الكنز

مسرحية عن الأدب الصيني

الشخصيات

  • الفلاح.
  • الحارس.
  • مدير السجن.
  • القائد.
  • الوزير.
  • القيصر.

القصة التي استوحيت منها المسرحية من روائع الأدب الصيني، ترجمتها إلى الألمانية السيدة «إلزه كورن» مع مجموعة أخرى من القصص تحت عنوان «نواة ثمرة الكمثرى» كما صاغها الأستاذ «فالتر رشتر» صياغة مسرحية لفِرَق الهواة مع مجموعة أخرى من المسرحيات بعنوان «الحمير والحمقى» (صدرت عن دار النشر المركزية للثقافة، ليبزج ١٩٧٥م) وهذه الصياغة تدين بالفضل والعرفان للمحاولات السابقة، كما تعد نفسها محاولة حرة ومختلفة.

(تكفي لتصوير المشهد قضبان قفص حديدي أو زنزانة سجن انفرادي، يقف وراءها فلاح نحيل يرتدي ثوبًا متواضعًا من الكتان، ويخاطب من خلالها بقية الشخصيات. الملابس تتدرج في سلم الأبهة والفخامة من الحارس إلى مدير السجن إلى القائد والوزير، حتى تبلغ ذروتها لدى القيصر، الفلاح يهز قضبان القفص ويدقها بشدة.)

