الفصل الثاني

مصادر بسيكولوجية أظهرها التحقيق في أمر التعليم

لماذا كان الإصلاح مستحيلًا

١

كان التحقيق البرلماني الذي نُشر منذ أعوام في إصلاح التعليم الثانوي أكمل مصدر يمكن أن يُرجع إليه في حال هذا التعليم الحاضرة وفي نتائجه، فالباحث النفسي الذي يريد أن يعرف الآراء السائدة في فرنسا بشأن هذا التعليم ملزم أن يرجع إلى هذه المجلدات الستة الضخمة التي تشتمل على التقارير التي قدمها من استشير من رجال التعليم وغيرهم، فأساتذة الجامعة والمدارس الدينية والعلماء والأدباء وأعضاء مجالس الأقاليم ورؤساء الغرف التجارية وغيرهم كل أولئك قد بسط في هذا التحقيق آراءه واقتراحاته في الإصلاح بحريةٍ كاملة.

فإذا قرأت هذه المجلدات فقد وقفت لا على الإصلاح الذي يجب اتخاذه، ولكن على الحال النفسية للذين قدموا هذه الاقتراحات، فكلهم من طبقة المفكرين الذين يدعون دائمًا بالطبقة الحاكمة.

في كل صفحة من صفحات هذا التحقيق تُظهر خِلالَنا وعيوبنا، وقد يحتاج أمهر الباحثين في علم النفس إلى أعوامٍ طوال ليعلم ماذا يمكن أن تنتج له هذه المجلدات من النتائج العلمية.

ومع أن هؤلاء المفكرين يدورون دائمًا في دائرة ليس للنفوس اللاتينية أن تتجاوزها، فإن مشروعات الإصلاح التي عرضوها قد كادت تتجاوز العد، ومع ذلك فليس من هذه المشروعات واحد استطاع أن يظفر بالموافقة العامة، فكثير من الأشخاص الممتازين استطاعوا أن يؤيدوا بنفس الأدلة المعينة مشروعات متناقضة، فبعضهم يقترح إلغاء تعليم اللاتينية واليونانية، وآخرون يعتقدون أن إصلاح التعليم لن يتم إلا إذا أُتقن درس هاتين اللغتين ولا سيما اللغة اللاتينية، ويؤكدون أن «الاتصال بالعقل اللاتيني يلهمنا آراء عامة شاملة»، ولكن علماء نابهين يعلنون أنهم لم يستطيعوا قط أن يفهموا معنى هذه «الآراء العامة الشاملة» التي لم يوفق أحد قط إلى تعريفها ويلحون في الاقتصار على درس العلوم، فيجيبهم علماء ليسوا أقل منهم خطرًا بأن هذا التعليم الذي يُقترح إذا نُفِّذ كان خليقًا أن يغمسنا في بربرية عقلية غليظة، كلٌ يطلب أن تنسف البرامج نصرًا لاقتراحاته الخاصة.

ولكن إذا كان الذين اشتركوا في هذا التحقيق قد أجمعوا على وجوب تغيير البرامج، فليس منهم من فكر في تغيير المناهج التي تدرس بها هذه البرامج وما تشتمل عليه.

ولقد كان يظهر أن هذا الموضوع أساسي، ولكن أحدًا من الأساتذة الذين تكلموا أمام لجنة التحقيق لم يعرض له، كلهم يؤمن إيمانًا قويًّا جدًّا بما للبرامج من المزايا وليس منهم من يؤمن بقوة المناهج، ذلك أنهم قد نشئوا متأثرين بالمناهج القديمة، فهم لا يستطيعون أن يتصوروا إمكان استكشاف مناهج جديدة.

وأخصُّ ما دُهشت له حين قرأت هذه المجلدات الستة الضخمة هو هذا الجهل التام الذي يحيط بعلمائنا النابهين، جهلهم المبادئ الأساسية النفسية التي يجب أن يقوم عليها التعليم والتربية، لا تنقصهم في ذلك الآراء الأساسية، فلهم رأي قد بلغ من الانتشار والبداهة في أنفسهم أن أصبح من المستحيل أن يناقش.

هذا الرأي الأساسي الذي يقوم عليه التعليم في جامعتنا هو: أن الذاكرة وحدها هي الطريق التي تسلكها المعلومات إلى عقولنا لتستقر فيها، وإذن فيجب أن يعتمد على ذاكرة الطفل وحدها لتربيته وتعليمه، ومن هنا كانت أهمية البرامج المتقنة التي تنتج الكتب المدرسية المتقنة، فأساس التعليم يجب أن يكون استظهار الكتب والدروس.

مثل هذا التصور يمثل أشد الأغلاط الأساسية للجامعة خطرًا وشرًّا، ومن استمرار هذا الخطأ في الشعوب اللاتينية نتج أن انحطاطهم الذي لا شك فيه فيما يتصل بالتربية والتعليم.

سيُدهش علماء النفس في المستقبل حين يرون أن جماعة ضخمة من العلماء والمجربين قد اجتمعت للتشاور في إصلاح التعليم فلم يخطر لواحدٍ منها أن يلقي هذه المسألة: بأي طريق تصل المعلومات إلى العقل؟ وبأي وسيلة تثبت فيه؟ وماذا يبقى من هذه المعلومات التي لا تصل إلى العقل إلا بواسطة الذاكرة؟ فهل متاع الذاكرة قادر على البقاء؟

الجواب على هذه المسألة الأخيرة يجب أن يكون واضحًا منذ زمن طويل، فإذا كان قد بقي فيه شيء من الشك فإن مجلدات التحقيق كفيلة بإزالته، فإن تقريرات الأساتذة الذين هم أشد الناس اختصاصًا في الأمر مجمعة على أن شيئًا مما حفظ التلاميذ لا يبقى في نفوسهم بعد أن تمضي أشهر على الامتحان، وقد أثبتت التجربة أن المعلومات التي تصل إلى العقل بواسطة الذاكرة لا تثبت فيه إلا قليلًا.

إذن فليس من شكٍ في أن المناهج الأساسية للتعليم في الجامعة سيئة، ويجب البحث عن مناهج أخرى، ولقد كان كتَّاب التحقيق يؤدون إلى بلدهم أعظم خدمة لو أنهم وضعوا البحث العلمي عن هذه المناهج موضع مناقشتهم البيزنطية في البرامج وما يتصل بها، وإذ لم يفعلوا ذلك فلنحاول نحن فعله في هذا الكتاب، وسنُظهر أن التربية ليست إلا الفن الذي يمكِّن من تحويل الشعوري إلى اللاشعوري، وإنما سبيل ذلك إيجاد الحركة اللاإرادية التي ينشأ عنها تشابه الخواطر المتكررة الذي ليس للذاكرة فيه إلا أثر قليل، فالمربي الماهر يستطيع أن يوجِد الحركة اللاإرادية النافعة ويقضي على التي لا تنفع أو على التي تضر.

