهم وقد أصابهم الطيشُ. وكشياطين بغيضة، هناك تحت وهَج السماء الأحمر وبأوجهٍ مُتَّقدة، كانوا يَسبُّوننا ويطلقون علينا الرصاصَ. أطلقتُ النارَ على أحد الرجُلين بيدي. وبعد ذلك، ظلَّ الرجل الآخر والمرأة يوجِّهان إلينا السباب حتى سقطا تحت نوافذنا، حيث أُجبرنا على مشاهدتهما وهما يموتان من الطاعون.

كان الوضعُ خطيرًا. حطَّمَت انفجارات مخازن البارود جميع نوافذ مبنى الكيمياء؛ فأصبحنا مُعرَّضين لجميع الجراثيم والجُثث. استدعَينا اللجنة الصحية لكي تتصرَّف، وقد كان تصرُّفها نبيلًا. كان على رَجُلين أن يذهبا إلى الخارج ويتخلَّصا من الجُثث، وهو ما كان يعني احتمال التضحية بحياتِهما، ونظرًا لقيامهما بتلك المهمة، لم يكن سيُسمح لهما بدخول المبنى مرَّة أخرى. تطوَّع أحدُ أساتذة الجامعة، وقد كان عَزَبًا، وأحدُ الطلاب. ودَّعانا وانطلقا. كانا بطلَين. لقد ضحَّيا بحياتهما على أمل أن يتمكَّن أربعمائة شخصٍ آخرون من الحياة. بعد أن أدَّيا مهمَّتهما وقفا للحظةٍ على بُعدٍ ينظران إلينا بحزنٍ، ثم لوَّحا لنا بأيديهما وداعًا وابتعدا ببطءٍ يقطعان الحرم الجامعي باتجاه المدينة المحترقة.

غير أنَّ كلَّ ذلك كان بلا جدوى. ففي صباح اليوم التالي، أُصيبَ أولُ شخصٍ منَّا بالطاعون، وكانت ممرضة لدى عائلة البروفيسور ستاوت. لم يكن هناك مجالٌ للضَّعف أو العواطف في ذلك الوقت؛ فعلى أمل أن تكون هي الوحيدة التي أُصيبت بالعدوى، دفعناها إلى خارج المبنى وأمرناها بالذهاب.

figure
«دفعناها إلى خارج المبنى.»

راحتْ تبتعِد ببطءٍ عبر المبنى وهي تعتصِر يدَيها وتبكي بكاءً يُرثى له. شعرنا بأننا مُتوحِّشون، لكن ما الذي كان يمكننا فعله؟ لقد كنا أربعمائة شخصٍ، وكان لا بدَّ من التضحية ببعض الأفراد.

كان هناك ثلاثُ عائلاتٍ تسكن أحد المُختبَرات، وفي عصر ذلك اليوم، وجدْنا بينهم ما لا يقل عن أربع جُثثٍ، وسبع حالات إصابة بالطاعون في جميع مراحله المختلفة.

بعد ذلك، بدأ الرُّعب. تركْنا الموتى على حالهم، وأرغمنا الأحياء على عزل أنفسهم في حجرةٍ أخرى. بدأ الطاعون ينتشِر بين البقية مِنَّا، وفور ظهور الأعراض، كنا نُرسل المصابين إلى الغُرَف المعزولة. أرغمناهم على المسير إلى هناك بأنفسهم كي نتفادى وضْع أيدينا عليهم. لقد كان ذلك أمرًا مفجعًا، وبالرغم من ذلك، ظلَّ الطاعون يتفشَّى بيننا، وامتلأتِ الغرفة بعد الأخرى بالموتى والمُحتضَرين. ولهذا، فقد تراجَعْنا نحن الأصحَّاء إلى الطابق التالي والذي يليه قبل أن يكتسِح هذا العدد الضخم من الموتى المبنى بأكمله، غرفةً غرفةً وطابقًا طابقًا.

