المعنى في الموسيقى

ارتبط معنى الفن طويلًا بفكرة اللذة أو السرور، فقيل إن هدف كل أنواع الفنون هو أن يبعث في الإنسان شعورًا باللذَّة، أو يجلب له السرور. وليس في هذا التحديد العامِّ ذاتِه ما يُثير إشكالًا، وإنما تُثار الإشكالات إذا كنا بصدد توضيح المقصود باللذة أو السرور؛ ذلك لأن البعض يفهمون اللذة بمعنًى سلبي، فتكون حالة يتقبل فيها الإنسان مؤثرًا خارجيًّا وينفعل له في استرخاء، دون أن يُبديَ من النشاط إلا الحدَّ الأدنى، اللازمَ للإدراك البسيط وحده. ومثلُ هذا الفهم لمعنى اللذة الفنية يَلْقى اعتراضات عديدة في كل مجالات الفنون، وحسبنا هنا أن نشير منها إلى الاعتراضات التي توجه إليه في مجال الموسيقى.

فاللذة السلبية في مجال الموسيقى هي ما يسمى بالطرب، وهي كلمة ثار حولها جدالٌ طويل في صحفنا المصرية في الآونة الأخيرة، ولكن الذي لا شك فيه أن طابع التأثير والانفعال السلبي هو الغالب عليها. فغاية ما يؤدي إليه الطرب — إذا اتُّخِذ هدفًا للتأثير الموسيقي — هو أن يَبعث في الإنسان انفعالًا؛ إما أن يكون هادئًا يلطِّف أعصابه ويَدْفع عنه متاعب الحياة، وإما أن يكون عنيفًا يُنسيه مشاكلَه الواقعية، ويَشغَل أعصابه عن الاهتمام بالأمور الجدِّية في الحياة. والحق أن الكثيرين يعتقدون أن هذه هي الوظيفة الحقيقية للموسيقى، وأن مهمَّتها ترفيهية فحسب.

على أنه لو كانت هذه هي المهمةَ الحقيقية للموسيقى، لما جاز لنا أن نتحدث عن أي معنًى لهذا الفن؛ ذلك لأن مجال المعاني أعلى من مجال الانفعالات السلبية التي لا تتيقَّظ فيها الملَكات الواعية إلا في أدنى صورها. فهل تخلو الموسيقى بحقٍّ من أي معني؟ لا شك أن مثل هذا الخطأ في فَهم وظيفتها لا يرجع إلا إلى التعود على أنماط معيَّنة من الموسيقى، هي التي تَبعث في الإنسان اعتقادًا بأن مهمَّتها أن تُطربنا سلبيًّا فحسب. ولو اتسعَت تجرِبة المرء الموسيقيةُ، واستوعبَتِ الأنماط الرفيعة منها، لأدرك أنَّ للموسيقى معنًى بالفعل، معنى إيجابيًّا تمامًا، لا تكتفي فيه بأن تهز أعصاب المرء أو تثير الانفعال فيه، وإنما تُضيف إلى ذلك إيقاظَ العقل — عن طريق الحواس — وتنبيهَ الملَكات الواعية، وكشف حقائق جديدة كانت النفسُ تَجهلها من قبل. والحق أن هذه هي المهمة السامية للفن؛ ألا يَكتفيَ بالتأثير السلبي فينا، بل أن يُقدِّم إلينا شيئًا إيجابيًّا، ويُكسِبَنا مزيدًا من المعرفة بالحياة التي نعيش فيها، كل فن بطريقته الخاصة، التي تختلف بالطبع عن طريقة التعلُّم أو التلقين العقلي المباشر. وبهذا المعنى وحدَه ينبغي أن نَفهم الموسيقى.

ومهمتنا الآن هي أن نبحث في هذه الطريقة الخاصة التي تتميز بها الموسيقى في التعبير عن معانيها. وإذا كنا قد بحثنا من قبل في عناصر اللغة الموسيقية بحثًا تحليليًّا، فعلينا الآن أن نبحث في الطريقة التي تصل بها الموسيقى في صورتها النهائية إلى أذهاننا، والتأثير الخاص الذي تتميز به في نقل معانيها.

