الانتهازيون لا يدخلون الجنة

مسرحية في ستة مشاهد

مُهداةٌ إلى عبد الرحمن فهمي.

الشخصيات

  • المريض.
  • زينب: زوجته.
  • أحلام: ابنتهما.
  • الطبيب.
  • محمد دربالة: وهو الشق الآخر من نفس المريض المنقسمة.
  • صبري: وكيل وزارة سابق.
  • الممرضون.
  • الملاك الأسود الصامت.
  • جَوْقَة الأطفال.

هذه المسرحية صياغة حرة لقصة «الجلسة» لصديق العمر الكاتب الفنان عبد الرحمن فهمي. ولو سلَّمنا بوجود عدد من روائع القصة المصرية القصيرة — قد لا يتجاوَز عدد أصابع اليد الواحدة أو اليدين — لكانت «الجلسة» في تقديري هي إحدى هذه الروائع بغير منازع (نُشرت القصة في مجموعته الأخيرة «العود والزمان»، القاهرة سنة ١٩٦٩م، من صفحة ٧ إلى صفحة ٤٢).

(حجرةٌ واسعة في عيادة طبيب الأمراض النفسية والعقلية، مكتبٌ كبير في مواجهة النظارة، يجلس الطبيب على كرسيٍّ موضوع أمامه أو يقوم أحيانًا ليُعاين المريض أو يُكلِّمه، على اليمين أريكةٌ مُستطيلة يَتمدَّد عليها المرضى أثناء التحليل، يقف خلفها أربعة من الممرِّضين في ثيابٍ بيض، وهم يُمثِّلون الجَوْقَة التي تُراقب الأحداث أو تَستفسِر عنها وتُعقِّب عليها. المريض جالس على الأريكة بعد أن انتهى الطبيب من فحصه، يَدفِن رأسه بين كفَّيْه ويبكي. الممرضون يُحاوِلون أن يساعدوه على ارتداء ملابسه، وفي يد كلٍّ منهم قطعةٌ منها.)

١

المريض : ابنتي ماتت يا دكتور. ابنتي ماتت.
الطبيب : أعرف، أعرف.
المريض : إنه يتَّهمني بقتلها، يتهمُني بقتلها.
الطبيب : اهدأ أرجوكَ.
المريض : أهدأ؟ كيف أهدأ بالله عليك؟ هل تتصوَّر أنني قتلتُها؟ هل سمعتَ عن أبٍ قتل ابنته؟ (يَبكي.)
الطبيب : كفى بكاءً. نريد أن نتناقَش في هدوء، هيَّا ارتدِ ملابسكَ أولًا.

(الممرضون يحاولون أن يساعدوه على ارتداء ملابسه فيصدهم بعنف.)

المريض : بل قل أنتَ أولًا، هل تعتقد أنني مجنون؟
الطبيب : مجنون؟ لا لا، لا تُبالِغ.
المريض : هو الذي أقنعكَ بهذا. أليس كذلك؟ وزوجتي أيضًا، لم يكتَفُوا باتهامي بقتل ابنتي، اتهموني أيضًا بالجنون.
الطبيب : قلتُ لك لا تبالغ في كلامك. نحن الأطباء حريصون في استعمال الألفاظ. إنه مجرَّد فحصٍ عادي. فحص انتهينا منه ويُمكنك أن تطمئن.
المريض : أطمئن؟ أطمئنُّ وأنت تعتقد أنني مجنون!
الطبيب : بل أعتقد أنك سليم، الكبد سليم، القلب سليم، الرئة سليمة، اهدأ الآن وارتدِ ملابسكَ.
المريض : اهدأ، اهدأ، أليس عندك غير هذه الكلمة؟ هل جرَّبتَ فَقْد عزيز أو حبيب؟ هل رأيتَ في حياتك إنسانًا يُحتضَر؟ ابنتي ماتت يا دكتور، ماتت! (يَنشِج نشيجًا مؤلمًا.)
الطبيب : وهذا هو سبب الأزمة. أزمةٌ طارئة ستزول، كل شيءٍ سيعود أفضل مما كان.
المريض : وتُسمِّيها أزمة؟ موت أحلام واتِّهامي بالقتل والجنون في رأيك أزمة؟
الطبيب : قلتُ لك احترِسْ في استعمال الألفاظ.
المريض : الجنون أو القتل. ما الفرق بينهما؟ إنهما يُطارِدانِني في كل مكان، أصابعهما تُشير إليَّ حتى في المنام، تآمَرا عليَّ يا دكتور تآمرا عليَّ، هل أنتَ معهم أم معي؟
الطبيب : سنَتناقش الآن، ستحكي كل شيء. وسنعرف الحقيقة.
المريض : وهؤلاء؟
الممرضون (في صوتٍ واحد) :
نحن مع الحق،
لسنا معكَ ولا ضدَّكَ.
نحن مع الحق.
المريض (يَلتفِت إليهم فزعًا كأنه يَكتشِفُهم فجأة. يرى أَيدِيَهم الممدودة بقِطَع ملابسه) : سألتُكَ مَن هؤلاء؟
الطبيب : ما الذي يُخيفك؟ إنهم يَمدُّون أيديهم إليك. يُريدون أن يُساعدوك.
المريض : يُساعدونني أم يَخنقونني؟ ابتعدوا أيها الجلَّادون!
الممرضون : لسْنا جلَّادين ولا نحن قضاة.
المريض : هو الذي أَرسَلَكم.
الممرضون : لم يُرسِلْنا أحد. من تقصد؟
المريض : الذي يُطارِدُني ويتآمَر عليَّ، هو ولا أحد سواه. محمد دربالة.
الممرضون : محمد دربالة؟
المريض : كلكم محمد دربالة. كلكم تتربَّصُون بي. كلكم تمدُّون إليَّ حبل المشنقة.
الممرضون (ضاحكين) :
أتُسمِّي السترة مشنقة.
نحن نمدُّ إليك قميصك،
ياقة رقبتك، حزامك.
ساعِدْنا حتى نقف جواركَ ونساعدكَ ونرعاكَ.
المريض (ثائرًا) : بل أنتم جلَّادون وقتلة. أَبعِدهم يا دكتور؟
الممرضون :
لسنا جلَّادين ولا قتَلَة.
نحن شُهودُك، ظِلُّك، صوتُ ضميرِكَ،
تابعناكَ طوال العمر، نظَرنا في مرآتِكَ،
فانفُض تذكاراتِكَ،
اجعلنا أهلكَ وصِحابَكَ،
ساعِدْنا كي نقرأ معك كتابَكَ.
المريض : اسألوه أن يُساعدَكم. اذهبوا إليه. اقرءوا كتبه. أنا لا أقرأ كتبًا مثله ولا أُؤَلِّف كُتبًا.
الممرضون :
مَن هو محمد دربالة؟
نحن لا نَعرف محمد دربالة،
الحقيقة هي ما نُريد أن نعرف.
تُهتَ في الظلام، نريد أن نضَع مصباحًا في طريقكَ.
اعوجَّت شجرة عُمركَ؛ دعنا نُعالج جذورها.
لطَّخَ الدنسُ ثوبَكَ؛ دعنا نُطهِّره.
مُد يدَيْك إلينا، وسوف نَضعُكَ على صدورنا.
الطبيب : مُد يدَيْك إليهم، ساعِدْهم.
المريض : مُرْهم أن يبتعدوا، أن يتخلَّوا عني.
الممرضون :
نحن تخلَّينا عنك سنين،
أحصيناها بلغتْ في العدد ثلاثين،
فصِرتَ إلى ما صِرتَ إليه.
المريض :
نفس كلامه. هذا هو نفس كلامه.
أَبعِدهم عني، أَبعِدهم عنِّي (يبكي).
الطبيب (يتقدَّم إليه) :
ابتعِدوا عنه. ما الذي تخشاه منهم؟
إنهم يُعاوِنُونني ويُعاوِنونك،
مُدَّ ذراعك، نعم هكذا.
استرح، نحن نُريد راحتَكَ،
بعد أن تَرتديَ ملابسَكَ سنَتفاهم في هدوء،
ستحكي لنا عن الملعون محمد دربالة.
المريض (مُستجيبًا له كالطفل) : ملعون وقاتل!
الطبيب : وهو يتهِمُكَ ويظلِمُك.
المريض : صدَّقْتَني أخيرًا يا دكتور؟
الطبيب : أنا أُصدِّقكَ من البداية.
المريض : ولكن لماذا يُصدِّقني كل الناس ويُكذِّبني؟ لماذا لا يرحمني؟ حتى الضحية غَفرَت لي.
الطبيب : الضحية؟
المريض : إنه يتصوَّر أنني تسبَّبتُ في سجنه، يتصور أنني أدخلتُه السجن وحكمتُ عليه بالأشغال الشاقة، الحمار لا يريد أن يفهم، لا يريد أن يفهم أنني فعلتُ كل شيء من أجلها.
الطبيب : فهمتُ، من أجل ابنتِكَ.
المريض : وابنتي ماتت يا دكتور، ابنتي ماتت.
الطبيب : أعرف، أعرف، سنرى الآن كل شيء.
المريض : المهم أن يعرف هو، المهم أن يفتح عينَيه ويرى، هل تعتقد أني مُذنبٌ يا دكتور؟ هل تعتقد أنني قتلتُها؟
الطبيب : بالطبع لا. استرحِ الآن. مدِّد ساقيكَ وأرخِ ذراعَيكَ. استرح وتنفَّس بهدوء، سنعرف كل شيء معًا، سيخرج كل شيء إلى النور.
المريض : النور؛ هذا ما أريده أيضًا كي يرى ويفتح عينَيه.
الطبيب : وستحكي لنا كل شيء، كل شيء.
المريض : ما الفائدة إذا كان لا يُصدِّق؟
الطبيب : وربما اكتشَفْنا أنه غير موجود.
المريض (يحاول أن ينهض في غضَب) : هل صدَّقتَ كلامَ زوجتي؟ إنه موجود يا دكتور.
الطبيب : إذن فهو موجود.
المريض : كيف يكون غير موجود وهو يُبكيني ليلَ نهارَ؟
الطبيب : قلتُ لك هو موجود، المهم أن تستريح الآن.
المريض : حذارِ أن ترجعَ لاتهامي بالجنون.
الطبيب (صارخًا) : قلتُ لك لا تَنطِق هذه الكلمة.
المريض (في خوف) : خِفتُ أن تتهمَني بالجنون كما اتهمَني بالقتل … إنني بريء يا دكتور (ينظر للمُمرضين) إنني بريء.
الممرضون :
نحن نُصدِّقك تمامًا.
وسنعرف إن كنتَ بريئًا،
أو إن كان هو الجاني.
المريض : ساعدوني.
الممرضون :
سنُساعِدكَ جميعًا.
مَدِّد رجلَيك، استرخِ قليلًا.
وتنفَّس في عمق.
الطبيب : أعمق … أعمق.
الممرضون :
انفُض أحزانكَ،
ساعِد تَذكاراتِكَ كي تَطفُوَ فوق السطح؛
لنُساعِدكَ فيلتئم الجُرح.
الطبيب : هيَّا تذكَّر، ماذا حدث عندما عُدتَ إلى بيتك؟
المريض : وفي يدي اللعبة والدواء.
الطبيب : تَطفَر فرحًا وتُغنِّي.
الممرضون :
تضع المفتاح بثُقب الباب.
وتنادي: يا أحلام.
المريض : أحلام، أحلام.