فكل التعليم خاضع لمبادئ نفسية قليلة سهلة، فإذا أمكن فهم هذه المبادئ كانت منارًا يُهتدى به في أحرج المواقف وأشدها ضيقًا، هذه المبادئ التي يحسها المربون الأجانب إحساسًا غريزيًّا مجهولة في فرنسا، جهلًا بلغ من الشدة أن أصبحت الجمل التي تدل عليها كأنها جمل لا تشتمل إلا على المتناقضات.

٢

إذن فكل ما اشتمل عليه التحقيق من بحثٍ لم يتناول إلا إصلاح البرامج، ومع ذلك فقد غُيرت هذه البرامج التعسة التي يُظن أنها أصل الشر كله قبل أن تظهر نتيجة التحقيق، ولقد اشتملت الأربعون عامًا الأخيرة على تغييرات لنظام التعليم الموروث عندنا تكررت ست مرات، ومع ذلك فإن فشل هذه المحاولة لم يرشد أحدًا إلى أنها غير نافعة.

إن إضافة هذه القوة العجيبة إلى البرامج مظهر من مظاهر هذه الأغلاط التي اختص بها الجنس اللاتيني، والتي ليس إلى شفائها سبيل والتي كلفتنا كثيرًا منذ قرن مضى، فنحن نعتقد أن إصلاح الأشياء يمكن أن يتحقق بإصدار الأوامر واتخاذ القرارات دون ملاحظة الظروف والأطوار، هذا المبدأ عام يتناول السياسية والاستعمار والتربية، وقد اتخذناه دائمًا فكان فشلنا فيه يعدل حرصنا عليه، كذلك كانت الدساتير المختلفة التي وضعت لتكفل لنا السعادة، كانت كثيرة غير نافعة كما كانت البرامج التي وضعت لتكفل لنا التربية الحسنة، كأن هذه الأمم اللاتينية لا تستطيع أن تثبت إلا على الاحتفاظ بخطئها.

لم يتفق الذين أبدوا آراءهم في التحقيق إلا على شيءٍ واحد هو نتيجة التربية والتعليم في الجامعة، فقد أجمعوا جماعًا يوشك أن يكون تامًّا على أن هذه النتيجة سيئة بغيضة، ذلك أن آثار التعليم ظاهرة فلم يكن بد من أن يقف عليها كل باحث، أما الأسباب فخفية ليس من السهل استكشافها، ومن هنا لم يصل إليها الباحثون.

كل الذين تكلموا أمام المحققين إنما فكروا على الطريقة القديمة التي يمتاز بها الجنس اللاتيني، والتي أظهرت في غير هذا المكان أنها أقوى من أن تقاوم، ولم يكن بد من الجهل الذي ينتج عن مثل هذا التفكير ليغفل هؤلاء الناس عن أن البرامج ليس لها أثر في هذه النتيجة السيئة، فإن برامج مشابهة لها في ألمانيا مثلًا تنتج نتيجة أخرى.

خرجت جامعتنا العتيقة واهنة من هذا التحقيق، فقد فقدت المدافعين عنها حتى الأساتذة الذين أنشأتهم بطرائقها، فإن اختلافهم الشديد في كل مسائل التعليم، وقصور ما عرضوا من طرق الإصلاح، والإصرار المتصل على تغيير البرامج، كل ذلك يدل دلالة واضحة على أننا لا ينبغي أن ننتظر من الجامعة نفعًا، فهي كالسفينة المعطلة تعبث بها الأمواج والرياح، فهي لا تعلم ماذا تريد ولا تعلم ماذا تستطيع، وهي تدور في ضروب من الإصلاح الكلامي دون أن تفهم أن طرائقها وروحها قد بليت بِلًى عظيمًا، وأصبحت لا تلائم أي فرعٍ من فروع الحياة في هذا الجيل، فهي لا تتقدم خطوة حتى تتأخر خطوات، فهي تقرر في يوم إلغاء درس الشعر اللاتيني ثم تصبح فتضع مكانه درس العروض اللاتيني، ولقد استحدثت الجامعة تعليمًا تسميه التعليم الحديث ألغت فيه درس اللاتينية واليونانية ووضعت مكانهما درس اللغات الحية، ولكنها تدرس هذه اللغات الحية كما تدرس اللغات الميتة غير معنية إلا بأسرار الأدب ودقائق النحو، حتى إن الطالب ليدرس فيها سبع سنين ثم لا يستطيع أن يقرأ ثلاثة أسطر دون أن يلجأ إلى القاموس فيبحث فيه عن كل كلمة، يخيل إليها أنها تدخل إصلاحًا عظيمًا على التعليم إذا ألغت شهادة الدراسة الثانوية، ولكنها تخلق مكان هذه الشهادة شهادة أخرى لا تخالف الأولى إلا في أنها تسمى شهادة الدراسة، كل إصلاح ممكن في الجامعة ينحصر في أن توضع كلمات مكان أخرى، لقد وصلت الجامعة من أطوار الفناء إلى هذا الطور الذي يسبق الموت والذي يعجز الشيخ فيه عن أن يتغير.

هنالك شيء لا تراه الجامعة مع الأسف، لم تره لجنة التحقيق لأنه يتجاوز حدود الآراء اللاتينية التي أشرت إليها آنفًا، وهو أن الذي يجب تغييره إنما هي مناهج التعليم التي تدرس بها المواد التي اشتملت عليها البرامج.

ذلك أن هذه المناهج القديمة عقيمة بغيضة إلى النفوس، شعر بذلك مفكرون ممتازون مثل «تين» وأعلنوا آراءهم فيها متشددين، فقد أظهر هذا المؤرخ النابه في أحد كتبه الأخيرة أن جامعتنا ليست إلا نكبة من النكبات وأنها تقودنا في رفقٍ إلى الانحطاط، ولم ير الجمهور في ذلك إلا تهكم فيلسوف، ولكن التحقيق أظهر أن هذا التهكم لم يكن إلا حقيقة مؤلمة.

ولئن عجز أكثر الباحثين عن أسباب انحطاط التعليم فإن رداءة هذا التعليم كانت ظاهرة قبل التحقيق، فمنذ أعوام كثيرة كان الأستاذ هنري دفيل يقول في جلسةٍ علنية من جلسات المجمع العلمي: «أنا أحد أعضاء الجامعة منذ زمنٍ طويل وسأحال قريبًا إلى المعاش، ومع ذلك فأنا أعلن بكل صراحة ما أعتقد وهو أن الجامعة على نظامها الحاضر تسوقنا إلى الجهل الذي ليس فوقه جهل.»

