اللغة الموسيقية
لكل فن وجهان: وجه تركيبي، ووجه تحليلي. أما الوجه التركيبي فهو ذلك الذي يتَبدَّى عليه العمل الفني في صورته النهائية، وموقفنا بإزاء هذا الوجه هو أن نحدد قيمته الجمالية، ونقيسه بالمقاييس الذَّوقية المتعارَف عليها في ذلك الفن. وأما الوجه التحليلي، فهو — كما يدل على ذلك اسمُه — تحليل مفصَّل للمراحل المختلفة التي يمر بها العمل الفني حتى يصل إلى صورته النهائية، ودراسة علمية دقيقة للوسائل التي يَستخدمها الفنان، وللأساليب المختلفة التي يتأثر بها، وللتجديدات التي يبتكرها. وكل فن سليم يجب أن ينطويَ على هذين الوجهين معًا، وإذا كان الوجه الأول هو الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلةٍ كلما ذُكِرت كلمة الفن، فلا جدال في أن الوجه التحليلي يُمِدنا بالأساس العلمي الذي يجب أن يرتكز عليه كل فن. حقًّا إن كثيرًا من التحليلات التي نصل إليها في دراستنا العلمية للفن ربما تكون قد طرأَت على الذهن الواعي للفنان، ولكنها مع ذلك ضرورية بالنسبة إلى الأجيال التالية، التي ينبغي أن تبني حياتها الفنية على استيعاب علمي كامل للتطورات السابقة في مجالها الخاص، حتى يمكنها أن تواصل الطريق على أساس سليم. أما الآراء التي تؤكد عنصر «الفطرة السليمة» والاستعداد الطبيعي وحده، وتهمل العنصر العلمي التحليلي، فهي بلا شك آراء خرافية لم يعد لها مجال في عالمنا الحالي.
وأول ما ينبغي أن ندرسه في تحليلنا العلمي للموسيقى، هو عناصر اللغة الموسيقية؛ ذلك لأنَّ للموسيقى لغةً خاصة بها، ولهذه اللغة عناصر لا يؤدي كل منها عمله على حدة، وإنما تتضافر وتتشابك كلها سويًّا في إخراج المؤلفات الموسيقية، وهذه العناصر هي: الإيقاع، واللحن، والتوافق الصوتي، والصورة أو القالَب.
وأساس التوافق الصوتي هو إيجاد الانسجام بين صوتين أو أكثرَ في وقت واحد، بينما اللحن أصواتٌ منسجِمة متعاقبة. ومع ذلك، فدراسة التوافق الصوتي لا تكتفي بالعلاقات بين مجموعة الأصوات التي تُعزَف في آن واحد فحَسْب، بل لا بد أن تُعنى بالعلاقات بين هذه المجموعات ذاتها بعضها وبعض، وتُنظِّم طرق الانتقال من الواحدة إلى الأخرى؛ حتى لا ينتهيَ اللحنُ مثلًا بتوافق صوتي يبعث إحساسًا بالتوقع والانتظار، وإنما يمهد مثلُ هذا التوافق السابق لتوافق آخر يبعث إحساسًا بالاكتفاء والراحة. ومع ذلك، فجميع القواعد التي تتحكم في التوافق قابلة للتغير؛ إذ يضيف إليها التطورُ الموسيقيُّ إضافاتٍ جديدةً على الدوام، بل يسعى في بعض الأحيان إلى هدم نُظم التوافق القديمة من أساسها.
•••
والبحث في عناصر اللغة الموسيقية يؤدي بنا إلى تحليل الطريقة التي تُتداول بها هذه اللغة. ولطريقة التداول هذه أهميةٌ خاصة بالنسبة إلى الفن الموسيقي؛ ففي الفنون الأخرى يُنقَل العمل الفني من خالقه إلى متلقِّيه مباشرة، أما في الموسيقى، فالعلاقة ليست ثنائية مباشرة، بل هي علاقة ثلاثية؛ يتوسط فيها القائم بالأداة — سواءٌ أكان عازفًا أم مغنيًا — بين المؤلِّف وبين المستمع؛ لهذا كان علينا أن نقف قليلًا عند دور كلٍّ من أطراف هذه العلاقة الثلاثية في نقل لغة الموسيقى.
فالمؤلف يسجِّل نواتجَ خلقه الفنيِّ بالتدوين. ولا جدال في أن الموسيقى — شأنُها شأنُ أيَّة لغة أخرى — أفادَت من التدوين فائدة عظمى؛ فهو قد أعان على حفظ المؤلَّفات الموسيقية دون أن يتناولها التحريفُ أو التشويه الذي تتعرض له لو نُقِلت بالسماع وحده. ولا شك أن رموز التدوين الموسيقيِّ قد ازدادت دقة وثَراءً على الدوام، حتى أصبحت في العهود الأخيرة قادرة على تسجيل كل تفاصيل القطعة وألوانها، وأصبح من الممكن — إذا كان الأداء دقيقًا — أن تُؤدَّى القطعة على النحو الذي أراده مؤلِّفها تمامًا، دون أي إرشاد من المؤلف ذاته. ولم يكن الحال كذلك قديمًا، حين كانت المدوَّنات الموسيقية تخلو من بعض العناصر التي تُترَك لتقدير القائم بالأداء. وبفضل التدوين أيضًا أمكَن أن تحدث هذه التطورات المتعددة في الموسيقى، التي ازدادت بها عمقًا على الدوام؛ إذ إن التدوين يحمي المؤلِّف من تلقائية الارتجال وسطحيته، ويُمكِّنه من صَقْل المادة الموسيقية الموجودة لديه وتهذيبها على أكمل وجه ممكن، فضلًا عن إضافة أبعاد جديدة إليها تَزيدها عمقًا وثراءً.
