الذنب

كانت تجري فوق الممر والصفارة بين شفتيها. قدماها داخل الحذاء المطاط، ورأسها ملفوف بالطرحة. القرص الذهبي يهتزُّ فوق نهديها. جسدها يرتجُّ مع الجري.

دخلت غرفتها وأغلقت الباب. أسندت رأسها إلى الباب ووقفت تلهث. سقطت الصفَّارة من فمها. قبضت عليها بأصابعها وراحت تضغط. يدها الأخرى فوق صدرها، تلامس القرص الذهبي، تزحف تحت الثوب الأبيض، تحت النهد الأيسر، وتحت الضلوع تزحف. هناك تحسُّه تحت يدها متكورًا كالورم، مختفيًا وراء جدار القلب، متراكمًا السنة وراء السنة. ثلاثون سنة.

أصابعها رمادية تعلوها رعشة منذ انفتحت البوابة ورأتها تدخل وهي تحسُّ الضربات تحت ضلوعها. كانت جالسة في غرفة المدير حين لمحتها تدخل من البوابة، وغامت عيناها تحت سحابة. امتلأت السماء بشبورة رمادية. بدا وجه المدير من وراء الزجاج أبيض بلون الطباشير، وشعر رأسه يتساقط، والجير فوق الجدران يتساقط، وأوراق الشجر تسقط والريح تُصفر من بعيد.

– يا هووووه …

يسري الصفير في أذنيها كملايين الأصوات تهتف. يذوب الصوت في لحن خافت يُشبه حفيف الهواء. يحرِّك رءوس الأشجار. يهزُّ الأسلاك فوق السور العالي. يتردَّد الصدى في أنحاء السراي الضخمة. بين الجدران المشققة، يجتاز الممرَّات والسراديب البعيدة. تلتقطه الآذان المرهفة خلف الأبواب المغلقة، والعيون المفتوحة طوال الليل وراء النوافذ. لها قضبان على شكل مربَّعات من الحديد. من وراء كل مربَّع تطلُّ عين كالنجم. مملوءة بالوهج. كالضوء يملأ العين لحظة اكتشاف الموت. كالعقل يتوهَّج بالإدراك قبل الانطفاء.

– يا هوووووه …

يتردَّد الصوت كآلاف الأنفاس الغائبة في النوم. يجتاز السور العالي ويسري إلى المدينة. كانوا يسمُّونها القاهرة، من الفعل الماضي قهر، والمضارع يقهر. يقهر قهرًا فهي مقهورة وليست قاهرة. يسير أهلُها فوق الأرصفة بوجوه طويلة شاحبة. عيونهم نصف مغمضة وأفواههم نصف مفتوحة. يتطلعون إلى السراي من بعيد، يرسمون فوق صدورهم علامة الصليب، أو علامة الهلال. يستعيذون بالله من الشيطان، فالسراي لها هيبة الشياطين، ورهبة الآلهة في الزمن القديم منذ سيدنا نوح. في النهار صفراء بلون الرمال ورياح الخماسين، وفي الليل تُصبح كتلة من السواد تتحرك داخلها أشباح بيضاء، يطلُّون من وراء مربعات سوداء، أو يسيرون كالأرواح الهائمة في أرض جرداء حول السراي يسمُّونها الحديقة. تنبت فيها بعض الأشواك حشائش شيطانية، وأعمدة حجرية تعلوها نقوش فرعونية. الإله رع وعجل أبيس، وأشجار عتيقة عمرها ألف عام أو أكثر. لا أحد يمكن أن يحدِّد عمرَ أية شجرة. الجذع يمتدُّ عاليًا في السماء، أو قصيرًا مقطوعًا بلا رأس، القشرة سوداء تعلوها تجاعيد غائرة في الساق حتى النخاع.

الزمن من شدة القدم، يبدو ساكنًا بلا حركة، بلا وجود، والصمت مكتمل إلا همس خافت. حفيف هواء. صفير طويل ممدود بامتداد الأفق. ملايين الأصوات التي تصنع صمت الليل.