(يخفُت الضوء. يُرى على اليمين فِراشُ طفلةٍ صغيرة، يتقدم المريض نحوها وهو يثِب فرحًا. الزوجة والطبيب يجلسان صامتَين أمام الجثمان.)

٢

المريض : كنتُ فرِحًا كما لم أفرح في حياتي.
الممرضون :
بالطبع؛ فالترقية بجيبِكَ،
في قبضتكَ المجد،
وفيها جوهرةُ العمر.
كم عانيتَ طويلًا حتى تصل،
وها أنتَ وصلتَ،
لكن وا أسفاه!
صَعِد السلَّم حتى طال النجم،
لكن سقَط السلَّم في الطين المُعتم.
وا أسفاه! وا أسفاه!
ماتت أحلام ومات الحُلم.
المريض : أحلام، يا أحلام، افتحي ذراعَيكِ لأبيكِ، انهضي لنلعب معًا، أحلام.
الزوجة : تأخرتَ كالعادة، لن تَستطيع أن تلعبَ معك.
المريض : لماذا؟ هل نامت الليلةَ مُبكرة؟
الزوجة : نعم نامت.
المريض : لا بد أن تصحُو. سأزفُّ إليكِ خبرًا سارًّا يا أحلام. لن تفهمي كثيرًا ولكنك ستَضحكين وترقُصين. حتى العروس التي طلبتِها سترقُص وتُغنِّي معنا.
انظري يا أحلام.
الزوجة : لا تُتعِب نفسك.
المريض : ماذا بكما؟ قومي لتَرَي عروسكِ يا أحلام.
الزوجة : ماذا حدَث؟ ماذا حدَث؟
الممرضون :
خيَّم صمتُ الموت على الإنسان،
جثم على الخدَّين، على الشفتَين،
على الأجفان.
وامتدَّ الظل على الجدران.
الزوجة صامتة كالبوم،
والطب العاجز،
في وجه طبيبكَ مهموم.
وتمُد يدَيك لكي تتحسَّسَ صَدْر ابنتك،
فلا تسمع نبض القلب،
ولا تلمس إلا الجثمان.
المريض : صرختُ وبكيتُ، نشَجتُ واختنقت بالدموع، ضربتُ وجهي على سريرها حتى سال دمي، تكلَّمي. ماذا حدث؟
الزوجة : تأخَّرتَ عليها بالدواء.
الطبيب : ونفَذ قضاء الله يا محمد، نفَذ القضاء.
المريض : لم أتأخَّر، الوزير هو الذي وصل متأخِّرًا، أخبَرتُكِ أنني سأكون في استقباله.
الزوجة : وطلبتُ منك أن تُعجِّل بإحضار الدواء.
المريض : ما ذنبي إذا كانت طائرة الوزير تأخَّرَت؟ هل كنتُ أعلم أنها ستتعطَّل ساعتَين؟ هل كنتُ في علم الغيب؟
الزوجة : وابنتُك؟ ألم تكن أَوْلى بك؟
المريض : وهل فعلتُ ما فعلتُ إلا من أجلها؟ هل سعيتُ لاستقبال الوزير إلا لأُسعدها؟ أكان يُرضيكَ أن تضيع منِّي الترقية؟
الزوجة : أَفضَل من أن تَضِيع ابنتك.
المريض : قُومي يا أحلام. أبوكِ أصبح وكيل وزارة، تَعِب من أجلكِ حتى وصل. افتحي عينَيك يا ابنتي. انظري إليَّ وكلِّميني.
الممرضون :
الزوجة صامتةٌ صَمتَ البوم،
والطبُّ العاجز في وجه طبيبكَ مهموم.
عبثًا تَصرخُ يا مسكينُ،
عبثًا تَصرخُ يا مسكين.
المريض : أحلام، أحلام، انتبهي يا ابنتي، تَكلَّمي يا حبيبتي، نادي على أبيكِ.
الزوجة : نادَت عليكَ ساعتَين.
المريض : قلتُ لكِ لم أتأخَّر بإرادتي.
الزوجة : ظلَّت تبكي وتقول: أريد بابا، أريد بابا.
الطبيب : وأبوها ينتظر الترقية من الوزير.
المريض : حصلتُ عليها من أجلها. تعبتُ وشقِيتُ طول العمر لأُسعدها. هل بنيتُ الفيلا واشتريتُ العربة إلا لها؟
الزوجة : الفيلَّا والعربة؟ كانت تُريدكَ أنتَ بجانبها.
المريض : اسمعيني أنتِ يا أحلام. أُمكِ لن تفهمني ولن يفهمني أحدٌ سواكِ. قومي يا حبيبتي، تعالَي وانظري عروسَكِ الجميلة، أنتِ نائمة تحلُمين، انهضي لتَرَي الحُلم الجديد، قومي، قومي!
الممرضون : ناديتَ وناديتَ فهل سمعَت صوتك؟
المريض : سمِعَتْه وقامت، لم يَرَها أحدٌ غيري.
الممرضون : كيف يقوم الموتى؟
المريض : وقفَت كعروسٍ تخرج من نبعٍ صافٍ كالفجر. ما كادَت تَلمح لُعبتها حتى التقطَتها، ضمَّتْها للصدر: عروسي، سآخذها معي (تتمثَّل الرؤيا أمامه في ضوء الحُلم الوردي الأخضر، يتابعها بعينَيه ولا يراها أحدٌ غيره).
المريض : إلى أين يا ابنتي؟
أحلام : ألا تراه هناك؟
المريض : مَن يا حبيبتي؟
أحلام : هناك، هناك.
المريض : ونظرتُ حيث أشارت. كان يَستند على حافة الشباك صامتًا حزين العينَين، ملاكٌ أسودُ ضخم، بجناحَين كالليل الأسود، يُحدِّق فيها ولا يتكلَّم، تقدَّمَت منه وقالت:
أحلام :
من أنتَ؟
هل أنت صديق؟
أم أنت عدو؟
المريض : والملاك الأسود صامتٌ لا يُحوِّل عينَيه عنها.
أحلام :
لِمَ لا تتكلَّم؟
جئتَ لتأخذني؟
المريض : أطرق الملاك برأسِه. لم يُجِب، شعَرَت أنه خجِلٌ أو نادِم. لكنَّها مدَّت ذراعها نحوه وقالت:
أحلام :
ستكون رقيقًا وحنونًا،
لا تقسُ عليَّ.
أَدفِئني تحت جناحَيك،
دثِّرني،
خُذني بين ذراعَيكَ،
ولا تَقسُ عليَّ.
المريض : مدَّ الملاك يده إليها. وضَع يدها في يده وسار صامتًا كالنسر الكبير الذي يقبض على فراشة، جريتُ وراءهما باكيًا: تعالَي يا ابنتي، تعالَي، إلى أين تذهبين؟ رفرفَت طيورٌ بيضاء بأجنحةٍ بيضاء، انطلقَت تُغنِّي:
الموت طفلٌ صغير،
بوجه شيخٍ عبوس.
والموت بابٌ كبير،
يُفضي إلى الفردوس.
المريض : هلَّلَت أحلام وأشارت إليَّ:
افرح يا أبي. موعدنا في الفردوس.
الله دعاني،
لبَّيتُ الدعوة،
والملك الحاني
يعبُر بي الهُوَّة.
جريتُ وراءها وأنا أبكي: لا تَترُكيني يا أحلام، لا تَتركُيني. التفتَت إليَّ وصاحت: تعالَ يا أبي، تعال! أتعرفُون ماذا فعَل؟
الممرضون : من؟ الملاك؟
المريض : بل هو. محمد دربالة. انشقَّت عنه الأرض ووقف أمامي. سدَّ عليَّ الطريق كالجبل.
الممرضون : وماذا قال؟
المريض : صرخ كذئبٍ جائع: الانتهازيون لا يدخلون الجنة.
الممرضون : الانتهازيون لا يدخلون الجنة؟
المريض : بكيتُ وصرختُ وضربتُ الأرض بقدمي. حاولتُ أن ألكُمه ولكنه كان كالصخر. ابتَعِد عن طريقي يا محمد، لماذا تُطاردني يا محمد؟ دعني أذهب مع ابنتي. دعني أخرج من هذا العالم ما دُمتُ لا أستطيع أن أعيشَ معكَ فيه.
الممرضون : وهو الصامت كالجبل الأجرد، قاسٍ كالصخر.
المريض : أقسى منه امرأتي، أقسى منه طبيبي.
الممرضون : ماذا فَعَلا؟
المريض : راحا يُنادِيان: تعالَ يا مجنون. ابنتُكَ في فراشها. تعالَ لا تُتعِب نفسَك. وابنتي تَبكي وتُشير إليَّ:
تعالَ، تعال،
العالم وَحْشٌ،
فلنَهرُب منه.
والعالم نَعشٌ،
فلنَخرُج منه.
وأنا أنادي:
إنهم يمنعونَني يا حبيبتي،
إنهم يَظلمونَني.
الممرضون : من منهم ظلمَكَ؟
المريض : كلهم، كلهم ظلموني.
الممرضون : الجَنَّة لا يَدخُلُها …
المريض : أُتردِّدون قوله؟ ألا يكفي ما قاله منذ أيام؟
الممرضون : ومتى قابلتَه؟
المريض : في اليوم التالي. يوم جاء الناس لتَهنئتي وتعزيتي.
الممرضون : ارْوِ علينا ما حدث هناك. احكِ لنا ما قال.
الطبيب : نعم هكذا، استرِح ومدِّد ساقَيك. أرخِ ذراعَيك.
الممرضون :
خذ نفَسًا أعمق،
وارْوِ علينا ما قال،
الجنة لا يدخلها …
لا، لا تغضب.
الأفضل أن نَسمعها منك،
أو نسمعها منه،
ارْوِ علينا ما قال.

