الوطن

«وسأبقى ابنًا للأرض، للحب خُلقت وللألم.»

يقول سيِّد شعراء الألمان «جوته» في مقدمة دراساته وتعليقاته على ديوانه الشرقي: «مَن أراد أن يفهم الشاعر فليذهب إلى وطن الشاعر.» فكيف يبدو وطن شاعرهم العبقري المسكين هلدرلين؟ وكيف أثَّرت عليه طبيعة هذا الوطن، وسماؤه الصافية، وتلاله الوديعة، وغاباته الغامضة، وأنهاره الهادئة الحنون؟

لكلمة الوطن عند هلدرلين سحرها الغريب. فليس أرضًا تُقيدها الجمارك والحدود والحكومات، بل هو قوة وسر وحياة .. الفراق عنه وداعٌ أسطوري، والعودة إليه عيدٌ بهيج. هو الأرض التي يمشي فيها وحيدًا، والحقل الذي تنمو فيه الكلمة «زهرة الفم»١ كالزنبقة البريَّة، نقيَّة وأبية، خشنة وبسيطة وبريئة من الخوف:
وما ينبغي لأحدٍ
أن يلومني على جمال اللغة،
لغة الوطن،
كلما سرت، وأنا الغريب الوحيد،
إلى الحقل الذي تنمو فيه
الزنبقة البرية،
بلا خوف …٢

والوطن كذلك مملكةٌ مسحورة، أنغامه وعطوره لا تبارح ذاكرة الطفل. فإذا ما صحت صحا الوطن كله في خياله كأنما مسَّته عصًا سحرية:

وأشواك الورد
والزيزفون الحلو يتضوع بالأريج …
وهواء الوطن ليس كمثله هواءٌ. إنه نسيم يهبُّ من النهر الذي نشأ على ضفته، ويرفُّ من جبال الألب التي تشرف عليه. ونهر الوطن هو صاحبه الوحيد ورفيق صباه وألعاب طفولته. ها هو ذا يخاطبه في أغنيته عن نهر «النيكار»:٣
في وديانك صحا قلبي على الحياة،
أمواجك لاعبتني،
وكل التلال الحبيبة التي تعرفك
— أنت أيُّها المسافر الوحيد —
ليس بينها مَن هو غريب عنك.
فوق ذراها كان نسيم السماء
يحررني كثيرًا من آلام العبودية،
ومن الوادي، كالحياة من كأس الفرح،
كانت تلمع الموجة الفضية الزرقاء.
ينابيع النهر كانت تسرع هابطةً إليك،
ومعها قلبي أيضًا، وأنت أخذتها معك،
إلى «الراين» الساكن المجيد؛
إلى مدنه وجزره المرحة.

والمدينة التي وُلد فيها الشاعر بقعةٌ مقدسة، يحج إليها بالكلمة في تقوى وخشوعٍ:

مقدس عندي هو المكان، على الضفتين، وكذلك الصخر
الذي يرتفع مخضرًّا من بين الأمواج مع البيت والبستان.
هناك تلاقينا، آه أيها النور الحنون!
حيث أصابني لأول مرة أحد أشعتك
التي تلمس الفؤاد في الصميم.
figure
قرية لاوفن على نهر النيكار (حفرٌ يرجع لسنة ١٨٠٠م).

في بلدة «لاوفن» الصغيرة، على ضفة نهر النيكار في منطقة «شفابن»، وفي ديرٍ قديم يسمِّيه الفلاحون هناك «القرية الصغيرة»، وُلد هلدرلين في العشرين من شهر مارس سنة ١٧٧٠م …

