هؤلاء

لم تكن عيناه الضيقتان الغائرتان تفصحان عمَّا يدور في نفسه، فقد كان يكسوهما غشاء رقيق نصف معتم لا يعلم أَوَرِثه عن أمه ضمن ما وَرِث من أصابع مدبَّبة وأنف كروي غليظ وقفصِ صدرٍ أجوف، أم أنه زحف إلى عينيه من زوايا جفونه النديَّة بما يشبه الطل الأبيض يتجمع من تحت الجفون أو من فوقها، أو من ثقب خفي سحري يصل ما بين أنفه وعينيه أو ما بين أذنيه وعينيه؟ لا يدري، كل الذي يدريه أن ذلك الشيء اللَّزِج يأتي كل يوم، ويتجمع دائمًا أبدًا ليستقر في النهاية عند زوايا عينيه ليأكلها أكلًا كما تأكل الدودة لوزة القطن، وتجعله يهرشها بأصابعه هرشًا جنونيًّا يريد أن ينتزعها من وجهه كما ينتزع اللوزة الفاسدة من شجرة القطن.

وجلس حسان القرفصاء يغطي ركبتَيْه المدبَّبتين كرأس العكاز بطرف جلبابه، ويمد رأسه إلى فوق ليبصر العمدة بقفطانه الواسع وكوفيته الصوفية الكبيرة جالسًا على كرسي، ومن حوله رجال جالسون على الكراسي يرتدون القفاطين والكوفيات الصوفية، وطَرَقَ أُذُنيه صوتُ العمدة القوي يقول في حماس مشيرًا بأصبعه الصغير: «إني أتكلم من أجل هؤلاء!» وتعلَّقت عينا حسان من تحت الغشاء النصف المعتم بأصبع العمدة تتبعانه إلى حيث يشير، ورأى أصبع العمدة يسير في الهواء ثم يستقر في النهاية عليهم وهم جالسون على الأرض، يغطون رُكَبهم المدببة كرءوس العكاكيز بطرف جلابيبهم، ويتطلَّعون إلى العمدة ورجاله بعيونٍ نصف معتمة وأفواه نصف مفتوحة؛ بعضهم يبتسم، وبعضهم يكشر، وبعضهم غلبه النعاس فتهدَّلت دون وعي منه شفتاه.

وهبَّتْ نسمة باردة فتقلَّصت شفتا حسان من البرد وتعلَّقت عيناه بشفتَي العمدة المتوردتين النديتين، فأخذ يبلل شفتَيْه بلعابه الشحيح، وسمع العمدة يقول مرة أخرى: «إني أتكلم من أجل هؤلاء.» وارتطمت كلمة هؤلاء بأُذُن حسان، ثم ارتَدَّت عنها ككرةٍ من المطاط ترتطم بالأرض، فمدَّ عنقه إلى اليمين وألصق رأسه برأس زميله مختلسًا من أنفاسه بعض الدفء، وهمس في أذنه: «ما معنى هؤلاء؟» وفاحت شفتا زميله بدهشة ممزوجة برائحة البصل وقال: «أَلَا تعرف معناها؟ إن معناها من أبسط ما يكون!» وسقطت بعض قطرات الخجل من رأس حسان إلى وجهه الأصفر كما تسقط قطرات الندى على صفحة البركة الآسِنة فتشيع في ركودها حركة خفيفة، وتطلَّع إلى الرجل في ارتباك وخجل وقال: «وما معناها؟» وشد الرجل عنقه إلى أعلى في خيلاء وقال: «معناها …» ثم سكت لحظةً وهو يضم شفتَيْه ويضم معهما رائحة البصل، ثم نظر إليَّ حسان وقال: «معناها أولئك، أفهمت؟» ودفس حسان عنقه في فتحة صدره وتكوَّر حول نفسه صامتًا.

ولكنه عاد فسمع العمدة يردِّد بصوت جهوري وشفتاه تزدادان تورُّدًا وانتعاشًا: «إنني أتكلم من أجل هؤلاء.» وعادت كلمة هؤلاء ترتطم بأذنه ثم ترتدُّ ككرةٍ من المطاط ترتطم بالأرض، فمد عنقه إلى اليسار وألصَقَ رأسه برأس زميله الآخَر مختلسًا بعض أنفاسه الدافئة، وهمس في أذنه: «ما معنى هؤلاء؟» ونظر إليه الرجل بعينين مُصْمَتتين مسدودتين، وتهدَّلَتْ شفته السفلى على ذقنه وهو يقول: «لا أدري.» فمدَّ حسان عنقه إلى الأمام حتى التصقت برأس الرجل الذي يجلس أمامه، واختلس بعض أنفاسه الدافئة وهمس في أذنه: «ما معنى هؤلاء؟» وتشقَّقت شفتا الرجل في تكشيرة جافة وقال: «معناها الرجال الذين يرتدون القفاطين والكوفيات الصوفية. انظر، إنه يشير إليهم!»