– يا هووووووو …

أذناها مرهفتان وهي واقفة في نافذتها العلوية، بغير قضبان، فهي الرئيسة. يأتيها الهواء من الشرفة البحرية. ستارة شفَّافة تهتز، مشغولة بالإبرة الكروشيه. سرير له أعمدة نحاسية من فوقه لحاف من القطن له غطاء من الساتان الأحمر. فوق الجدار صورتها داخل إطار مذهَّب وهي تتسلم الوسام، واقفة فوق درجة السلَّم، منحنية بنصفها الأعلى للأمام. ذراعها اليمنى ممدودة وأصابعها مفرودة. تمدُّها عن آخرها وتنحني بجذعها. رأسها يكاد يصطدم بالمنصة العالية. ذراعها الطويلة مهما امتدَّت لا تجتاز المسافة. مسافة عريضة من الخشب مرصوص فوقها الأوسمة. بحركة أخيرة تشرئبُّ بعنقها مائلة بجسمها إلى الأمام. يصطدم رأسُها بحافة المنصة. تقبض بيدها اليمنى على الوسام. تمدُّ يدها اليسرى للمصافحة. تتذكَّر فجأة أن المصافحة لا يجوز أن تكون باليد اليسرى. في يوم القيامة يصافح الناس ربَّهم باليد اليمنى. هكذا قال لها جدُّها، والجنة تكون عن يمين السراط المستقيم، ونار جهنم على اليسار، وإبليس يقف دائمًا على اليسار.

أصابت يدَها رعدةٌ. تصوَّرت أنهم سيسحبون منها الوسام لأنها مدَّت يدها اليسرى للمصافحة. قبل أن تلحظها العيون نقلت الوسام من يد إلى يد، ومدَّت ذراعها اليمنى طويلة نحو المنصة.

في الحلم كانت تعود إليها المصافحة، وهي ليست مصافحة بالكامل. لأن «اليد» فوق المنصة لم يكن لها خمس أصابع. أو لأن الأصابع الخمس كانت ملتصقة بعضها ببعض. متقلِّصة داخل قفَّاز مشدود كالجلد. منكمشة داخل الذراع الملاصقة للصدر، والصدر عريض صلب داخل درع من الحديد. تعلوه أوسمة ونياشين تلمع، وعنق يلتوي إلى أعلى كعنق الديك الرومي ومن فوقه الوجه المربَّع. رمادي بلون حجر المقطم. ثابت في الهواء كرأس أبي الهول.

لم تكن ذراعه تمتدُّ لتجتاز المنصة. لا يجوز أبدًا أن تمتدَّ لأكثر من مسافة صغيرة محسوبة بالمليمتر، ولا بد لليد الأخرى أن تمتدَّ المسافة كلها، ومعها الذراع أيضًا، ومع الذراع العنق، ومع العنق ينحني الجسم كلُّه إلى الأمام بزاوية حادة. حينئذ فقط يحدث التلامس. أطراف أصابعها تلامس طرفَ يده أو إصبعه، في حركة خاطفة كالبرق، صاعقة كالكهرباء. ففي هذه اللحظة تسقط عليها كشافاتُ الضوء، وتظهر الصورة في الصحف. يبدو وجهها أبيض بلون الماغنسيوم المحروق في الفلاش. أسنانها بيضاء عارية في ابتسامة أو انفراجة واسعة في الفم، على شكل اعوجاجة.

منذ الإله رع يقف الوالي فوق هذه المنصة، وينظر بطرف عين إلى شيء ما، فتحل به الروح، وقد تُصبح العصا الخشبية مثلًا ثعبانًا يسعى أو سحلية، وفي عهود الملك أو الرئيس كان يكفي لطرف الإصبع أن يلامس اليد من عامة الناس فتصبح المرأة رئيسة، ويصبح الرجل مديرًا أو وزيرًا، ويسجِّل اسمه في اللوح المحفوظ. يحفرون الاسم الثلاثي بإزميل فوق قرص من المعدن. ذهب أو فضة أو برونز أو نحاس، حسب الدرجة واللقب واسم الجد، ويشبك فوق الصدر بدبوس.

هيبة عريقة ممتدة في التاريخ. منذ العجل أبيس، والمنصَّة هي المنصَّة من خشب الشجر المقطوع الرأس، والرءوس هي الرءوس. لها شكل بني آدم وبنات حواء، والانحناءة هي الانحناءة بزاوية حادة، ولا بد للركبة اليمنى أن تنثنيَ مع العنق، وهو واقف داخل بدلة صاحب الجلالة. أو صاحب المعالي. أو صاحب السيادة، والرأس هو الرأس مربع بلون الجرانيت. له قمةٌ مدبَّبة كالهرم، تعلوها ريشةٌ، أو ذؤابة شعر يطيِّرها الهواء، والهواء يصفِّر بصوتٍ كالريح من بعيد.

