الأنف

إذا كان واقفًا على قدمَيْه، فلماذا لا تكون قامته بطولها المعهود؟ ولماذا لا تكون أعضاء جسمه متراصَّة بعضها فوق البعض بالترتيب القديم: الرأس فوق، ومن تحتها الرقبة، فالصدر، فالبطن، فالساقان. والقدمان أليستا هما اللتين ترتكزان على الأرض؟

يبدو أن هذا ليس هو ما يحدث. إنه واقف، هذا شيء يُدركه منذ وصل إلى هذا المكان، لكنه ليس واقفًا على قدمَيْه، وإنما على شيء مُفلطح طري له طراوة بطنه. أيكون نائمًا؟ ولكنه يرتدي البدلة والحذاء والكرافتة، الكرافتة تلتفُّ حول رقبته بإحكام، وربطتها تحت ذقنه مقوَّسة ومبرومة بإتقان. أجل، كرافتة مُحكَمة حول الرقبة، كان هذا هو شرط الدخول إلى المكان.

ما العلاقة بين شريط طويل يغطي الرقبة وبين الاحترام؟ ولكن هناك أمكنة أكثر احترامًا من الرقبة، وكان هو يحب رقبته عاريةً، وخاصةً ذلك الغضروف المدبَّب «تفاحة آدم» دليل الرجولة الذي لا يقبل الشك، لكنْ تأتي أوقات لا يحتاج المرء فيها إلى دليل الرجولة أو الرجولة نفسها. ثم ما علاقة غضروف مدبَّب في الرقبة بالرجولة؟ هذا ما لا يستطيع أن يفهمه.

لكن الأشياء تبدو أكثر وضوحًا، إنها ليست أشياء ولكنها شيء واحد، شيء واحد ابتلع كل الأشياء وأصبح ضخمًا، أكثر ضخامةً من أي شيء رآه في حياته، أكثر ضخامةً من الهرم الأكبر. حين وقف أمام الهرم كان يستطيع أن يرفع رأسه ويرى قمته، أما الآن فهو لا يستطيع أن يرى القمة، وربما لا يستطيع أن يرفع رأسه. إن رأسه ليس في ذلك الوضع الرأسي المألوف الذي يستطيع منه أن يحركه بسهولة ويرفعه، رأسه في وضع أفقي غريب، يتساوى في ارتفاعه عن الأرض مع رقبته وصدره وبطنه ومؤخرته، كأنه منبطح فوق بطنه على الأرض، أو على أقل تقديرٍ: نائم على بطنه.

لكنه واقف، إذا كان الوقوف يعني الارتكاز على القدمين. إنه مرتكز بقدميه على الأرض، هذا شيء مؤكد أو يصبح مؤكدًا الآن، والشيء الطري المفلطح ليس بطنه بأدنى شك، فهو يدوس عليه، يدوس عليه بكل ثقله حتى يكاد يغوص فيه. قد يكون الغوص هو السبب في ذلك القِصَر الشديد الذي أصاب قامته فأصبح قزمًا لا يكاد رأسه يرتفع عن الأرض.

ربما هو فخٌّ نُصِبَ له. أيُّ شيءٍ يمكن أن يكون فخًّا في هذه الأوقات، وهو بطبيعته حَذِر شكَّاك يرتاب في كل شيء، ولكن أحيانًا ما يخطئ ويثق، ليست ثقة تمامًا ولكن ثقة متشكِّكة؛ فالأشياء لا تبدو هي الأشياء، والكلمات لا تبدو هي الكلمات، بل هو أيضًا لا يبدو أنه هو. كان فارع الطول؛ إذا ما وقف على قدمَيْه ارتفَعَ رأسه فوق رقبته واستطاع أن يطلَّ بعينَيْه إلى فوق.

لكنَّ عينَيْه لا تستطيعان رؤيةَ ما هو فوق، فالبناء ضخم، أضخم من الأهرامات لو أنها تراصَّتْ بعضها فوق البعض وأصبحت هرمًا واحدًا قمته أعلى من قدرة البصر، وجسمه أكبر من حدود الحواس الخمس، بناء ضخم يحجب من خلفه السماء والشمس، ويرسم ظله الأسود الكثيف فوق الأرض وفوق البيوت والعمارات والشوارع والعربات ومباني الحكومة وقضبان الترام.

فخ لا ريب وعليه أن يتملص، لا تزال قدماه رغم كل شيء قادرتين على الحركة. حركةُ القدمين تصبح أحيانًا معجزة، يرفع قدمًا ويخفض القدم الأخرى وهكذا يتحرك، لا يعرف إلى أين يهرب، ليس مهمًّا أن يعرف، إنه قادر على التحرك، هذه القدرة في حد ذاتها شيء خارق، إنه قزم لا يكاد رأسه يرتفع عن الأرض، والبناء الضخم شامخ في السماء لكنه يستطيع أن يتحرك، أما البناء فلا يستطيع.

مقارَنة تنطوي على خبث. الخبثُ أيضًا قدرة خارقة، إنه ليس كحركة القدمين، ولكنه حركة داخل الرأس، ربما حركة جسدية أيضًا ولكنه حركة على أي حال، إنه قدرة بغير شك، وهو يفتش عن قدراته، يبحث داخل جسمه الصغير عن كل أسلحته الخفية، أَجَل الخفية، فكلُّ شيء يجب أن يعمل في الخفاء في هذه الأوقات، وبالذات حين يُواجَه المرء بمثل هذا الشيء الضخم. إنه بناء، وليس إلا بناءً حجريًّا عاجزًا عن الحركة ولكنه ضخم ضخامةً غريبة، ضخامةً تملأ المساحة بين الأرض والسماء، ضخامةً تبدو من كبرها ممتدةً بين السماء والأرض فكأنما هي شيء متحرك مع أنها جماد ثابت، كالكرة الأرضية ثابتة ومتحركة في الوقت نفسه.