(يخفُت الضوء على المريض الممدَّد على الأريكة، يُسلَّط على الجانب الآخر من المسرح، تظهر حجرةٌ مُظلمة كالقبر، مُعفَّرة بتراب الملفات والسجلات. شخصٌ يشبه المريض في مظهره وملبسه، يقف بجانب السلَّم المعدني ويُقلِّب في مِلفٍّ قديم.)

٣

المريض : لم أَدرِ كيف وقفتُ أمام باب هذه الحجرة، ولا كيف فتحتُ البابَ ودخلْت.
الطبيب : ألم تَذهب أولًا إلى الوزارة؟
المريض : في اليوم التالي لدفنِ ابنتي، أفقتُ من الكابوس ورجعتُ لنفسي.
الممرضون (يَتضاحكون) : رجعتَ لنفسك؟
أم رجعَت نفسُك لك؟
المريض : لا تسخروا بي. كان يوم تهنئتي بالترقية هو يوم تعزيتي. تَزاحَم السعاة والمُوظَّفون على بابي. سمعتُ ضجيجهم وراء الباب فتقزَّزتُ من كل شيء.
الممرضون :
ولماذا تتقزَّز منهم؟ سيان،
أن يأتوا للتهنئة،
أو التعزية وتقديم القربان،
وصل النسر إلى القمة،
ما وجد سوى الديدان.
المريض : وهذا ما ضاعف اشمئزازي. وارَبْتُ الباب قليلًا ونظَرتُ. كانوا يقفون في طابورٍ طويل وينتظرون. أيتها الكلاب الشامتة. لو متُّ وأنا في الدرجة الخامسة ما مشى في جنازتي كلبٌ واحد، ناديتُ الساعي وصِحتُ به: اطرُدهُم جميعًا، لا أُريد أن أرى أحدًا.

(يظهر الساعي.)