أصبحَ المكانُ مقبرةً، وفي منتصفِ الليل، فرَّ الناجون من المبنى لا يحملون شيئًا سوى الأسلحة والذخيرة والكثير من الأغذية المُعلَّبة. خيَّمنا في جهة الحرَم الجامعي المقابلة للمُتربصين، وبينما وقفَ بعضُنا للحراسة، تطوَّع آخرون للتجوُّل في المدينة بحثًا عن أي أحصنة أو سياراتٍ ذات مُحرك أو عربات تسوُّق أو شاحنات أو أي شيءٍ يحمل مُؤننا ويمكِّننا من مُحاكاة عصبة العُمَّال الذين رأيتهم يناضلون في طريقهم للخروج من المدينة إلى أجواءِ الريف المفتوحة.

كنتُ أحدُ هؤلاء الكشَّافة، وقد أخبرَني الدكتور هويل أن أبحث عن سيارته إذ تذكَّر أنَّه قد تركها في مرآب بيته. ذهبنا في مجموعاتٍ ثنائية، وقد رافقَني دومبي، وهو طالبٌ شاب. كان علينا أن نقطع نصف ميلٍ من الجزء السَّكني في المدينة لكي نصِل إلى منزل الدكتور هويل. هنا، كانت المباني منفصلةً عن بعضها، وسط الأشجار والمُروج المُعشَوشِبة، وهنا كانت الحرائق قد اندلعت بشكلٍ عشوائي فأحرقَتْ بناياتٍ بأكملها وتركتْ بناياتٍ بأكملها، وكثيرًا ما كانت تترُك منزلًا بمُفرده في بنايةٍ كاملة. وهنا أيضًا كان المُتربصون لا يزالون في عملهم. حَملْنا مُسدساتنا الآلية بوضوحٍ في أيدينا، وبدَونا مُستميتين حقًّا، لكي نصُدَّهم عن مُهاجمتنا. غير أنه عند وصولنا إلى منزل الدكتور هويل، حدَث ما كُنَّا نخشاه. فبعد أن كان سليمًا لم يمسسْه أيُّ حريقٍ وحتى عندما وصلنا إليه، اندفع منه دخان اللهب.

راح المُجرم الذي أشعل النيران في المنزل يترنَّح هابطًا على الدرَج ثم خرج إلى ممرِّ السيارات. كان ردُّ فعلي الأول أنني أردتُ أن أُطلق عليه النار، ولم أتوقَّف أبدًا عن الندم لأنني لم أفعل. وإذ راح يترنَّح ويهذي لنفسه، بعينَين حمراوَين وشِقٍّ دامٍ مُلتهب أسفل أحد جانبَي وجهه المُشعِر، وجدتُه أكثر تجسيد مُقزِّزٍ للانحطاط والحقارة. لم أطلق النار عليه، ومالَ هو على شجرةٍ موجودة على العُشب لكي يدعنا نُمر. لقد كان ذلك هو الفِعل الأكثر وحشية على الإطلاق. فعندما أصبحنا أمامه، سحَبَ مُسدسه فجأةً وأصاب دومبي بطلقةٍ في الرأس. أطلقتُ عليه النار في اللحظة التالية. لكن كان الأوان قد فات. لقد مات دومبي على الفور دون حتى أن يئن. إنني أشكُّ أن يكون حتى قد أدركَ ما حدَث له.

غادرتُ الجثَّتَين واتَّجهتُ مُسرعًا إلى المرآب مارًّا بالمنزل المُحترق، وهناك وجدتُ سيارة الدكتور هويل. كانت الخزَّانات مملوءةً بالوقود، وجاهزةً للاستخدام. وفي هذه السيارة، سلكتُ شوارع المدينة المحطمة عائدًا إلى الناجين في الحرَم الجامعي. عاد الكشَّافة الآخرون أيضًا، غير أنهم لم يُحالفهم الحَظُّ كثيرًا. وجد البروفيسور فيرميد مُهرًا من سلالة شتلاند، غير أنَّ الحيوان المسكين كان مُقيدًا في الإسطبل ومتروكًا لعدة أيام وكان ضعيفًا للغاية من حاجته إلى الماء والغذاء؛ فلم يكن ليحمِل أيَّ حِملٍ على الإطلاق. أراد بعضُ الرجال أن يُطلقوا سَرَاحه، لكنني صمَّمتُ على أن نقتادَه معنا، حتى إذا نفدَ ما لدَينا من طعامٍ، كنا سنُضطرُّ إلى أكله.