ورفع حسان رأسه وبربش بعينيه مركِّزًا نظراته على أصبع العمدة الصغير متابعًا حركته، حتى رآه في النهاية يستقر عليهم وهم جالسون على الأرض، فألصَقَ حسان فمه مرةً أخرى في أُذُن زميله الأمامي مختلسًا مرةً أخرى بعض أنفاسه الدافئة وهمس: «إن أصبعه الصغير يشير إلينا.» وتقلصت شفتا الرجل مرةً أخرى في تكشيرة مشفقة، وقال في غضب: «أنت لا ترى! إنه يشير بأصبعه الكبير إلى الرجال ذوي القفاطين!»

واشرأبَّ عنق حسان لتفحص عيناه أصابعَ العمدة وتعدُّها واحدًا واحدًا، وتقيسها وترقب حركاتها الصغيرة منها والكبيرة، ورأى حسان أن أصابع العمدة الخمس تتحرك مع شفتَيْه في اتجاهات كثيرة مختلفة؛ بعضها فوق، وبعضها تحت، بعضها إلى اليمين، وبعضها إلى اليسار، وبعضها في الوسط، وبعضها تحت الوسط قليلًا، وبعضها فوق الوسط قليلًا، وبعضها إلى يمين الوسط قليلًا، وبعضها إلى يسار الوسط قليلًا، وعينا حسان تروحان وتجيئان معها، وتهبطان وتصعدان حتى بدأت جفونه تفرز طلها الأبيض، وتقذف به إلى زوايا عينَيْه ليركد فيها ويأكلها أكلًا.

وخفض حسان بصره وهرش عينَيْه بأصابعه يريد أن يقتلعهما من وجهه، حتى هدأت بعضَ الشيء النارُ المشتعلة فيهما، وعاد صوت العمدة الجهوري يطرق أُذُنيه، وعادت كلمة هؤلاء ترتطم بعظام رأسه كالكرة الصمَّاء، فتلفَّتَ حوله في حيرة، إلى اليمين وإلى اليسار وإلى الأمام، وشعر بهواء دافئ يلفح رقبته من الخلف، فالتفت وراءه ورأى الرجل الجالس وراءه يتابع كلام العمدة بفم مفتوح وأنفاس لاهثة؛ فمدَّ جذعه إلى الوراء حتى لامَسَ رأسُه رأسَ الرجل، وسحب من أنفاسه الدافئة السخيَّة قدرًا كبيرًا، وألصق فمه بأُذُنه وقال: «ما معنى هؤلاء؟» ولم يلتفت إليه الرجل وردَّ عليه بسرعة: «استمِعْ وأنت ساكت، لا تتدخل فيما لا يَعْنيك!»

واستردَّ حسان فمه من أُذُن الرجل، ولملم أطرافه حول جسده وانكمش داخل جلبابه صامتًا.

ولكنَّ عينيه عادتا وتسلَّلتا رغمًا عنه لتقتفيا أثرَ أصابع العمدة، تُصِرَّان على الرؤية والمعرفة، لكن أصابع العمدة كانت تَهْذي بحركات في كل اتجاه. وتلفَّتَ حسان حوله، ورأى الرجال الأربعة يحوطونه من الأمام ومن الخلف ومن اليمين ومن اليسار، يفصلون بينه وبين الآخرين، وأن عنقه مهما امتدَّ فلن يصل إلى أكثر من فم الرجل الذي أمامه أو خلفه أو عن يمينه أو عن يساره، هؤلاء الأربعة الذين يحاصرونه ويصنعون من حوله أربعة جدران لا يستطيع النفاذَ منها.

وتململ حسان في جلسته، شيء في جسده بدأ يؤلمه، شيء كالإبرة يغزُّ في جلده ويفتح بعض مسامه المسدودة بالطين. كان هادئًا، وكان إذا جلس لا يتململ، بل يجلس ويجعل أليتَيْه تفترشان الأرضَ في ارتخاءٍ لذيذ، ويظل جالسًا مسترخيًا هادئًا يشعر بلكزة حادة في كتفه، فيقوم متثائبًا ليجمع الدود من شجر القطن، ولكنه الآن لا يستطيع أن يهدأ، ولا يستطيع أن يجعل أليتَيْه تفترشان الأرض في استرخاء لذيذ، فالإبرة تلدغه في جسده، في قفص صدره، أو في أليتَيْه، أو في عظام رأسه، لا يدري، كلُّ الذي يدريه أنها مختفية في مكانٍ تحت ملابسه، تحت جلده، تلدغه وتؤلمه وتنغص عليه جلسته.

