الفصل الثالث

المنظر الأول

(المنظر في وادي الصفا على مقربة من حي بني عامر على سبيل مطروق. عيون ونخيل وأشجار؛ عقلت عبلة بعيرها تحت شجرة منها، على بعد قليل. أناس يغدون ويروحون على الطريق.)

المشهد الأول

عبلة :
قل لي برَبِّكَ مَنْ تُحبُّ
ومَنْ تحبك يا بعيرْ
أيُّ النِّياق فإنهن
على مراعينا كثيرْ
وهل اكتفَيْتَ بناقةٍ
أم أنْتَ كالعبسيّ زير؟
تَلْهُو بما دَفع الرَّواح
إليكَ أو ساقَ البُكور
مُتَنقِّلا بين البيوت
على عقائلها يدورْ
ما حَقُّ عنتَرَ عندنا
إلا التجنُّبُ والنُفور
ما لي تَملَّك مُهْجتي
عَبْدٌ على عَبْسٍ أمير!
لو يجمع العرَبَ السَّريرُ
لجاءه يسْعَى السرير
كالليل إلا أنه
في عيْنيَ القمرُ المنير
حَسَدَتْنيَ الدنيا عليـ
ـه وكلُّ محسود خطير

(تتسلى عبلة بإطعام بعيرها بينما يمر في الطريق ثلاثة فتيان، فيلمحون عبلة.)

المشهد الثاني

قراد :
بُجَيْرُ ماذا ضرَّ لو
أنا أتيْنا الشَّجَرَهْ
هلمَّ نلهُو ساعةً
بِالْغادَةِ المنتَظره
بجير :
أأنا مجنونٌ أنا
ألْهو بريم القَسْوَرَهْ
لا يا أخي لا أجتري
على لَباةِ عنْتَرهْ
الثالث :
صه صه بجَيْرُ حسـ
ـب يا قُرادُ ثَرْثَرَه
دعا الفُضولَ وابعثا
تحيةً معَطَّره
ما تلك إلا عبلةٌ
ما عبلةٌ بنَكرَه

(ينصرف من الجانب الآخر ويسمع صوت عنترة من وراء الستار.)

المشهد الثالث

عنترة :
يا عَبلَ
عبلة (لنفسها) :
مَنْ ذَا يُنادي عَبْلَ؟ عنترةٌ؟
عنترة :
يا عبْلَ
عبلة (لنفسها) :
تلك لعمْري نَبَرةُ الأسدِ
هذا هو الحبُّ هذا اسْمَي على فمه
يأتي منَ القلْب أو يأتي من الكبدِ
يردِّدُ اسميَ في البيْداء منفردًا
وربما نَسِيَ اسمي غير مُنفرد
عنترة :
يا عبْلَ أين جبينٌ لسْتُ ساليَهُ
طلقُ البشاشة حلْوٌ كالصباحِ ندي؟
وأين يا عَبلَ فرْعٌ كان فاغيَتي
وكان لَهْوي إذا ضفَّرْتُه ودَدي؟
ولي يدٌ خَشْنةُ الأظفار أنقُلُهَا
من الغدائر أحيانًا إلى اللِّبَدِ
تَعيثُ من شعَر الغادات في خمَل
حينًا ومن شَعر اللبوَات في زَرَد

(يقبل عنترة وفي إثره داحس، فيختفي داحس وراء الشجر بعيدًا عن المسرح.)

المشهد الرابع

عنترة :
مَنْ أرى؟ عبْلةُ؟
عبلة :
مَنْ؟ عنترة؟
عنترة :
مُهْجَتي عبلَةُ ماذا تصْنَعين؟
عبلة :
خرجتُ للنُّزْههْ
على الصَّفا وحْدي
أقضي هنا برهَهْ
أبُثُّ ما عندي
خميلةَ الألبان
وروضةَ الرَّنْد
عنترة (مشيرًا إلى البعير) :
وذَاك يا نور عبس؟
عبلة :
هذا بعيري صباحُ
ربي معي وَبَعيري
تحتي، وهذا السِّلاَحُ

(وتريه سلاحها على هودج البعير)

عنترة :
أمثْلُك عبل تخْشَى بأسَ شيء
وتتخذُ الكنائن والرِّماحا
لقد قُرن اسمك المحبوبُ باسْمي
أما يكفي اسمُ عَنترة سلاحا؟
عبلة :
من أين يا ابْنَ العَمِّ؟
عنترة :
مِن عالَمِ البيد
عبلة :
كم من فتاة كم
ماذا منَ الغيد!
يقولون عنترةٌ لم يقِفْ
بحيٍّ من البيد إلا خطَبْ
فقال لهاتيكَ ما تَشتهي
وغازَلَ تلك وأخرى أحَب
خلائلُه صرْن مِثْلَ الحصى
عنترة :
وأنت أصَدَّقت هذا الكذب؟
أحاديثُ لفَّقها حُسَّدي
وقد يخلقُ الحاسدون الرِّيَبْ
عبلة :
وأختُ سعد؟
عنترة :
مَا لهَا؟
عبلة :
ألم تَقُد بعيرها؟
وما نسيت في ظلام
الليل أن تزُورها

(ويسمع حفيف في أوراق الشجر ووطء أقدام، فيقبل داحس مذعورًا.)