الساعي : مستحيلٌ يا سعادة البيك.
المريض : ولماذا؟ قل لهم الوكيل مشغول. قل لهم ليس موجودًا.
الساعي : إنهم يُراقِبون الأبوابَ من الصباح.
المريض : قل لهم لا أريد أن أقابل أحدًا.
الساعي : هل ترفُضُ تهنئتهم؟
المريض : أم تعزيتهم؟ قُلتُ لكَ اصرِفْهم حالًا.
الساعي : لا أستطيع يا سعادة البيك.
المريض : ولماذا لا تستطيع؟
الساعي : مراقب شئون العاملين يَحمل دفترًا للتوقيع، كل واحدٍ منهم سيُوقِّع قبل أن يدخُل لتَهنئتِك.
المريض : هل أَعَدَّ دفترًا آخر للتعزية؟
الساعي : لا أدري يا سعادة البيك.
المريض : الصادر والوارد. سركي الابتسامات والدموع.
الساعي : نعم يا سعادة البيك. والمراقب أَعدَّ قصيدةً عصماء.
المريض : قلتُ لكَ اصرفهم حالًا. قل لهم لا أريد أن أرى أحدًا.
الساعي : سينتظرون حتى الليل. سيبيتون هنا إذا لزم الأمر، إنهم مُصمِّمون على تقديم الواجب.
المريض : أم على إظهار الحسد؟
الساعي : أَستغفرُ الله يا بيك.
المريض : قلتُ لك لا أريد أن أرى أحدًا، لا أريد أن أراك أيضًا، اذهب، اذهب، أَغلِق كل الأبواب.
الممرضون :
وغُلِّقتِ الأبواب،
كم كافحتَ لتفتح هذي الأبواب،
ولتجلس في نفس الحجرة،
وترى الخدم مع الحجَّاب،
والزوَّار على الأعتاب،
وكأنكَ صنمٌ فوق العرش،
مُطاعُ الأمر مُهاب!
ماذا حدَث؟
انكَسَر الصنم،
انهار العرش،
وصِرتَ وحيدًا،
لا أتباع ولا أحباب.
المريض : نعم. وجدتُ نفسي وحيدًا، خفتُ أن أنظر في عيونهم فلا أرى إلا دموع الحسد ولا عزاء، أو ابتسامة الشماتة بلا حياء، خفتُ أن تَنطِق الدموع والابتسامات: لقد وصَلْتَ، وَصَلْتَ.
الممرضون :
وصَلْتَ وصَلْتَ،
فما معنى الكلمة؟
كم تتردَّد بين الناس على كل لسان!
لكن ما غاية تعب الإنسان؟
هل يصل لغير تراب الأرض وللأكفان؟
يسعى البطل الظافر للمجد ويشقى قلبٌ ويدان،
وعلى جَبهَتِه يضع الناس الإكليل،
وتحسُده الأعين بل يحسُده الثقلان.
لكنَّ البطلَ الظافرَ بعد زمان،
يُصبِح مأدُبةً للديدان،
يُصبِح مأدُبةً للديدان.
المريض : نعم. لقد حسدوني، كانوا دائمًا يحسدونني، ولهذا هربتُ من عيونهم.
الطبيب : إلى أين؟
المريض : تَسلَّلتُ من الحجرة دون أن يراني أحد، ساقت رجليَ قوةٌ مجهولة إليه.
الطبيب : من تَقصد؟
المريض : محمد دربالة. لم أكن أتصوَّر أنني سأراه هناك، جريتُ على السلم الخلفي حتى وجدتُني في البدروم، أمام هذه الحجرة نفسها، كان الصمت يُحيط بي والظلام. وكان الباب مُوارَبًا فدفعتُه ودخَلتُ.
الطبيب : لا شك أنه كان يَنتظِرُك.
المريض : لم أعرف هذا في البداية. كان يقف وسط الملفَّات المعفَّرة بالتراب كأنه مِلفٌّ قديم. تقدَّمتُ منه وقلت: أنت هنا يا محمد؟ (يظهر محمد دربالة في الضوء الخافت وفي يده مِلفٌّ وحوله مِلفَّات.)
محمد دربالة : أنا هنا من ثلاثين سنة، منذ عُيِّنَّا في قرارٍ واحد.
المريض : وكيف نعمل معًا في وزارةٍ واحدة ولا تسأل عني؟ هل نسيتَني يا محمد؟
محمد : لمَّا نَسِيتَني نَسِيتُكَ.
المريض : أنا لم أنسَكَ أبدًا يا محمد، أنت الإنسان الوحيد الذي بقي لي. لا تتخلَّ عنِّي.
محمد : تخلَّيتُ عنكَ لمَّا تخلَّيتَ عن نفسك.
المريض (باكيًا) : ابنَتي ماتت أمس يا محمد، لا تَترُكْني.
محمد : لن أترككَ بعد اليوم. لقد تركتُكَ ثلاثين سنة فصِرتَ إلى ما صرتَ إليه.
المريض : وتقدَّم منِّي. ضمَّني إلى صدره وأخذ يُربِّتُ على ظَهري. شَعَرتُ بدموعه على خدِّي. شَعَرتُ أنه الإنسان الوحيد الذي يَحزن لحزني. بعد قليلٍ قال لي:
محمد : يجب أن تَتماسَك. كنتَ رجلًا فيما مضى.
المريض : نعم فيما مضى، أما الآن فابنتي ماتت.
محمد : أنتَ الذي قتَلتَها.
المريض : ما زِلتَ قاسيًا كما كنتَ يا محمد. أنا لم أُقصِّر معها في شيء.
محمد : قصَّرتَ معها في أهم شيء.
المريض : لا تَظلِمني يا محمد. لقد شَقِيتُ من أجلها ووصلتُ الليل بالنهار لأجلها.
محمد : بل شقيتَ من أجل الوصول، وها أنتَ قد وَصَلْت.
المريض : وأنت الوحيد الذي لم تُهنِّئني.
محمد : أُهنِّئكَ أم أُعزِّيكَ؟
المريض : أرجوكَ لا تُعذِّبني يا محمد، هل فعلتُ ما فعلتُ إلا لها؟
محمد : وانشغلتَ عنها طَوالَ الوقت.
المريض : ربما لم أُعْطِها من نفسي إلا قليلًا.
محمد : لم تُعطِها شيئًا على الإطلاق.
المريض : أعطيتُها لُعبةً جميلة.
محمد : ليست أجملَ من أبيها.
المريض : أعطيتُها فيلا وحديقةً واسعة.
محمد : الدنيا كلُّها ضَيِّقةٌ إذا خلَت من أبيها.
المريض : لمَّا مرِضَت أَحضرتُ لها أعظم الأطبَّاء.
محمد : الطبيب الوحيد الذي كانت تحتاجُ إليه كان ينتظر الوزير في المطار.
المريض : ما ذنبي إذا كانت الطائرة تأخَّرتْ أربعَ ساعاتٍ عن موعدها؟ هل كنتُ أعلَم أنها ستَتَعطَّل في روما؟
محمد : كنتَ تعلَم أن ابنتَكَ في انتظار الدواء.
المريض : أُقسِم لكَ أنني اشتريتُ لها العروس والدواء. قدَّرتُ أن الانتظار لن يطول أكثر من ساعة.
محمد : كانت في انتظارك تنادي: بابا، أريد بابا. وكنتَ في انتظار الوزير ليُنعم عليك بالدرجة.
المريض : هل كنتَ تريدُ ألا أنتظره فتطير مني الدرجة التي تعبتُ طول العمر لأصل إليها؟ هل كنتَ تُريد أن يخطَفوها منِّي؟ بعد أن نزل الوزير من الطائرة وهنَّأتُه بسلامة الوصول وهنَّأني بالترقية سارعتُ إلى البيت.
محمد : ووصلتَ بعد أن ماتت أحلام.
المريض : وهل أنا طبيب؟ هل اطَّلَعتُ على الغيب؟ خالُها الطبيب كان بجانبِها.
محمد : ولكنَّها كانت تريد أباها.
المريض : حضرتُ ومعي الدواء والعروس.
محمد : ومعكَ الدرجة.
المريض : من أجلها، أُقسِم لك من أجلها. لماذا لا تُريد أن تفهمني؟ لماذا تظلمني؟ (يبكي) لا تَترُكْني كما ترَكتَني في الماضي.
محمد : تركتُكَ لمَّا تركتَني، لمَّا تجاهلتَني ولم تسمع صوتي.
المريض : ومع ذلك لم ترحمني.
محمد : لمَّا عرفتُ أنكَ أصبحتَ جَلَّادًا.
المريض : لا تُؤلِمني يا محمد. كان هذا من عَشرِ سنوات.
محمد : والضحية قضَت في السجن عشر سنواتٍ بسببِكَ.
المريض : أنا الآن الضحية يا محمد، أنتَ تعرف أنني لم أكن السبب.
محمد : ومن الذي هيَّأ له الطريق للاختلاس؟ من الذي أغراه بالرشاوى وزيَّفَ الفواتير؟
المريض : هو الذي دبَّر كل شيء، كان كل شيءٍ بخطِّه، لم يجدوا كلمةً واحدة بخطِّي، وعند التحقيق كانت صفحَتي بيضاء. ألا تَذكُر يا محمد؟
محمد : أذكُر أنكَ أنتَ الذي بلَّغتَ عنه.
المريض : بلَّغتُ عنه لأنه منحرف، واجبٌ وطني، واجبٌ إنساني. هل أَسكُتُ على مختلس ومنحرف؟ ما ذنبي إذا كان قد ضيَّع أموال الخزينة في الخمر والقِمار؟
محمد : ذنبكَ أنكَ أردتَ أن تصل إلى درجته.
المريض : السيد الوكيل هنَّأني بنفسه، هنأني على نزاهتي وعيَّنَني مكانه.
محمد : وصلتَ، ووصلتِ الضحية إلى الليمان.
المريض : قلتُ لك أنا الآن الضحية يا محمد.
محمد : مُجرَّد تبادُلٍ في الأدوار، كل الجلَّادين يُصبِحون في النهاية ضحايا.
المريض : ولكنه غفَر لي يا محمد، الضحية غفَرَت وأنت لا تُريد أن تغفر. لقد قابَلْتُه في الأسبوع الماضي.
محمد : أين قابلته؟
المريض : في القهوة يا محمد، كان يجلس على القهوة.
محمد : واحتقركَ بالطبع.
المريض : بل جرى ورائي ودعاني لفنجان قهوة.

(يظهر صبري وكيل الوزارة السابق وهو يَسحب المريض من يده ليجلس معه.)

صبري : تعالَ يا محمد، تعالَ نشرب فنجانَ قهوة.
المريض : تَدعُوني لفنجانِ قهوة بعد كلِّ ما حدث.
صبري : وماذا حدَث يا أخي؟ كلُّ شيءٍ انتهى.
المريض : ألا تَكرهُني يا صبري بيك؟ ألا تَحقِد عليَّ؟
صبري : السجن علَّمَني ألا أكره، علَّمَني ألا أحقد، ثم إنكَ لم تفعل شيئًا.
المريض : يتهمونني بأنني بلَّغتُ عنك.
صبري : وافرِض أنكَ فعلتَ. لقد أدَّيتَ واجبكَ، ثم إنني أنا المسئول عن كل شيء، أنا الذي شربتُ وقامَرتُ، أنا الذي أمرتُكَ بتزوير الفواتير واختلَستُ المبالغ الضخمة وبدَّدتُها في الليالي الحمراء.
المريض : هل تَصفَح عني؟
صبري : استغفِر الله، هو الذي يصفح عنا جميعًا، أنت شابٌّ طموح تُريد أن تصل.
محمد : تُريد أن تصل.
المريض : انتظِر يا محمد، إنه لم يكتفِ بالصفح عنِّي، سألني أيضًا عن ابنتي أحلام ودعا لها بالبركة، ثم دعا لي بالستر وقبَّلَني.
محمد : الضحية تُقبِّل جلَّادها.
المريض : افهَمني يا محمد، افهَمني وارحَمني، أنا الآن الضحية، أنا الآن الضحية.

(يَنشِج في ألم. ينهَض محمد ويضَع يده على رأسه.)

محمد : انهَض يا محمد.
المريض : أتذكُر اسمي؟
محمد : وأذكُر ماضِيَنا.
المريض : كانت أيامًا حلوة. كل شيء ضاع الآن.
محمد : الطريق طويل، وما ضاع يُسترَد.
المريض : ألا ترى الشعرَ الأبيضَ يغزو رأسي؟ ألا تراني وحيدًا؟
محمد : قلتُ لكَ لن أتخلَّى عنك، بعد ثلاثين سنة عُدتُ إليك.
المريض : ابقَ معي يا محمد، لم يبقَ لي أحد بعد أن ماتت ابنتي.
محمد : ماتت لمَّا مات ضميرُكَ، لما ضاع صوتُه وسط أصوات السياط التي ألهبَت ظهركَ للوصول إلى القمة، وها أنتَ تَتمرَّغ في الحضيض.
المريض : ساعِدْني يا محمد.
محمد : ستعودُ للحياة إذا عاد ضميرُكَ.
المريض : وابنتي؟ لقد متُّ يا محمد بموتها.
محمد : ستعود هي أيضًا للحياة.
المريض : معقولٌ يا محمد؟ هل أنت المجنون أم أنا؟
محمد : ستعيش في قلبكَ يوم تُنصِت لقبك. انهض، كن رجلًا وانهض على قدمَيك.
المريض : إلى أين يا محمد؟
محمد : إلى بيتنا القديم، حُجرتنا القديمة المظلمة في الحسين. يوم كنا شبَّانًا نحلُم ونغضَب ونجوع.
المريض : أما زلتَ تَذكُرُها يا محمد؟
محمد : وما زلتُ أسكُن فيها مع أولادي وزوجتي.
المريض : هل تدعوني إلى بيتك؟
محمد : أنت لا تحتاج للدعوة.
المريض : ولماذا لا تأتي معي؟ هل تخجل مني؟
محمد : أنت تعرف العنوان.

(ينصرف طيف موظَّف الأرشيف، ينهض المريض ويناديه.)

المريض : محمد، محمد، لا تتركني وحدي، يا محمد دربالة. لا تتركني في الظلام والحضيض والوحل. أنتَ الوحيد الذي بقِيَ لي، الكل يَحتقِرني فلا تَحتقِرني أنتَ، لا تتركني، لا تتركني!
الممرضون :
لا لن يَترُكَكَ وحيدًا.
لن يتخلَّى عنك،
فامضِ الآن لبيتِه.
وسنعرف منه ومنكَ،
إن كان الذنبُ عليه،
أو كان الذنبُ عليك.