– يا هوووووو …

كانت لا تزال واقفة تحملق في الصورة. الصفَّارة سقطت من فمها ورقدت فوق صدرها الذي يعلو ويهبط. أصابعها تتحسَّس النقوش فوق القرص الذهبي. سطحه ناعم كالحرير. حروف اسمها الثلاثي محفورة، وتعرُّجات بارزة خشنة الملمس، وصوت المدير في أذنيها يدوِّي: «وسام الشرف لأدائها الواجب وقدرتها على إسعاد الآخرين».

بطن يدها مبلَّل بالعرق. عيناهما تدوران فوق الجدران سوداء مشقَّقة. السقف أجرب سقط منه طلاءٌ في بعض الأجزاء. رسمت الأجزاء الساقطة صورة رأس له قرنان ملتويان إلى الأمام. لمبة كهربية صفراء تتدلَّي من سلك طويل أصفر. ماتت فوقه ذبابة سوداء. تتشبَّث بالسلك الكهربي لا تريد السقوط.

مدَّت يدها المبلَّلة بالعرَق خارج النافذة. عروق بارزة زرقاء تحت الجلد المكرمش. تُشبه يدَ جدتها. صوتُها يهمس كالفحيح: قادرة على إسعاد الآخرين وعاجزة عن إسعاد نفسها؟ صدرها يعلو ويهبط في أنفاس متلاحقة تلهث وهي واقفة كأنما تجري، من وراء الباب المغلق تسمع الصوت. شهقة منقطعة، أو نهنهة. تنهيدة طويلة ممدودة بامتداد الليل.

– يا يا يا يا يا نر نر نرجس!

يسري الصوت في أذنيها كصوت أمِّها يناديها، أو جدَّتها الميتة، أو امرأة أخرى من القريبات أو الجارات أو زميلات المدرسة. يصمت الليل وينقل الهواء النداء عبر المساحات السوداء الممدودة. كالناي المنفرد الحزين، وهي راقدة في سريرها متكوِّرة كالجنين. تغطِّي نفسها باللحاف القطني، من الرأس إلى القدم. تخشى أن تطلَّ برأسها من تحت الغطاء. فهو واقف وراء الشمَّاعة. طويل عريض يُمسك ضلفة الباب. يرتدي جلباب جدِّها الميت، وطربوش أبيها الأحمر. رأسه كبير مربع كرأس المدير. عنقه طويلة تلتوي إلى أعلى كالديك الرومي. في يده عصا الشيخ بسيوني. تتلوى في الهواء كالثعبان. يتنكَّر في ثياب العرس. بدلة سوداء «سموكنج»، وربطة عنق معقودة تحت ذقنه على شكل فيونكة، «بابيون»، بين شفتَيه «البايب» أو غليون أسود، يلتوي إلى الأمام كقرن أبيس أو زلومة الفيل.

كانت تعرف أنه ليس إلا روحًا من الجن، وهي تؤمن بوجود الجان، ورد ذكرُه في الكتاب، وهو يختفي إذا أضاءت اللمبة الكهرباء. تخشى أن تُخرج يدها من تحت اللحاف لتضغط على الزر، ولا يمكن أن تنهض إلى المرحاض أو بيت الأدب. فهو لا يستقرُّ إلا في ذلك المكان. تحبس البول في جسدها طوال الليل. عقلها الباطن يقِظ ولا يمكن أن تُبلِّل الفراش وإن غابت في النوم.

في الصباح ترتدي مريلة المدرسة. ينام عقلُها الباطن وهي تمشي، وعقلها الظاهر ينفصل عن جسمها. حقيبة الكراريس تحت إبطها. قدماها داخل حذاء من الجلد الأسود، تربطه بحزام وزرار أبيض، ينزلق من الفتحة وهي تمشي. بطنُ يدها مبلَّل بالعرق. تخشى أن تفتح أصابعها، وتخشى أن تفتح ساقَيها أكثر مما يجب. بينها وبين جسمها حاجزٌ كاللوح الزجاجي، والناس حين يرونها سائرة في الطريق يتوقَّفون. ينظرون إليها كأنما من خلال الزجاج. تراهم يبحلقون نحوها بعيون ضيقة نصف مغمضة. تغطِّيها طبقة من الماء، والعالم كله يموج من وراء الماء كأنما هو غير حقيقي، وهي تحمل جسمًا غير حقيقي تحاول أن تُخفيَه عن الأعين.

لكن الأعين قادرة على اختراق الزجاج. ترقب كلَّ حركة يقوم بها أيُّ عضو، محبوس داخل اللحم، نحيف وشفَّاف كالزجاج. يسمح بمرور الضوء دون الهواء. تمدُّ عنقها إلى أعلى بحركة يظنها الناس كبرياء، وهي حالة من الاختناق. تحاول أن تختلس نسمة هواء.