المشهد الخامس

داحس :
سَيدي سيَدي خُذ الحَذَر
عنترة :
ماَذَا داح؟
داحس :
أحْسَسْتُ أرْجُلًا ودَبِيبا
عنترة :
لا تَخَفْ داح
داحس :
بل أخَاف وأخشى
خطَرًا ماثلًا وشرًّا قريبًا

(يعود داحس من حيث أتى)

المشهد السادس

عبلة :
وعاتكةٌ؟
عنترة :
كيف صنُعْي بها؟
عبلة :
بعثت إليها بجلد النَّمِرْ
عنترة :
وكيف وأينَ؟
عبلة :
لقد كان ذاكَ
فلا تتَنَصَّلْ ولا تَعَتذر
وهندُ بنتُ عامرٍ
ألم تجئْها في الخَبا؟
وابنةُ بسْطَامَ ألم
تنثُر عَليها الذهبا؟
وابنَةُ شَيْبَانَ أَلم
تطْربها مُشَبِّبا؟
عنترة :
قد زَوّرُوا واختلَقُوا
وحدثوك الكذبا
رُحماك يا عبلَ
عبلة :
دعني
وامْض اشتغل بالخلائلْ
عنترة :
من قالَ ذاك؟
عبلة :
كثيرٌ
هذا حديثُ القبائل
عنترة :
لا وعَيْنيك وَأَعْظمْ بالقَسَمْ
وفَم عن غُرَّة الصبح ابتسَمْ
لم أنْم يا عَبْلَ عن عهد الهوى
من رَعَى أمرًا عظيمًا لم ينم
اذكري يا عبلَ أيام الصِّبا
حين أسْقي بَيْنَ عينيك الغَنم
وَشُوَيْهَاتُكَ حوليَ أنسٌ
يَغْتَرفْنَ الماء من راحي السُّحُمْ
إن حضرتُ الماء حامتْ وارتوت
أو تولَّى الماءَ غيري لم تحمْ
اذكري إذ أنت طفلٌ حُلْوَة
قد كساك الحُسْنُ فرعًا لقدم
إذ تجيئين بصبيان الحمَى
وصبايا الحيِّ في ظلِّ الخيم
فتقصِّين عليهم خَبري
مع ذئب القفر أو ليث الأجَمْ
أنا يا عبلةُ عبدٌ في الهوى
وأنا يا عبْلَ في القُرْبَى ابنُ عم
اطلبي الإِيوانَ أحملهُ على
رَاحَتَي كسرى وهامات العَجَمْ
أو سليني الهرم المشهورَ يا
عبلَ أجلبْ لك من مصْرَ الهرم
أو سليني البيدَ مهرًا أو سَلي
ما وراء البيد من حُمْر النعم
أو تعالي فخذي أشرَفَ ما
قُلِّد الإِنسانُ: سيفي والقلم
رُبَّ خيل قُدْتُ حتى قادني
وحوَى رقّي بنان كالعنم
وليوثٌ صدتُ حتى صادني
رشا القاع وَرُعْبُوبُ الأكم
قد رعَيْتُ النجْم حتَّى مَلَّني
وتعهدتُ الدُّجَى حتى سَئِمْ
أشْتَهي طيِفَكِ في حُلْم الكرى
فيقولُ الليل لي أينَ الحُلُم؟

(وفي هذه الأثناء يظهر مارد وغضبان من وراء الشجر وفي غير الناحية التي اختفى فيها داحس فيسدد أحدهما سهمه إلى ظهر عنترة فتراه عبلة وتضطرب فيصيح عنترة بالرجل دون أن يلتفت إليه.)

المشهد السابع

عنترة (ضاحكًا) :
حذار يا وَغْد حَذَار يا لُكَعْ
اللَّيْثُ لا يَقْتُلُه الكلبُ فدَعْ

(يقع القوس من الرعب من يد مارد ثم يخر هو نفسه إلى الأرض ميتًا ويفر غضبان.)