(ينطفئ الضوء، يسقط من جديد على المريض الذي يجلس على نفس الأريكة في حُجرةٍ مظلمة.)

٤

(المريض مُمدَّد على الأريكة في استرخاء، يمُرُّ بيده على جبهته بين الحين والحين، كأنه يُحاوِل أن ينفُذ من الضباب الذي يغشَى بصره. الطبيب أمامه، والممرضون من حوله، وذكرياته تتمثل في مشهد الحجرة المظلمة التي يدور فيها الحوار بينه وبين محمد دربالة.)

الطبيب : وبحثتَ عن العنوان.
المريض : لم أكن في حاجة للبحث عنه، سرتُ في الحسين فإذا بأيام صباي وشبابي تَبرُز من كلِّ ركن ومنعطف، تُصافِحني وتأخذ بيدي وتتأمَّل وجهي.
الممرضون :
ووجدتَ البيتَ المتداعي،
كعجوزٍ فانٍ مُنهار،
وهبطت السلَّمَ للقاعِ،
والليلُ يُخيِّم في الدار،
كالأعمى يحلُم بشعاعٍ،
من فَرحٍ أو ضوء نهار،
وطرقتَ الباب.
المريض : وصِحتُ، يا محمد! كيف تتحمَّل كلَّ هذا الظلام؟ وخرجَ محمد وفتح الباب، ضحِك، وأمسكَ بذراعي وقال:
محمد : وأتحمَّلُ كلَّ شيء.
المريض : كادت رقبتي تنكسر.
محمد : هل نسيتَ ما كنتَ تقوله لي: أنتَ أستاذ في الصبر؟
المريض : وأولادُكَ يا أخي، ما ذَنبُهم؟
محمد : تعلَّموا في المدرسة نفسها.
المريض : ودخلتُ الحجرة، هي بعينها التي كنا نَسكنُها معًا أيام شبابنا، الظلام بعينه، الفقر نفسه، والمصباح الزيتي الذي يَرتعِش ضَوءُه على الحائط القديم، والحصيرة المُتهرِّئة على البلاط الأجرب، صِحتُ: هي نفس الحجرة يا محمد!
محمد : والساكنُ هو نفسُه.
المريض : الدنيا كلها تحرَّكت يا محمد، وأنت واقفٌ في مكانكَ، الناس كلهم صَعِدوا إلى النور.
محمد : وأنا في بير السلَّم!
المريض : ثلاثون سنة في نفس الحُجرة، في الظلام والبؤس والمرض.
محمد : الحمد لله، أنا راضٍ على كل حال.
المريض : إذا كُنتَ ترضى بهذا لنفسك، فكيفَ ترضاه لزوجتِكَ وأولادِك؟
محمد : نحن مستورون والحمد لله، زوجتي قانعةٌ وأولادي سُعداء.
المريض : سُعداء، في هذا الجُبِّ المُعْتِم؟ لماذا لم تتصل بي وأنت تعمل معي في نفس الوزارة؟
محمد : ولماذا أتصِل بكَ؟
المريض : أدلُّكَ على شقةٍ أخرى، أُساعِدك يا أخي، هل نسيتَ أننا إخوة؟
محمد : لستُ أنا الذي نسي.
المريض : أنا مثلًا أسكن في فيلَّا على النيل، حديقتها باتساع أربعمائة متر، يمضي الزمن ولا تسأل عنِّي، لا تزورني.
محمد : ولماذا أزورُكَ؟
المريض : كنت أنتظرُ زيارتكَ.
محمد : لمَّا نَسيتَني نسيتُك.
المريض : أنت جاحدٌ يا محمد، وحسودٌ أيضًا، هل تُنكر أنكَ تحسُدني؟
محمد : ولماذا أحسُدكَ؟
المريض : لأنني وصلتُ، هذا هو السبب. هل تدرون ماذا فعل؟ ظل يضحك ويضحك، غاظني ضَحِكُه، نفس الضحكات التي كانت تُجلجِل أيام كُنا في الجامعة، في نفس الحجرة، أتعلمون ماذا قال بعدها؟
الممرضون : ماذا قال؟
محمد : أحسُدُك؟ إنني أُشفِق عليك وأَرْثي لك. تصوَّروا، هذا اللئيم الحسود يُشفِق عليَّ، هذا الموظف درجة خامسة يَرثي لي!
الممرضون :
حقًّا أنتَ تحرَّكتَ،
الويلُ لمن لا يتحرَّك.
وبلغتَ الذرْوَة،
والويلُ الويلُ لمن يسقط.
وجَلستَ على عرش القوة،
وصديقُكَ باقٍ في الهُوَّة.
لكني أرجع لسؤالي:
أوَصَلْتَ؟ فما معنى الكلمة؟
ما الغاية منها؟ ما الحكمة؟
المريض : غاظني ضحِكُه فقلتُ له: أهكذا تستقبلني في بيتكَ يا محمد؟ أما زلتَ تحتقرني؟
محمد : لَمْ أَحتقِرْكَ أبدًا.
المريض : الشفَقة نوعٌ من الاحتقار.
محمد : ربما كُنتَ أنت الذي تَحتقِرني وتَرْثي لي.
المريض : نعم، أرثي لك.
محمد : لأنني ما زلتُ فقيرًا؟ لأنني أسكن في نفس الحجرة في البدروم، وأعمل في نفس الأرشيف في البدروم؟
المريض : لأنك تَظلِم أولادكَ معك، تَسكُتُ على نفسِكَ ولا تلجأ إليَّ.
محمد : ولماذا ألجأ إليك؟ كنت أُراقِبكَ فتزداد سعادتي بما أنا فيه. إنني أقرأ وأكتب، أرسم وأسمع الموسيقى، أُربِّي أولادي بشرف، وأنتظر الدرجة في شرف، ماذا أريدُ من دنياي أكثر من هذا؟
المريض : ونَسِيتَ طموحك القديم؟ نَسِيتَ طموحك النبيل؟
محمد : لَمْ أَنسَ شيئًا … فَعلْتُ ما استطعتُ.
المريض : وأحلامك بمستقبل البشرية؟ وتمرُّدك وغضبك واستعدادك أن تُشنَق في سبيل الإنسان؟
محمد : عندما يطلبني الإنسان، سيجدني مُستعدًّا لأن أُشْنَق في سبيله.
المريض : وكتبك التي تُؤلِّفها وتَسهَر فيها؟
محمد : ها هي أَمامَكَ.
المريض : ولكنها مخطوطات، كل هذه المخطوطات ولم تُفكِّر في نشرها؟
محمد : عندما أُحِسُّ أنَّ الناس في حاجة إليها سأنشرها، أو ينشرها من يحتاجون إليها بعد موتي.
المريض : وأحلامكَ؟ أين ذهبَت أحلامُك؟
محمد : تقصِد أحلامنا؟
المريض : أنا حقَّقتُ أحلامي.
محمد : نمتَ نومًا سيئًا، فرأيتَ أحلامًا سيئة.
المريض : أَتعُودُ لاتهامي والحقد عليَّ؟ ألا يكفيكَ أنها ماتت؟
محمد : ولهذا لا أَحقِدُ عليكَ ولا أتهمك.
المريض : ولكنكَ تَحتقِرني وتَرثي لي.
محمد : ولا هذا أيضًا، إنما أُذكِّركَ.
المريض : بأيام الفقر والجوع؟
محمد : وأيام الحب والغضب والثورة على الفقر والجوع. تعالَ تعالَ، تَذكَّرْ نفسكَ الأخرى التي لم تَحلُم بالوصول. لَمْ تُفكِّر في الفيلَّا والمرسيدس والدرجة والكرسي.
المريض : آه يا محمد! ما زلتَ قاسيًا كما كنتَ.
محمد : لَمْ أَقسُ عليك أبدًا. كانت لنا قِيمٌ قدَّسْناها وأردنا لها أن تعيش، تَعاهَدْنا على الثورة في سبيلها والموت في سبيلها، وعندما كنتُ أراكَ تَنحِرف عنها كنتُ أقسو عليك.
المريض : أَذكُر كيف شتمتَني ولَعنتَ أجدادي بسبب تلك المرأة البيضاء السمينة.
محمد : لأنني أردتُ ألَّا تُمرِّغ حُبكَ في الوَحْل.
المريض : نعم نعم، حُبي لزينب.
محمد : كنتُ أعرف أن حُبكَ الطاهر لها هو الذي سيُنقِذكَ، وحَكمتُ عليكَ بأن تمشي على قدمَيك من الدرَّاسة إلى العباسية وتحُجَّ إلى بيتها.
المريض : وطُفتُ حوله سبع مرات.
محمد : وكفَّرتَ عن علاقتكَ بالحشَّاشة التي أغرتْكَ بأن تتزوَّجها وتعمل معها.
المريض : لا تقسُ عليها يا محمد، كانت طيبة القلب. أرادت أن تَتزوَّجني على سنة الله ورسوله. أَتذكُر يوم قالت لي: اترُك الملعونة التي يُسمُّونها الشيوعية وتَعالَ اعمل معي، ستأكل ذهبًا؟
محمد : وفضَّلتَ أن تجوع على أن تأكل ذهبًا.
المريض : وجُعتُ وتمرَّدتُ في سبيل الحُب.
محمد : وفي سبيل زينب.
المريض : زينب؟ نعم نعم. كانت جميلةً كفينوس، شفَّافةً كالملائكة في الفردوس، ولكن ما الفائدة؟ لقد تزوَّجتُ بأخرى.
محمد : تزوَّجتَها هي نفسها.
المريض : لا لا، لا تُدنِّسْ ذكرى زينب القديمة. زوجتي الآن لا تفهمني، هي مثلُك لا ترحمني.
محمد : لأنكَ لم تشعُر بوجودها، ولم تشعُر بوجود ابنتكَ.
المريض : تصوَّر أنها تتهِمُني بقتلها! لا يمكن أن تكون هي زينب.
محمد : هي الحبيبة التي عَبدتَها وطُفتَ حول بيتها.
المريض : تقدَّمتُ منه وحدَّقتُ في عينَيه، صمَّمتُ أن تنزل عليه الحقيقة كالصاعقة. قلتُ له: لقد أحبَّتكَ أنت يا محمد! سألني وكأنه لا يعرف: أحبَّتني أنا؟
المريض : وهَجَرتْني بسببكَ.
محمد : ومتى كان هذا؟
المريض : من عشر سنين، لا لا، ربما من عشرين.
محمد : ألَمْ تسألْ نفسكَ عن السبب؟
المريض : قلتُ لكَ أنتَ السبب. بدأتُ أُلاحظ أنها لا تكُفُّ عن ترديد اسمكَ. كلما عدتُ في آخر الليل مهدودًا من التعب تقول: ليتني تزوجتُ محمدًا. وأقول لها: ألا تخجلين من ذكر اسمه أمامي؟ فترُدُّ عليَّ: بل أنت الذي تَخجل منه. تثور عندما يذكرُك أحدٌ بشبابه وأحلامه وحبه القديم. حتى بعد أن بنيتُ لها الفيلَّا على شاطئ النيل واشتريتُ لها العربة ظلَّت تحلُم بالحياة معكَ. وبعد أن أنجبنا «أحلام» لَمْ تتورَّع عن الكلام عنكَ وإلقاء سمومها في وجهي: لو كنتَ محمد دربالة لاهتممتَ بها ورعَيْتَها. وأصرخُ في وجهها: لمن أتعب وأشقى إلا لها ولكِ؟ لمن بنيتُ الفيلَّا؟ فتواصلُ كالنمِرة المفترِسة: كنتُ سعيدةً معه في حُجرته المظلمة. وأصيح من جديد: في ذلك القبر؟ فتُثبِّت عينَيها فيَّ: كانت الحياة فيها جنة. كنا سُعداء ومستورين. وتركَتْني يا محمد بعد أن ماتت أحلام.
محمد : إلى أين تركَتْكَ؟
المريض : ثُرتُ عليه ومدَدتُ يدي أريد أن أصفعه. صِحتُ في ثورةٍ عارمة: تسألني إلى أين؟ هَجَرَتْني وجاءت إليكَ، فضَّلَت أن تعيش معَك في هذا القبر. أجاب وهو يبتسم في سُخْرية.
محمد : ألم تقل إنَّه جَنَّة؟
المريض : هي التي قالَت هذا. هي التي فضَّلَتِ الحياة في جنَّتكَ الرطبة المظلمة على الحياة في الفيلَّا. هي التي هجَرَتْني وجاءت إلى هذا القبر. لَمعَت ابتسامتُه على فمه كأنها عينُ ثعبانٍ لئيم.
محمد : ليس قبرًا يا محمد ما دام الحُب والشرف يسكنانِ فيه.
المريض : صِحتُ غاضبًا القبر قبر ولا يُمكن أن يكون جنة. ابتسم ولَمعَتِ السخْرِية على فمِه كالسُّم: بل هو الجنة يا محمد. ما دامت السعادة تُرفرِف عليه.
رفَعتُ صوتي وناديتُ: يا زينب! هل أنتِ سعيدةٌ معه يا زينب؟ هل أنتِ سعيدةٌ في هذا القبر؟ قال في هدوء: لا تَرفعْ صوتكَ هكذا. لن ترُدَّ عليكَ.