كان الطريق إلى المدرسة طويلًا، وهي تمشي بجسمها النحيف الطويل. تخشى أن تفرد قامتها فتصبح أطول من الرجال. تطأ أرض الوطن بقدمَين خفيفتين، تخشى أن تدوس فوق الوطن بأكثر مما يفرضه حبُّ الوطن. حول عنقها سلسلة تتدلَّى منها صورة الملك أو الرئيس أو ناظر المدرسة. أو مجرَّد حروف منقوشة بالخط الكوفي باسم «الله». تهتزُّ الصورة فوق نهديها وهي تمشي. تنحني بجسمها إلى الأمام كأنما تبغي الفرار. ذراعاها تتحركان بجوار جسمها إلى الأمام والخلف. طرف إصبعها يلامس ردفَها من الجانب. تريد أن تختفيَ قبل أن يراها أحد، وإذا ما رآها أحد هزَّت رأسها بحركات متتالية، كأنما تعتذر عن وجودها في الكون. تبتسم خجلًا من هذا الوجود المفروض عليها، وهذا الجسم الذي لا بد أن يكون غير مرئي. أو مجرد روح بلا لحم. يتحرك في الطريق غير قابل للمس.

كانت تريد أن تمشيَ. ترى الآخرين ولا أحدَ يراها. تُحلِّق في السماء وترى الله دون أن يراها. لم يكن لأحد من البشر أن يرى الله وجهًا لوجه، هكذا قال أبوها. تجرأ واحد من الرسل لعله سيدنا موسى أو سيدنا إبراهيم، ونظر إلى الله. صعقه الضوء كالكهرباء، وخر إلى الأرض صريعًا. أسنانه تصطك بالحمى.

أرادت أن ترى الله دون أن تُصعق، ودون أن تصطك أسنانها، وأن تسمع صوته بدلًا من صوت إبليس. وكان إبليس يوسوس لها بالليل، تُخفي رأسها تحت اللحاف، تضغط الوسادة فوق رأسها. تقرأ آية الكرسي. تستنجد بالله أن ينقذها، لكن الله كان يتركها وحدها لإبليس. يسري صوته في أذنيها طوال الليل. ممدودًا بامتداد الظلمة. يهمس بصوت ناعم كصوت أمها. يمشي في عروقها دافئًا كالدم، ولا شيء ينقذها من إبليس إلا النوم.

وفي الصباح تمشي وهي تخفي صدرها بحقيبة الكتب، والعيون تتسع حين تراها في الطريق، كأنما يسمعون معها إبليس في الليل. أو كأنما لا يحق لها المشي، أو أنهم يملكون الطريق، وهي لا تملك منه شيئًا. الرصيف أيضًا يملكونه، وهي لا تملك شبرًا واحدًا من أرض الوطن، ولا عقارًا، ولا بيتًا، ولا شيئًا يملكه أبوها، إلا هي وأمها ومعاش من الحكومة، لا يكفي الغموس مع الخبز، وتبتسم في خزيٍ وتعتذر عن فقرها، وفقر أبيها وجدِّها، ثم ترفع عنقها في كبرياء، تتذكَّر فجأة أنها تملك الجنة في السماء، وتحتقر الأملاك فوق الأرض.

تدوس بنفسها فوق الأرض، فإذا العيون تتسع مبحلقة، كأنما هي تدوس بحذائها على الوطن. تطرق برأسها خزيًا وتهزُّه عدة مرات، تنفي عن نفسها الخيانة، ثم ترفع رأسها فتراهم محملقين، عيونهم تبحلق في جسمها، كأنما هي جسم يختلف عن سائر الأجسام. تنتمي إلى فصيلة الثدييات.