وفي نفس هذه الجلسة كان أستاذ الكيمياء المعروف دوماس يشير إلى أنه: «قد ظهر منذ زمن طويل أن نظام التعليم إذا لم يُغير كان شرًّا على هذا البلد منتهيًا به إلى الانحطاط.»

ولكن ما بال هذه الأحكام القاسية التي تصدر عن علماء نابهين لا تنتج إلا تغيير البرامج؟ ما الأسباب الخفية التي تمنع تحقيق كل إصلاح نافع؟

٣

من اليسير أن ترى عيوب أي نظام من النظم القائمة سواء أكان نظامًا سياسيًّا أم نظامًا من نظم التعليم، من اليسير أن ترى هذه العيوب وأن تدل عليها، فإن النقد السلبي يقع في متناول الأذكياء العاديين، ولكن هؤلاء الأذكياء لا يستطيعون أن يتبينوا ما يمكن تغييره، مع ملاحظة المؤثرات المختلفة كالجنسية والبيئة وغيرهما، تلك المؤثرات التي تعتمد عليها هذه الأشياء المستحدثة، ذلك أن الشعور بمعنى الإمكان وتقديره خصلة حرمتها شعوب كثيرة أخصها الشعب الفرنسي.

فإذا امتحنت ما عرضه بعض الذين استشيروا في التحقيق من إصلاح أساسي، عرفت أنه يخلو لا من كل قيمة نظرية فحسب، بل من كل ما يسمح بإمكان تحقيقه، يخلو من كل ذلك لأسبابٍ سنبينها: وأهم هذه الأسباب أنه إن تحقق صدم رأيًا عامًّا قويًّا جدًّا في هذه الأيام، إن التعليم عندنا ومناهج التعليم على الأخص قد بلغت أشد ما يمكن أن تبلغ من السوء، ولكنها تلائم أهواء الرأي العام الذي عملت هي في تكوينه، وإن نظرة موجزة تلقيها على ما عرض من طرق الإصلاح لتبين لك السبب في أن تحقيقه غير ميسور.

فقد عرض بعضهم مثلًا أن نسلك مسلك الإنجليز فننقل المدارس الثانوية إلى خارج المدن؛ لنمنح التلاميذ من الهواء والفضاء ما هم في حاجة إليه للعب والتمرين، فقد يظهر هذا أن الإصلاح حسنًا جدًّا، ولكن الإحصاء يدل على أن المدارس الثانوية القليلة التي أُنشئت خارج المدن وأُنفقت عليها النفقات الضخمة ووفرت فيها أسباب الدعة والترف لا تكاد تُملأ؛ لأن الأسر تحرص على أن تحتفظ بأبنائها … فهذا وحده يكفي ليبين لك أن هذا الإصلاح المقترح ليس سهل التحقيق؛ إذ كيف يمكن إكراه الأسر على أن تغير آراءها في هذا الموضوع؟

وقد عُرض أيضًا أن تُستبدل باللاتينية واليونانية اللتين لا نفع لهما لغات حية نافعة جدًّا، وقد يكون هذا الإصلاح نافعًا ولكن أين السبيل إلى تنفيذه وقد أظهر التحقيق أن الأسر نفسها هي التي تحرص على اللاتينية واليونانية؛ لأنها تعتقد فيما أظن أن درسهما يشرف أبناءها ويميزهم من العامة، وكيف تستطيع الدولة أن تنزع من نفوسها مثل هذا الخطأ؟

ويُعرض علينا أيضًا أن نسمح للتلاميذ المسجونين بشيءٍ مما يستمتع به التلاميذ الإنجليز من هذه الشخصية وهذا الاستقلال، وليس أحب إلينا من ذلك، ولكن كيف نستطيع أن نطلب إلى نظار المدارس مثل هذه التجربة ونحن نقرأ في التحقيق أن المحاكم قد أثقلت بعضهم بالغرامات الضخمة؛ لأن بعض التلاميذ الذين كلفوا العناية بهم قد جرحوا في ألعابهم.

ومن أشد الإصلاحات التي عرضت سذاجة وإن كان قد وجد أنصارًا كثيرين، هذا الإصلاح الذي يقضي بإلغاء الشهادة الثانوية، على أن تستبدل بسبع شهادات أو ثمان تُنال في آخر كل سنة بعد امتحان يقال له امتحان المرور، والغرض من هذا الإصلاح إعفاء التلاميذ الأغبياء من إضاعة أوقاتهم في المدارس، ذلك اقتراح قد يكون حسنًا جدًّا من الوجهة النظرية ولكن كيف يمكن تحقيقه؟ فإن الإحصاء الذي أعلنه المسيو بويسون يظهر لنا أن عدد الناجحين في الشهادة الثانوية يكاد يعدل خمسة آلاف في السنة يقابله مثله من الراسبين الذين أضاعوا أوقاتهم في المدارس، وذلك يعطي فكرة سيئة جدًّا من الأساتذة والبرامج التي تُوصل إلى مثل هذه النتيجة، ولكن أترى إلى المدارس الثانوية التي تزاحمها المدارس الدينية مزاحمة شديدة والتي يصيب ميزانياتها العجز في كل سنة، أترى إلى هذه المدارس تخسر خمسة آلاف من تلاميذها في كل سنة، ذلك أن لجان الامتحان التي تجرأ على إخراج مثل هذا العدد من المدارس لتستأثر به المدارس الدينية، لا تلبث أن ترى نفسها موضع سخط الأسر وضغط السلطة العامة فتميل إلى الرفق والتلطف، وتقبل كل التلاميذ ويعود الأمر إلى ما هو عليه اليوم.