هناك كان وطنه المقدس الحبيب …

عرف هلدرلين الوطن، وأحبَّه واشتاق دائمًا للرجوع إليه. ومع هذا فلم يعرف (قبل أن يصيبه الجنون على الأقل) مكانًا يستريح إليه أو يقيم فيه. فهو دائمًا الغريب والمتجول الوحيد. لهذا تحمل كلماته التي يثني فيها على الوطن نغمة الكآبة والأنين. لقد أحب الوطن وصبر على الجراح العميقة من أجله وأعطاه كل ما يستطيع الإنسان أن يعطيه من قلبه وضميره. وظلَّ هذا الوطن بالنسبة إليه عالَمًا يفوح بالعطر ويموج بالسحر وترفرف عليه أجنحة الأساطير وأرواح الخالدين والأبطال. ولكنه لم يجد «البيت» الذي يهدأ تحت سقفه، ويشعر بالاطمئنان أمام موقده. شاء له القدر أن يبقى غريبًا، قلقًا، لا يكاد يستريح إلى مكان حتى يهجره إلى غيره. هو دائمًا التائه الذي يتردد نداؤه: إلى أين؟ وهو الغريب بلا وطنٍ ولا سكن. يفتقد السعادة والزوجة والدفء والأمان. يفتقد الأرض الراسخة تحت قدميه. وتتكرر في شعره صورة الغريب الذي قُدِّر عليه أن يقضي حياته بلا جذور، ويطارد كالوحش الجريح الذي لا يجد ظلًّا يأوي إليه ولا نبعًا يبل فيه جراحه. وهو لهذا يتحسر على الحياة البعيدة كالحلم:

سعيد مَن يحب زوجته الطيبة في هدوء،
ويحيا أمام موقده في الوطن المجيد،
على أرضٍ ثابتة تشع السماء
للرجل المطمئن بضوءٍ جميل.
لأن روح المخلوق الفاني،
الذي يتجوَّل مع ضوء النهار وحيدًا
مسكينًا فوق الأرض المقدسة؛
تنطفئ وتخبو
إن لم تمد جذورها في الأرض كالنبات.

هو المتجول الوحيد المسكين، يشعر أن روحه تنطفئ وتخبو، وأنه مهما تغنَّى بالأرض والوطن فسيبقى بلا وطنٍ ولا بيت ولا حبٍّ. أكان هذا إحساسًا منه بأن جذوة العقل ستنطفئ بعد توهُّج؟ أكان تنبؤًا منه بليل الجنون الذي سيحاصره نصف حياته على الأرض؟

والكنز المقدس الذي يحمله الغريب في صدره ويحرص عليه ويرعاه هو كنز العذاب. والعذاب هدية السماء لكل مَن يجسر على اقتحام مملكة الشِّعر والحب. وجرح الحب المحروم يدمي قلبه ويبدد راحته، ويشرده في الآفاق، ينفي عنه الاطمئنان لشيء أو التعلق بإنسان. فإذا عاد يومًا إلى وطنه أحسَّ لأيام أو شهورٍ قليلة كأنه يعود لنفسه. وإذا أبصر ضفاف نهره الغالي شعر من جديد بأنه «عذابه المقدس ممتدٌ بلا ضفافٍ»:

مرحًا يعود الملاح إلى وطنه على النهر الهادئ
من الجزر النائية حيث كان يجمع الحصاد،
هكذا كنت أعود لوطني.
لو أنني حصدت من الخيرات مثل ما حصدت من عذاب
أيتها الضفاف الغالية التي نمَّتني ذات يوم،
أتراك تسكِّنين عذاب الحب،
أتراك يا غابات شبابي
تعدينني بالهدوء لو رجعت من جديد؟

ثم يناجي الجدول الرطب، والنهر الذي يهدهد السفن كالأمِّ التي تهدهد أطفالها في المهد، والجبال الحبيبة التي رعته ذات يومٍ، والأم والأشقَّاء الذين سيعانقونه ويقبلونه ويشفون قلبه. ثم يعود فيقول إنه يعلم أن عذاب قلبه ليس له شفاء، وأنه سيظل محرومًا من أغنية المهد التي يترنم بها الفانون للعزاء:

لأن الآلهة التي تعيرنا النار السماوية
تنعم كذلك علينا بالعذاب المقدس،
لذلك سأبقى ابنًا للأرض،
خُلق للحب والعذاب.

هكذا يصبح الوطن هو الأم التي تُغني أغنية المهد، فتربي وترعى وتعانق وتشفي من الداء. وتكتسب الأم البعيدة كل ما في الأسطورة من عمقٍ وسكون وجلال. بيْد أنه يعلم أنه في صميم قلبه مطاردٌ غريب، لا تستطيع أغنية المهد أن تعزيه عن حزنه ولا الأنغام أن تُسكِّن ألمه … إن حبَّه مطلقٌ وبغير حدود. ومتى عرف الحب الحقيقي شفاء أو عزاء؟!