قد وقعتْ منْ يده وقد وقع

المشهد الثامن

عنترة :
قد كان لا بد أن أرَاهُ
لِلَّيث عينان في قَفَاهْ
سيري انظري مات وَرَبِّ الكعبة
زمَجَرةُ الليث الهصُور صَعْبهْ
بل اسمعي عبْلَ اسمعي كلامي
لولاك لم أنجُ من الحِمام
قد كنتِ أنتِ صنمي قدَّامي
لك اتجاهي وبك اهتمامي
رأيْتُ في عينيك قَوْسَ الرَّامي
ويَدَهُ في جعْبة السِّهام
عبلة :
ومَا رَأيتَ؟
عنترة :
رأيتُ العين حائرةً
والوجه لوَّنَه الإشفاقُ ألوانا
وقفَّ شعرُك وانسابَتْ غدائرُه
كما أثَرتِ وراء الليل ثُعْبانا
وقام صدرك كالمنفاخ مجتهدًا
لا يُفْرَغُ الريحَ إلا ارتَدَّ ملآنا
فقلتُ شَرٌّ ورائي لستُ أبصرُهُ
في عطف عبلَةَ لما رُوِّعَتْ بانا
ولاحَ لي الحبُّ في عينيكِ مُرْتَسما
لم تستطيعي له يا عبلَ كتمانا
عبلة :
الحبُّ! كيفَ عرفْتَ الحُبَّ؟
عنترة :
منكِ ومِنْ
عينيك
عبلة :
قد تكذب العَيْنَان أحيانا
عنترة :
لا عبلَ، لا إن عينَ الحبِّ صادقةٌ
وما تعوَّدْتُ من عينيك بُهتانا
عبلة :
أجلْ ولكنْ قديمًا كان ذاك أجلْ
هذا السوادُ لعيني كانَ إنسانا
عنترة :
وَالْيَوْمَ؟
عبلة :
ما لكَ في قلبي الجريح هوَى
اليوْمَ عنترَ من أحببْتُ قد خانا
عنترة :
دعي الوسَاوسَ والأوْهَامَ عنك دَعي
يا عبل جُرِّي على ما قيلَ نسيانا

(يسمع وطء أقدام)

عبلة :
عنترَ تلك ضَجَّةٌ
فلتتوارَ ناحيَهْ
لا يجد الواشي إلينا
سُبُلا والواشيهْ

(يختفيان وراء الشجر ويقبل من ناحية أخرى مالك وضرغام وزهير كأنهم مارون بالطريق ويتشاغل زهير بالشرب من ماء عين أو بشيء من مثل هذا.)

المشهد التاسع

ضرغام :
سيِّد الحيِّ
مالك :
ألف لبيك ضَرْغام
تكلم أثمَّ شيء تقولُ؟
ضرغام :
سيد الحيِّ عبلة اختارها القلبُ
فهل لي إلى الزواج سَبيلُ؟
مالك :
والمهرُ يا ضرغام
ضرغام :
مَهْرُ
عبلَة؟ اقترحْ ترهْ
قَدِّرْهُ أو خلِّ إلى
عبلة أن تُقَدِّره
وغاليا ما شئْتُمَا
فيه وظُنَّا المقدره
مالك :
المهرُ يا ضرغام غال
فاجتهدْ أن تحْذَره
ضرغام :
سَلْ تَاج كسرَى واقتَرحْ
عمامةَ المناذِرَهْ
سل سُبْحَة القيصر أو
فاطْلُب صليبَ القيصَرَهْ
مالك :
المهْرُ فوق ذاكَ
ضرغام :
قُلْهُ
لا تخَفْ أن تذْكُره
مالك :
اسْمع إذنْ أصخْ له
المهرُ رأسُ عنترة
ضرغام (لنفسه) :
له الوَيْلُ ماذا قال؟
مالك :
قد وجمَ الفتى
ضرغام :
أبا عبلة اذكْر هوْلَ ما أنت سائلُ
مالك :
جبُنْتَ!
ضرغام :
معَاذَ الله ما الجبْنُ في دمي
مالك :
فَلمْ ضقْتَ ذَرْعًا؟
ضرغام :
مهرُ عبلةَ هائلُ
أأمشي إلى الفُلحاءِ أخْطَفُ رأسَه
فِداءُ الذي أمشي إليه القبائلُ
كريمٌ لعمْري والكرام قد انقضُوا
شجاعٌ وشجعانُ الرجالِ قلائل
إذا قال بَزَّ القائلين رنينُه
وما بَزَّهُ في أيكةِ البيدِ قائل
هَزارُ البوادي طارحتْه بشجْوها
رُباها وغَنَّتْ في صداه الخمائل
وما بيننا ثَارٌ، ولا بين أهلِه
وأهْلي عداوات خَلَت وطوائل
مالك :
وعبلةُ يا ضرغامُ؟
ضرغام :
وما شأن عبلةَ
مالك :
أليس فِدَاها في الحجاز العقائلُ؟
ضرغام :
أجل وفداها الشمْسُ ما التفَّت الضحى
عليها وما رَفَّتْ عليها الأصائل
مالك :
أأنتَ تخافُ العبد؟
ضرغام :
لِمْ لا أخَافُه
تُخافُ وَتُرجَى في الرجال الفضائل
وإن ابنَ شدادٍ وإن ذاع بأسُه
فتًى ملءُ بُردَيْه عفافٌ ونائلُ
من العُصْبَة المسطور في البيت شعرُهُم
قصائدهُم أستارُه والْوَصائل
مالك :
فَما لَكَ مُصْفَرًّا كأنك هالكٌ
من الخوف قبل الطَّعْن والضرب زائل؟
تعالَ زهيرُ اسْمع حسبْنَاهُ حائطا

