الشعر بين الإلهام والمحاكاة

لقد عرف اليونان القدماء الذين يُعتبرون رواد الشعر العالمي منبعَين أساسيين للشعر، قالت بأحدهما الأساطير الشعبية التي زعمت أن للشعر إلهًا يوحي به هو أبوللو، وربات لكل فن من فنونه كانوا يسمونها «الميز»، فلشعر التراجيديا ربة، ولشعر الكوميديا ربة، وللشعر الغنائي ربة ثالثة، وباستطاعتنا أن نجد شبيهًا لهذا التصوير الشعبي عند الكثير من الشعوب القديمة، فالعرب القدماء كانوا يعتقدون أن لكل شاعر شيطانًا في مثل قولهم «لولا هبيد ما كان لبيد.» وإذا كان اليونان القدماء قد تصوَّروا أن لآلهة الفنون جبلًا تقيم فيه هو جبل «البرناس»، فإن العرب قد زعموا أن شياطين الإلهام تأوي إلى وادٍ في بلادهم سمَّوه وادي «عبقر»، ومنه اشتقت لفظة «العبقرية» التي تعتمد على الإلهام.

ولقد اعتنق أفلاطون هذا الخيال الشعبي في فلسفته أخذًا عن أستاذه سقراط الذي كان يؤمن ويُبشِّر بالوحي والإلهام، ويزعم أنه كان يتلقَّى هذا الوحي عن عرَّافة الإله أبوللو التي تقوم على معبده في مدينة «دلفوس»، وقد نمَّى أفلاطون نظرية الإلهام كمنبع للشعر في عدد من محاوراته وبخاصة في محاورة «أيون» ولكن هذا الاتجاه الغيبي لم يلبث أن عفَّى عليه أرسطو بفلسفته العقلية الخالصة؛ فرأيناه في كتابه عن «الشعر» يجعل منبعه — كما قلنا — المحاكاة؛ أي محاكاة الطبيعة وواقع الحياة بالمعنى الواسع لهذا الاصطلاح، وبتخلِّي أرسطو عن نظرية المُثل الأفلاطونية لم يعد الشعر محاكاة لتلك المثل! وإن كان أرسطو قد قرَّر أن تلك المحاكاة يمكن أن تكون لما يجب أن يكون لا لما هو كائن أو محتمَل أن يكون فحسب، ولكن دون تقيد بعالم المثل الذي يمكن أن يفتح الباب لما سماه أفلاطون وسمته الشعوب القديمة بالإلهام، بينما يسميه علماء التحليل النفسي المحدثون كما سنرى ﺑ «اللاوعي» أي مختزنات العقل الباطن ومكبوتاته التي تنطلق من مكامن النفس الخفية فيما يشبه فيض الإلهام.

ولما كان أرسطو يكاد يكون المفكر الوحيد الذي لم تمت مؤلفاته، بل ظلت حيةً ناميةً مؤثرة، بل مسيطرة خلال القرون الوسطى ذاتها وبعد ركود الثقافة الإنسانية القديمة؛ حيث لم تجد فيه الديانات السماوية الموحدة كالمسيحية والإسلام، اللتين سيطرتا سيطرة كاملة على جميع نواحي الحياة الفكرية والعاطفية والفنية خلال القرون الوسطى؛ ما يتعارض مع تعاليمهما، بل على العكس وجدتا في فلسفته العقلية ومنطقه ما يُعين على تأييد مبادئهما الروحية العقلية مما ثبت سيطرته ونماها، بحيث نلاحظ أنه عندما ابتدأت حركة البعث العلمي بأوروبا ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي كانت فلسفة أرسطو لا تزال حيةً مؤثرة، وبقوة القصور الذاتي ظلَّت هذه الفلسفة مسيطرة أيضًا في عصر البعث، ثم في عصر النهضة التي تلته وازدهرت في القرن السابع عشر قرن الكلاسيكية الأدبية الفنية، بينما ظلت فلسفة أفلاطون منزوية حتى القرن التاسع عشر؛ حيث بعثها الرومانسيون ومكَّنوا لها، فعادوا يقولون: إن الشعر إلهام وإن منبعه هو الحاجة إلى التعبير عن الوجدان المنفعِل بالطبيعة، والحياة والله لا غريزة المحاكاة التي ردَّ إليها أرسطو النشاط الأدبي والفني.