أما دور المستمع، فهو تلقِّي تلك المعاني والأحاسيس التي سجلها المؤلف، ونقلها إليه القائم بالأداء. وإني لأذهب إلى أن الاستماع فن قائم بذاته، يقتضي تدريبًا طويلًا قبل أن يصل الإنسان إلى ممارسته على النحو الصحيح؛ ذلك لأن للاستماع درجاتٍ ومراحلَ متفاوتة؛ ففي أول مراحله لا يكون المرء قادرًا إلا على استيعاب الموسيقى الخفيفة، ذاتِ الإيقاع الواضح، كالموسيقى الراقصة بأنواعها. ولما كانت هذه الموسيقى لا تتصف بالعمق، ولا توحي بالمهابة والوقار؛ فإن الاستماع إليها يكون عادةً مصحوبًا بأداء أفعال أخرى؛ كالكلام مثلًا، فمن المحال أن تُربَّى عادةُ الاستماع المركَّز في هذه المرحلة. وفي مرحلة تاليةٍ تبدأ ملَكةُ الاستماع تكتسب مزيدًا من الخبرة، ويكون في وُسْع المرء أن يتذوق مقطوعاتٍ أكثر عمقًا، ولكنه لا يستطيع أن يهضمها كلَّها، أو أن يدرك معنى الأجزاء المعقَّدة فيها؛ لهذا نرى المستمع في هذه المرحلة يَضيق في كثير من الأحيان بأجزاء معينة في المقطوعات التي يَستمع إليها، وقد يبرَح مكانه دون أن يُكمل الاستماع! وأذكر — من تجربتي الشخصية — أنني كنت في هذه المرحلة أعجَزُ عن التذوق الكامل للقِطَع الغربية التي تُعزَف على «البيانو» أو التي تُغنَّى بالصوت البشري؛ ذلك لأن ضربات البيانو في الموسيقى الغربية، لا تملأ الفراغ الزمني بين كل علامة موسيقية وأخرى، بل تَترك ذلك للرنين الصوتيِّ الذي تُحْدثه الضربة الأولى، فكان من الصعب مَلءُ هذا الفراغ بالنسبة إلى الأذن التي اعتادَت سماع طريقة العزف الشرقية، وكانت القطعة تبدو مجموعةً من الأصوات المنفصلة التي يعجز الذهن عن إيجاد الوَحْدة بينها. كذلك كانت الحركات الصوتية التي يتميز بها الغناء العربي تُخفي الاتجاه الرئيسي للَّحن، فيصبح المرء عاجزًا عن متابعته. وخلال الصعوبات التي يواجهها المرء في هذه المرحلة، نراه يلجأ في كثير من الأحيان إلى التشبيهات الشعرية؛ ليغلف بها اللحن، ويستعين بها على فَهْمه. على أن المثابرة على السماع كفيلةٌ بأن تجعل المرء يتغلب على هذه العقَبات، فيمكنه التمتُّع بكل أنواع التأليف والأداء. وفي المرحلة الأخيرة يكتسب المرءُ القدرةَ على التذوق الفني الكامل للموسيقى، بحيث يستطيع عندئذ أن يكشف موضوعاتها الرئيسية، ويُدرك ما طرأ عليها من تنوعات واستطرادات، ولا يكتفي بالسطح اللحني الظاهر للقطعة، بل يَنفُذ إلى التيارات الخلفية والاتجاهات الخفية فيها، ويدرك الوَحْدة الكامنة وراء هذه الكثرة المعقَّدة من الأصوات. وهذه هي مرحلة الاستماع الكامل، الذي لا يتطرَّق إليه ملَل، ولا تفوته جزئية من الجزئيات. وهي بلا شك تقتضي قدرًا هائلًا من التركيز، غير أن الخبرة والمِران كَفيلان بأن يجعلا هذا التركيز أمرًا غير شاق، وبأن يُمكِّنا المرء من زيادة درجة انتباهه دون أن يُفقِده ذلك لذةَ التمتع الجمالي بالأنغام.
وهكذا تتفاوت درجات الاستماع تبعًا لخبرة المستمِع ومدى عمق تجارِبه وطول مدة مِرانه، وينتهي به الأمر إلى أن يتفرغ خلال الاستماع إلى تَفهُّم الموسيقى بكل تفاصيلها. ولعله قد اتضح لنا السبب الذي قلنا من أجله: إن الاستماع إلى الموسيقى فن قائم بذاته؛ ذلك لأنه في مرحلته العليا ليس عملًا سلبيًّا كما يَعني الكثيرون بكلمة الاستماع، وإنما هو عمل إيجابي بكل معاني الكلمة، يقتضي انتباهًا وتركيزًا لا يُكتسَبان إلا بعد مران طويل الأمد، ويقتضي تدخل الذهن الواعي، إلى جانب الإحساس الانفعالي، أي: إنه عمل يشترك فيه العقل مع الحساسية، ويقتضي بجانب التذوق الوجداني، تفكيرًا وتحليلًا ومقارنة.