كنا سبعةً وأربعين شخصًا حين بدأنا، وكان العديدُ منهم من النساء والأطفال. كان عميد الكلية معنا، وكان رجلًا مُسنًّا قبل كلِّ شيء، والآن حطمَتْه تمامًا الأحداثُ المريعة التي وقعتِ الأسبوع الماضي، فركَبَ السيارة مع العديد من الأطفال الصغار ووالدة البروفيسور فيرميد المُسنَّة، كما ركَبَ السيارة أيضًا البروفيسور واذوب، وهو أستاذٌ شابٌّ للغة الإنجليزية قد أُصيبَ بجرحٍ خطير بسبب رصاصة أصابته في ساقه. وسار البقية مِنَّا مع البروفيسور فيرميد الذي كان يقتاد المُهر.

كان من المُفترض أن يكون اليوم من أيام الصيف الساطعة، غير أنَّ دخان العالَم المحترق قد ملأ السماءَ التي أشرقتْ منها الشمسُ داجية، كرةٌ معتمة شاحبة بلون الدم ومُنذِرة بالشؤم. غير أننا قد تعوَّدنا على تلك الشمس الحمراء الدامية، لكن مع الدخان، كان الأمرُ مختلفًا. لقد كان يلسَعُنا في مناخيرنا وأعيُننا؛ فكانت أعيُنُنا جميعًا حمراءَ بلون الدم. اتَّجهْنا نحو الجنوب عبر الأميال التي لا تنتهي من مساكن الضواحي، فرُحْنا نقطع الطريق حيث ظهرتْ تدريجيًّا في الأرض المُسطَّحة الموجودة وسط المدينة تلالٌ منخفضة. وكان هذا الطريق وحدَه، هو الذي نتوقَّع الوصولَ إلى الريف من خلاله.

كان تقدُّمنا بطيئًا أشدَّ البطءِ؛ فلم يكن النساءُ والأطفال يستطيعون المَشي بسرعة؛ إذ لم يكونوا يتخيلون أن يسيروا يا أحفادي بمثل هذه الطريقة التي أصبح جميع البشر يسيرون بها اليوم. الحقُّ أنَّ أحدًا مِنَّا لم يكن يعرف كيف يسير. إنني لم أتعلم كيف أسير فعلًا إلَّا بعد الطاعون. ولهذا، فقد كنا نسير بالسرعة نفسها التي يسير بها أبطؤنا؛ إذ لم نكن نجرؤ على التفرُّق بسبب المُتربصين. لم يكن هناك الآن عددٌ كبير من هذه الوحوش البشرية. كان الطاعون قد قلَّص أعدادهم بدرجةٍ كبيرة بالفعل، غير أنَّ العدد الذي كان لا يزال على قيد الحياة منهم كان كافيًا لأن يُمثِّل تهديدًا مُستمرًّا لنا. كان هناك العديدُ من المساكن الجميلة التي لم تمسها النيران، لكنَّ الحطام الذي يتصاعَد منه الدخانُ كان في كلِّ مكان. حتى المُتربصون بدا أنهم قد تجاوزوا رغبتَهم الوحشية في إشعال الحرائق، وأصبح نادرًا أن نرى منزلًا حديثَ الاحتراق.

راحَ العديدُ منَّا يتجوَّل في المرائب الخاصة بحثًا عن السيارات والوقود. غير أننا لم ننجح في هذا. فرحلاتُ الهروبِ الأولى من المدينة قد اكتسحَتْ معها جميعَ هذه المرافق. لقد فقدْنا شابًّا جيدًا يُدعى كالجان في هذه المهمة. فقد أطلقَ بعضُ المُتربصين النارَ عليه أثناء عبوره العُشب، لكنه كان القتيل الوحيد على أي حال. غير أنه، في مرةٍ أخرى، عمَدَ مُتوحشٌ سِكِّير إلى إطلاق النار علينا. ومن حُسن الحظ أنه كان يُطلقها بعشوائية وتمكنَّا من إصابته قبل أن يمسَّنا منه أيُّ أذى.