ونتيجة لطغيان نظرية المحاكاة على المذهب الكلاسيكي لم يزدهر من الشعر في هذا المذهب غير الشعر الموضوعي الذي تمثل في الشعر التمثيلي عند شعراء فرنسا الكبار: راسين وكورني وموليير مثلًا، وأما الشعر الغنائي، أي شعر القصائد والمقطوعات، فقد ظل خافت الصوت ضيق الإنتاج، وإذا كان هذا الشعر الغنائي، الذي يمكن أن يستند إلى الأساس الفلسفي للمذهب الكلاسيكي وهو المحاكاة، بحيث يأخذ هو الآخر طابعًا موضوعيًّا؛ قد ازدهر في فترة من فترات أدبٍ عالمي كالأدب الفرنسي، فإن هذا الازدهار لم يحدث في العصر الكلاسيكي؛ أي في القرن السابع عشر، وإنما حدث بعد ذلك بقرنٍ كامل؛ أي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر عندما ظهر شاعرٌ غنائيٌّ شاب راح ضحية روبسبير إبان الثورة الفرنسية الكبرى، وهو الشاعر أندريه شينيه الذي ولد من أبٍ فرنسي وأمٍّ يونانية، وكان يعشق الأدب اليوناني القديم من كل قلبه، فنادى بما سماه مؤرِّخو الأدب «الكلاسيكية الجديدة» التي لخَّصها الشاعر في بيت له يقول فيه: «فلنصُغْ أفكارًا جديدة في ثوبٍ قديم» وبالفعل نراه يكتب في حياته القصيرة باقةً جميلة من القصائد التي اتخذ لكل منها موضوعًا صبَّ فيه أفكاره وأحاسيسه الحضارية الجديدة في أسلوبٍ بسيطٍ سهلٍ جميلٍ خالٍ من كل تعقيدٍ لفظي أو معنوي، وكأنه أسلوب أحد شعراء الإغريق القدماء، وإن لم تمنعه الموضوعية من أن يعبِّر عن ذات نفسه من خلال موضوعه على نحو ما نحسُّ في قصيدة الحرية التي صاغها في صورة حوار بين راعي غنم وراعي معز، أحدهما عبد والأخر حرٌّ، ومن الواضح أن الإحساس بمرارة العبودية والعطف على العبيد إنما هو شعورٌ حديث؛ فالعصور الوسطى بل والعصر القديم كانت ترى في نظام الرق ظاهرةً اجتماعيةً طبيعية، وإذا كانت الديانات قد أوصت بالشفقة بالرقيق فإنها لم تحرم هذا النظام الذي ظل موجودًا حتى العصر الحديث الذي قضى عليه وحرَّمه باتفاقٍ دولي.

وقصيدة «الحرية» لأندريه شينيه تعتبر مثلًا واضحًا للشعر الغنائي الذي يمكن أن يقوم على أساس نظرية المحاكاة؛ فالشاعر يريد أن يُظهرنا فيها على نزعات الخير التي لا بد أن تنمو في نفس الرجل الحر مقابل نزعات الشر التي لا بد أن تنمو في نفس العبد، وكأنه بذلك يعطينا صورة لنفس الرجلين كما يراها، وإن يكن قد عبَّر في الوقت نفسه عن وجدانه الخاص وطريقة انفعاله بالوضعين وسخطه على أحدهما ولكن بطريق غير مباشر، وإن يكن من القوة والوضوح بحيث يخرج هذا الحوار الشعري من مجال الأدب التمثيلي إلى مجال الأدب الغنائي.