هناك مصلحون آخرون يقترحون علينا أن ننسخ التربية الإنجليزية؛ لأنها من غير نزاع أرقى من تربيتنا بما لها من تأثيرٍ في تنمية الخلق وإظهار الشخصية وتقوية الإرادة، وبما لها من هذه الميزة الخاصة التي يظهر أننا لا نلتفت إليها وهي أخذ النفوس بحب النظام. هذا الإصلاح حسن جدًّا من الوجهة النظرية ولكنه مستحيل التحقيق، ذلك أن هذا النظام قد وضع لشعبٍ يمتاز بخلال موروثة تلائمه، فليس من الممكن أن يُنقل إلى شعبٍ آخر بخصالٍ مناقضة كل المناقضة لتلك الخلال، على أن التجربة لن تستطيع أن تثبت ثلاثة أشهر، فلست أعرف أسرة فرنسية تسمح بأن يعود ابنها من المدرسة وحده دون أن يرافقه من يأخذ له تذكرة من المحطة ويعينه على أن يركب الأمنيبوس، ويلفته إلى أن يلبس معطفه مخافة البرد ويلاحظه ملاحظة دقيقة حتى لا يسقط تحت عجلات القطار وهو يمشي أو تحت العربات في الشارع، أو أن يصيب عينيه بعض الأذى وهو يلاعب أترابه حرًّا، فلو أن أبناء هذه الأسر الحريصة استمتعوا بما يستمتع به أطفال الإنجليز من الحرية، فتركوا لأنفسهم يؤدون واجبهم متى شاءوا وكيف شاءوا ويلعبون دون مراقبة أشد أنواع اللعب عنفًا وخطرًا، ويخرجون كما يشاءون، لأجمع الناس على الشكوى، فلا يكاد يقع أول حادث حتى ترتفع أصوات الأسر بالشكوى وتجمع الصحف على السخط والإنكار، وما هي إلا أن يُسأل الوزير في مجلس النواب ويُكره على أن يعيد النظام القديم أو يسقط، ولقد عرفت سيدة محترمة أصابتها أزمات عصبية قوية وأنذرت زوجها بالطلاق؛ لأنه استمع لنصيحتي حين أشرت عليه بأن يرسل ابنه إلى ألمانيا ليمكث فيها أشهرًا بعد أن أتم درسه في فرنسا،١ فجعلت تقول كيف يمكن لأب بر بابنه حدب عليه أن يتركه يسيح وحده في ألمانيا وهو غر ناشئ لم يتجاوز الثامنة عشرة، وقد اضطر الأب إلى أن يعدل عن هذه الفكرة.

وربما لم تكن هذه السيدة الجليلة مخطئة حين شكت في كفاية ابنها للحياة وحده في سياحة قصيرة، فإنه لا يملك هذه الكفاية بوراثة ولا بتعليم فكيف يمكن أن يكتسبها؟

وإذا كان الإنجليز لا يحتاجون إلى من يدبرهم؛ فذلك لأن في نفوسهم ميلًا قويًّا إلى النظام يمكنهم من أن يدبروا أنفسهم، فليس في الأرض شعب يفوقهم في النظام وإجلال السنن الموروثة والعادات المقررة، ومن هنا استغنى الإنجليز عن هذه الرقابة الدائمة؛ لأن النظام طبيعة من طبائعهم، ثم إن تربية رياضية شديدة جدًّا تقوي في نفوسهم هذا النظام ولا تعصم التلميذ من التعرض لأخطار لن يسمح الأب الفرنسي بأن يتعرض لها ابنه، وإذن فيجب أن نقتنع بأنه ما دام الرأي العام الفرنسي كما هو فقليل جدًّا من نظم التعليم والتربية يمكن تغييره إلى أن يتم تطور هذا الرأي العام نفسه.

فلنعرض إذن إعراضًا تامًّا عن هذه الاقتراحات العظيمة الضخمة، اقتراحات الإصلاح فهي لا تنفع إلا لتكون مادة كلام كثير لا نفع فيه، ولنلاحظ أن برامج التعليم عندنا قد غُيرت مرات دون أن يُنتِج تغييرٌ شيئًا، ولنلاحظ بوجهٍ خاص أن الألمانيين مع أن برامجهم لا تخالف برامجنا إلا مخالفة قليلة جدًّا قد استطاعوا أن يحققوا رقيًّا عظيمًا في العلم والصناعة جعلهم في مقدمة الشعوب جميعًا، فلنلاحظ هذه الحقائق ملاحظة جيدة فلعل ذلك يوصلنا إلى العلم بأن البرامج كلها ليست ذات خطر، وإنما الأمر كل الأمر في استخدام هذه البرامج، لا تدل البرامج على شيءٍ وليس لها في نفسها قوة ما.

فسواء فُصِّلت أم أُجملت فكلها يشتمل على ما يأتي: تعليم الشبان مجملات من العلم والأدب والتاريخ وشيئًا من اللغات القديمة أو الحديثة، فمناهج التعليم التي لا توصل إلى هذه الغاية عقيمة ومهما تغير من البرامج فلن تصل إلى شيءٍ دون أن تغير المناهج، فإذا جاء اليوم الذي نفهم فيه هذه الحقيقة عرف الأساتذة أن الذي يجب تغييره إنما هي المناهج لا البرامج، وما دامت هذه الحقيقة لم تملأ الرءوس والأفئدة حتى تصبح مصدرًا من مصادر العمل، فسنظل على ما نحن عليه من خطأ ووهم دون أن يشعر أحد بأن التعليم يستطيع أن يكون كلسان إيزوب مصدرًا للخير كله أو مصدرًا للشر كله.٢

وإذا كان كل إصلاح أساسي يجب أن يمس المنهج لا البرنامج فليس من شك في أن اقتراحات الإصلاح التي قدمت إلى لجنة التحقيق ليست عظيمة النفع، فهي لا تمثل إلا أقوالًا معادة، وكل ما يمكن أن يقال في البرامج إنما هو: أنها كلما كانت قصيرة كان نفعها عظيمًا، لا ينبغي أن يتجاوز البرنامج الكامل للتعليم خمسة وعشرين سطرًا، ينص بعضها على أن الطالب ليس مكلفًا أن يدرس من كل علمٍ إلا أصولًا قليلة، ولكن يجب أن يدرسها درسًا عميقًا.

٤

نظن أن القارئ قد بدأ يشعر بهذه المصاعب الخفية التي تعترض إصلاح التعليم، ومع ذلك فنحن لم نتعرض بعد لأشد هذه المصاعب عسرًا وأطولها بقاء وأعصاها على الإصلاح، نريد نفسية الأساتذة.

لم تحفل بها لجنة التحقيق مرة واحدة، ولم تكن تستطيع أن تفعل، ذلك أن الذين تكلموا أمام لجنة التحقيق كانوا مقتنعين بأن الأساتذة الذين أُفعموا علمًا وشهادات لا يمكن أن يكونوا موضوع مناقشة، ولا يمكن أن يفكر أحد في إصلاحهم لأن يمثلوا الكمال العلمي.

ومع ذلك فهذه النقطة التي لم يُلتفت إليها هي العقدة الأساسية التي يجب أن تحل ليمكن إصلاح التعليم.

لقد نثرت لجنة التحقيق أزهارها على الأساتذة وأشبعت البرامج قدحًا وذمًّا، ومع ذلك فقد كان يجب العكس، فلنفترض أن قوةً ساحرة أزالت مرة واحدة كل تلك العقاب التي لاحظناها آنفًا ورأينا أنها تحول دون إصلاح التعليم، فانمحت أوهام الأسر وسخافاتها وتغيرت البرامج والمناهج، أتظن أن كل شيء سيتغير؟ كلا، ليس شيء بمتغيرٍ ولا يمكن أن يتغير شيء!