(يقبل زهير)

زهير :
فما هُو؟
مالك :
ركنٌ في العواصف مائل
وأمَّلتُه سيفًا فلما لبستُه
إذا هو عُودٌ أنكرتْه الحمائل
وقلتُ غمامٌ يُمطرُ الحيَّ في غد
فكان جَهامًا ما لنا فيه طائل
وقلتُ كليبٌ نستطيلُ بصهره
إذا هُوَ كلبٌ
ضرغام :
ضَلَّ ما أنْتَ قائل
وأقسمُ لولا ظبيةٌ تحتَ خيْمة
وغصْنٌ حوتْه في الحجال الغلاَئل
لما رحْتَ إلا جُثةً في الثَّرى لقًى
وغالتْك من قبلِ المغيب الغَوائل
مالك :
تجرأتَ يا ضرغامُ
ضرغام :
ما تلك جرْأةٌ
ولكنْ كما قد كِلتَ لي أنا كائلُ
مالك :
كفَى حسْبُ يا ضِرغَامُ حسْبُ وقاحَةً
فما أنْتَ إلا مكثرُ الزَّهو خائل
لقد قلْتَ قولًا شف عما وراءه
وقامت على لؤمِ النِّجار الدلائل
ولا يرفع الأبطال أنك منهمو
فما هذه للباسلين شمائل
وما لكَ كالأبطال سيف تُجيلُه
ولكن لسانٌ بالسفاهة جائل
أيُذكرُ عبْدُ السوء في كل قفْرةٍ
وذكْرُكَ يا ضرغام في البيد خامل
أما أنت كالفَلْحاء صنديدُ قومه
أما لكَ كالفلحاء سيفٌ وعامل؟
ألا حسدٌ للعَبد؟
ضرغام :
لا، لسْتُ حاسدًا
ولا أنا للنار الأكولة حامل
أأحسدُ من يَحيا العفاةُ بماله
ويأوي اليتامَى ظلُّه والأرامل؟
أأحسد مَنْ لا يَعصمُ البيدَ غيره
إذا زَحَفت من أرض كسرى الجحافلُ؟
أأحسدُ من يُرجى لتأليف قومه
إذا افترقتْ تحتَ الملوك القبائلُ؟
مالك :
يؤلِّفنا عبد! أما ثَمَّ سيِّدٌ
عن العبدِ يُغنينا أما ثَمَّ عاهل؟
إذن فلْيسُمنْا الخسفَ كسرى وقومُه
وقيْصَرُ والرومُ الجفاةُ الأراذل
أيمنعُنا عبدٌ؟ إذَنْ نحن عُزَّلٌ
فأين عوالينا وأينَ المناصل؟
ضرغام :
لقد عيلَ صبري للذي أنا سامع
مالك :
إذا الصبْرُ لم ينفد فما أنت فاعل؟
ضرغام :
عقاب ينسِّيك الوقاحة عاجل
وآخر متروك إلى الغد آجل
مالك :
رويْدكَ يا ضرغامُ ما لكَ هاذيًا
وما لَك قد ضاعت لديكَ المنازل؟
فما العبْدُ إلا كالدُّخان وإن علاَ
إلى النَّجم، مُنحطٌّ إلى الأرض سافل
ضرغام :
تعالَ تأهبْ

(يمسك بكتفه فيهزه هزًّا)

مالك :
كاهِلي خلِّ كاهِلي
ضرغام :
أقَالبُ زُبْدٍ ذاك أم ذاك كاهلُ
زهير (صائحًا) :
هلموا سَرَاةَ الحيِّ هاتوا رجالَكم
مالك :
إليَّ فعبسٌ فاجأتْها النوازلُ
يا عَبْسُ

(ويرى عنترة قادمًا فيجري نحو الحي هو ومعه زهير)