وها هي ذي القصيدة:

راعي المعز : أيها الراعي، كيف أنت؟ وما بك؟ ما هذه الشعور السوداء التي نشرتها الآلهة فوق بصرك؟
راعي الغنم : هيه! نعم! وأما أنت فذو شعرٍ جميلٍ أصفر، أهذا ما تريد أن أعلمه! هيه! نعم! جبينك أوضح من جبيني، ونظراتك أرقُّ من نظراتي، أليس كذلك؟
راعي المعز : قل لي إذن، أمن هذه الجبال الموحشة أتيتَ من حيث لا تلقى أحدًا سواك والسبيل وعرة مخيفة؟
راعي الغنم : وأما أنت فتنعم بلا ريب بالمروج والغابات، وذلك في متناولك، لك أن تجلس بين الحشائش المزهرة، أما أنا فمأواي الكهوف المقفِرة؛ حيث يطيب لي أن أجلس على الصخر حتى ينصرم ضوء النهار.
راعي المعز : ولكن إلهة الخصب «سيريس» قد أنزلت بتلك الصخور لعنتها، فهناك تتدفق السيول حصباء حاملة قاتم الموج، وقد أحرق لهيب الشمس أديم الصخر؛ يكوي أرجل عابري السبيل الذين يخفون عنها، وقد عريت عن جميل الزهر وحلو الفاكهة فلا تجدُ بها البلابلُ من الظلال الوارفة ما تأوي إليه إلا أن تكون أشجار الزيتون المنتثرة على مسافاتٍ بعيدة، وفي منظرها الجاف وقلة ما تعطيه من خيرات ما يزيد الجدب المحزن وضوحًا، كيف تستطيع إذن أن تجد بين تلك الصخور من الحشائش ما تُغذِّي به غنمك الجائعة؟
راعي الغنم : وماذا يعنيني من أمر الغنم؟ أهي لي؟ ما أنا إلا عبد.
راعي المعز : لا أقل إذن من أنك وجدت في ناي الغاب ما تؤنس به وحشتك وسط جدب الصخور، خذه! أما تريد هذا الناي؟ لقد صنعته بيديَّ خذه، ولترسل أنفاسك في غابه، وغابه عذب الأغاني، ولتسمعنا من النغمات ما تحاكي به تغريد الطيور.
راعي الغنم : لا، احتفظ بعطائك، ما أريد أن أسمع إلا طيور الظلام من بوم وعقبان، وفي نعيبها بالغناء ما يكفيني، ولا أريد أن أحاكي غير أغانيها … وأما نايُكَ فأنا مُحطِّمه تحت أقدامي، إنني لأبغض كل مسرَّاتكم، وقلبي لا يخفق لجمال الزهر ولا لرقَّة الندى ولا لزفرات البلابل العذبة، لقد أغلقت حواسي دون ذلك كله، ألستُ عبدًا؟
راعي المعز : وا حسرتاه! إنك لجدير بالرحمة، نعم ما أقسى الرقَّ! نعم، لكل حي أن يخشى نِيره، ونيره ثقيل الحمل، ما أتعس أن نعيش لغيرنا وقد سَلبَنا ذلك الغيرُ كل شيء! أيتها الحرية، أيتها الحرية العزيزة، ابسطي فوقي جناحيك، يا أم الفضائل، يا أم الوطن.
راعي الغنم : اغرب عني، ما الفضائل وما الوطن إلا كلماتٌ خاوية، ثم إن في حديثك ما يجرحني، وفي سعادتك المدَّعاة ما يُحزنني ويُثير حفيظتي، بودِّي أن لو كنتَ مثلي عبدًا.
راعي المعز : وأما أنا فأودُّ أن أراك مثلي حرًّا سعيدًا، ولكن أما عند الآلهة من دواء لبلواك؟ لدينا بلاسمُ عذبة ومياهٌ صافية تسكن بها جراح النفوس، لدينا من سحر الأغاني ما يُجفِّف دمع الجفون.