ولَمَ؟ لشيءٍ سهل واضح وهو أن نفسية الأساتذة التي كوَّنتها الجامعة ليست ممكنة التغيير، ذلك أنهم تكونوا بمقتضى تلك الأصول القديمة فلا يستطيعون أن ينفذوا غيرها بل لا يستطيعون أن يفهموا غيرها، قد وصلوا جميعًا إلى سن لا يمكن أن تُستأنف فيها التربية.

نعم سيقبلون طائعين كما فعلوا من قبل تغيير البرامج، وسينحنون متواضعين أمام المنشورات الوزارية، ولكنهم سيظلون يُعلِّمون كما كانوا يُعلِّمون من قبل؛ لأنهم لا يستطيعون أن يفعلوا غير هذا.

وسيُظهر ما ننقله من نصوص التحقيق أدلة واضحة على أن من المستحيل أن يغير الأساتذة طرائقهم في التعليم، منذ سنين خطرَ لأحد وزراء المعارف وهو المسيو ليون بورجوا أن يُصلح التعليم وحده، وذلك بأن ينشئ شهادة ثانوية جديدة يسميها الشهادة الثانوية الحديثة، تكاد تضمن لصاحبها مزايا الشهادة الثانوية القديمة، وبمقتضى برامج هذه الشهادة قامت اللغات الحية مقام اللغات القديمة وقويت دراسة العلوم، كان كل شيء في البرامج حسنًا، فلم يبق إلا الأساتذة الذين ينفذونه، ولكن أساتذة الجامعة علَّموا اللغات الحية كما يعلِّمون اللغات الميتة غير معنيين إلا بدقائق النحو، ودرسوا العلوم بواسطة الكتب الدراسية … وكانت النتيجة كما سنرى سيئة.

يجب أن ننصف علم الكتب الذي يؤثره أساتذتنا، فهم قد علَّموا تلاميذهم كل ما يمكن أن يدرس بواسطة الكتب، ولكن مذهبهم في التربية والتعليم لا قيمة له، وقد أشار بعض الذين تكلموا في التحقيق إلى ذلك إشارة خفية مع شيء من الحياء، وإنما ظهر خارج التحقيق أفراد مستقلون دلوا على مواطن الضعف التي تزداد ظهورًا من يومٍ إلى يوم.

على أن ضعف أساتذتنا في طريق التربية والتعليم يدهش بعض الأجانب الذين زاروا معاهدنا العلمية وشهدوا بعض الدروس فيها، فقد نقل مسيو مكس ليكلير بهذه المناسبة مقالًا نشرته مجلة التعليم الدولية، فيه رأي أستاذ أجنبي زار بعض مدارسنا في باريس والأقاليم، يقول: «إنه لقي ناسًا كثيرين متعلمين حقًّا، ولكنه لم يلق إلا قليلًا جدًّا من الأساتذة والمربين، فأما رجال الإدارة في المدارس فقد رآهم غير مستنيرين ورآهم مغرورين حمقى ضيقي العقول.»

وليس عهدنا بمثل هذا النقد حديثًا، فقد كتب المسيو بريال الأستاذ بكوليج دي فرنس منذ أربعين سنة هذه الأسطر ينقد فيها أساتذتنا:

«كانت جماعة الأساتذة في الجامعة تمثل آراء الأمة في سنة ١٨١٠، فلما كانت سنة ١٨٤٨ وصلت هذه الجماعة من التأخير إلى حيث استطاع كاتب أجنبي أن يقول فيها ما يأتي: لقد وقفت طبقة الأساتذة في فرنسا عن الحركة، حتى أصبح من المستحيل أن تجد طبقة أخرى في هذا الوقت الذي عم فيه الرقي، ولا سيما في أشد الأمم حركة تستطيع أن تثبت مع هذا الرضا في الطريق المعبدة المألوفة، وتدفع مع هذه الكبرياء وهذا الغرور كل منهج أجنبي وترى الثورة في أقل تغيير.»

ما مصدر هذا القصور في التربية، هذا القصور الذي لا يُنكر والذي أصاب أساتذتنا؟ مصدره بكل سذاجة كما قدمت هي هذه المناهج التي كوَّنت عقولهم، فهم يعلمون ما تعلَّموا ويعلِّمونه كما تعلَّموا.

وما قيمة هؤلاء الأساتذة الذي كونتهم مبادئ الجامعة؟ وما نفعهم في تعليم الشباب وتربيته؟ ما قيمتهم والمبادئ التي كونتهم تنحصر في درس الكتب ليس غير؟ هؤلاء الأساتذة الذين هم الضحايا التعسة لأسوأ مذهب من مذاهب التعليم عرفه الناس، لم يتركوا قط مجالس التلاميذ إلا ليرقوا إلى مجالس الأساتذة، مجالس التلاميذ في المدارس الثانوية أو في مدرسة المعلمين أو في أقسام الجامعة، أمضوا خمس عشرة سنة من حياتهم يخضعون للامتحانات ويتقدمون إلى المسابقة، أما واجباتهم في مدرسة المعلمين فقد كانت معدة إعدادًا ضيقًا لكل يوم واجبه، كل شيء يجري طبقًا لنظام مهلك، ولم يكن برنامج الامتحان ليترك ظلًّا من الحركة لهؤلاء العبيد، عبيد العلم … وقد تكلفت ذاكرتهم جهدًا فوق الطاقة الإنسانية لتستظهر ما وعته الكتب، آراء الآخرين وعقائد الآخرين وأحكام الآخرين، ليس لهم علم بالحياة وتجاربها؛ لأنهم لم يتكلفوا قط عملًا شخصيًّا ولا حكمًا شخصيًّا ولا إرادة شخصية، يجهلون الجهل كله هذا المجموع الدقيق الذي تتكون منه نفسية الطفل، يجهلون الطرق التي يصلون بها إلى نفوس تلاميذهم، مثلهم في ذلك مثل الفارس الجاهل امتطى فرسًا جموحًا، يتلون وهم أساتذة هذه الدروس التي تلوها وهم تلاميذ، ومن اليسير أن يوضع الفونوغراف على كرسييهم فيؤدي عملهم.

اضطروا إلى أن يدرسوا أشياء معقدة دقيقة ليكونوا أساتذة، وهم يعيدون هذه الأشياء المعقدة الدقيقة أمام تلاميذهم.