تهمس لنفسها بلا صوت: أنا إنسانة مثلكم، وتمشي في الطريق تبتلع الدموع. تتوقف لحظة حين ترى طفلة تبكي. او قطة تموء. أو شحَّاذًا يعرج على عكَّاز. تشارك الآخرين الألم، وفي لحظة المشاركة ينفصل جسمها عنهم. تبتعد هاربة داخل وحدتها الكاملة، ويأسها المطلق من الحياة. ينقلب اليأس فجأة إلى أمل، بلا سبب أو بسبب بسيط، كأن تلمح في الطريق ابتسامة في عين طفل. أو جروًا صغيرًا يهزُّ ذيله، كأنما هو فرح بوجودها. يلمع في عينيها شيء كالبريق. تراه في المِرآة حقيقيًّا مثل ضوء الشمس. شعاع يزحف من وراء السحابة. تمدُّ يدها لتلمسه. تُدرك من خلال المِرآة أنه غير حقيقي، ويصبح قلبها ثقيلًا. تحسُّه تحت نهدها الأيسر كالورم. متراكمًا كالإثم منذ حواء والسحلية. تلقَّى الرب من آدم كلمات فتاب عليه وحده. هكذا قال أبوها لأمها، نزلت الآية بالمفرد لا المثنى، وفي آية العصيان استخدم الله المثني لا المفرد، والله عليم باللغة وقواعد النحو. لا يمكن أن يستخدم المفرد أو المثني في غير محلِّه، ويردد أبوها كلام الله: قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة … ولا تقربا هذه الشجرة … فأزلهما الشيطان وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو …

يضغط أبوها على كلمة «عدو» ويرمق أمها بنظرة حمراء. يكرر كلمة «أزلهما» ثلاث مرات مكوِّرًا شفتَيه مع الضمة فوق الهاء، فاتحًا فكَّيه عن آخرهما مع الألف الممدودة بعد الميم «هما» مؤكِّدًا على المثنى، ثم يردِّد بصوت حاد: «فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه». يُخرج طرف لسانه وهو يضغط على الكسرة تحت الهاء، مؤكدًا على المفرد. آدم وحده هو الذي حصل على التوبة.

وترى أمها واقفة وراء النافذة، عيناها شاخصتان نحو السماء. فوق عينيها دمعة لا تجفُّ ولا تسقط. الظلمة ممدودة والسماء سوداء. لا قمر ولا نجوم، إلا نجمة واحدة معلَّقة بين السماء والأرض. ترتعش كالإثم المعلَّق لا يمسحه شيء. اسمها الزهرة. تحترق في نار لا تنطفئ. يشير إليها أبوها بإصبع مدبَّب: امرأة عاهرة! أغوت هاروت وماروت

أدركت اللعنة ولسانها يردد الاسمين، هاروت وماروت. تفتح فمها فيخرج من صدرها هواء ساخن. كأنما تلعن الاثنين، وتغلق فمها. تحبس الهواء في صدرها. يتراكم الذنب تحت الضلوع كاللحم. وعليها أن تعيش الإثم. لا توبة ولا كلمات من الرب. تحمل جسمها فوق روحها كالعبء، يتأرجح بين الحقيقة والوهم، ولا يمكن أن ترى نفسها إلا من خلال المرآة أو الزجاج في نافذة أو باب، أو صفحة الماء في الترعة أو النيل. تعيش في عالم لا تعرفه. داخل جسد لا تملكه، يملكه أبوها أو الحكومة أو جدُّها الميت، أو رجل آخر غريب الملامح نسيت اسمه، يُمسك يدها في الصورة، واليد الأخرى تُمسك وردة ميتة.

في المرآة ترى جسمها نحيفًا، تحمله فوق قدميها كأنما هو منحة من الرب، سلبها منه لحظة الولادة. تأكل قليلًا ليظلَّ جسمها كالروح بلا لحم، أو صغير الحجم لا يكبر، فلا تصلُ أبدًا إلى سنِّ المراهقة أو الطيش. أو مرحلة البلوغ وانتفاخ الرحم بالحيض.

كلمة «الحيض» ترنُّ في أذنيها لأول مرة وهي جالسة وراء التخت في المدرسة. يمطُّ الشيخ بسيوني فمَه إلى الأمام في اشمئناط. يضاعف الشدة فوق الحاء والضاد. «الحيض»، رجس من «الشيطان». يفتح فكَّيه مع الألف الممدودة بعد الطاء. الميتة والدم ولحم الخنزير. يشرئبُّ بعنقه وفتحتَا أنفه تتسعان. يدسُّ رأسه بين صفوف البنات في الفصل. يتشمَّم الرائحة، وفجأة يتوقف عندها، يشد من يدها المصحف، يمسح غلافَه بقطعة من القطن المبللة بمحلول مطهِّر.

كانت جدتها تسمِّيه النجاسة. تدخل معها الحمَّام، تغسل جسدها بالليفة والصابونة وهي تقرأ الفاتحة. تتلو الشهادة ثلاث مرات. تطرد إبليس بكوز من الماء المغلي تصبُّه فوق رأسها كوزًا بعد كوز. تصرخ من وراء الباب المغلق، تستنجد بأمِّها، لكنَّ أمَّها لا تجيء، وتقول عنه الدم الفاسد، أو المرض الشهري. ناولتها نصف دستة من الفوط. قطع مستطيلة من قماش خشن اسمه «الدمور» ولكل فوطة حمَّالة رفيعة تلتف حول الوسط.