راعي الغنم : لكم ذلك، أما أنا … فلا … ليس لي إلا الآلام، لقد حكم القضاء أن أكون عبدًا، ولا بد من نفاذ حكمه، وإلى جواري كلبي أسترقُّه بدوري حتى لترعده إشارتي، وما لديَّ غيره، ينتقم منه يأسي الصامت لما ينزل بي من آلام.
راعي المعز : وتلك الأرض التي عنها صدرنا، وخصبها العذب أما تستطيع أن تشفي من آلامك؟ انظر إلى جمالها المشرق، انظر إلى الصيف البهيج؛ يُغدق نعمه وقد أقبل تسوقه أشعة الشمس، يحنو على المروج فيباين من رداء الربيع الأخضر، انظر إلى حبات المشمش وقد أخذت عذوبتها تذكو، ولونها يصفو كعسل النحل، انظر إلى زهر الخوخ البنفسجي وقد زيَّن أشجاره معلنًا ما سوف يتبعه من حلو الفاكهة، انظر إلى حقول الغلال وقد تكاثفت سنابلها في غابات صفراء منتظرة مناجل الحصاد، إن في ذلك لحفلًا نبيلًا من إلهة الطبيعة. ها هي ذي إلهة السلام وآلهة الخصب الصافيتا النظرات، الهادئتا اللحاظ تخفان إلينا وبأيديهما سنابل، وقد تبعتا آثار إله الأمل؛ لتسكبا من القرن الذهبي مشرق الخيرات.
راعي الغنم : لا شك أنها تظهرك على مواقع أقدامها، أما أنا فلا أستطيع أن أراها، وعيناي عينا رقٍّ، أُرسل الطرف فلا أرى إلا أرضًا مُجدِبةً مهلكة، حملتها كارهًا على أن تُدرَّ الخير على غيري، تحت الشمس المحرِقة أكدح لأحصد ما يتغذَّى به غيري وأنا أتضوَّر جوعًا، وذلك كل ما أعرف عن تلك الأرض، حتى لكأنها لم تكن لي أُمًّا كما كانت لكم بل زوجة أب، والطبيعة كلها ليست أشدَّ وقعًا على بصري، وألمًا لنفسي من وادي الموت الذي تراه هنا والذي يملؤك رعبًا.
راعي المعز : ومهام غنمك وهمس ثغائها الرقيق الهادئ، أما في ذلك ما يُدخل السرور على نفسك الجامدة، أما تُطربك رؤية حملانك الوادعة النظرات؟ كما تطربني مداعبة صغار معزي، وقد أخذَتْ تمرح وتجري مرسلة في الهواء أصواتها الرقيقة! لكم من مرة أراها تهرول فوق الندى، ولامِعِ الحشائش إلى جوار أمهاتها؛ فأقفز معها فرحًا طروبًا.
راعي الغنم : المعز معزك، وأما أنا فنصيبي من الحياة غير نصيبك، فتلك الغنم هي مصدر بلواي، أسرح بها مرَّتين في النهار، وكلما عدتُ وجدت سيدي في انتظاري، والظنون تساوِره وقد عزَّ رضاه: «لم ينم صوفها، لقد ضوت أجسامها، وتثاقلت خطاها، و… و…» فلا شيء يروقه. إذا سقط بها ذئب واختطف واحدة منها موليًا إلى الغابة فالذنب ذنبي، لقد كان عليَّ أن أغالب أنيابه الماضية، بل من واجبي أن أستأنس الذئاب!! ثم ينهال عليَّ صياحًا وتهديدًا وسبابًا وقسوةً مبرحة يسميها عقابًا.