في ألمانيا، حيث لا يوجد هذا النظام الرديء نظام المسابقة، تعرف قيمة أساتذة التعليم العالي بأعمالهم الشخصية وفوزهم في التعليم الحر الذي يجب أن يبدءوا به، أما في فرنسا فتعرف قيمتهم بمقدار ما يستطيعون أن يتلوا في المسابقة.٣

وإذا كان عدد الطلبة ضخمًا دائمًا وعدد المناصب الخالية نحيفًا دائمًا، فقد تبالغ في هذا المعنى ليقل الناجحون، فمن استطاع أن يتلو دون أن يتردد أكثر ما يمكن من الصيغ والعبارات، ودل على أنه قد خزن في رأسه أعظم مقدار من السخافات وتكلفات العلم والنحو فهو فائز منتصر على خصومه، ولقد لاحظ أحد الممتحنين في مسابقة الأستاذية منذ عهد قريب جدًّا وهو المسيو جوليان، لاحظ في مجلس المعارف الأعلى أن لجنة الامتحان كانت هلعة من هذا الجهد الذي يطلب إلى ذاكرة الطلبة، وهو يرى أن الذاكرة إذا كانت أداة تستحق الإعجاب، فهي ليست إلا أداة يجب أن تسخر لمزايا أخرى يمتاز بها الأستاذ حقًّا، وهي النقد والمنطق وحسن المنهاج والقصد وحسن المدخل ونفاذ البصيرة وقوة الحدس وبعد النظر وسعته، وسهولة الإلقاء ووضوحه وصحة اللفظ وقوته.

ليس من شكٍ في أن هذا الممتحن الجليل قد أصاب فيما لاحظ، ولكن بين الملاحظة وبين العمل بون شاسع، وستظل الذاكرة دهرًا طويلًا، ما بقي نظام المسابقة المزية الوحيدة النافعة لمن يتقدم للامتحان، فسيجتنب الطالب ما استطاع كل عمل شخصي حتى ولو ملك الوقت والقدرة عليه؛ لأنه يعلم حقًّا أن الممتحنين في جميع درجات الامتحان يمقتون ذلك مقتًا شديدًا.

فإذا أنفق الرجل خمسة عشر عامًا من حياته مكدسًا في ذاكرته كل ما يستطيع تكديسه دون أن يلقي نظرة واحدة على العالم الخارجي، دون أن يُمرِّن مرة واحدة قوته الشخصية أو إرادته أو حكمه … فأي خير يمكن أن يُرجى منه؟ لا يرجى منه شيء إلا أن يتلو لتلاميذه البائسين بعض ما كان يتلو قديمًا.

نعم يُذكر بين أساتذة الجامعات أشخاص ممتازون استطاعوا أن يفلتوا من هذه المناهج السيئة التي خضعوا لها، كما يُذكر أثناء الطاعون بعض الأطباء الذين يفلتون من العدوى، ولكن هؤلاء الأشخاص قليلون جدًّا!

ومع ذلك فالجامعة مدينة بحياتها لمكانة هؤلاء الأشخاص الممتازين، ولكنك إذا لاحظت الأساتذة رأيت أن أكثرهم لا يستطيع أن يخلص من شر النظام القديم الذي خضع له، فكم من رأس قوي ذكي إبان الصبا قد أفسده التعليم، فأصبح لا يصلح إلا لتلاوة الدرس أو القيام بالامتحان في أعماق الأقاليم، وهو يثق بأن قوته قد فنيت فأصبح لا يقدر على شيء آخر، وكل تسليته إنما هي تأليف هذه الكتب التي تسمى كتبًا أولية، بحث شاحب يظهر في جميع أجزائه هذا الضعف الشديد وهذا الحرص على ألوان من الدقة غير النافعة تعلِّمها الجامعة، يُخيل إلى هؤلاء الناس أنهم يدرسون العلم حين يُعقِّدون أسهل المسائل ويردون إلى الغموض أشدها وضوحًا، ولقد نشر مسيو فوليه الذي يظهر أنه أحسن الدرس لما كتب رفاقه طائفة غريبة جدًّا من هذه الآداب المدرسية، ومن أغرب هذه الآداب كتاب أستاذ خصصه للمدارس الثانوية وقرَّظته المقامات العلمية العالية، «وقد أعلن المؤلف فيه أنه تعمد إلغاء الاصطلاحات والمناقشات حتى لا يخيف الكتاب الطلاب الأطفال الذين تنقصهم التجربة؛ ولهذا يحدثهم عن الشطر ذي الأقدام الخمس الذي يوضع مكانه أحيانًا شطر ذو أقدام سبع يصحبه عادة شطر ذو أقدام ثلاث …»٤

وعلى نفس هذه الطريقة تؤلف كتب العلم، وقد أستطيع أن أمثل لذلك بكتاب في الطبيعة ألفه أحد خريجي الجامعة الحائزين لشهادة الأستاذية، وقد كتبه للذين يطلبون الشهادة في العلوم الطبيعية والمواليد الثلاثة، وهؤلاء كما سترى من التحقيق ليس لهم إلا معلومات ضئيلة جدًّا في الرياضة، وقد كلف المؤلف نفسه عناء لا حدَّ له ليملأ صُحفه بشروحٍ وتفصيلات لا فائدة فيها، هذا الأستاذ واثق بأن واحدًا في الألف من التلاميذ يستطيع أن يفهم هذه الصيغ الغامضة ولكن ماذا يعنيه من ذلك، فلما تغيرت البرامج ازدادت كتب التعليم تعقيدًا حتى أصبحت لا تقرأ، ولقد أظهر المسيو بروكر الأستاذ بمدرسة فرسايل الثانوية في مقالة نشرتها مجلة التعليم الثانوي ١٥ يونيو سنة ١٩٠٤ هذه الثرثرة غير النافعة التي تمتلئ بها الكتب التعليمية في المواليد الثلاثة، وهو يضرب لذلك أمثالًا محزنة نروي لك واحدًا منها لا نختاره وإنما نأخذه بطريق المصادفة قال: «هناك مؤلف آخر ذهب في ذلك مذهبًا بعيدًا جدًّا، فأصبح تعقيد لفظه وليس له مثيل، فهو يختار الألفاظ الغريبة العسيرة للمعاني السهلة التي يعرفها كل الناس.»

فإذا كان أساتذتنا لا يلقون إلى الطلبة إلا تعليمًا رديئًا، فمصدر ذلك كما قلت أنهم يعلِّمون ما تعلموا في الجامعة وبنفس الطريقة التي تعلموا بها، وما دام أساتذة الجامعة يتخيرون بالطريقة التي يتخيرون بها الآن فلا سبيل إلى إصلاح شيء في تعليم الجامعة.