الفلاح : يا حارس! يا حارس!
الحارس (يسمع صوت من بعيد) : هدوء! هدوء!
الفلاح : اسمعني يا حارس!
الحارس (من بعيد) : هدوء … قلت الزم الهدوء.
الفلاح (رافعًا صوته) : أريد القيصر … أريد القيصر.
الحارس (متَّجهًا إليه) : ما هذا؟ تريد أن أفقد عملي بسبب صعلوك مثلك؟ ماذا يحدث لو رآني مدير السجن أو سمعَني أكلمك؟ قلت لك الكلام ممنوع.
الفلاح : القيصر، أريد أن أقابل القيصر.
الحارس (يضرب كفًّا بكف) : القيصر نفسه؟ هل الْتَهمَ الجوع بقية عقلك؟ هل سكرت من العطش؟ ومع ذلك فلم أقصر في حقك.
الفلاح : حقًّا، يمكنك أن تهنئ نفسك؛ لأنني لم أمت جوعًا وعطشًا أمام أطباقك الفارغة.
الحارس : فارغة؟ ألم أقدم لك ما يكفي من الأرز والخبز؟ إن مدير السجن يتَّهمني بسرقة طعام المساجين، وهو الذي يعلم الجميع أنه يبيع طعامهم في السوق، بيني وبينك يا صاحبي، لقد أثرى ثراءً فاحشًا، وله بيت فخم كالكبار، وحتى لو كنت أسرق كما يقولون، هل أسرق طعام فلاح مسكين مثلك؟ شبح هزيل يرتعش أمامي؟
الفلاح : احمدِ السماء؛ لأن هذا الشبح لم يمت جوعًا. لو متُّ لقطعوا رأسك.
الحارس (ضاحكًا) : لن يقطعوه بسبب لص مثلك.
الفلاح : لص؟ وماذا سرقت؟ أتسمي هذا …؟ (مشيرًا إلى جيب الحارس.)
الحارس : هذا الغليون الذي ضبطتك وأنت تضعه في جيبك؟
الفلاح : لست أنا الذي وضعته في جيبك، ثم إنه قديم ورأسه مشروخ. أتتهمني بالسرقة بدلًا من أن تشكرني لأنني رفعته من التراب والوحل والطين؟ لأنه لم ينكسر تحت أقدام عابر سبيل أو تحت عجلات عربة مارة على الطريق، إن كان ملكًا لك فقد أخذته، وإن لم يكن ملكًا لأحد فلماذا تضعني في السجن؟
الحارس : لأنها سرقة، لم يكن من حقك أن تمد يدك إليه.
الفلاح : ولكنه ليس ملكًا لأحد.
الحارس : ما لا يَملكه أحد يملكه القيصر، هذا هو القانون.
الفلاح : قانون القيصر؟ إذن فدعني أقابله، أريد القيصر … أريد القيصر.
الحارس : رجعت لجنونك؟ أتظن أن القيصر لديه وقت لأمثالك؟ أتحسب أن مهام المملكة تترك له لحظة لمقابلة لص مثلك؟
الفلاح : لستُ لصًّا، قلت لك وجدت شيئًا على الطريق.
الحارس : وجدت شيئًا على الطريق؟ هذه حجتكم دائمًا، نسيت أن الطريق ملك القيصر، وكل ما يوجد على الطريق هو بحسب القانون ملك القيصر، ثمَّ إنني ضبطتك متلبسًا بالجريمة، ربما لا تعلم أنني ضبطتك بجوار سور القصر.
الفلاح : قصر القيصر؟ لماذا لم تَقُل لي؟
الحارس : ولماذا تندهش؟ إن كل القصور ملك القيصر. وكل الأسوار ملكه أيضًا.
الفلاح : ليتَني عرفت هذا …
الحارس : وعرفت أيضًا أن الطريق ملك القيصر، والوحل الذي على الطريق، والعربات التي تسير على الطريق، والسائقون والخيول والأبقار التي تجر العربات، والأرز في حقول الفلاحين وفي أطباق طعامهم، والتفاح والكمثرى على رءوس الشجر، وأجور الموظفين والجنود التي يُوزعها الوزراء والقواد، والذهب في خزينة الدولة وخزائن القصر. كلها ملك القصر، ومن يمد يده ليَسرق غليونًا تافهًا مُلقًى في وحل الطريق سيمد يده …
الفلاح (ساخرًا) : ليسرق الأرز من حقول الفلاحين وأطباقهم. وثمار التفاح والكمثرى من على رءوس الأشجار، والعربات والسائقين والخيول والأبقار وأجور الموظفين والجنود، والذهب في خزينة الدولة وخزائن القصر.
الحارس : فهمت أخيرًا، ثم يمد يده في النهاية ليسرق التاج من على رأس القيصر.
الفلاح : ولهذا أريد مقابلة القيصر.
الحارس : لتسرق تاجه؟!
الفلاح : بل لأهديه ألف تاج مثله، لأملأ خزائنه بالذهب، وأملأ قلبه بالسرور.
الحارس (يضحك) : فلاح بائس مثلك يفعل كل هذا؟
الفلاح : وأكثر منه.
الحارس (يُخرج الغليون من جيبه ويتأمله، يضربه على كفه ثم يقول) : يظهر أن الكلام معك مُسلٍّ، برغم الأوامر المشددة من مدير السجن بعدم الكلام مع المسجونين، وأين هذا الكنز أيها الصعلوك؟ أين تخفيه؟
الفلاح : أخفيه هنا في قلبي، سر لن أعلنه إلا للقيصر نفسه، ثم إنني لستُ صعلوكًا.
الحارس : لص من الريف، هل يرضيك هذا؟
الفلاح : ولا هذا، لقد جئت من بلدتي البعيدة، وتحملت عذاب السفر والجوع.
الحارس : لتتسكع في طرقات المدينة، حتى تبلغ سور القصر، وتنادي: يا قيصر، فيقول: لبيك.
الفلاح : سيكون هذا في صالحه هو، إنني لن أكسب شيئًا.
الحارس : نسيت أن أسألك: من أي بلدٍ أنت؟
الفلاح : مع أن السؤال من حق القيصر وحده، ومع أنني عاهدت نفسي وأهل بلدتي ألا أفضي بالسر إلا للقيصر نفسه، فإن وجهك الطيب يشجعني على القول بأنني من بلدة هان هان.
الحارس : في المقاطعة الشمالية، أليس كذلك؟
الفلاح : نعم.
الحارس : وما الذي جعلك تتحمَّل السفر الطويل لتأتي إلى هنا؟
الفلاح : عيناك تقولان إنك طيب، لكن لا تقولان إنك غبي.
الحارس : حاذر في كلامك، لا تنسَ أنني حارسك، ويمكن أن …
الفلاح : يمكن أن تأمر بجلدي أو حتى قطع رقبتي، ولكنك لن تستطيع أن تجلد السر الذي أحمله في قلبي أو تقطع رقبته، ألم أقل لك إنه سرٌّ خطير؟
الحارس : وما هو؟
الفلاح : كيف أقوله لك وهو سر؟ ألم تسمع أنني عاهدت نفسي …
الحارس : وعاهدت أهل بلدتك ألا تعلنه إلا للقيصر نفسه، ومع ذلك يا صاحبي يمكننا أن نتكلم عنه من بعيد.
الفلاح : هل أفهم من هذا أنك ستساعدني؟
الحارس : ربما، إذا اقتنعت بأنه يستحق أن يبلغ إلى هناك (يشير إلى أعلى).
الفلاح : إذن ستُكلم مدير السجن، ومدير السجن …
الحارس : ومدير السجن يكلم القائد، والقائد يكلم الوزير، والوزير يكلم رئيس الحرس، ورئيس الحرس …
الفلاح : اعلم يا صاحبي أنه كنز، كنز أثمن من كل الكنوز التي تتخيلها. كنز لا يصلح أن يلمسه إلا أرفع إنسان وأطهر إنسان.
الحارس : ولماذا لم تبحث عن هذا الإنسان في بلدتك؟ ألا يمكن أن تجده فيها أو في البلاد المجاورة؟
الفلاح : مستحيل … لا أنا ولا أهل بلدتي ولا البلاد المجاورة إلى ما وراء حدود المملكة، لو كان الأمر بهذه السهولة لاحتفظت به لنفسي، أو لأحد أولادي، أو أحد أقاربي.