راعي المعز : لقد عهدتُ الآلهة رءوفة بالبريء، فلمَ تهجر رحابها وفي رحابها نصر للمستضعفين! لمَ لا تأتي إلى مذابحها وقد حلتها الزهور فترقص معنا حولها، وقد حملت إليها متواضع الهدايا، قليلًا من حشائش المروج وزهر الغابات، وأنت بذلك نائل عطف «زيس» وعرائس الطبيعة الرحيمة.
راعي الغنم : لا، إن قلبي الحزين لا يعرف رقص الرعاة ولا ألعابهم ولا مسرَّاتهم، كل ذلك غريب عني، وفيمَ حديثك عن الآلهة وهداياها، أو عن عرائس الطبيعة، وما عندي للآلهة ورد ولا ريحان؟ إني أخشى آلهتك وقد رأيت رعدهم وبرقهم، وهم الذين وضعوا بيدي الأصفاد.
راعي المعز : هه! ولمَ لا تحب؟ وأي ألم مُرٍّ يقوى على ابتسامة عذبة تبسمها عذراء القلب؟! لقد أتيتُ أول أمس إلى حبيبتي مُهديًا باكورة ما أنتجت معزى هذا العام؛ ماعزًا صغيرًا، تلقته وقد استحالت نظراتها رقَّة وجمالًا ومحبة، وأخذ صوتها نبرة لا أزال أحسُّ بوقعها الجميل في نفسي.
راعي الغنم : وأي عذراء تقبل أن تنظر إليَّ، أعندي من المعز ما أستطيع أن أقدم منه هدية مثلك؟ وكل يوم يعدُّ سيدي الفظُّ الغليظ حملانه في حرصٍ بشع حتى ليثلج قلبي عندما لا يطالبني بأكثر مما أعطاني. «تميزيس» آلهة الانتقام! أقسم أن لو أصبحت يومًا سيدًا لأكونن قاسيًا فظًّا غليظًا، ولأُنزلن الويل والثبور بأرقائي كما أنزل بي هذا الرجل.
راعي المعز : وأما أنا فأستشهدك آلهتي، أن أكون رقيقًا حليمًا بخدمي المخلصين، وأنْ أرضي أماني نفوسهم، حتى يشعروا بالسعادة، فيحبوا سيدهم، وحتى يرضوا عن الحياة، فيباركوا يوم ولدوا.
راعي الغنم : وأما أنا فأصبُّ اللعنة على تلك الساعة المشئومة التي أتيتُ فيها إلى هذه الحياة لأشقى بها، لأكون تحت إمرة آخر يأمرني وينهاني، وقد جُرِّدت من كل شيء، واستحال عليَّ أن أروق لأي إنسان، والجوع يُضويني، وقد انصرف كَدِّي وألمي إلى آخر يُشبع به بطالته وكبرياءه.
راعي المعز : أيها الراعي البائس، إن في حزنك الشاكي ما يحمل الأسى إلى قلبي، انظر إلى هذه الماعزة وولديها، وفي بياضهما ما يشبه ما ادخرتْ لهما من لبن، هي لك، خذها وإلى عناية الله، ولْتسأله أن يجعل في هذا القليل الذي أمنحك ما يمحو من ذاكرتك آثار آلامك، وأن تجد في العناية بها ما يصرفك عن بلواك.
راعي الغنم : هاتها وعليك اللعنة، وأنا أعلم أن في هديتك ما سيُنغِّص حياتي، فسوف ينظر إليها سيدي شزرًا مُنكِرًا أن يمنحني إياها مانح وهو الخبيث الحسود، سيقول إني اختلست منه ثمن الأم وثمن ولديها، سيتذرَّع بتلك الدعوى ليسلبني إياها، وعهدي به ملتمسًا للظلم كل عذر.