صِحتُ: لماذا لا ترُدُّ عليَّ؟

قال وابتسامةُ السخرية تَتسِع كبِركةِ ماءٍ آسن: لأنها تخجل أن تراني مَعكَ. نَزلَ عليَّ قولُه كالصاعقة: تخجل أن ترانيَ معك؟ وأولادك؟

عاد يبتسم في هدوء: يخجلون أن يَروكَ معي.
المريض : إلى هذا الحدِّ يا محمد؟ تخجلون منِّي أنا؟ تطردونني من جنَّتِكم؟
محمد : الانتهازيون لا يَدخُلون الجَنَّة.
المريض : بكَيتُ وسقَطتُ على قدمي. لا تكن قاسيًا يا محمد. حتى إبليس يعفو الله عنه وأنت لا تعفو.
محمد : الانتهازيون لا يدخلون الجنة.
المريض : تطردني وتخجل منِّي؟ تطردني وتخجل منِّي؟
محمد : اذهب يا محمد دربالة، اذهب وطَهِّر ثوبك، اذهب، اذهب، اذهب.

٥

الطبيب : وماذا بعدُ؟
المريض : وجدتُني وحيدًا في الشارع، غريبًا في الحي الذي احتَضَن أيام شبابي، مطرودًا من الحجرة التي جُعتُ فيها وتمرَّدتُ وأحببتُ.
الطبيب : تقصد من الجنة؟
المريض : نعم نعم، تلك المغارة الرطْبة بدَت لي كأنها الجنة، ولكن رضوان وقف على بابها كالجلَّاد القاسي.
الطبيب : رضوان؟
المريض : أقصد محمد دربالة، هذا الموظف الحقير درجة خامسة، هذا الفقير الفَظُّ يطرد وكيل الوزارة. والذي أغاظَني أكثر …
الطبيب : ماذا؟
المريض : أن أولاده وزوجته رفضوا أن يُسلِّمُوا عليَّ، أن زينب خجِلَت من أن تراه معي!
الطبيب : زينب الجميلة كفينوس، الشفَّافة كالملائكة في الفردوس؟
المريض : نعم هي، لقد تركَتْني وتزوَّجَتْه.
الطبيب : هل كنتَ نسيتَ هذا؟ هل تذكَّرْتَه فجأة؟
المريض : بل كنتُ أعرفه؛ ولهذا تناسيتُه متعمدًا. قررتُ بيني وبين نفسي أنهما قد ماتا إلى الأبد. صمَّمتُ أن أتركهما في الوحل وأصعد بجهدي وعرقي إلى النجوم. اندفعتُ في طريق المجد وتركتُهما ورائي في الغُبار والضباب. كنتُ أريد أن أُحطِّم صنم غرورهما.
الطبيب : وغاظكَ أنه لم يتحطَّم.
المريض : هذان التعيسان، بَقِيا على غرورهما الكاذب، فضَّلا الحياة في الوحل والظلام وتصوَّرا أنهما في الجنة.
الطبيب : وزُرتَه بعد ثلاثين سنةً فطردَكَ منها.
المريض : الحسود الحقير، ظلَّ يُلاحقني كالكلب المسعور بشتائمه.
الطبيب : ووجدتَ نفسكَ تقف وحيدًا في الخلاء.
المريض : آه! إنك لا تدري ماذا جرى لي في هذه الليلة.
الممرضون :
طُرد الشيطان من الجنة.
يا للكارثة ويا للمحنة!
المريض : أنا الشيطان أم هو؟ حتى الشيطان يمكنه أيضًا أن يبكي.
الطبيب : كنتَ حزينًا؟
المريض : الحزن لا يكفي، سَمِّها الزلزلة أو الصاعِقة. أحسستُ كأني أتعرَّى في الشارع.
الممرضون :
من ثوبكَ المُستورَد البديع،
من عرشكَ المنمَّق الرفيع.
الطبيب : أرجوكم.
المريض : لو كنتُم معي لوقفتُم بجانبي في تلك الليلة.
الطبيب : أكمِل، كنتَ وحيدًا.
المريض : عاريًا من كل شيء؛ المنصب سقط منِّي، الفيلَّا تداعت وأصبحَت حُطامًا. أنوار المجد انطفأَت، والمرسيدس بدَت كعربة كارو يسوقها حصانٌ عجوزٌ أجرب. وملتُ على جدار جامع الحُسين وأخذتُ أبكي وأنادي ابنتي.
الطبيب : تناديها؟ ألم تكن تعرف أنها ماتت؟
المريض : لا لا، كان العالم كله قد مات، إلا ابنتي، هي الوحيدة التي استجابت لندائي؛ هي الوحيدة التي هُرعَت إليَّ … تقدَّمَت نحوي في ثوبها الأبيض المرصَّع بالذهب وهي تقول: أبي، تعالَ يا أبي (يبكي).
الطبيب : لا تَبكِ، أرجوكَ تماسَكْ ولا تبكِ.
الممرضون :
ها أنتَ وحيدٌ ضائع،
مع فيلَّتكَ وعربتكَ وزيف المجد الخادع،
ترقص مذبوحًا وسط الشارع،
كمهرِّج سيرك يقف على جثمان ابنتِه،
يندب بالصوت الدامع.
نهَّاز الفُرص البارع،
ذئبٌ مسعور جائع،
اختلَط الأمر عليه،
فحَسِب الطمع طموحًا،
والجشع كفاحًا،
وتسلَّل كالثعبان إلى العُش الهاجع،
وجد الرزق متاحًا؛
قِطعًا من لحم الفقراء،
ومِزقَا من ثوب الفقراء،
وبقايا عَفَنٍ سمَّاه نجاحًا.
نهَّاز الفرص البارع،
ذئبٌ مسعور جائع.
ها أنت وحيدٌ ضائع،
ها أنت وحيدٌ ضائع.
الطبيب : بكيتَ كثيرًا.
المريض : ككلبٍ مريضٍ يستند إلى جِدارٍ وينتظر الموت.
الطبيب : الدموع جِسرٌ ينقلك إلى بَرِّ الشفاء.
المريض : حذارِ أن تعود لاتهامي بالجنون!
الطبيب : إنني طبيب.
المريض : هُم الذين أوحَوا إليك بهذا، هم الذين تآمروا عليَّ. إنني وحيد يا دكتور.
الطبيب : لستَ وحيدًا. إنهما معنا الآن.
المريض : من؟ الذين تآمروا عليَّ؟
الطبيب : لَمْ يتآمرْ أحدٌ عليك.
المريض : بالطبع يا دكتور، محمد دربالة يتهِمُني بقتل ابنتي.
الطبيب : أنتَ محمد دربالة.
الممرضون : أنتَ محمد دربالة.
المريض : إنه يتهِمُني بقتل ابنتي.
الممرضون : لم يقتُلْها غيرُك.
المريض : أنا أقتُل ابنتي؟ كيف تُصدِّقونه؟ إنه يحسُدني ويَحقِد عليَّ.
الممرضون : لم يحسُدْه ولا حقَد عليه سِواكَ.
المريض : أنا أحسُد هذا الحقير؟ موظَّف الدرجة الخامسة؟ الجثة المتعفِّنة كالضفدَعة الغبية.
ثلاثون سنةً في الأرشيف؟
الممرضون :
أنت محمد دربالة،
أنتَ الجُثَّة والضِّفدَع،
كنتَ ربيبَ الأرشيف،
وكنتَ الوَحلَ، المستنقَع.
المريض : وخرجتُ منه بعزيمتي. بهمَّتي طفَوتُ على السطح، صعِدتُ القمة وتركتُ محمد دربالة في السفح.
الممرضون :
أنتَ محمد دربالة،
ومحمد دربالة هو أنتَ.
المريض : مستحيل، مستحيل، قل لهم أيها الطبيب.
الممرضون :
وطبيبكَ يعرفكَ الآن،
ويعرف مَن أنتَ من كنتَ،
يعلم أنك حين سَرقتَ السلَّم وتسلَّقْت،
وتوهمَّتَ بأنكَ فوق القمم جلَستَ،
وبأنكَ للمجد وصَلْت،
قد خنتَ محمد دربالة.
المريض : أنا لم أخُن أحدًا.
الممرضون :
نفسَكَ خُنتَ،
نفسَكَ خُنت.