وهي تمشي في الطريق إلى المدرسة تحس الفوطة بين فخذيها. تتكوَّر كالورم. كالإثم تظل معلقة أسفل البطن، وفي حركة المشي تنزلق إلى الوراء فوق الردفين، وفي الجلوس تحسها محشورة بين ظهرها والتخت، وإذا تحركت لتعدلها انزلق الدم كالهواء الساخن.

يدقُّ الجرس وتنتهي الحصة. تظل في مكانها جالسة تخشى أن تنهض، فإذا نهضت واقفة أحسَّت الخيط الدافئ يمشي فوق ساقها ناعمًا كذيل السحلية، يختفي داخل الحذاء، يبلِّل جوربها بلون كالحبر الأحمر. تتلفَّت حولها حتى يخلوَ الجو ثم تمشي بحذر جنب الجدار. تُخفي المريلة من الخلف بحقيبة الكتب، وفي البيت تنكفئ فوق الحوض في دورة المياه. تغسل المريلة والسروال، تغسلهما المرة تلوَ المرة، ثلاثين مرة، ولا يمكن أبدًا أن يختفيَ الأثر، أو يزول الإثم، وإن التهبت يداها من الدعك. تكوِّر السروال في يدها. تُخفيه وراء ظهرها كأنما هو الدليل. تخشى أن تعلِّقه فوق حبل الغسيل فتراه عين. تحفر له في الأرض حفرة كالقبر، تدفنه وتهيل عليه التراب، ثم تختبئ في غرفتها تحت الغطاء، كمن اقترفت جريمة. تحتضن الوسادة، وتغنِّي لها بصوت هامس كالهواء: «هوه، نامي نينا هووه …»

صوت جدتها يسري في أذنيها، تغنِّي وحفيدتها في حجرها. لم تكن حفيدتها ماتت بعد، لكنها كانت تعرف أنها حتمًا ميتة، وأنها هي هذه الحفيدة. تسمع صوتها يدندن كحفيف الهواء. يداعب زعانف النخلة. تُغمض عينيها في لذة الموتى. يتركهم الآخرون لحالهم. لا يطلبون منهم الرد أو الكلام.

كانت تكره الكلام. تختفي في غرفتها ليتركها الآخرون لحالها. لا يطلب منها أحد شيئًا. أو يوجِّه لها سؤالًا. يرتعد جسدُها حين تدخل أمُّها معها الحمام. تفتِّش بين ثنايا جسمها عن أعز ما تملكه البنات. شيء غير مرئي أسفل البطن. كالورقة الشفَّافة تمزقه نفخة هواء. ينكسر الزجاج لأقل خبطة، أو دبَّة قدمها فوق السلم. يحترق كرأس عود الكبريت، وينتهي «إلى الأبد».

تمطُّ جدتُها شفتيها وتقول «إلى الأبد» ثم تُغمض عينيها وتغيب في النوم، وهي واقفة وراء النافذة في الظلمة. يتسرَّب من عقب الباب ضوءٌ أصفر من المطبخ. تسمع صوت الماء يتساقط من الصنبور، وقعقعة الصحون في الحوض. شبشب أمِّها فوق البلاط يزحف. صوت الشارع يتسرَّب من بعيد. أضواء صفراء شاحبة تمشي فوق الجدار. تمرُّ سيارة فيطمس كشَّافها كلَّ شيء. لا تبقى إلا دائرة صغيرة كالعين الصفراء تجري فوق السقف ثم تهبط إلى الأرض وتختفي.

لم تكن تعرف أن الليل تأخَّر إلا حين تصمت الصحون، ومياه الصنبور، وينطفئ نور المطبخ، وأنوار البيوت في الشارع. لا تبقى إلا ذؤابة صفراء ترتعش في المساحة السوداء. حينئذٍ تتيه عيناها في الخضمِّ الأسود. تتعلقان بنقطة ضوء. نجمة وحيدة في السماء، أو مصباح في زورق في بحر لا تراه، ويهبط عليها الحزن فجأةً كالبرد. تسري القشعريرة في جسمها، وتفقد الرغبة في الحياة. تُحملق في وجه الليل، أو الوجوه العابرة في الظلمة، أو أوراق شجرة يحرِّكها الهواء. تمدُّ ذراعها أمامها خارج النافذة، كأنما تستعيد الصلة بينها وبين الكون. أو كأنما ستعثر في ذلك الكون على شيء. على وجه. عينان أو ذراعان تمتدَّان نحوها، وفي هذه اللحظة، في هذه الحركة الصامتة الممدودة في الظلام خارج النافذة، كأنما تجد الخلاص من الإثم، ويتسرَّب الحزن من مسام الجسد. يعود الانسجام إلى جسمها وترتدُّ إليه الروح.