الحارس : هذا ما يقوله العقل السليم، أو لحارسك الذي يتكلَّم معه الآن برغم أوامر مدير السجن.
الفلاح : لو أمكن هذا ما ترددت.
الحارس : ولو فعلت لأمكنه أن يفعل شيئًا من أجلك.
الفلاح : قلت لك إن الشخص الوحيد الذي …
الحارس : القيصر، سمعت هذا من قبل، ولكن القيصر أيها الغبي ليس فقيرًا مثلي أو مثلك، ما قيمة كنز يضاف إلى كنوزه التي لا تُعد ولا تحصى؟ ثم إنه لا ينفعك الآن وأنت وراء القضبان، أما أنا فيُمكنُني مثلًا أن أخفف عنك، أزيد كمية الأرز التي تصرف لك، بدلًا من أن تذهب إلى زكائب مدير السجن الذي يبيعها في السوق، أقدم لك وعاءً به ماء عذب بدلًا من الطين الذي تشربه كل يوم، أسمح لك بنزهةٍ أطول في فناء السجن، أَستعطِف المدير ليُخفِّف عنك العقوبة التي تنتظرك.
الفلاح : لتكن العقوبة ما تكون، لن يمكنكم أن تمنعوني من مقابلة القيصر.
الحارس : وما الذي يؤكد لك هذا؟
الفلاح : سأصرخ بأعلى صوتي، حتى لو كنت على أعلى درجات المشنقة، أريد مقابلة القيصر، أريد …
الحارس : اخفض صوتك، عرفت ما تُريد، سمعته حتى أصبت بالصمم.
الفلاح : لن يرحمكم إذا بلغ مسامعه أنني اختفيت أو متُّ ومعي السر، سيعلقكم جميعًا على المشانق إذا عرف أنكم حرمتموه من أغلى كنوز المملكة، وستصرخ روحي من القبر.
الحارس : لم تَصل روحك ولا جسمك إلى القبر بعد، هيا نتكلَّم كأصحاب، لم تَقُل لي لماذا لم تأخذ الكنز لنفسك أو تُعطِه لأحد من أقاربك أو أهل بلدك؟
الفلاح : لأنَّ أحدًا لا يستحقه، لا أنا ولا هم.
الحارس : ولماذا؟
الفلاح : قلت إنه لا يَصلُح إلا لأطهر إنسان وأرفع إنسان في المملكة، نظرت في نفسي، وراقبت جيراني وأهل بلدتي «هان هان» فلم أجد أحدًا يصلح له.
الحارس : لم تجد أحدًا؟ عجيب.
الفلاح : وما وجه العجب في هذا؟ إننا جميعًا فقراء … فقراء غارقون من رءوسنا إلى آذاننا في مُستنقَع الذنوب، قد تكون ذنوبنا صغيرة حقًّا، ولكنَّنا لسنا الأتقياء الطاهرين، هل تعرف ما قاله لي صاحب اليد المباركة التي أعطتني الكنز؟ قال لي صوته العميق الذي لم أستطع أن أرى وجه صاحبه: اذهب وابحث عن أطهر إنسان، ابحث عنه في كل مكان. لا تيئس أبدًا وستجدُه حتمًا، سألت زوجتي فقالت مذعورة: لا يمكن أن تكونه أنت، لا يمكن أبدًا أن تكونه. لقد كسرت اليوم ذراعي من الضرب. ورأيتك أمس وأنت تسرق التفاح والكمثرى من بستان جارنا، ثم إنك تنظر خفيةً إلى زوجته، هل تظن أن هذا يخفى عليَّ؟ لا … لست أطهر إنسان في المملكة ولا في البلدة، قلت: يا امرأة وماذا أفعل؟ قالت: استَشِر أهل البلدة. قلت: أتظنين أني واجد بينهم من أسلمه الكنز وأستريح؟ قالت: من يدري؟ اسألهم وافعل ما يُمليه عليك الواجب. قلت لنفسي: ربما يكون هذا الإنسان الطاهر شحاذًا مسكينًا، أو فلاحًا مغمورًا، أو راهبًا في مغارة بالجبل، أو سائق عربة صغيرة أو حمالًا عليه ثوب يكشف عريه، ودرت على الجميع، لم أستثن حتى لصوص الجبال والهاربين في الغابات من وجه القانون. ضحكوا جميعًا من سذاجتي، وقال لي الراهب الذي ألححت عليه بالكنز: اذهب يا ولدي، لن تَلقى أطهر إنسان إلا في المهد، في طفل ولد حديثًا، طفل يبتسم ويبكي كملاك صاف، قلت: يا سيدي وماذا يفعل طفل في المهد بهذا الكنز؟ الصوت المبارك قال: لا بد أن يكون رجلًا … رجلًا طاهر القلب. كالثلج على قمة الجبل والنور في الفجر، قال: اذهب وابحث عنه في كل مكان، ولما ضاقت بي الحال قال لي الفلاحون وهم يضحكون: اذهب للمدينة، سألتهم: وإن لم أجده هناك، هل أعود يائسًا وأنا أنفض كفي وأقول: ألم أقل لكم؟ قالوا: ربما تجد أرفع الرجال وأطهرهم هناك، سألت: تقصدون القيصر؟ تقصدون أكبر الكبار؟ قالوا: من يدري؟ ربما يكون كذلك، وإذا أخذ منك كنز الكنوز فربما يتذكَّرنا، ربما يحضر بنفسه وينتشلنا، وهكذا يا صاحبي.
الحارس : هكذا جئت إلى المدينة؛ لأضبطك متسكِّعًا حول أسوار القصر.
الفلاح : نسيت أن أقول لك ما قاله الراهب: ابحث يا ولدي عن الحقيقة، إن لم تجدها فيَكفيك أنك تعبت في البحث عنها.
الحارس (ضاحكًا) : وهل قال لك أيضًا أن تبحث عن هذا الغليون وتضعه في جيبك؟
الفلاح : ألا زلت تتَّهمني بالسرقة؟ أأنا الذي وضعته في جيبي؟
الحارس (يتأمل الغليون) : إنه مكسور كما تعلم، ومع ذلك فهو خدش بسيط، لا بأس … لا بأس، يُمكنني أن أستعمله قبل النوم، حين أنظر لأولادي الخمسة المكومين في حضن أمهم على بقايا الفرش البالي.
الفلاح : أنت أيضًا؟
الحارس : بالطبع يا صاحبي، كنت أظن أنك ستَعترِف لي بسرك.
الفلاح : وهل تظن أنك تصلح …
الحارس : لا أُخفي عنك أنني لست من تبحث عنه، أنا أيضًا لا أخلو من ذنب هنا وذنب هناك، ثم إنني أقول لك من الآن …
الفلاح : ماذا تقول؟
الحارس : أقول: لا تتعب نفسك، ولكن ما شأني أنا بهذا؟ إنني مجرَّد حارس صغير.
الفلاح : وضعني وراء هذه القضبان كأني لص.
الحارس : إنني أُنفِّذ القانون، وقانون القيصر يقول إن ما لا يملكه أحد يملكه القيصر، حتى الوحل …
الفلاح : حتى الوحل على الطريق، والأرز في حقول الفلاحين وأطباقهم (فجأةً يرفع صوته)، ولكنني لست لصًّا، لست لصًّا. لقد سافرت ثلاثة أشهر لأقابل القيصر، أريد مقابلة القيصر.
الحارس : اسكت اسكت، تريد أن تقابل القيصر أم تريد أن يَطردني مدير السجن؟ (يدخل مدير السجن، يُفاجَأ الحارس وينحني نصف انحناءة.)
المدير : جميل … جميل، ماذا أسمع؟ ماذا أرى؟
الحارس : إنه يا سيدي، هذا الفلاح الصعلوك.
المدير : أعرف أعرف، أتظن أن عيني مغمضة؟ أتظنُّ أن أذني لا يصل إليها دبيب النمل على الجبل والفئران في الجحور؟
الحارس : إنه يا سيدي.
المدير : سرق من الطريق ما لا يملكه أحد، والطريق كما يقول القانون ملك القيصر، وكل ما على الطريق …