عنترة؟

المشهد العاشر

عنترة (من وراء الستار) :
لبيك ما بكم
خوْفٌ من السَّيْل أم خوفٌ من النار؟
اللهُ أمَّن بالفلْحاءِ سربكمُو
أفعَى الصريم وليث القَفْرة الضاري

(يظهر عنترة)

المشهد الحادي عشر

عنترة :
مَن الفتَى من أرَى؟ ضرغَامُ أنت هنا
أغارةٌ؟ أين عهدُ الجار للجار؟
أجئتَ تَسْبي مَهاتي؟
ضرغام :
جئْتُ أخطبها
عنترة :
ما أجمَل الصِّدْقَ لم يُلْبَس بإنكار
فما جَرَى؟
ضرغام :
نال منَّا مالكٌ وبَغى
عليك بالشتْم هذا العائبُ الذَّاري
حتى انصرفْتُ إليه كي أؤدِّبَهُ
عنترة :
يا ليتَ أدَّبْتَهُ تأديبَ جَبَّارِ
ضرغَامُ
ضرغام :
عنترةٌ
عنترة :
اسمَعْ بيننا شَرَكٌ
في حب عبلْةَ قد يَدْنُو من الثارِ
فاجعلْ لنفسك أنثى غَيْرهَا أربًا
فإنَّ عبلة آرابي وأوطاري
ضرغام :
وأنت فَاعْبُدْ سواها إنني رَجُلٌ
جَعلت عَبلةَ أوْثاني وأحجاري
تعال نَذْهب إلى شْمس النهار معًا
نقول عبلةُ قد خُيِّرتِ فاختاري
فما ترى أنْتَ؟
عنترة :
رأيي أن نصيرَ إلى
جمالِ تَضْحيةٍ أوْ فضل إيثارِ
رأسي ورأسُكَ في الميزان قد وُضعا
وحُكم سيفِك أو سيفي هو الجاري
من مات مِنَّا قَضَى حَقَّ الهَوى كرمًا
وليس بالموت دُون الحبِّ من عار
ضرغام :
رأيتَ عنترَ رأيًا لستُ أتْبعهُ
يأباهُ حبِّي وإعْجابي وإكباري
واللهِ لا جمعْتنا ساحةٌ
عنترة :
لِمَ لا؟
الحربُ تجمعُ مغوارًا بمغوار
ضرغام :
هبني قَتَلْتُكَ
عنترة :
ماذَا ضَرَّ؟
ضرغام :
كيف إذن
تكونُ في البيد أنبائي وأخباري
ألستُ شبْلًا فَتِيًّا من شُبولتها
فهل أجَرِّب في الرئبال أظفاري؟
وكيف أفلقُ رأسًا ملؤهُ شرفٌ
أحَقَّ من جبهَات الروم بالغار؟
وكيْفَ أضربُ عُنْقًا في أمانتها
كرامةُ القوْم من بدْوٍ وحُضَّار؟
وكيف أرمي لسانًا طالما سُقيَتْ
بشَهْده البيدُ من شَرْب وسُمَّار؟
عنترة (ينادي) :
يا عبلَ
عبلة (من وراء الستار) :
لبيك يا ابن العمِّ

(تقبل عبلة)

المشهد الثاني عشر

ضرغام :
أنتِ هُنا؟
عبلة :
أجَلْ
ضرغام :
إذْن سَمِعَتْ ما قيلَ أُذناك؟
عبلة :
أجل علمتُ بما قد دار بينكما
عنترة :
فما تريْنَ؟ لعلَّ القولَ أرضاك
يا عبْلَ حُبُّك في لحمي جَرى ودمي
وقَد يُحبُّك ضرغام ويهواك
ضرغام :
أحبها حُبِّيَ العُزَّي وأعبُدها
عبادَةَ اللاتِ
عنترة :
بنت العَمِّ بشْرَاك
ضرغام :
ولو يُطافُ بغير البيت في زمَني
ما طُفْتُ يا عبْلَ إلا حول مَغْناك
عبلة :
ماذا تقولُ ابن عَمِّي بمْ تُبَشِّرني؟
بُشْرَى بماذا؟
عنترة :
بهذا العَاشق الباكي
عبلة (لنفسها) :
يُحِبُّنِي؟ رَبِّ أشقيْتَ الفوارسَ بي
فلا أُتَيِّم إلا المُعَلَّم الشَّاكي
عنترة :
عبلَ اسمعي عبلَ هذا الحبُّ كيف أتى
هل كان في فترات الدهر يَلْقاك؟
عساه جاءك يشكو الحُبَّ من زَمن
لعلَّهُ بالهوى من قبلُ ناجاك
ضرغام هات تكلم
ضرغام :
أنْتَ تَظْلِمُنِي
فما نَصبتُ لعبسٍ قطُّ أشراكي
قولي لعنترةٍ يا عبلَ ما خُلُقي
كما يقولُ ولا في شِيمَتي ذاك
هل التقينا على ذات الأصاد ضُحًى
وهل لقيتُك إلا في عَذاراك؟
وهل نظرْتُكِ إلا خاشِعًا خَفِرا
كما نظْرتِ وراءَ السَّتْرِ عُزَّاكِ
عنترة :
الآن يا عبلَ تختارين راضيةً
هاك الخطيبيْن قد مَدَّا يدًا هاك
عبلة :
إني قد اخترتُ يا ابن العمِّ من زمن
عنترة :
مَنْ؟
عبلة :
سيِّدي!