هذه القصيدة تعتبر مثلًا واضحًا لشعر الغناء الموضوعي النيوكلاسيكي، وباستطاعتنا أن نجد لها شبيهات عند شاعرنا الكبير «خليل مطران» في مطوَّلاته من أمثال قصائد «فنجان قهوة» و«الجنين الشهيد»، وإن لم تتخذ عنده صورة الحوار، ولكنها تتفق معها في أنها تصب أفكارًا ومشاعرَ جديدة في ثوبٍ كلاسيكيٍّ متين، وإن يكن هناك فارقٌ كبير بين فن شينيه الساذج البسيط الأنيق وفن مطران المركَّب المتقن الصنعة إلى حد الخفاء.

ومن البديهي أن نظرية المحاكاة وسطوة أرسطو العقلية لم تستطع أن تتغلَّب على حاجة الإنسانية إلى التعبير عن ذاتها خلال الوجدان الفردي للشعراء، فلم يتوقَّف قط إنتاج الشعر الغنائي المنبعث عن الحاجة إلى التعبير عن الذات، ولم تنتظر الإنسانية ظهور الرومانسية لتعطيها حق التعبير عن الوجدان الذاتي؛ فقد ظل هذا الشعر حيًّا في عصور الإنسانية جميعها منذ القدم حتى اليوم، وأما الذي أحدثه الرومانسيون فهو تغليب هذا المنبع الشعري على غيره من المنابع، وجعله المنبع الأول لتلك الثروة الشعرية الضخمة التي خلَّفها لنا أمثال: هيجو، ولامارتين، وموسيه، وشيلي، وبيرون، وكلوردج، وكيتس، ووردزويرث، وكل ذلك العدد الكبير من العمالقة الذين نادوا بأن الشعر وجدان، أو على الأدق تعبير عن الوجدان الفردي للشاعر، وعلى نحوٍ أخص من خلجات قلبه وأحاسيسه بجمال الطبيعة أو حماسة الإيمان؛ حتى لنرى عندهم قصائد يوحي عنوانها بأنها قصائدُ وصفية مثل قصيدة «البحيرة» للامارتين، ومع ذلك نقرأ هذه القصيدة التي كتبها على ضفاف بحيرة بورجيه في جبال السافوي بفرنسا فلا نجد فيها أي وصف لتلك البحيرة، وقد استحالت إلى مجرد إطار لتجربة عاطفية عاناها على ضفافها مع حبيبته «الفير» التي قضى معها على ضفافها خمسة عشر يومًا سنة ١٨١٦ ثم تواعدا على العودة إليها في العام القادم، ولكن شاء القدر أن يعود لامارتين وحده، أما الحبيبة فكان الموت قد طواها بذات الرئة، فكتب هذه القصيدة الرائعة باسم «البحيرة» وما فيها من وصف البحيرة غير ملامح خاطفة، أما بقية الشعر فعن ذكرياته مع الحبيبة، ولواعجه على موتها المبكر وما يسوقه إلى الشاعر من تأملات في الحياة والموت، وتلقف الغناء لفترات السعادة التي نصادفها في حياتنا العابرة. فالقصيدة كلها تعبير عن ذات الشاعر لا وصف للبحيرة أو محاكاة لصورتها الشعرية التي انعكست في نفسه؛ وبذلك يمكن القول بأن الكلاسيكية المستندة إلى نظرية المحاكاة الأرسططالية ونظرية التعبير عن الوجدان الفردي، وهي النظرية التي يسهل ربطها بالإلهام الشعري قد وضعتا نهائيًّا القطبين اللذين لا يزال الشعر يتأرجح بينهما منذ فجر الإنسانية حتى اليوم، وإليهما ترجع في أيامنا هذه النظريتان الكبيرتان اللتان يتنازعان العالم، وسيظلان يتنازعانه إلى أمدٍ طويل، وهما «نظرية الواقعية والنظرية الرومانسية».

غلَّبت إذن النظريةُ الرومانسية الحاجة إلى التعبير عن الوجدان الذاتي على غريزة المحاكاة الموضوعية حتى رأينا هذا الوجدان يطغى على كل شعر رومانسي، ولو أوحى بأنه شعرٌ وصفي موضوعي، وها هي ذي قصيدة البحيرة للامارتين شاهدًا على ذلك:

أنظل هكذا منساقين أبدًا إلى شواطئ جديدة،
محمولين دائمًا وسط الليل الأبدي بغير رجعة؟
أَوَمَا نستطيع أن نلقى بمرساتنا يومًا
على شاطئ الزمن اللُّجِّي؟

•••

أيتها البحيرة، لم يكد العام يتم دورته، ومع ذلك انظري ها أنا وحدي جالسًا فوق هذه الصخرة
التي رأيتها تجلس عليها،
وإلى جوار أمواجك العزيزة التي كانت ستعود إلى رؤيتها.

•••

هكذا كنتِ تهدرين تحت هذه الصخور العميقة،
وهكذا كنتِ تتكسَّرين على جوانبها الممزَّقة،
وهكذا كانت الرياح تلقي بزبد أمواجك
فوق قدمَيها المعبودتَين.
أَوَمَا تذكرين كيف كنا نجدف صامتين ذات مساء،
وكنا لا نسمع عن بُعْدٍ فوقَ الموج وتحت السماوات
غيرَ حفيف المجاديف وهي تضرب في صمتٍ
أمواجَك الناغمة؟

•••

وفجأةً ترددتْ في الشاطئ
أصداءُ نغماتٍ تجهلها الأرض،
فأنصَتَ الموجُ وتساقطت من الصوت الحبيب
هذه الكلماتُ:

•••

أيها الزمن، قِف جريانك.
وأنتِ أيتها الساعات السعيدة قفي انسيابك،
واتركينا نَنْعم باللذات العابرة،
التي تُتيحها أجمل أيامنا.