(الحارس يُقدم إليه الغليون، فيأخذه منه عنوة، ويتأمله قبل أن يلقي به من يده، ويلتقطه الحارس.)

المدير : غليون، مشروخ من رأسه أيضًا، أتظن أني لا أعرف؟ ووضعته في جيبك كما تضع حفنة أرز من طعام المساجين، لا تُنكر، تظنُّني لا أعرف؟ ثم من سمح لك بالكلام مع هذا الرجل؟ ألم أمنع الحراس من الكلام مع المساجين؟
الحارس (يزداد انحناؤه) : نعم.
الفلاح : أنا الذي بدأ الكلام يا سيدي.
المدير : ومن أمرك بفتح فمك؟
الفلاح : أنا الذي ناديت بأعلى صوتي: أريد مقابلة القيصر.
المدير (يتفرَّسه في هدوء) : هكذا؟ فلاح مثلك.
الفلاح : نعم يا سيدي، وصعلوك وفقير وجائع وعطشان.

(الحارس ينظر إليه مستعطفًا فيستطرد.)

الفلاح : لا تخش شيئًا يا صاحبي، لقد قمت بواجبك وقدمت لي طبقًا مملوءًا بالأرز، ووعاءً شربت منه الماء الصافي، ولكن هذا لم يمنعني من الصياح في طلب القيصر؛ لأنني يا سيدي المدير أملك أنفس شيء في الوجود.
المدير : تملك أنفس شيء؟
الفلاح : أجل يا سيدي، أملك أغلى كنز في المملكة، كنز الكنوز.
المدير : سمعت يا حارس؟
الحارس : نعم يا سيدي، هذا ما يُردِّده طول الوقت.
المدير : تملك كنز الكنوز، أنت؟
الحارس : ويصرُّ على ألا يقدمه إلا للقيصر نفسه.
المدير (يتفرَّس في وجهيهما قليلًا … يتفكر ثم يقول لنفسه) : من يدري؟ ربما يكون هذا الفلاح صادقًا، ثم إنه لو ظل يصرخ هكذا فلا بد أن يبلغ صوته القيصر. ولو عرف القيصر أننا منعناه من مقابلة جلالته فسيعاقبنا حتمًا، لا أريد أن أضيف جريمة إلى جرائمي التي يعلمها، فلأجرب مع هذا، أنت!
الفلاح : نعم يا سيدي.
المدير : أتقول الحقيقة؟
الفلاح : كل الحقيقة يا سيدي.
المدير : وتصر على أنك تملك كنزًا.
الفلاح : وأصر على تقديمه للقيصر.
المدير : القيصر لديه من الكنوز ما يكفي، استمع إليَّ …
الفلاح : أريد أن يستمع القيصر نفسه إليَّ، سيجعله الكنز غنيًّا بلا حدود.
المدير : أيها الأحمق، إنه غني بلا حدود، ثم إنه لن يكترث بفلاح مثلك لا يختلف عن ملايين الفلاحين، وحتى لو حدثت معجزة وتكلَّمتَ معه، فسيأخذ منك الكنز دون كلمة شكر، ويتركك هنا تحت تصرفي. إنني أنا مدير السجن، إن سلمتني الكنز فسوف أختصر مدة عقوبتك أيامًا أو أسابيع، وربما زدت في إكرامك وحصلت لك على بعض المال من خزينة القائد الذي يسرق أجور الجنود، أليس من مصلحتك أن تقدمه لي بدلًا من القيصر؟

(يظهر القائد الذي كان يتسمَّع منذ قليل للحوار، ينحني الحارس انحناءة شديدة، يلتفت مدير السجن فيَنحني نصف انحناءة.)