المريض : ساعدني يا دكتور، مساعدوكَ تخلَّوا عنِّي.
الممرضون :
أنت الآن وحيدٌ ضائع،
أنت الآن وحيدٌ ضائع.
الطبيب : لا ليس وحيدًا، ها هي زينب.
المريض : زينبُ ماتت، ماتت عندما تركَتْني وتزوَّجَت محمد دربالة.
الممرضون :
الصمتَ الصمت،
يموت الموت،
وحبُّكَ لا يَعرِف طعم الموت.
المريض : زينب ماتت.
زينب (تظهر بجوار الطبيب) : لم أَمُت يا محمد، أنا زوجتُكَ.
المريض : أنتِ زينبُ أخرى، قتلتِني واتهمتِني بالقتل والجنون.
زينب : أنا حبيبتك.
الممرضون : جميلة كأنها فينوس، شفَّافة كأنها الملاك في الفردوس.
المريض : لا لا، قلتُ لكم لقد تركَتْني وتزوَّجَت محمد دربالة.
الممرضون :
أنت محمد دربالة،
زينبُ لم تتركْكَ،
وها هي تقف أمامَك.
تدعوكَ: تعالَ، تعال.
المريض : محمد دربالة هناك، في حجرته المظلمة في الحسين.
زينب : ليتنا بقينا فيها، هل تذكُر أيامنا الأُولى؟ كنا مستورين كأنا في الجنة.
المريض : سمعتم؟ وأنا أخرجتها من جنتها لتحيا في جحيم الفيلَّا على شاطئ النيل؛ ولهذا تركَتْني وذهبَت إليه.
زينب : لم أتركْكَ ولم أذهب إليه.
المريض : وتُنكرين؟ ذهبتِ إليه وخلَّفت منه عشرة أولاد وخمس بنات.
زينب : لم نُخلِّف إلا بنتًا واحدة يا محمد، وابنتنا (تبكي).
المريض : قوليها، أنا الذي قتلتُها؟
زينب : تأخرتَ عليها بالدواء.
المريض : نفس القصة، ماتَت وهي تنادي: بابا، تعالَ يا بابا.
زينب : طالما نادت عليك، طالما اشتاق صدرها لحنانك، وعندما اشتدَّت عليها الحُمَّى …
المريض : وهل أنا طبيب؟ هل كنتُ في علم الغيب؟ ألم أفعل كل شيء من أجلها؟ هل تعبتُ إلا لإسعادها؟
زينب : وسعادتها بكَ، هل فكَّرتَ فيها؟
المريض : والمبلغ المحترم في البنك بعد وفاتي؟ والمركز والمنصب والسمعة؟ ألم تكن لإسعادها؟
زينب : لا تُساوي قُبلةً على وجهها، بسمةً على فمها، ومرور يدَيكَ على شعرها ورأسها قبل أن تنام.
المريض : أحلام نساء، تُريد أن أتركها للكلاب تنهشُها، للمُستقبل المجهول يفترِسُها، تُريد أن أجلسَ في البيت لأُداعِبَها.
زينب : كنتَ دائمًا مشغولًا عنَّا، هل رأيتَني لحظةً واحدة؟ هل لاحظتَ المرأة التي في نفسي وجسدي؟ هل نظرتَ في المرآة لترى الشخص الآخر الذي يأكلُ وينامُ معي.
المريض : لهذا تخليتِ عنه؟
زينب : نعم، ذهبتُ لمحمد دربالة الذي أحببتُه وأحبَّني عندما كُنا في حجرتنا المظلمة في الحسين، لموظفِ الأرشيف الذي عشتُ معه تحت سَقفِ الستر والشرف.
المريض : سمعتم؟ تعترف بخيانتها، بعظْمةِ لسانها تقول إنها تركَتْني.
زينب : بعد أن تركتَنا أنا وابنتي ورحتَ تلهثُ وراء الدرجة والفيلَّا والمرسيدس.
المريض : نفس كلام محمد دربالة.
زينب : أرأيتَ؟ أنت تتَّهم نفسك بنفسك. محمد دربالة خان محمد دربالة. كل شيء تَغيَّر فيكَ، نظرة عينَيكَ وحركة شفتَيك، وجهُكَ تَغيَّر من كثرة الخطوط التي حفَرها عليه التعبُ والخوف، والقلق والأرق، حتى جسدكَ لم أعُد أعرفه من كثرة الانحناء والركوع.
المريض : ولماذا لا تقولينَ من شدة الجهد والتعب. قضى عليَّ المجتمع بالسقُوط في الحضيض. لكنَّني تحدَّيتُه وارتفعْتُ بكفاحي إلى السماء، أصبحتُ غُولًا لكي أحميَكما من الغيلان.
الممرضون :
حُجَّة كل الأبطال بهذا العصر وكل الفرسان؛
ولهذا صار المجتمع بفضلكَ،
أنتَ وأمثالُكَ غابة غيلان.
زينب : ولهذا لم تنشغل عنَّا وحدَنا، حتى أُمك.
المريض : أمي؟
زينب : نعم أمك، كانت في القرية تُحتضَر وأنت مشغولٌ عنها.
المريض : أرسلتُ إليها كلَّ شهر ما يكفيها، كلَّفتُ أَحسنَ الأطباء بعلاجها.
زينب : وماتت وهي تُنادي باسمكَ.
المريض : هل قصَّرتُ أبدًا في حقها؟ هل بَخِلتُ عليها بشيء؟
زينب : قصَّرتَ في أهم شيء، في نفسِكَ.
المريض : عَمِلتُ لها مأتمًا لم تشهَدْه البلدُ كلها، أحضرتُ لها أَعظمَ المقرئين.
زينب : كانت تريدُ ابنها ولا تريدُ ماله. ماتَت وهي تُردِّد اسمكَ. كما ماتت أحلام، كما ماتت أحلام (تبكي).
المريض : نفس كلام محمد دربالة.
الممرضون : أنت محمد دربالة.
المريض : لقد تآمر مع زَوجتِه عليَّ.
الممرضون : زوجتُه هي زوجتُكَ حبيبة عمرك.
المريض : لا لا، إنهما يتآمران عليَّ، كلُّكم تتآمَرون عليَّ. إنني وحيد، وحيد.
الطبيب : ابكِ فإن دموعكَ هي جِسرُ شفائكَ.
المريض : وأنتم أيضًا؟ ألم يَبقَ لي أحد؟
الطبيب : يبقى أن تعرف نفسَكَ.
الممرضون :
تعرفُ سِرَّ دوائكَ،
أنت محمد دربالة،
فاعلم أن رِداءَ الشرفِ،
على كَتِفَيه نفْسُ رِدائِك.
زينب هي زوجتُكَ، حبيبةُ عُمرِكَ،
قِبلةُ أملِكَ ورجائكَ.
المريض : زينب تركَتْني، تركَتْني.
الطبيب والممرضون :
تركَتْ كلبَ السلطة والسلطان لترجعَ للإنسان.
وتخلَّت عن جنَّتِكَ الزائفة؛
لتسقُط في نيران الأحزان.
المريض : أنتم ضدي، هذا حُكمٌ بالإعدام.
الطبيب والممرضون :
لسنا بقُضاتِكَ، نحن شهود عيان.
لا شأنَ لنا بالحُكم ولا بالأحكام.
المريض : الكل تخلَّى عني. لم تَبقَ سوى أحلام.
الطبيب والممرضون : أحلام، في القبرِ الآن.
المريض : بل في الجنة، يا أحلام، يا أحلام.
الطبيب والممرضون : ارجعْ يا مسكين.
الزوجة : ارجِعْ لحبيبةِ عُمرك.
المريض : عودي أنتِ إليه.
الزوجة :
قلبي هو نفس القلب،
وفيٌّ لك وأمين،
تعالَ، تعال.
المريض : هي تدْعوني.
الزوجة :
ردُّوه، ردُّوا العقل إليه.
مدُّوا جسرًا ليسير عليه.
لا تدعوه يسقط منكم في جوف الموج.
هل قُضيَ عليَّ بموت الابنة وجنون الزوج؟ …
المريض : أحلام تُنادي.
الطبيب والممرضون :
ارجع يا مسكين.
ارجع يا مسكين.
المريض : أحلام، أحلام.