(تندفع إليه)

عنترة :
عَبدكُ الْوَافي ومولاك!

(تسمع ضجة وقعقعة سلاح وأصوات استغاثة من الحي كأَنها من بعيد.)

عبلة :
يا ويحَ أذْني صَيْحَةٌ وفوارسٌ
ما ذاك عنَتَر؟
عنترة :
غارةٌ وصياحُ
عبلة :
ضرغَامُ عنترَ مَا مُقَامُكما هنا
والحيُّ ثَمَّ مُرَوَّعٌ يُجتَاحُ

(يقبل داحس مضطربًا)

المشهد الثالث عشر

عنترة :
ماذا وراءَكَ دَاحِ ما دهَم الحمى؟
داحس :
فئةٌ عليهم شكَّة وسلاحُ
وَطِئَتْ ترابَ المهدِ أرجُلُ خيلهمْ
ولها عليه نشْوةٌ ومراح
عنترة :
أمنَ البوادي؟
داحس :
بل غَساسنةٌ على
قَسَماتهم أثرُ النعيم صِبَاحُ
في ظلِّ دجلةَ والفراتِ ترَعْرَعُوا
وغَدَوْا على وَشْيِ الرِّياض وراحوا
أولاَدُ لخْم والذين رمَى بهم
أرْض العراق تطَلُّعٌ وطِماحُ
جاءَ الحجازُ بهم ومكةُ والتقَتْ
فيهم جبالٌ حولها وبطاح
نَشئوا هناك فما تصلَّبَ مَنْسَرٌ
لهمو ولا بلغَ التمامَ جَنَاحُ
عنترة :
مَا يبتغون؟
داحس :
أظنُّ رأْسَكَ سُؤْلَهم
هَتفوا به حَول البيوت وصاحُوا
أنسيتَ سرحانًا وكيف قتلتهمْ
وفوارسًا بُهْمًا بسيفك طاحُوا
ضرغام :
ما الْقَوْم؟
عنترة :
عسكرُ رُسْتُمٍ
ضرغام :
مَنْ رستم؟
عنترة :
بطلٌ له شرفٌ وفيه سماح
وفَتى يُعَظِّمه العراقُ وصاحبٌ
كسرى إليه بأُنسه يرتاح
عنترة (لداحس) :
ما شكله؟ ما لَوْنه؟ ما وَجْهه؟
داحس :
ريانُ أبلَجُ ناعمٌ وضَّاح
ضرغام :
هذا الجمالُ، فما شجاعةُ رستمٍ؟
داحس :
مَوْتٌ لمن يمشي إليه مُتاح
عنترة :
وثيابُه؟
داحس :
زَرَدُ الحديد وبُرْنُسٌ
صافٍ على أعطافه ووشاحُ
قد حَفَّ ساعدَه السِّوَارُ ورفَّ في
أُذْنيه قُرطُ اللؤلؤ اللَّمَّاح

(تزداد الضجة وتقترب الأصوات)

ضرغام :
اسمعْ لواءَ البيد أصغ لصوتهم
هذا النداءُ يزيدُ والإلحاح

(يسمع صوت رستم)

الصوت :
العبدُ! رأس العبد
عنترة (لداحس) :
امض فقلْ لهم
رأسي لهم في منكبيَّ مُباح

(ثم يواجه الأشباح القادمة من بعيد)

يا قوم لم أفهم نداءَكم اعْزبُوا
إذ ليس في لغة الأسُود نباح
ويحٌ لرأسي قد غدا كرةً لهم
راحٌ تجيء به وَتَرجِعُ راح
كثروا عليه في الطِّلابِ ودونَه
تتقطَّعُ الأسيافُ والأرماحُ

(يقبل جماعة من الحي هاربين وينصرف عنترة وضرغام للقاء المهاجمين.)