وارتعدت قدماه، إنه حَذِر وشكَّاك لكنه ليس جبانًا، الحذر شيء والجبن شيء آخَر، لا يذكر أنه خاف مرة من أحد، كان إحساسه بنفسه يفوق إحساسه بالآخَرين، مجرد إحساس أو مجرد وهم، ولكن ما هو الإنسان؟ الإنسان هو ما يتوهَّمه في نفسه، وكان يتوهم أنه أقدر من الآخرين فأصبح أقدر منهم وأصبح جسمه أقدر على التهام الأكل، وفي كل مرة حين يجلس إلى المائدة ويحس ببطنه يعلو طربًا فوق فخذَيْه، يقول لنفسه: سأقلِّل من الطعام. ثم يأكل أكثر من أي مرة سابقة.

لو أكل أقل ربما كان أكثر قدرةً على الحركة، ربما كان أخفَّ وزنًا، ربما كانت مطالبه أقل، لكنَّ مطالبه كانت تزداد يومًا بعد يوم، ليست مطالبه وحده وإنما مطالب زوجته ومطالب أولاده ومعارفه وأصدقائه، لا أحد في هذه الأوقات بغير مطالب، وعليه أن يسدَّ أفواهًا كثيرة، عليه أن يدفع مقابل الوهم بأنه أقدر من الآخرين، عليه أن يدفع مقابل أي شيء وإن كان مجرد فم يُغْلَق.

وتحسَّس فمه، شفتاه موجودتان وقادرتان على الانفتاح والانغلاق. أجل، وهذا صوت يخرج يشبه صوته، إنه صوته بالفعل، النبرة المعهودة والكلمات نفسها، إن مجرد النطق معجزة في بعض الأوقات، النطق قدرة خارقة في حد ذاتها، إنه قزم لا يكاد رأسه يرتفع عن الأرض والبناء ضخم شامخ، لكنه يستطيع أن ينطق أما البناء فلا.

على أن هذا أيضًا سلاح قديم أبلاه الزمن، فهذا صوت أعلى من صوته، ونبرته أكبر وأضخم، تكاد تصم أذنَيْه الصغيرتين، قد لا يكون صوتًا بشريًّا تمامًا، والكلمات قد لا تكون منطوقة بالطريقة نفسها التي ينطق هو بها، ولكنْ هل من الضروري أن يكون كل شيء بشريًّا تمامًا؟ هل من الضروري أن يكون كل شيء مفعولًا بالطريقة التي يفعلها هو؟ لماذا يحكم دائمًا على الأشياء بجسده؟

ارتعدت قدماه أكثر، هذا البناء الحجري قادر على إصدار أصوات مسموعة في كل أنحاء السماء والأرض، ليست مسموعة فحسب ولكنها رنَّانة ضخمة تبتلع في جوفها صوتَه فلا يسمعه أحد، وهذا البناء الحجري قادر أيضًا على التحرك، ليست حركة صغيرة كحركةِ قدمٍ وراء القدم الأخرى، ولكنها حركة ضخمة جبَّارة تهزُّ الأرضَ كزلزال، وتبتلع في جوفها حركته فلا يلحظه أحد، لا أحد يسمعه ولا أحد يلحظه، فماذا يدل على أنه موجود؟ ليس هناك أي دليل.

تصبَّبَ العرق من كل جسمه، غزيرًا لَزِجًا وله رائحة، لأول مرة في حياته يشم رائحة عرقه، الرائحة نفسها التي كان يتأفَّف منها كلما اشتدَّ اقترابه من الآخرين، لو كان ميتًا لَفقد قدرته على الشم، إنه موجود إذن، وتشبثت أصابعه بأنفه؛ بهذا الدليل الوحيد على أنه لم يمت. لم يكن يهتم كثيرًا بأنفه، فالأنف لم يكن في نظره عضوًا مهمًّا، بعض الناس قطعت أنوفهم وعاشوا، بعض الناس دفنوا أنوفهم في التراب وبقيت أجسامهم تعيش وترفل في النعيم.

وارتجفت أصابعه فوق أنفه، أنفه أيضًا لم يكن مائلًا إلى أعلى في ذلك الوضع الطبيعي المألوف، كان مائلًا إلى أسفل، وأرنبة أنفه الرفيعة المدببة مرتكزة على الأرض، على حين كانت قدماه معلقتين في الهواء! كيف استطاع أن يقف على أرنبة أنفه؟ وكيف استطاعت أرنبته الرفيعة المدببة أن تحمل جسده؟

قد تكون صلاة، وربما هو نسي حركات الصلاة، أربعون سنة مضت منذ كان يصلي، كان طفلًا صغيرًا وكان هناك شيء اسمه الإيمان، ولكن ماذا يكون الآن هذا البناء الحجري الشامخ في السماء وظله الكثيف الأسود مرسوم فوق الأرض، والبيوت والعمارات والشوارع والعربات ومباني الحكومة وقضبان الترام؟

أيرجع الزمن إلى الوراء ويعود يعبد الأوثان؟

فخ لا شك وقع فيه، ونفخ من الغيظ فدخلت ذرات التراب إلى أنفه، وحاوَلَ أن يعطس أو لعله عطس فعلًا؛ فلكزه أحد في جنبه، لم يكن يدري حتى تلك اللحظة أن معه آخَرين، لكنه استطاع أن يلحظ بطرف عينه صفًّا طويلًا من الأنوف أرنبتها الرفيعة المدببة مرتكزة على الأرض، على حين بقيت الأقدام معلَّقة في الهواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