٦

(تظهر الرؤيا التي عرفناها في المشهد الثاني. النور الأخضر الشاحب يغمر المكان، الملاك الأَسودُ الصامت يسحب «أحلام» من يدها، والممرضون في ثيابٍ بيض وأجنحةِ ملائكة يزفونها، إلى اليمين باب الجنة، تُحيط به جَوْقَةَ ملائكة في صورةِ أطفالٍ مجنَّحين مكلَّلين بالزهور، أما في عُمق المسرح فيبدو الطبيب والزوجة كأنهما شَبَحان في الظلام.)

المريض : إلى أين تذهبين يا أحلام؟
أحلام :
الله دعاني،
لبيت الدعوة.
والملك الحاني،
يَعبُر بي الهُوة.
المريض : انتظريني يا حبيبتي.
الممرضون :
انتظَرتْكَ طويلًا وتأخَّرْت
راحت تُحتضَر وفات الوقت.
المريض : تأخرتُ يا حبيبتي، لم يكن الأمر في يديَّ.
الممرضون :
نادت باسمكَ حتى اختنق الصوت،
نادت فأجاب الموت،
ورَدَّ الصمت.
المريض : وأحضرتُ الدواء معي.
الممرضون : لكن بعد فواتِ الوقت، بعد فوات الوقت.
المريض : والعروس يا حبيبتي، العروس الجميلة لم أَنسَها.
أحلام : ها هي يا أبي، تعالَ العب معي.
المريض : مُدِّي ذراعيكِ يا حبيبتي.
أحلام : تعالَ يا أبي.
المريض : خذي بيدي.
أحلام : ساعِدْه أيها الملاك.

(الملاك الأسود ينظر إليه في صمت.)

الممرضون :
مثلُك لا يدخُل من باب الجنة.
طهِّر ثوبكَ، طهِّر قلبك؛
فلعلَّكَ تجتاز المِحنة.
المريض : أرجوكم، دعوها تساعدني.
الممرضون : لا تستطيع، لا تستطيع.
المريض : إنني أتألَّم يا حبيبتي.
أحلام :
أيا حبيبَ روحي،
فَراشَتي تطير،
للنارِ أو للنورِ،
في صدرِكَ الجريح.
المريض : ساعديني يا حبيبتي.
أحلام :
لا تبكِ يا أبي،
فإنني فداك.
غدًا سنلتقي،
مَوعِدُنا هُناك.
المريض : الجُرح عميقٌ يا ابنَتي.
أحلام :
ستَسكُت الجراح،
ويَنطَفي الحريق.
وزهرة الصباح،
تضيء لي الطريق.
المريض : طريقي مُظلمٌ يا حبيبتي.
أحلام : ودموعي ستُضيء طريقك.
المريض : ذنبي أكبر من أن يُغفَر.
أحلام : غُفراني أكبر من ذنبكَ.
المريض : إن أنتِ عفوتِ فهل يعفون؟
أحلام : باب الجنة أوسعُ مما يدرون.
المريض : باب الجنة؟
الممرضون : لا يتَّسع لمثلكَ يا ملعون.
المريض : سمعتِ؟
أحلام :
وشَلَّ الخوف جناني،
شلَّ عيوني،
لِمَ تقسونَ عليه،
وتسُدُّون الباب،
وتتَجنون؟
يا أبتِ، كفكِفْ دَمعكَ.
الممرضون :
طهِّر ثوبك يا مسكين،
واغسل بدموعكَ رجسَ سنين،
لن نغفر ذنبكَ نحن،
فهل تغفره أرض الوادي؟
هل يغفره ماء النيل، العشب، الطين؟
بنيتَ الفيلَّا،
هل فكَّرتَ بمن يسكُن وسطَ الأموات؟
نهَبتَ الفرص، تسلَّقْتَ على الأعناق،
وفي رأسكَ أحلام المجد،
وفي جيبِكَ دفتر شيكاتٍ،
ونَسِيتَ ألوف المحرومين من الأقوات،
ألوف حفاةٍ وعراة،
إلا من حَظِّ الأموات.
عِشتَ لنفسكَ والنفسُ،
إذا لم تَحْيَ لغيركَ، قبرٌ وجحيم.
وظننتَ بأنكَ ترتفع من الوحل إلى أعتاب الأنجم،
لم تدْرِ بأنكَ في الوحل مقيم.
طهِّر قلبكَ يا مسكين،
واغسلْ ثوبكَ بدموع العين،
لعلكَ تغسلُ رجسَ سنين.
أحلام : يا أبتي طهِّر ثوبكَ.
الممرضون : كفِّر ذنْبكَ.
أحلام : والله غفورٌ يا أبتِ، حنون.
الممرضون : سنَسُوق ابنتكَ إلى الجنة.
أحلام : وغدًا ألقاكَ.
ويَهْنأ قلبٌ محزون.
الممرضون :
لن يدخُلَها نهَّاز الفُرص لعين،
لن يدخلها غير شريفٍ ونزيهٍ وأمين.
أحلام :
يا أبتِ وداعًا،
ها أنا ذا أسبقُكَ إليها.
المريض : هذا يكفيني.
الممرضون (يلتفُّون حول الصبيَّة ويُغنُّون) :
تقدَّمي يا صغيرة،
كنجمة أو أميرة،
على جَناحَي ملاك،
تزفُّكِ الأفلاك.
أحلام :
يا أبتِ، وداعًا،
لا تتأخَّرْ.
لن أقبل عذرًا.
المريض :
لن أتأخر،
لن يشغلَني شيءٌ عنكِ.
أحلام : يا أبتِ، سلامًا.
المريض :
لا تَنسِيني
لا تَنسِيني.

(الممرضون والجَوْقَة من الأطفال الملائكة يحيطون بها. تتقدمهم إلى الباب الذي يُفتَح للموكب الجميل بينما تُغنِّي):

أحلام :
اللهُ دعاني
لبَّيتُ الدعوة
والملَكُ الحاني
يَعبُر بي الهُوَّة.
الجميع :
ستدخُلينَ الحديقة
تحفُّكِ الأنغام
وتَعرفينَ الحقيقة
وتَقرئينَ السلام
على الزهورِ الرقيقة
والفَجرِ والأنسام
أحلام :
يا أبتِ، وداعًا،
لا تَنسَ الموعِد.
المريض :
لا، لن أتأخَّر،
فامضِي بسلام،
هذا يكفيني.
الممرضون (يَلتفِتون إليهِ قبل أن يغيبوا وراء الباب) :
طهِّر ثوبكَ،
كفِّر ذنبكَ،
رُدَّ الدَّين،
واغسلْ قلبَك
يا مسكينُ بدمعِ العَين.
أحلام (هي تختفي وراء الباب) : يا أبتِ، وداعًا.
المريض (وهو يَنشِج) :
سأُطهِّر ثوبي،
وسأغسِلُ قلبي،
فامضِي بسلام،
فامضِي بسلام،
هذا يَكفِيني.
أحلام : يا أبتِ، وداعًا.
المريض :
لا، لا تَنسِيني،
لا، لا تَنسِيني.
الموكب :
تقدَّمي يا صغيرة،
كنَجمةٍ أو أميرة،
على جناحَي مَلاك،
تزفُّكِ الأفلاك.

(بينما تَتردَّد أنغام الأغنية الأخيرة يتقدَّم الطبيب والزوجة إلى النور، يَنحنِيان على المريض ويمُدَّانِ إليه أيديَهُما. ينهضُ في هدوء ويُسلِّم إليهما يدَيْه ويمضي الجميع ليختفُوا في قاع المسرح وتُسدَل الستار.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