مقدمة

الشرق العربي كله ناهض في هذه الأيام، وليست نهضته سياسية محضة، وإنما تجمع إلى السياسة العلم والأدب والاقتصاد والنظم الاجتماعية على اختلافها، ومن الإطالة ولغو القول أن نحاول إثبات ما فرغ الناس من إثباته من أن كل نهضة قيمة رهينة بشيءٍ واحد هو صلاح التعليم.

فإذا احتاج الشرق العربي إلى شيءٍ ليصل من نهضته إلى ما يريد، فهو محتاج إلى تعليمٍ صالح معتمد على قواعد صحيحة ملائمة لنفسيته وعاداته وآماله وأطواره المختلفة، فلم تخطئ إذن «مجلة الهلال» حين عنيت بمسألة التعليم فيما عنيت به من المسائل التي تمس الشرق العربي، بل وفِّقت كل التوفيق وأحسنت كل الإحسان إلى هذه النهضة الشرقية التي هي إحدى دعائمها، ولقد قبلتُ مع شيءٍ من الغبطة غير قليل أن أترجم هذا الكتاب حين طلبتْ إليَّ «الهلال» ترجمته، وحسبي أن أشارك «الهلال» في تقويم هذه النهضة الشرقية وتوضيح سبيلها إلى الخير.

زعموا أن أرسطاطاليس أهدى كتبه إلى الإسكندر فكتب إليه الإسكندر يقول: لقد ألغزتَ كتبك، فأجاب أرسطاطاليس: ألغزتُها ولم ألغزها، يريد ألغزتُها على العامة ولم ألغزها على الخاصة، وأنا أستعير هذه الصيغة التي تُضاف إلى أرسطاطاليس فأقول: إني ترجمتُ هذا الكتاب ولم أترجمه، ترجمتُه؛ لأن رأيًا من الآراء التي وردت فيه لن يفوت القارئ، ولم أترجمه لأني لم أتكلف النقل الحرفي، ولم أعدل عن النقل الحرفي كسلًا أو مللًا، وإنما عدلت عنه إيثارًا لما لم يؤثره المؤلف من القصد والإيجاز، فالمؤلف مُطنب شديد الإطناب، يكرر نفسه كثيرًا شأن المؤمن المقتنع برأيه، وهو كثير النقل مُسرف في الاستشهاد، يثبت الرأي الواحد بعشراتٍ من القطع ينقلها عن الكتب والعلماء المختلفين، ولو أني ذهبت في الترجمة مذهبه في الكتابة لأضفت إلى هذا السِّفر مقدارًا عظيمًا من الصحف يمكن الاستغناء عنه ويثقل المُضي في قراءته، ولا سيما والكتاب لم يوضع لنقد التعليم في الشرق، وإنما وُضع لنقد التعليم في فرنسا.

فمن الحق على من يريد أن ينفع بهذا الكتاب وينتفع أن يستخلص منه الآراء التي تمس العيوب المشتركة بين التعليم الشرقي والتعليم الفرنسي دون أن يمسخ الكتاب أو يفسده … ولم أفعل غير هذا، وأنا أرجو أن تقرأ هذا الكتاب فتصل منه إلى نتيجتين اثنتين كلتاهما قيمة: الأولى الشعور بهذه العيوب الكثيرة الخطرة التي تفسد التعليم في مصر خاصة وفي الشرق عامة، الثاني العلم بالقواعد الأساسية التي يتخذها المصلحون المحدثون لتغيير النظم التعليمية على اختلافها وعلى اختلاف موضوعاتها وأطوارها، فالكتاب يبحث عن التعليم الفرنسي، ولكنه يدرس التعليم من حيث هو تعليم، من حيث هو وسيلة إلى تكوين نفس الفرد وإلى تكوين المُثل العليا للأمم والشعوب، وقد تتغير النظم التعليمية بتغير البيئة وأطوار الجماعات ولكن هذا التغير لا يمس هذه النظم إلا في دقائقها ومفصلاتها، فأما جوهر التعليم فواحدٌ لا يتعدد وإن أخذ صورًا مختلفة وأعراضًا متفاوتة، وهذا الجوهر هو أن هناك نفسًا إنسانية أمامها طبيعة، ومن الحق على هذه النفس أن تُحسن العلم بهذه الطبيعة لتستطيع أن تعيش.

هذا هو جوهر التعليم وغايته مهما تختلف الأمم ومهما تفترق الشعوب، وإذا كان هذا حقًّا فسبيل المشرفين على التعليم أن يحسنوا درس علم النفس في أطوارها المختلفة، وأن يلائموا بين هذه الأطوار وبين ما ينبغي أن يقسم لها من العلم.

إلى هذا قصد المؤلف فأحسن البحث وانتهى إلى نتائج — إن لم تكن قاطعة — فهي عظيمة القيمة، وأحسب أني لم أقصر في الترجمة ولم أفسد التحليل، وأرجو أن يكون هذا الكتاب نافعًا في الشرق كما نفع في الغرب.

المعرب
طه حسين

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