وأخرَجَ حسان ساقَيْه من تحت جلبابه، وبعثَرَ أطرافه من حول جسده يريد أن يَنْفض عنه تلك الإبرة التي تلدغه هنا وهناك كالبرغوث الخبيث، وأحسَّ أن ذراعَيْه وساقَيْه تمتد إلى آخِرهما دون أن تصطدم بجدار من الجدران الأربعة، وتلفَّتَ حوله في دهشة ورأى العمدة قد انصرف ومن حوله الرجال ذوو القفاطين، ومن ورائهم ذوو الجلابيب؛ فانتصب واقفًا وسار في إثرهم مُسرِعًا، واستطاع أن يلحق بأحد الرجال يسير مستندًا على عكاز من الخشب، فاقترب منه وألصَقَ فمه بأُذُنه وقال: «ما معنى هؤلاء؟» واتَّكَأ الرجل على عكازه متوقفًا وقال في غضب: «أتسألني أنا؟ هل أنا الذي قلتُها؟ لماذا لا تسأل الذي قالها؟» ولوَّح بذراعه في الهواء غاضبًا، وضرب عكازه في الأرض، وراح يخُبُّ كالجَوَاد المُنهَك.

ووقف حسان في الشارع يهرش عينيه. أجل، لماذا لا يسأل العمدة؟ إنه هو الذي قالها، ولا شك هو الذي يفهمها.

وسقطت بعض قطرات الحماس من رأسه إلى وجهه الأصفر كما تسقط قطرات الندى على صفحة البركة الآسِنة، فتُكسِب ركودَها بعضَ الحياة.

وسار حسان إلى دوَّار العمدة، واقترب من بابه الخشبي الكبير فاقترب منه رجل يرتدي قفطانًا وكوفية ويحمل على كتفه بندقية، ورأى رأس البندقية مصوَّبًا إلى رأسه، فاغرًا فاه كالجرو الجائع أو كالأفعى الظامئة، وتخلخلت ساقا حسان تحت ثقل جسده، وودَّ لو هبطت أليتاه إلى الأرض واستقرتا عليها في راحة واسترخاء، لكنه استطاع أن يتطلَّع إلى الرجل ذي القفطان والكوفية، متفاديًا قدرَ طاقته النظرَ داخل الفوهة السوداء السحيقة، واستطاع رغم التصاق لسانه الجاف بحلق فمه أن ينطق بكلمات مبتورة ويقول للرجل إنه يرغب في مقابلة العمدة. ولم يعرف حسان لماذا اتسعت حدقتا الرجل وهو ينظر إليه، واقتفى أثرَ عينيه وهما تهبطان إلى قدميه، ولمح أصابعه المدبَّبة الرفيعة تكسو شقوقَها القصيرة طبقةٌ رقيقة جافة من الطين الأسود، وشعر بالرجل يقترب منه ويُمسِكه من طرف جلبابه ويجرُّه وراءَه كالجرذ الميت، ورأى حسان نفسه داخل حجرة واسعة، ورأى أمامه رجلًا آخَر يرتدي قفطانًا وكوفية ويحمل بندقية كبيرة كالمدفع، وارتعدت ركبتا حسان وهو يشيح بعينيه بعيدًا عن فوهة النار المصوَّبة إلى رأسه، لكن الرجل لَكَزه في كتفه برأس البندقية مستفسرًا عما يريد، وانتزع حسان لسانه من سقف حلقه وأخرَجَه من بين شفتَيْه اليابستين ثم أدخله وقال إنه يريد مقابلةَ العمدة، ثم أغمض عينيه وقرأ بينه وبين نفسه الشهادة.

ولم يعرف حسان ماذا حدث أثناء قراءته للشهادة، ولكنه فتح عينيه ورأى الرجل ذا القفطان والكوفية يشير إلى الرجل الآخَر ذي القفطان والكوفية، وشعر بما يشبه الخَدَر بأصابع الرجل الكبيرة وهي تقبض على ذراعه وتقوده إلى باب كبير، ووضع قدمه على عتبة الباب وخطا خطوة صغيرة ثم رفع بصره لينظر أمامه، فوجد نفسه في الشارع الفسيح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