في هذه اللحظة يمتلئ قلبُها بحنين غامض. كالحب الجارف. تتراءى لها صديقتُها الوحيدة قادمة، ترتدي مريلة المدرسة بلون مريلتها. بيضاء من القطن فيها مربعات زرقاء. كولة بيضاء حول العنق. في يدها حقيبة الكتب، تقذفها عاليًا في الهواء، وتتلقَّفها بيدَيها الاثنتين كالكرة. طويلة ممشوقة غير محنية الظهر. تتوهَّج عيناها بالضوء. تكاد تقفز من النافذة لتعانقها، تنطلق من صدرها الصرخة. في غرفتها تجلسها وتغلق الباب. تنفرج شفتاها المطبقتان عن سيل لا ينقطع من الكلام. تُلصق أمُّها أذنها بالباب تتسمَّع. لا تسمع إلا كلمات متقطعة كالشهقات. أو ضحكات مكتومة منفجرة بالفرح إلى حدِّ النشيج.

– ﺟ ﺟ ﺟ ﺟ ﺟ جنَّات!

– نر نر نر نر نر نرجس!

يرنُّ اسمها «نرجس» بصوت صديقتها كأنما ليس اسمَها. رنين، يبقى في الأذن، غير كل الأصوات يحلِّق في الجو دوائر من الضوء بلون الفضة. يسري في الكون كالمياه الذائبة تنحدر بين الصخور إلى الوادي، وبشرتها سمراء بلون الطمي، تلمع تحت الشمس بلون النحاس الأحمر.

في المِرآة ترى نفسها سمراء منطفئة اللون. تبدو صديقتُها كأنما هي الأصل. ليست هي إلا ظلها الداكن في الكون. أو نسخة باهتة من الكربون. يداها كبيرتان تُخفيهما في جيوب المريلة، وقدماها أكبر من قدمي النبي، هكذا قالت جدتها، تُخبئهما حين تجلس تحت التخت، ملامح وجهها تطمسها نحت مسحوق كالدقيق الأبيض، تشتريه أمُّها من الصيدلية في علبة اسمها البودرة، وتقول إن البشرة السمراء علامة القبح، أو الفقر، أو الانحدار من سلالة العبيد، والبشرة البيضاء علامة النُّبل والأصل العريق، الأشراف والأسياد، أو سلالة الملك الممدودة حتى النبي محمد .

في النوم تتكوَّر تحت اللحاف تُخفي وجهها عن الأعين، وفي الحلم يتراءى لها النبي أبيض البشرة يُشبه الملك. لم ترَ في أحلامها نبيًّا أسود اللون، والله أيضًا كانت تراه في النوم بوجه أبيض كاللبن، وإبليس كان يظهر بوجه أسمر داكن اللون كوجهها.

ولم تكن صديقتها بيضاء. كانت سمراء شديدة السمرة بلون إبليس، لكنها كانت تمشي مرفوعة الرأس، كأنما هي بنت الملك. شعرُها غزير أسود يتطاير حولها كشعر الأسد تقذفه خلف ظهرها بيدها كالفرس الحرة لا يملكها أحد، وفي العيد ترتدي ثوبًا برتقاليًّا يمتلئ بالهواء، والكرانيش تتطاير من حولها كأجنحة الفراشة.

تحت ضلوعها تحسُّ الخفقات. في أعماقها لحن يدبُّ بإيقاع راقص. سنابل القمح تتراقص تحت الشمس بالإيقاع ذاته. أوراق الشجر مع الهواء تصنع اللحن ذاته، وهي واقفة خلف النافذة، تكاد تقفز نحوها وتعانقها. تضمُّها إليها بقوة، ليذوب جسمُها في جسمها، وتصبح هي وصديقتها شيئًا واحدًا، ويختفي من الوجود اسمُ نرجس.

حين ترى أمَّها الدموع في عينيها تقول: «نرجس اسم زهرة جميلة»، وتقول لكن اسم جنَّات يا أمي أجمل، فهي جمع جنَّة، لا جنَّة واحدة فما بال زهرة واحدة يتيمة مثل نرجس؟!