القائد : يقدمه لك بدلًا من القيصر؟ ما هذا الذي تتحدَّث عنه يا مدير السجن؟
المدير : لا شيء يا سيدي القائد … لا شيء.
الحارس : فلاح مجنون يا سيدي، وسيدي المدير.
القائد : اخرس أنت. (للقائد) منذ سنين وأنت تُهرِّب الأرز من السجن إلى السوق. أتريد الآن أن تُحوِّل السجن إلى سوق؟ هيا تكلم.
المدير : هذا الفلاح الأحمق يا سيدي يزعم أن معه شيئًا نفيسًا يصرُّ على تقديمه إلى القيصر نفسه.
القائد (للفلاح) : أنت؟
الفلاح : نعم أنا. كنز لا أقدمه إلا للقيصر نفسه.
القائد : كنز لا تقدمه إلا للقيصر نفسه. (متفكرًا وحده ثم بصوتٍ عال) أنا لا أعرف إلا كنزًا واحدًا يمكن أن يقدمه فلاح مثلك للقيصر، هذا الكنز هو حياتك. ولا أعرف إلا مكانًا واحدًا يمكنك أن تقدمه له فيه، هذا المكان هو ميدان الحرب، ولكن من الذي يُنفِق على الحرب التي ترفع الوطن لأعلى القمم، وتخفض الفلاحين إلى الحضيض! إنه أنا، لهذا فإن الكنز لا يقدم إلا لي، هيا … مد يديك، وسوف أنظر في أمر الإفراج عنك قبل الموعد المحدد والإغداق عليك من خزينة المملكة.
الوزير (يدخل فجأة) : خزينة المملكة لا يتصرَّف فيها سواي. لا أحد سواي، أنا وزير المال أيها القائد.
القائد : بالطبع بالطبع (ينحني نصف انحناءة).
الحارس : يقينًا يا سيدي (ينحني انحناءة عميقة تقترب من الركوع).
الوزير : يقينًا وبالطبع، فكما أن الأرز ليس ملكًا للحقل ولا للفلاح، وكما أن الثور ليس ملكًا للعربة ولا للسائق، كذلك خزينة المملكة لا تملكها المملكة ولا الشعب، وإنما أتحكم فيها أنا، أنا وحدي.
القائد : صحيح!
المدير : تمامًا!
الحارس : لا شك في هذا.
الوزير : لا شك في هذا! من الذي يجرؤ إذن على أن يمد أصابعه إليها؟ مهما طالت كأشعة الشمس في المساء، أو قصرت كظل المشنقة في الصباح فلا بد أن أقطعها.
القائد : من يتجرأ على هذا؟ لا أحد.
المدير : ومع ذلك تُريد أن تمد يدك إليها؟
القائد : لا لأقلل منها يا سيدي، بل لأملأها بالكنز الذي يقدمه هذا الفلاح.
المدير : من؟ هذا الفلاح؟
الفلاح : لن أقدم شيئًا إلا للقيصر.
الوزير : ما هذا الذي تقدمه؟ أي كنزٍ هذا؟
الفلاح : ولن أرد إلا على أسئلة القيصر.
الوزير (للفلاح) : هكذا؟ اسمع أيها السجين، إنني أستطيع أن أحررك.
الفلاح : القيصر وحده هو الذي سيحررني.
الوزير : قلت اسمع وكفى ثرثرة. كما أن الشمس لا تغيب في الصباح، ولا تشرق في المساء، كذلك ليس لفلاحٍ مثلك أن يُقدِّم شيئًا، وإنما عليه أن يعطي. وليس للوزير أن يرجو وإنما الوزير يأمر. إن الثلج يوجد على قمم الجبال، والتاج الذي سرقه القيصر يحمل من الكنوز فوق كفايته، هيا … هيا … هات كنزك المزعوم، إن مكانه الصحيح في خزينة المملكة، وخزينة المملكة أنا المتصرِّف فيها. وأنا الذي يمكنه أن يطلق سراحك أسرع من أي إنسانٍ آخر، ويُمكنه أن يغدق عليك أكثر من مائة قيصر.
أصوات تنادي : القيصر … القيصر.

(يظهر القيصر الذي استمع في غفلةٍ من الحاضرين إلى العبارات الأخيرة.)

(يركع الحارس، ثم تصبح ركعته سجودًا خاشعًا أمامه، يركع مدير السجن، ينحني القائد انحناءةً عميقة، أما الوزير فينحني نصف انحناءة. القيصر يدور عليهم ويتفرَّس طويلًا في وجوههم.)

القيصر : شيء مدهش! لا لا شيء يدعو للحزن. أليس كذلك؟
الوزير : صاحب الجلالة.
القائد : فداء العرش.
مدير السجن : في خدمة مولاي.
الحارس : مولاي.
القيصر : شيء محزن، محزن. مؤامرة على تاجي في قَبو السجن، وخيوطها السوداء أمام عيني يا وزير.
الوزير : افتراءات يا صاحب الجلالة! محض افتراءات من أعداء المملكة، تنتفخ كالفقاقيع فوق سطح المستنقع، ثم لا تلبث أن تختفي كالحشرات في الجحور.
القيصر : حسن … حسن، وقائدي الهمام؟ هو أيضًا بالقُرب من الحشرات؟
القائد : لا أعرف يا مولاي إلا نوعًا واحدًا من الحشرات، أعداء مولاي.
القيصر : عظيم.
المدير : أنا أؤدي واجب الطاعة نحو العدالة. وطاعة العدالة هي طاعتكم (يركع أمامه مرتعد الفرائص).
القيصر : اخجل من نفسك وانهض، الشعور بالذنب متوقَّع من مساجينك وحراسك لا منك (يركل الحارس بقدمه).
الحارس : الرحمة … الرحمة يا مولاي.
المدير : صدقت يا مولاي، إنه الحارس هو المسئول ولا أحد سواه.
القيصر (للحارس) : وأنت أيها الحارس، من هذا الذي تحرسه؟
الحارس (وهو لا يزال ساجدًا) : هذا يا مولاي؟ هذا الفلاح؟
المدير : نعم يا صاحب الجلالة، هذا الفلاح التعس.
القيصر : وماذا فعل حتى تتجمعوا حوله؟
المدير : سرق غليونًا من الطريق.
القائد : من أمام السور المحيط بقصر مولاي.
القائد : ومن يمد يده إلى شيءٍ بجانب السور …
الحارس (وهو يُقدم الغليون للقيصر) : ولو كان غليونًا مشروخ الرأس ولا نفع فيه (القيصر يتأمل الحارس والغليون ووجوه الحاضرين باحتقار).
القائد : فيمكنه أن يمد يده إلى الصناديق التي أحفظ فيها أجور الجنود.
الوزير : أو إلى الخزينة التي أحافظ فيها على كنوز المملكة.
القيصر : وأخيرًا إلى تاج القيصر نفسه، شيء محزن … شيء محزن أيها الفلاح.
المدير : ولهذا أمرت بوضعه وراء القضبان ليكفر عن ذنبه.
القائد : كان من رأيي أن يداس بالأقدام كما يداس أعداء القيصر.
الوزير : اليوم يمد يده إلى غليون قديم، من يدري إن كان سيمدها غدًا إلى خزينة المملكة.
القيصر : لص خطير، بل وباء ينهش جسم المملكة، أليس كذلك أيها الفلاح؟
الفلاح : معهم الحق يا مولاي. قانونك أيضًا معه الحق، ما لا يَملكه أحد يملكه القيصر. وأنا وامرأتي وأولادي وأهل بلدتي «هان هان» وأهل البلاد والمدن جميعًا ملكك، إن ذنبي في عينَي القانون فظيع، ولهذا طلبت من عبيدك هؤلاء أن يُساعدوني على التكفير عنه.
القيصر : وكيف تكفر عنه؟
الفلاح : طلبت منهم أن يسمحوا لي بمقابلتك.
القيصر : أهذا صحيح يا وزير؟
الوزير والقائد والمدير : صحيح يا مولاي!
القيصر : ولماذا تريد مقابلتي؟
الفلاح : لأقدم لك شيئًا نفيسًا؛ أنفس شيء في الوجود، كنز.
القيصر : كنز؟ أنت تملك كنزًا؟
الفلاح : بل كنز الكنوز أيها القيصر. لا يَليق إلا بأرفع إنسان تحت الشمس. لا يمسه إلا أطهر إنسان تحت السماء. ناديت وصحت وصرخت، ولكنهم أرادوا أن يستولوا عليه.
الحارس : أنا؟ بريء والله يا مولاي.
المدير : كذاب ومنافق.
القائد : يريد أن ينجو بجلده؟
الوزير : لا تصدقه يا صاحب الجلالة، إن أمثاله يَزيد كذبهم كلما قل طعامهم.
القيصر : اسكتوا، إنها مؤامرة. وكل واحد يريد أن يستولي عليه، يَستأثر به لنفسه. هل يحسب كلٌّ منكم أنه أرفع إنسان في المملكة وأطهر إنسان تحت الشمس؟ أنت؟ وأنت؟ أم أنت؟ أم أنت أيها الحشرة؟
الحارس : بريء، الرحمة!
المدير : العدل يا مولاي!
القائد : أتُصدِّق فلاحًا ولا تصدق قائدك يا مولاي؟
الوزير : وإذا صدقتَه وكذبتَني فافتح خزائن المملكة لفئرانهم وبراغيثهم، وألق بتاجك وصولجانك في أجرانهم وحقول أرزهم.
القيصر (للجميع) : متآمرون ووقحون أيضًا أيها الرعاع. (للفلاح) ناولني كنزك أيها الفلاح، هات أيها العبد الطيب.
الفلاح : في الحال يا مولاي، (هاتفًا) أين أنتم لتروني وتسمعوني يا أهل هان هان؟ ألم تقولوا ستجد أرفع إنسان وأطهر إنسان تحت الشمس؟ ها هو ذا، وها هو الكنز.