وشخص الشاعر يتوارى خلف هذه القوى الأسطورية (ومنها الوطن) التي يهديها أغنيته. وهو يكتم قدره أو يظهره في بعض الأحيان على استحياء. إنه فرح بلقاء الوطن والأم والبيت وأشجار الغابة، فرح بالشمس والنور في العيون، والوفاء في الأصوات والصدور، وطائر السلام الذي يرفرف على الذكريات القديمة. وهو من فرحته يتحول إلى طفلٍ بريءٍ طائش:
«أتكلم في طيش. إنه الفرح!».٤

هذه النغمة البريئة الطاهرة، هذا الصوت البعيد عن جفاف العقل وإسراف العاطفة، هذا النقاء والصفاء هو أهم ما يميز شعر هلدرلين وحياته.

كان وهو صبيٌّ صغير يرى أمه كل يومٍ في ملابس الحداد، تذرف الدموع على أبيه الذي مات وهو صغيرٌ. ولم تفارقه الكآبة أبدًا بعد ذلك، لم يفارقه الجد والعبوس، لم يفارقه العذاب:

«الحياة تتغذَّى بالعذاب …»

إنه يرى نفسه في مرآة أمه الحزينة. يعرف أن حزنها من حزنه، وحدادها من حداده، وأساها من أساه. بل إن الشفقة لتأخذه عليها فينصحها ألَّا تفنى في الألم ولا تستسلم له:

«كوني أكثر مرحًا يا أمي الحبيبة …»

لكنَّه هو نفسه كان يفنى في الألم والعذاب كل الفناء. يكفي أن نقرأ هذه السطور من روايته الوحيدة «هيبريون» لنعرف مدى عمق جراحه: «أجل .. أجل! إن الألم جدير بأن يرقد على قلوب البشر ويكون أليفك، يا أيتها الطبيعة .. لأنه هو وحده الذي يقودنا من بهجةٍ إلى بهجة، وليس لنا من رفيق سواه …»

لكنه مع هذا حزنٌ صابر، ساكن، مطمئن على صدر الإيمان، وجد حقيقته الأخيرة في الكلمة الخالدة التي قالها من قبلُ أوديب:
«كل شيءٍ حسنٌ .. طيبةٌ كل الأشياء.»٥

وهو حزن مَن لا يملك أن يخفف من أحزان غيره. فقد كانت أمه التقية الهادئة دائمة الاكتئاب، حتى بعد زواجها الثاني من عمدة مدينة نورتنجن المجاورة. وما أكثر ما فعل هلدرلين مرضاةً لخاطرها! وما أكثر ما احتمل من آلام لكيلا يخيب أملها فيه أو يزيدها حزنًا على حزنٍ! وفي إنتاج كل أديب، بل في حياة كل رجل، بصمات لا تُنكر من أمه. لكن الأم الحزينة تصبح بلمسة الفن صورة وشكلًا وكيانًا أسطوريًّا. إنها تتحول في يد الشاعر فتصبح هي الأرض والطبيعة والسماء. وتذوب تجربة الأمومة في تجربة الأرض والطبيعة، بحيث تصبح الأرض والطبيعة هي جسد الأم الحي. وتكتسب الأبيات التي يقولها عن الأرض الأم وشاحها الأسطوري الذي يكسو كل شِعره ويلفه برداء السر والجلال. ويصبح الشاعر هو الكاهن الذي يقدِّم فروض العبادة للأم؛ يقدِّمها على استحياء، لأنه يقترب من صورتها كأنما يقترب من سر الغابة الأزلية:

مع ذلك، يا أيتها السماوية، مع ذلك
أريد أن أحتفي بك وما ينبغي لأحدٍ
أن يلومني — وأنا الغريب — على جمال العبارة،
جمالها (المستمد) من الوطن،
لأنك نائية، خفيَّة أنت،
في قبو الغابة الأزلية …
١  عن قصيدته «جرمانيا».
٢  عن قصيدته: «إلى العذراء».
٣  أشهر أنهار منطقة «شفابن» التي نشأ فيها الشاعر، يمر بمدينتَي توبنجن وهيدلبرج ويتصل بنهر الراين عند مدينة مانهايم ويبلغ طوله ٣٦٧ كيلومترًا.
٤  عن المقطوعة الخامسة من قصيدته «العودة إلى الوطن».
٥  وردت في قصيدته «باطموس» التي تعد من أروع قصائده وسيأتي الحديث عنها فيما بعدُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