•••

كثيرٌ من منكوبي الحياة يضرَّعون إليك
فأسرعي! أسرعي عنهم،
واحملي مع أيامهم الآلامَ التي تنهشهم،
وانسي السعداء.
ولكنني أسألك عبثًا فضلًا من اللحظات؛
فالزمن يفلت ويهرب،
وأقول لهذا الليل تمهَّل،
والفجر سيبدد الليل.

•••

فلنحب إذن، فلنحب!
ولنسرع إلى المتعة باللحظة الهروب؛
فالإنسان لا مرفأ له، والزمن ما له من شاطئ،
إنه ينساب وننساب معه.

•••

أيها الزمن الغيور،
هل يجوز أن تنساب عنا لحظات النشوة،
التي يسكب لنا فيها الحبُّ السعادةَ جرعاتٍ طوالًا،
بالسرعة نفسها التي تنساب بها أيام الشقاء؟
ثم ماذا؟ أَوَمَا نستطيع أن نستبقي الأثر؟
أهكذا تمرُّ إلى الأبد؟ أهكذا يضيع كل شيء؟
وهذا الزمن الذي منحها والذي محاها،
لن يردَّها إلينا قَط.

•••

أيها الأبد، أيها العدم، أيها الماضي، أيتها الأغوار الداكنة، ماذا تفعلين بما تبتلعين من أيام؟
تكلَّمي، هل ستردِّين إلينا تلك النشوات العلوية
التي تسلبينها منا؟

•••

أيتها البحيرة، أيتها الصخور الصامتة، والكهوف والغابة الحالكة،
أنت التي يستبقيك الزمن أو يُجدِّد شبابك،
احتفظي من هذه الليلة، أيتها الطبيعة الجميلة،
على الأقل بالذكرى.

•••

وفي لحظات هدوئك أو صخبك،
أيتها البحيرة الجميلة، وفي شواطئك الباسمة،
وفي صنوبرك الأسود وصخورك الموحشة
الحانية فوق أمواهك،

•••

وفي النسيم الذي يرتعش ويمرُّ،
وفي النغمات التي تُردِّدها شطآنك،
وفي النجم الفضي الذي يضيء صفحتك
بأشعته الرخية،

•••

وفي الريح التي تَئِنُّ والغاب الذي يتنهَّد،
وفي العطور الخفيفة المنسابة في أريج هوائك،
وفي كل ما يُسمَع وما يُرى وما يُتنفَّس،
ليتردد في كل هذا: أنهما كانا حبيبين.

هذا، ومن الخير دائمًا أن نذكر مع الفيلسوف فيكو أن محور الأدب في تاريخ الإنسانية كلها قد تطوَّر من الآلهة إلى الأبطال، فالإنسان، وأنه ما دام قد انتهى إلى الإنسان فلم يكن بد من أن يصبح دافعه ومنبعه الأول هو التعبير عن ذات ذلك الإنسان، وما ينطبع فيها من مشاهد الحياة والطبيعة، أو ينبع من داخلها وحاجاتها وأشواق روحها، وهذا هو ما انتهت إليه الرومانسية التي جعلت من الوجدان الفردي نبع الشعر الثري، وإن تكن قد اختلفت بعد ذلك مع المذهب الرمزي في طريقة التعبير عن انطباعات الذات الفردية، وهل يكون هذا التعبير عن طريق التقرير المباشر أم عن طريق التصوير، وبذلك نعود فنذكر قول الشاعر الإغريقي القديم سيمونيدس: «إن الرسم شعرٌ صامت، بينما الشعر رسمٌ ناطق.» وهذه هي مشكلة التعبير بين الرومانسية والرمزية على نحو ما سنفصِّل في الحديث القادم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