المشهد الرابع عشر

عنترة (من وراء ستار) :
لبيك يا أُسْوارُ تعلَم أيُّنا
يُبْكى عليه في غدٍ ويُناحُ
عبلة (للقادمين) :
حُييتمُو عبس عِمُوا مساء
عبسُ اسمعوا الزئيرَ والعواءَ
قوموا انظروا عنترةَ اللواء

(يشرف الكل على المعركة الدائرة من وراء الستار)

أحدهم :
على قدَمْ
حَيُّو العلَمَ
ليْثَ الأجَمْ
عنترة (من وراء الستار) :
عبلَ عبلَ
عبلة :
لبيك ألفَ لَبْ
أحدهم :
ذاك عبدُ شدادٍ انقلَب
عبلة :
بل لواءُ عبس وفتى العَرب
أنصتِوا اسمعوا الرعْدَ في السُّحُبْ
تلك صرْخَةُ الليث في القصب
أحدهم :
وآخَرُ ليس له دونَ أخيه بأسًا
عبلة :
أجلْ
الأوْل :
ضِرغامٌ العضْبُ الحُسامُ
مُبيدُ الضيْغميْن بشِعْبِ خَبْت
آخر :
أجلْ ضِرغامُ الموتُ الزّؤامُ

المنظر الثاني

(نفس المنظر بعد زمن قصير، لا تزال عبلة ومن معها من بني عبس يشرفون على المعركة، وإن كان يبدو أنهم قد تأخروا في المسرح إلى مكان أبعد من مكانهم في المنظر الأول قليلًا. في مقدمة المسرح من ناحية أخرى جماعة قليلة من بني لخم أنصار الفرس وبيد أحدهم صندوق وحديثهم يكاد يكون همسًا.)

المشهد الأول

واحد من بني لخم :
ما ذاك؟ ما الصندوق؟ ما بأكفكم؟
حامل الصندوق :
السِّلْم يا إخوانُ والإصلاح
العبدُ رأسُ العبدِ بُشرى فارس
اليومَ كُلُّ محلَّة أفراح

(يفتح الصندوق فيرى فيه رأس قتيل مغطى)

آخر :
أبرأس عنترة أتيتم؟ ما لَه
ينْزُو؟ وما للسّتْر عنه يُزاح؟
آخر :
أتراه حَيًّا!
آخر :
هل جُنِنْتَ؟
الأول :
إذَن قَضَى
وتَخلَّصتْ منْ غولها الأرواح
آخر :
من ذا الذي ذبح الغضنفر؟
الجماعة :
رسْتمٌ
فحلُ العراق وكبشُه النَّطاح
آخر :
حطوه ننظر. يا إلهي ما أرى؟

(يكشف القائل الرأس)

ويلٌ لهم أيُّ الرءوس أطاحوا؟
ما ذاك عنترةٌ ولكن رستمٌ
مَنْ يا ترى الجاني من السَّفاح؟
آخر :
مَن غير عنترةٍ يُجَندِّلُ رُسْتُمًا
قد كان بين الضيغميْن كِفاحُ؟
ما تنظرون الرأسَ في الدَّم غارقًا
وعليه من كل الجهات جراحُ؟
لَهفي على قَسَمَاتِه وجبينهِ
عَفَتِ البشاشَةُ وانطَفا المصباح
آخر (صائحًا) :
يا لكسرى ونَواحي فارسِ
لِقَتيل حَوْلَ عبس دَارسِ
فَتَكَ العبدُ بحرٍّ فارسي
قائد الجحفل أُسْوار العراقْ
يا بَني المُنْذر آل الأشْهَبِ
شَرَفَ الفرْس ومجد العربِ
قد صحبْتُم رستمًا في الموكِبِ
فاركبوا في ثاره الخيلَ العتاقْ
بينَنا يا عَبْسُ يومٌ ذو نبا

(تتجه الجماعتان بنو عبس وبنو لخم بعضها إلى بعض.)

بنو عبس :
مرحبًا باليوم أهلًا مَرْحبا
أحدهم :
هذه السُّمْرُ أُعدَّتْ والظُّبَى
أُرْهفَتْ وانْتظَرَتْ يوم التلاقْ
عبلة :
أولاَدَ لَخْم
آخر :
مَن المُنادي؟
آخر :
عبلةُ
الأول :
مَنْ تِلْكَ؟
الآخر :
بِنْتُ مالكْ
عنترةٌ جُنَّ في هواها
والبنْتُ جُنَّتْ به كذلك
آخر :
لَبَّيْكِ لَبَّيْكِ أختَ عبس
عبلة :
ألا أُنَبِّيكُمُو بأمس؟
ما نحْنُ إلا أبناءُ جنس
نحن بنُو الشمس والصحارَى
لا تَحفلُوا رسْتُمًا دَعُوهُ
خَلُّوهُ للفرْسِ يثْأَروهْ
ولا يُقاتل أخًا أخوهُ
منكم ولا تَخْذُلوا الدِّيَارَا
حُشرْتُمُو تحتَ كلِّ رايهْ
وأسْرَجُوكم لكل غايَهْ
وَسَّعْتُمُو الملْكَ والولايهْ
لكُلِّ كسرَى وكلِّ دارا
قبيلةٌ تحتَ حكم كسرَى
وقيصَرُ الروم دانَ أخْرَى
أصبحتُمُو للغَرْب جسرا
يركَبُهُ كلما أغارا
أحدهم :
ماذا تقولين يا فتاةُ؟
أيَتْرُكُ القائِدَ الغزَاةُ
كأنه في الطريق شاةُ
وذابحُ الشاةِ قد تَوارى
عبلة :
يا لخمُ يا بني العرَبْ
يا لَخمُ حرمَةَ النسبْ