(يحفر بيده عميقًا في جيبه، يستخرج لدهشة العيون المحملقة لفافة من قماش متسخ وضع فيها النواة. يأخذها القيصر متأففًا ويناولها للوزير الذي يناولها بدوره للقائد، ويسلمها هذا لمدير السجن الذي يضعها أخيرًا في يد الحارس المذهول.)

القيصر : أف. افتح اللفافة.
الوزير : افتحها.
القائد : افتحها.
المدير : قلت لك افتحها.

(يفتحها الحارس ويستخرج النواة. يناولها لمدير السجن حتى تصل إلى القيصر الذي يتفحصها مأخوذًا.)

الحارس : عجيب، نواة كمثرى.
المدير : نصب واحتيال! نواة!
القائد : وقاحة! نواة!
الوزير : لا خجل ولا حياء، نواة!
القيصر (للفلاح) : نواة؟ نواة كمثرى؟
الفلاح : أجل، نواة كمثرى.
القيصر : وهي الكنز؟
الفلاح : بل كنز الكنوز، أنفس شيء في الوجود.
القيصر : إنها نواة كمثرى عادية؟
الفلاح : لأجل أطهر إنسان تحت الشمس، لتُهديَه أعظم ثروة تحت السماء.
القيصر : لا بد أنك جننت، لا بد أنك تكذب، كيف يُمكنني أن أتصور هذا؟
الفلاح : عفوًا يا مولاي، إنها ليست نواة عادية. تفضل بغرسها في الأرض وسوف تنمو وتصبح شجرةً في نفس العام.
القيصر : شجرة؟ وما قيمة شجرة؟
الفلاح : عفوًا يا مولاي. ليست شجرة عادية، إنها شجرة تطرح كمثرى ذهبية. كمثرى من ذهبٍ خالص.
الجميع (يتدافعون على النواة) : آه … آه، من ذهب خالص.
الفلاح : ابتعدوا … ابتعدوا، لا يلمسها إلا أطهر إنسان تحت الشمس.
القيصر : ابتعدوا أيها الرعاع.
الفلاح : هذا هو سرُّها يا مولاي. لا يلمسها إلا صاحب قلب كالثلج الأبيض على قمم الجبال، كالنور الصافي في الفجر.
القيصر : قلت ابتعدوا، ولكن أيها الفلاح …
الفلاح : مولاي.
القيصر : لماذا لم تغرسها بنفسك في الأرض؟
الفلاح : حاشاي يا مولاي، لو فعلت لنمت ببطء ككل الأشجار، لو لمستها يدي لما أثمرت غير كمثرى عادية.
القيصر : أنا لا أفهم هذا، كيف؟
الفلاح : لا بد لكي تَطرح ثمرات ذهبية أن يتحقق شرط …
القيصر : أي شرطٍ هذا؟
الفلاح : لا يحققه سواك يا مولاي القيصر.
القيصر : لا يحققه سواي؟ تكلم.
الفلاح : لقد ذكرته منذ قليل يا مولاي، إن هذه النواة لن تنمو شجرة تطرح الكمثرى الذهبية حتى تغرسها في الأرض يد إنسان طاهر، إنسان شريف، ولكن هذا لا يكفي؛ إذ يُمكن أن يدعي كل إنسان …
القيصر : مفهوم … مفهوم، أكمل.
الفلاح : لا بد أن يكون أطهر إنسان سطعت عليه الشمس.
القيصر (كأنه يكلم نفسه) : صحيح، قلبه كالثلج فوق قمم الجبال، كالفجر.
الفلاح : إنسان لا يسرق، ولا يرتشي، ولا يمد يده إلى ما يملكه سواه، لا يحقد على أحد.
القيصر : أكمل … أكمل.
الفلاح : وأنا لستُ هذا الإنسان يا مولاي، لست هذا الإنسان، وإلا ما رأيتني الآن وراء القضبان، إنني غارق في الذنوب. ولست أخجل من الاعتراف بهذا. أما أنت يا مولاي القيصر …
القيصر : مفهوم … مفهوم.
الفلاح : أما أنت فتجلس فوق العرش كالشمس في سماء يومٍ من أيام الربيع. مثلٌ أعلى للناس وقدوة، أنت وحدك يا قيصر، أنت وحدك أرفع إنسان وأطهر إنسان تحت الشمس. أنت وحدك الذي يُمكنني أن أهديه النواة، ولهذا أقدمها إليك ومعي أهل بلدتي هان هان.
القيصر (مضطربًا) : أجل، أجل. أنت وأهل هان هان.
(ينتحي جانبًا ويكلم نفسه) ورطة حقيقية، ومن الذي يوقعني فيها؟ فلاح مجهول من بلدة، ماذا كان اسمها؟ أف لذاكرتي. بلدة حقيرة مجهولة، قطرة ضائعة في بحر مملكتي الشاسعة، ويريد مني أن أكون أطهر إنسان. أنا؟ أنا الذي سرقت كل شيء من الشعب، كل ثروتي، كل شيء، حتى التاج والنساء، والحصان النبيل الذي أمتطي صهوته في رحلات الصيد، ألم يكن ملك فلاح كهذا؟ لا … لا، ليس من حقي أن أغرس النواة في الأرض. لن أستطيع هذا أبدًا. وماذا يكون مصيري إذا لم تطرح الشجرة إلا الكمثرى العادية؟ ماذا أفعل إذا أشار الناس إليها وإليَّ وقالوا: هذا هو أطهر إنسان! (للفلاح) اسمع أيها الفلاح. إن جلالة القيصر يشكرك بنفسه، هذه هدية رائعة أيها الفلاح الطيب. وهي تدلُّ على أن مملكتي لم تخل من الرعايا المخلصين، ولكن قصري غني بالذهب، حيثما تلفتَت عينُ جلالتي رأيت الذهب في التحف والأواني والأثاث وفي الخزائن العامرة. لهذا فكرت في وزيري المخلص العجوز. (للوزير) لقد كنت أفكر منذ فترة طويلة في مكافأتك على خدماتك للقصر والمملكة. والآن وقد حان وقت إحالتك للمعاش، فقد جاءت الفرصة تسعى إليك. خذ يا وزيري الأمين (يناول النواة للوزير الذي ينزعج ويتراجع للخلف) جاء اليوم الذي كنت أنتظره منذ سنين، خذ هذه النواة العجيبة، اغرسها بنفسك لتطرح الثمار الذهبية التي تستحقها أنت وأولادك وأحفادك! (القيصر يعانق الوزير بحماس وتأثُّر مُبالَغ فيهما. الوزير يخلص نفسه من بين أحضانه وينتحي جانبًا).
الوزير : هذه العاطفة غريبة عليه وعليَّ. لقد ألهبت جسدي كأنها بركان صب حممه عليَّ. آه ضعت وانتهى الأمر.