ومن أهم الأسباب التي جعلت التعليم الألماني على اختلاف درجاته أرقى من التعليم الفرنسي أن الأساتذة الألمانيين يختارون بطريقة مخالفة لاختيار الأساتذة الفرنسيين، فقد وجد جيراننا السر الذي يمكنهم من حمل الأساتذة على العناية بالطلبة وعلى أن ينزلوا بالتعليم إلى حيث يستطيع الطلبة أن يفهموه، وذلك شيء يسير فإن الطلبة هم الذين يؤجرون الأساتذة، وإذا كان لكل نوعٍ من أنواع الدرس طائفة من الأساتذة الأحرار فالطالب يختار أحسن هؤلاء الأساتذة تعليمًا، فهذه المنافسة تكره الأساتذة على أن يستبقوا في العناية بالطلبة.٥

ذلك أن الأستاذ يعلم أن الطريقة الوحيدة التي توصله إلى منصب الأستاذ في الجامعة إنما هي أن يجمع حوله كثيرًا من الطلبة وأن ينشر كتبه الخاصة، وهو يعلم أن جل ما سيجر عليه هذا المنصب من المنفعة المادية إنما هو يدفعه الطلبة من الأجر، أما في فرنسا فأستاذ الجامعة عامل من عمال الحكومة له وظيفة معينة، فليس يعنيه أن يستأثر بعقول سامعيه ولا أن يجتهد في الملاءمة بين قوته وقواهم، ولسنا في حاجةٍ إلى أن نتعمق في بحث الطبيعة الإنسانية لنحكم بأن الأستاذ لو كان مأجورًا لطلبته لأصبحت منفعته الخاصة موضوع بحثه وعنايته، ولأصبح بحكم هذا العامل القوي مضطرًا إلى تغيير مناهجه التعليمية، فإذا كان عاجزًا عن تغييرها فسيضطره منافسوه إلى أن يترك الميدان.

ولكن مع الأسف الشديد ليس إلى هذا التغيير الأساسي سبيل لأنه يخالف طبيعتنا اللاتينية، ومع هذا فإن هذا التغيير نافع جدًّا؛ لأنه يصلح التعليم العالي أولًا ثم التعليم الثانوي بعد ذلك، ولقد حاول أفراد قليلون جدًّا إيجاد هذا النوع من النظام التعليمي فاضطهدتهم الجامعة اضطهادًا شديدًا حين أحست نجاحهم؛ ذلك أنها لا تحتمل إلا المحاولات التي لا أمل لها في النجاح، ولقد أذكر أن الدكتور ف. أعدَّ منذ عشرين سنة درسًا خاصًّا للتشريح كان الطلبة يحضرونه على أن يدفعوا أجرًا ضخمًا، ولكنهم كانوا على ثقة بأنهم سيدرسون التشريح، بينما كانت الدروس الرسمية في الجامعة لا تعلمهم إلا شيئًا قليل الفناء، ومع أن هذه الدروس الرسمية كانت مجانية، فقد كان الطلبة ينصرفون عنها انصرافًا تامًّا. فأصبح الدكتور ف. وتلاميذه موضوع اضطهاد شديد من الجامعة، حتى اضطر بعد أن جاهد عشر سنين إلى أن يلغي درسه.

فأنت ترى أننا الآن بعيدون جدًّا عن البرامج وأن ذلك يدل على أن هذه المحاولات الكثيرة التي يراد بها تغيير هذه البرامج، وأن هذه الصحف الكثيرة التي نشرت في ذلك كل هذا لا ينفع ولا يفيد، فليس البرنامج إلا مظهرًا تستطيع أن تغيره كما تشاء دون أن تغير ما وراءه من الأشياء الحقيقية ذات الأثر الحقيقي، فمن السهل أن تعنى بالمظاهر لأنك تراها، ومن العسير أن تعنى بالحقائق لأنك تميزها.

٥

أنا أرجو أن أكون قد استطعت إثبات أن مسألة إصلاح التعليم أشد تعقيدًا مما ظن أعضاء لجنة التحقيق البرلمانية، ولسنا نزعم أن هذا الإصلاح مستحيل، وقد لا يوجد المستحيل بالقياس إلى الإرادة القوية، ولكن قبل أن نصلح بمقتضى المصادفة كما نفعل منذ زمن طويل، وكما نستمر الآن على أن نفعل يجب أولًا أن نعرف حقائق الأشياء التي نريد إصلاحها، فإن الاستمرار في جهل هذه الحقائق يضطرنا ألا نغير إلا الألفاظ، نحدث الاضطراب في العقول ويصبح التعليم أشد انحطاطًا مما كان قبلًا.

وإنما اجتهدنا في تحقيق المسائل الأساسية للتعليم؛ لأن لجنة التحقيق لم تتصور هذه المسائل تصورًا واضحًا.

ومع ذلك فهذا التحقيق الضخم لا يخلو من نفع، فقد أظهر لنا أشياء كثيرة كنا نتخيلها دون أن نعرفها حقًّا، وقد أظهر بنوعٍ خاص حياتنا العقلية وأن الداء الذي نريد أن نطب له أبعد غورًا مما كنا نظن، ونحن نعلم أن نتيجة هذا التحقيق كانت مشروع إصلاح عُرض على مجلس النواب وأُقر بعد مناقشةٍ قصيرة، في هذه المناقشة تكلم وزير المعارف فقال أقوالًا عظيمة جدًّا ليؤيد أشياء ليست بذات خطر، وليس من شك في أن قوته الفلسفية أقوى وأعظم من أن يعتقد أن هذه الأشياء التي كان يدافع عنها تستحق هذا العناء، فقد غيرت عنوانات قليلة، ولقد قال أحد النواب وهو المسيو ماسي في هذا المشروع: «إنه أشبه شيء بواجهة البيت قد أنفقت فيها الأموال الطائلة؛ لتخدع الناس عما وراءها من بناء قديم لم يتغير فيه قليل ولا كثير.»

كل هذه الإصلاحات التي تتناول البرامج وتتكرر من حينٍ إلى حين تخلو من النفع خلوًّا تامًّا، وسيظل التعليم عندنا كما هو ما بقيت مناهج التعليم دون أن ينالها تغيير، ولا أزال أكرر أن كل تغيير سيظل مستحيلًا حتى تشعر الأسر والأساتذة والمشرع بالحاجة إليه، وكل تحقيق برلماني مهما يكبر فغايته أن يستخفي بعد قليل تحت التراب الذي يتراكم عليه في دور الكتب، ولقد احتجت إلى مقدارٍ عظيم من الصبر لأقرأ هذه المجلدات الستة الضخمة التي تناولت إصلاح التعليم، ويخيل إليَّ أن قليلًا من المعاصرين وفقوا إلى هذا الصبر.