إحساس باليُتم كان يملؤها وهي واقفة في النافذة، تنتظر قدومها كأنما وُلدت من أب مجهول وأم مجهولة، وأهلها ليسوا أهلها، والوطن ليس وطنها. تعيش من أجل لحظة واحدة، أن تُصبح هي وصديقتها شخصًا واحدًا. يملؤها الأمل من شدة الحب، ويملؤها الخوف من أن يأتيَ يوم فلا تراها. أو تمد يدَها لتُمسكها فيبدِّدها الهواء، أو تدوسها عجلات ترام أو سيارة.

حين ترى وجهها من بعيد يقترب تخشى أن يتحوَّل فجأةً إلى وجه آخر غير جنَّات، تتراجع إلى الوراء مبتعدة عنها، ذراعاها مرفوعتان لا تعانقها، ويجف حلقها لا تنطق يستمر الصمت لحظة أو لحظتين، ثم يطغى وجودُها الحقيقي على الخيال، تنفكُّ العقدة وينهمر الكلام. تسألها أمُّها عما تقوله لصديقتها هي الصامتة المقطوعة اللسان. لا تعرف ماذا تقول لأمها، فهي لا تقول شيئًا. ليست هي كلمات. مجرد همهمات كأصوات الحمام. تقرِّب الحمامة منقارها من الحمامة الأخرى، ولا ينتهي الهمس.

كانت تفهم لغة الحمام دون أن تفكَّ الخطوط، ترسمها بأرجلها كالشخبطة فوق التراب، وصديقتها كانت تقرأ حروفها. تعرف أسرار الحمام واليمام، وعصافير الجنة والفراشات. تجري وراء الفراشة بين الزرع، تُمسكها بين أصابعها. تقرِّب أذنها من فمها وتهمس لها بشيء، ثم تُطلقها في الهواء، تصفِّق بأجنحتها عاليًا محلقة في السماء.

لم تكن أمُّها تصدِّق ما تقوله صديقتُها عن لغة الطيور، وتمنعها من زيارتها، وحين تأتي صديقتُها تبقى أمُّها معهما في الغرفة. أو تُلصق أذنها بالباب تتسمَّع، وتنام تحلم بالمدرسة لتلتقي بها في الفناء. تتقافزان كالفراشتين تلعبان «الحجلة» وتتسابقان الجري. تنطَّان الحبل. تشهقان. تضحكان، تصرخان، تدبَّان فوق السلَّم، وتنسيان في غمرة الفرح أعزَّ ما تملكه البنات.

وفي حصة القراءة الرشيدة حين يلتها المدرِّسة عن أحب الناس لها لم تقل أحب أمي أو أبي، وقالت أحب جنَّات، أعطتها المدرِّسة صفرًا في الأخلاق وجنَّات أخذت صفرًا لأنها كانت تحب الطيور أكثر من أمها وأبيها، وسارت إشاعة في المدرسة عن حبٍّ آثم يزينه إبليس في عيون البنات. تصوَّرت أن معركة كانت تدور بين الله وإبليس حول قلوب البنات، وكان إبليس يأتي إليها في الليل يهمس بصوت ناعم: الحب جميل، وفي حصة الدين جعلها الشيخ بسيوني تمدُّ يدَيها أمامها. لسعها بالعصا الخيزران فوق كل إصبع ثلاث مرات، وجعلها تردِّد وراءه تسع مرات، أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.

منذ تعلَّمت النطق وهي تستغفر الله على الذنب العظيم، تُدركه بجسمها وعقلها عاجز عن الإدراك. كالورم تحسُّ الإثم بإصبعها، ينمو تحت الضلوع كالدم الساخن يتدفق في العروق. أو عود كبريت مدفون في ثنايا اللحم، يقطعه حلَّاق الصحة بالموسى، وتغرق الملاءة بالدم. تُدرك أنه الذنب المعلق في السماء إلى الأبد. أو العار لا يمسحه إلا الدم.

وتسأل أمُّها عن السبب وهي واقفة خلف النافذة. تمدُّ أمُّها عنقَها إلى أعلى. تتعلَّق عيناها بضوء صغير يرتعش في الظلمة. نجمة وحيدة تشقُّ الخضمَّ. قطرة واحدة من النور في المساحات السوداء. معلَّقة في الأفق بين السماء والأرض. ثابتة في مكانها لا تنطفئ ولا تسقط. ترفع ذراعَيها وتنشج بصوت كالغناء، أو النداء الطويل الممدود بامتداد الليل: «يا رب!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