القيصر : ماذا قلت يا وزيري الأمين؟
الوزير : كنت أقول شكرًا يا مولاي، شكرًا من قلب عبدك المخلص طول العمر، ولكن ألا ترى جلالتك أن السن قد تقدمت بي كثيرًا وأنني …
القيصر : وما المانع من قبول الهدية؟ ستحصد الفاكهة الذهبية في شيخوختك المباركة، ثم يحصدها …
الوزير : أقصد يا صاحب الجلالة أن المرء في الشيخوخة لا يتطلع للذهب والمال. إن قلب الشيخ المحنك الذي غمرتَه بهداياك يشتاق إلى الحكمة كما يشتاق النهر للبحر. اعذرني يا مولاي، هذا القلب الذي طالما خفق في طاعتك لم يعد نزقًا كالجدول الصغير الذي يعبث بالحصى والرمال، وهو يتمنى أن يخفق من أجلك حتى آخر لحظة. وأنا الذي أمضيت العمر حارسًا على خزائن مملكتك أعرف من هو أحوج مني للذهب الذي ستحمله الشجرة وأكثر منه.
القائد (مفزوعًا) : لا تَقُل إنه الجيش والجنود!
الوزير : قائدك الأمين.
القائد : لا يا مولاي، لا وألف لا. فالجيش لديه من السلاح ما يكفيه. ومَن الذي يسهر على تسليحه؟ أنا! ومن الذي يمكنك الاعتماد عليه أكثر من أي شجرة؟ إنه أنا، لهذا فإن مدير السجن أولى بالهدية السامية، ثم إن عمله لا يضطره للسفر والتنقل، كما أن لديه الوقت الكافي لغرس النواة ورعاية الشجرة، هيا تقدَّم لمولاك؟ (مدير السجن يُطيع أمر القائد مترددًا خائفًا) تعال، لا تتردد. صحيح أنه معروف بقسوته على المساجين، ولكنه في النهاية رجل أمين ونفسه طاهرة. ولهذا أفضله على نفسي وأدعوه لغرس النواة.
القيصر : عظيم، كنت أقول هذا لنفسي.
مدير السجن (ينتحي جانبًا ليكلم نفسه، بينما يصفق القيصر والوزير والقائد إعجابًا) : معنى هذا أن أضع نفسي وراء القضبان؟ هذا القائد النظيف يعلم تمام العلم أنني أنهب من المساجين نصيبهم من الأرز وأبيعه في السوق، (ثم يواجه الحاضرين ويقول) شكرًا لكم على هذا الشرف العظيم. إنكم بهذا تخجلونني وتعطونني أكثر مما أستحق، ولكنني وهبت حياتي لخدمة العدالة. والعدالة تطالبني بأن أرد الفضل لأصحابه، هل يمكنني أن أنسى حراسي الساهرين على ميزان العدل؟ ماذا أكون بغيرهم؟ ماذا يكون البرج الشامخ بغير قاعدته؟ وما قيمة الشجرة بدون جذورها؟ هل كنت أقدر على شيءٍ بغير حراسي الأمناء؟ تعال أيها الحارس الطيب، تعال فأنت أحق مني بتكريم مولاي ومولاك.
الحارس (صارخًا) : لا … إلا هذا.
المدير (للقيصر) : اسمح لي يا مولاي بأن أناوله وسامك الرفيع.
الحارس (باكيًا) : مصيبة، هذه مصيبة، ماذا أفعل ولا أحد تحت سلطتي؟ لمن أسلم النواة ولا أحد تحتي؟ لا أحد.
المدير : انظروا، إنه لا يصدق. الفرحة جعلته يهذي.
الحارس (يُسرع نحو القيصر ويركع تحت قدميه) : إلا هذا يا مولاي، إلا هذا، افعل بي ما شئت. ضعني مكان هذا الفلاح إذا أحببت، لكن أعفني من هذه النواة، إنني رجل عادي، رجل ضعيف وصغير. اليوم في الصباح شتمت جاري ولعنت زوجتي وأولادي وحظي وصفعت مسجونًا عجوزًا، وسرقت من هذا الفلاح غليونه. نعم ها هو ذا، نهبته منه وسقته إلى السجن وهو بريء. أعترف بهذا يا مولاي، أعترف أمامكم يا سادتي. سولت لي نفسي الخبيثة أن أحتفظ به لنفسي. ها هو ذا إن شئتم، لا … لا إلا النواة يا مولاي، لن تحمل شجرتي الكمثرى الذهبية ولا الخشبية. كيف يكون حالي حين أصبح سخرية الناس؟ كيف أعيش؟ أي إنسان آخر أولى بها مني. أصدر أمرك يا مولاي فأناولها لهذا الفلاح. إنه رجل طاهر.
الفلاح : من كان يظن هذا؟ أنا يا مولاي؟
الجميع : نعم أنت.
الفلاح : إذن فلن تنمو الشجرة الذهبية أبدًا.
المدير : تنمو أو لا تنمو. المهم أن تغرسها بنفسك في الأرض.
الحارس : إنه لم يفعل شيئًا يا مولاي. غليون قديم كان مُلقًى في الوحل.
المدير : صحيح، وجريمته لا تُساوي شيئًا بجانب الكمثرى التي سيحصدها.
القائد : ومن أحق منه بغرسها في الأرض؟ أليس هو الذي عثر عليها؟
الفلاح : لا يا مولاي القيصر، لا … إنني مذنب، لصٌّ حسب قانونك المقدس.
الوزير : ما الداعي للمبالغة؟ وما قيمة غليون قديم مشروخ؟ ما أهميته؟ حبة رمل في صحراء السرقة، قطرة ماء في بحر الذنوب؟ لا … لا، أنا لم أر في حياتي أشرف من هذا الفلاح. لماذا انحنى على الطين والتقط الغليون؟ لأنه تعود أن يغوص بقدميه ورجليه في الطين. فلتأمر بإطلاق سراحه يا مولاي، إن هلاهيله المرقعة تثبت براءته. أكثر من ألف حارس ومدير سجن، مره بأن يغرس النواة في الأرض، ثم إن هذه هي مهنته.
الفلاح : لا … لا يا مولاي، بحقك وبحق الأرض. إنني مذنب … مذنب.
القيصر (بعد أن يمر عليهم واحدًا واحدًا وهو يتفكَّر) : ليكن ما تقول يا وزيري المخلص الأمين، اسكت يا رجل، أنت من الآن حر (القيصر يشير بإصبعه فيطلق سراح الفلاح، النواة تنتقل من يد الحارس إلى يد مدير السجن فالقائد فالوزير فالقيصر الذي يناولها له بنفسه).