ولقد أصبحت مسألة التعليم والتربية في هذه الأيام عظيمة الخطر، فخُيل إليَّ أن من النافع أن أدرس هذه المجلدات الضخمة وأستخرج خلاصتها فأرتبها ترتيبًا علميًّا وأناقشها أحيانًا، وكل النصوص التي رويتها قد صدرت عن أشخاصٍ مسئولين، عن أشخاص يستطيعون أن يتكلموا في بلدٍ شديد ترتيب الطبقات كبلدنا، عن أشخاص يستطيعون وحدهم أن يؤثروا في نفوس الأسر فيغيروها قليلًا، وتغيير الآراء هو أول ما ينبغي أن نُعنى به الآن، فإذا تم هذا التغيير وإذا تم فحسب، أمكن التفكير في إصلاح التربية والتعليم، ومصاعب هذا التغيير عظيمة جدًّا، ومع ذلك فليست أصعب من أن تذلل، فلم يحتج العالم إلى رسل كثيرين لإحداث الأديان الكبرى التي غيرت نظام الحياة، وإنما احتاج إلى غير قليل من هؤلاء الرسل، فكل هذه الحركة التي نشأ عنها التحقيق واضطربت لها الجامعة ليس لها مصدر إلا جهاد رجل قوي عامل هو المستكشف بونفالوه.

وإذا كان قد عجز كما عجز الذين وضعوا مجلدات التحقيق الستة عن إظهار الطريق التي يجب أن نسلكها، فقد وفق إلى إظهار أن الطريق التي نسلكها الآن سيئة جدًّا، كان كبطرس الناسك فاستطاع أن يهز الرأي العام ويصرفه عن إهماله القديم، وما هي إلا أن التف حوله في تواضعٍ أكبر رجال الجامعة، مستعدين لتحطيم هذا الصنم الذي كانوا يعبدونه من قبل.

فإذا جاء اليوم الذي يفهم فيه الرأي العام مقدار ما جرت علينا الجامعة من شرٍ، ويقارن بين هذا الشر وبين ما تنتجه الجامعات في البلاد الأخرى من الخير، نقول إذا جاء هذا اليوم انهدم نظام التعليم عندنا رأسًا على عقب كهذا البناء البالي الذي يظهر أنه قوي متين لأن أحدًا لا يمسه، في ذلك اليوم لا قبله نستطيع أن نحاول الوصول إلى ما وصلت إليه الشعوب الأخرى بواسطة أساتذتها.

يصل اللاتينيون إلى تربيةٍ صحيحة تسمح لهم بأن يصعدوا هذا المنحدر، منحدر السقوط الذي يهددهم الآن، يجب علينا أن نحاول ما وفق إليه الألمان، لقد فكروا تفكيرًا طويلًا في هذه الكلمة البعيدة الغور التي قالها ليبنتز: «أعطني تربية صالحة، أُغيِّر وجه أوروبا في أقل من قرن.»

١  إن صحت هذه الرواية فهذه السيدة نادرة جدًّا في فرنسا ولعلها مريضة، فنحن نعلم أن الفرنسيين لا يرسلون أبناءهم فحسب إلى البلاد الأجنبية للتمرين وإتمام الدراسة وإنما يرسلون بناتهم أيضًا، وكثيرًا ما تسافر الفتاة الفرنسية وهي في السادسة عشرة إلى إنجلترا وألمانيا بل وإلى أمريكا، نعم يحتاط الفرنسيون لأبنائهم وبناتهم فينزلون في الأسر، ولكن هذا الاحتياط لا بأس به ولا سيما من الوجهة الخلقية (المترجم).
٢  إذا أردت أن تقدِّر النتائج السيئة لتعليمٍ لا يوافق حاجة الشعب الذي يتلقاه ولِما يحدث هذا التعليم في ذلك الشعب من إخلال التوازن بين القوى وإضعاف الهمم، فانظر إلى هذه التجربة العظيمة الواسعة التي قام بها الإنجليز في الهند، فقد فُصِّلت نتائج هذه التجربة في خطبة افتتاح لمؤتمر المستعمرات الذي كنت أحد رؤسائه سنة ١٨٨٩، وقد لخصتُ هذه الخطبة في الطبعة الجديدة لكتابي حضارة الهند، فإن نظام التعليم والتربية الذي هو جيد منتج عند الإنجليز قد ظهر بغيضًا إلى الهنود عندما أراد الإنجليز تنفيذه في بلادهم.
٣  في هذا إسراف كثير جدًّا، فقد رأينا نظام التعليم والامتحان والمسابقة في جامعات فرنسا، ويجب أن نعترف بأن ليس من الحق في شيء أن الأساتذة يعتمدون على الاستظهار أو يقنعون بالتلاوة، وإنما هم يوجهون العناية كلها إلى الملكات الفعلية التي تفكر وتميز وتحكم، وما يقوله المؤلف هذا إن صح في عصرٍ من العصور هو متوسط القرن الماضي، فليس يصح في هذا العصر ولا سيما منذ تحقق الإصلاح الأخير في آخر القرن الماضي (المترجم).
٤  ليست الترجمة قادرة على أن تعطي في العربية صورة حقيقية من الأصل؛ لأنه يورد اصطلاحات من العروض مقتبس أكثرها من اليونانية، وليس لها مقابل في اللغة العربية بل ولا في الفرنسية نفسها، ولهذا أعرضنا عن بقية هذه الاصطلاحات؛ إشفاقًا على وقتنا ووقت القارئ من الضياع في غير فائدة (المترجم).
٥  يلاحظ أن نفس هذه الطريقة موجودة في الجامعات الكبرى بفرنسا مع هذا الفرق وهو أن الطلبة لا يؤجرون الأساتذة وإنما الدولة هي التي تؤجرهم، وقد عنيت الجامعات الكبرى بأن يكون فيها لكل مادة من مواد الدرس أساتذة متعددون يقع بينهم هذا التنافس العلمي الخالص الذي لا ينتظر الأستاذ من ورائه ثروة ولا مالًا؛ لأن الدولة قد ضمنت له مرتبه وإنما ينتظر من ورائه شيئًا واحدًا هو النفع والمجد المشروع، ولقد رأينا هذا التنافس في باريس فاضطرنا إلى ألا نؤثر أستاذًا على أستاذ، وإلى أن نجتهد في الاستماع لأساتذة التاريخ القديم جميعًا، ولكن المؤلف كغيره من الفرنسيين لا يرضون عن شيء في بلادهم ويعجبون بكل شيءٍ خارجها، وربما كان في هذا خير، ولكنَّ فيه شرًّا كثيرًا (المترجم).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