في فروتفيل، حيث كُنَّا ما نزال في قلب الجزء السكني الرائع من المدينة، ضربَنا الطاعون مرة أخرى. وقد كان البروفيسور فيرميد هو الضحية. أشار إلينا بأنَّ أمَّهُ يجب ألا تعرف، وانتحى جانبًا إلى منزل جميل. جلس بيأسٍ على درَج الشرفة الأمامية، وتباطأتُ أنا فلوَّحتُ له بوداع أخير. في تلك الليلة، وبعد أن تجاوزْنا فروتفيل بعدَّة أميالٍ، أقمْنا معسكرًا وكنَّا ما نزال في المدينة. وفي تلك الليلة، غيَّرْنا مكان المعسكر مرَّتَين لكي نهرُب من موتانا. في الصباح، كان ما يزال هناك ثلاثون منَّا. لن أنسى أبدًا نظرة عميد الكلية. ففي مسيرة الصباح، ظهرتْ على زوجته الأعراض المُميتة، وحين انتحَتْ جانبًا لكي تتركنا نواصِل المسير، أصرَّ على مُغادرة السيارة والبقاءِ معها. دار النقاشُ بيننا بخصوص هذا الشأن، لكننا قد استسلَمْنا في النهاية. فلا بأسَ في ذلك إذ لم نكن نعرِف أيُّنا قد ينجو في النهاية، إنْ نجا أحدٌ منَّا على الإطلاق.

figure
«سقطت السفينة عموديةً على الأرض.»

في تلك الليلة الثانية من بدءِ مَسيرتنا، عسكرْنا بعد هايواردز في المساحات الأولى من الريف. وفي الصباح، كان مِنَّا أحد عشر لا يزالون على قيد الحياة. وفي تلك الليلة أيضًا، تركنا البروفيسور واذوب ذو الساق الجريحة في السيارة ذات المُحرك، وأخذ معه أختَه وأمَّه والقدْر الأكبر من مُؤننا المُعلَّبة. وفي عصر ذلك اليوم، بينما كنتُ أستريح على جانب الطريق، رأيتُ آخر سفينة هوائية سأراها على الإطلاق. كان الدخانُ أخفَّ كثيرًا هنا في الريف، وقد رأيتُ السفن الهوائية في البداية وهي تنجرِف وتنحرِف في عجْزٍ على ارتفاع ألفَي قدَم. لم أستطع أن أُخمِّن ما حدث، لكننا رأيناها تتَّجِه بسرعةٍ كبيرة إلى الأسفل. وبعد ذلك، استنتجْنا أنَّ حواجز غُرَف الغاز قد انفجرت؛ فقد سقطت السفينة عموديةً على الأرض.

ومنذ ذلك اليوم إلى الآن، لم أرَ سفينة هوائية أخرى. كثيرًا ما رُحتُ أنظر إلى السماء في السنوات القليلة التالية بحثًا عن أي سفينة، راجيًا أشدَّ الرجاء أن تكون الحضارة قد نجتْ في مكانٍ ما من العالم، غير أنَّ ذلك لم يحدُث. لا بدَّ أنَّ ما حدث معَنا هنا في كاليفورنيا قد حدث مع الجميع في كلِّ مكان.

مرَّ يومٌ آخر وعندما وصلْنا إلى نايلز، كنَّا ثلاثة. وبعد نايلز، في منتصف الطريقِ السريع، وجدْنا واذوب. تعطلت السيارة، وهناك على البُسُط التي فرشوها، رقدَتْ جُثة أخته وجثة أُمِّه وجُثته هو أيضًا.

كنتُ مُنهكًا في تلك الليلة من مواصلة السير؛ فنِمتُ نومًا عميقًا. وفي الصباح، كنتُ وحيدًا في العالَم. مات آخِر رفيقَين لي، كانفيلد وبارسونز، بالطاعون. من بين الأربعمائة شخص الذين اتخذوا من مبنى الكيمياء ملجأً، ومن بين السبعة والأربعين شخصًا الذين بدءوا المسير، بقيتُ وحيدًا على قيد الحياة، أنا ومُهر شتلاند. أما عن السبب في حدوث هذا؛ فما من تفسير. إنني لم أُصَب بالطاعون، وهذا كلُّ ما في الأمر. كنتُ منيعًا ضدَّه. لقد كنتُ أنا المحظوظ الوحيد من بين مليون شخص؛ ذلك أنَّ شخصًا واحدًا هو الذي كان ينجو من بين كل مليون شخص، بل من بين عدَّة ملايين. لقد كانت تلك هي النسبة على أقل تقدير.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