(ضجيج)

رويدَ ما هذا الجَلَبْ
بنو لخم :
نريد رأسَ عنترَهْ
عبلة :
قد رمتُمو ما لم يُرَمْ
ما أنتمو ولا العَجَمْ
بِبالغي لَيْث الأجَم
بنو لخم :
نريد رأسَ عنترَهْ
أحدهم :
يا عبلَ أحْيِي رُسْتُما
— إن شئت — نحقنُ الدِّما
أو نَاولينَا المجرمـا
الجميع :
نريد رأسَ عنترَهْ

(يسمع صوت عنترة مقبلًا من بعيد فيلتفت إلى ناحيته الجميع.)

الصوت :
أراك يا عبلَ تَغْضبينا
يا عَبْلَ منْ ذَا تخاطبينَا؟
مَنْ ذَا يرفَعُ الجبينَا
مخاطبًا ملْكة العذارى؟
عبلة :
عنترة البأس خلِّ سيفَكْ
وعُدَّ لخمًا في الحيِّ ضيفَكْ
ولا يَرى الأقَربُونَ حيفَكْ
ولا يقولوا العبسيُّ جارا
ما أنتَ من ظَلَمَ القريبَ وهذه
لخمٌ قرابتنا الأداني فاعدلِ
بالأمس تبني ركنَ قومك باذخًا
وَالْيَوْمَ تفعلُ فيه فعْلَ المعولِ
بالبيت بالعزى بعبلة بالهوى
بالحقِّ إلا سرْتَ سيرةَ مجمل

(يظهر عنترة)

المشهد الثاني

عنترة :
ما لك عَبْلَ ثائره
ما يبتغي المَناذرَهْ
صنائعُ الأكاسرَهْ
بنو لخم :
نريد رأسَ عنترَهْ
عنترة :
رأسي أنَا
واحد من بني لخم :
لمْ لا أجَلْ
عنترة :
هَلْ لكُمو به قِبَل
الكل :
أجَلْ أجَلْ، أجَلْ أجَلْ
عنترة :
يا بُعْدَ رأس عنترة!
يا لَخمُ هاتوا جمعكم هاتو القَنَا
وامضوا لكسرى وارجعوا في جَحْفَلْ
جيئوا بفُرسانِ العراقِ وفارسٍ
من راكب فيلًا ومن مُتَرَجِّلْ
وتقلَّدُوا أمضَى المناصل واطلبوا
رأسي بما قُلِّدْتمُو من مُنْصل
هَلُمّوا يا بني لَخمِ
وخذوا رأسيَ من جسمي
بما شئتم فَبالسَّيْفِ
وبالرُّمحِ وبالسَّهمِ

(ينازلهم ويقتل منهم مقتلة عظيمة فيفرون صائحين)

أحدهم :
خَلِّني أنْجُ بنفسي
آخر :
أنجُ من جَبَّارِ عبسِ
ذاك جنِّيٌّ ولا يبرُ
زُ للجنِّيِّ إنْسي
عبلة :
رُحماك عنترَ
عنترة :
أنت عَبلةُ ذي؟
عبلة :
أجلْ
عنترة :
ما تأمُرينَ سَلي الخوارقَ أفعَلْ
عبلة :
رحماك عنْتَرَ لا تَشِمْ سيفًا ولا
تطعن برمح واتَّئد وتمهَّل

(يلقي عنترة سلاحه ثم يقبل عليها)

عنترة :
لم أنسَ ذكرك والجراحُ تسيل من
درْعي وتَصْبغُ أشْقَري بالعَندمِ
(ولقد ذكرْتُكِ والرِّماحُ نواهلٌ
مني وبيضُ الهند تقطُر من دمي)
فمضيْتُ أعتنقُ الرِّماحَ لأنها
خطرَتْ كأسْمر قَدّك المتقوّمِ
(وودَدْتُ تقبيلَ السُّيُوف لأنها
لمعتْ كبارقِ ثَغْركِ المُتَبسِّمِ)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