(الفلاح يمسكها في يد ويتأملها طويلًا قبل أن يلفها بعنايةٍ في الخرقة البالية. يتتابع عليه القيصر والوزير والقائد والمدير، يلقون عباراتهم الأخيرة، وينصرفون واحدًا بعد الآخر.)

القيصر : ستبقى الكمثرى الذهبية ملك القيصر. القانون هو القانون!
الوزير : ولا بد من تسليمها إليَّ، أقصد إلى خزينة المملكة التي ستظل كالبئر عميقة وبغير قرار.
القائد : من يحتاج إلى الذهب والمزيد من الذهب؟ من يحرسك ويحرس بلدتك وكل بلاد المملكة؟ إنه الجيش … إنهم الجنود. لا تنس هذا.
المدير : إذا تذكرتني من وقتٍ لآخر ببعض الكمثرى، فسوف أغمض عيني في المرة القادمة.

(ينصرف الجميع، يبقى الفلاح الذي لا يزال يقلب اللفافة في يده وأمامه الحارس. ينظران إلى بعضهما لحظاتٍ يسودُها الصمت، ثم يقول الفلاح.)

الفلاح : وأنت؟ ألا تريد أن تحجز نصيبك من الكمثرى الذهبية؟
الحارس (يمد يده بالغليون) : خذ يا أخي، هذا هو غليونك، أنت أولى به.
الفلاح (ضاحكًا) : من كان يظن هذا؟ (يفتح اللفافة البالية بعناية، يرفع النواة إلى فمه، ثم يقضمها ويُقدم بقيتها للحارس.)
الحارس : ما هذا؟ ماذا تفعل؟!
الفلاح : خذ يا صاحبي، هذا نصيبك من الآن.
الحارس (يتناولها منه وتغيب في فمه، ثم يقول ضاحكًا) : ألم أقل لك؟
الفلاح (وهو يتوجه للجمهور) : ألم أقل لكم يا أهل هان هان؟ (يواصلان الضحك، ثم ينصرفان ويُسدَل الستار.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