ولقد اعتاد كثيرٌ من الناس أن يَفهموا الموسيقى فهمًا شاعريًّا؛ بمعنى أنهم يبحثون عن معانٍ أدبية أو صور حسِّية في كل لحن يستمعون إليه. ويُبرِّر بعضُ المفكرين النظريِّين هذه الظاهرةَ بتقسيمهم الموسيقى إلى نوعين؛ نوع خالص أو مجرَّد، ونوع ذي موضوع أو برنامج؛ فالنوع الأول لا يُثير في الأذهان صورًا على الإطلاق، وإنما هو نماذجُ صوتية جميلة، ينبغي أن تُسمع لذاتها فحسب، ومن أمثلته في موسيقى بيتهوفن الرباعيات Quartets. أما النوع الثاني فيُقصَد به تصوير موضوع معيَّن، وتَصوُّر هذا الموضوع خلال السماع يَزيد من فَهمنا للموسيقى، ومن أمثلته لدى بيتهوفن أيضًا: السيمفونيةُ السادسة (الريفية). وهكذا يجد أصحاب هذا التقسيم عذرًا لأولئك الذين يَحشُدون كلَّ ما يستمعون إليه بالتخيُّلات اللفظية أو التصويرية، بل إن البعض يرسم للموسيقى الخالصة ذاتها صورًا معينة، هي بدورها صور هندسية مجرَّدة، كالخطوط المتعاقبة التي صوَّر بها وولت ديزني مقطوعة باخ «توكاتا وفيوج» في فيلمه الموسيقي «فانتازيا».

على أن هذا التقسيم الثنائي للموسيقى لا يَحُل أي إشكال؛ فستَظل هناك مؤلفات موسيقية عديدة لا ندري تحت أي النوعين تندرج. ولنأخذ مثلًا — في موسيقى بيتهوفن أيضًا — السيمفونية التاسعة. فهل هي موسيقى مجردة؟ من المحال أن نقول: إن هذه الموسيقى نماذِجُ صوتية جميلة فحَسْب، وأنها لا تحمل إلينا أحاسيسَ أو معانيَ أو أفكارًا. ولكن هل هي إذن موسيقى ذاتُ موضوع أو برنامج محدد؟ الحق أننا لو حاولنا أن نُحدِّد هذا الموضوع أو البرنامج، لما أمكنَنا أن نرسم له خطوطًا واضحة على الإطلاق، ولوَجدنا أن من الممكن استبدالَ كثير من التشبيهات أو الأفكار بتشبيهات وأفكار أخرى لا تقل عنها انطباقًا على الموسيقى.

figure
بيتهوفن.

والذي يمكننا أن نؤكده هو أن الفارق بين الموسيقى المجردة والموسيقى ذاتِ الموضوع فارقٌ في الدرجة فحسب؛ ففي وُسْعنا أن نقول: إن كل موسيقى هي، بمعنًى معين، موسيقى ذاتُ موضوع؛ إذ إنها — من حيث هي إنتاج فني صادق، مرتبط بحياة مؤلفه وبمجتمعه ارتباطًا وثيقًا — لا بد أن تعبر عن معانٍ نستطيع نحن أن نهتدي إليها. غير أن هذه المعانيَ، في الجزء الأكبر من الإنتاج الموسيقيِّ المألوف، لا يمكن أن تكون جزئية محددة، نستطيع الإشارة إليها أو الاتفاقَ عليها بالإجماع، بل إن الموسيقى، كما قلنا من قبل، تتجاوز نطاق الجزئيات إلى الكليات؛ ولذا كان في وُسعنا أن نقول: إن كل موسيقى هي، بمعنًى آخر، موسيقى مجردة، ما دامت تعلو على التفسيرات الجزئية المخصصة. فهاتان الصفتان — أعني كون الموسيقى ذاتَ موضوع، أو كونها مجردةً — ليستا أساسًا لتصنيف المؤلفات الموسيقية، وإنما هما بالأحرى وجهان مُتبايِنان للتعبير الموسيقى ذاته. وهذا لا يَمنع على الإطلاق من وجود مؤلَّفات معينة تقف في هذا الطرَف أو ذاك؛ فالرباعيات في الطرَف الذي تبلغ فيه المعاني أعمَّ درجة ممكنة، والسيمفونية الريفية تقف في الطرف الآخر، الذي يحدِّد فيه مؤلِّفُه النطاقَ الذي ينبغي أن تُفهَم مقطوعته من خلاله. وعلى أية حال فهذا النوع من الموسيقى ذات الموضوع الصريح قليل، وأغلب المؤلفات تجمع بين صفة وجود الموضوع، في صورة معانٍ عامة، وصفة التجريد، التي ترجع إلى عمومية هذه المعاني ذاتها.

ولقد أُجرِيَت تَجارِبُ طريفة لمعرفة الأنماط المختلِفة من المستمِعين في فَهمِهم للموسيقى، نشَرها ماكس شون Max Schoen في كتاب «تأثيرات الموسيقى The Effects of Music» فقُدِّمَت قطع موسيقية مختلفة لجمهور فيه الموسيقيون المحترفون، وفيه ذَوو الثقافة الفنية الرفيعة، ولكنهم ليسوا موسيقيِّين، وفيه مَن يحب الموسيقى سماعًا، ومَن لا يتذوقها على الإطلاق. ولُوحِظ أن ذَوي الذوق الفني الرفيع، الذين لا يَحترفون الموسيقى ولا يَعرفون أصولها، يَلجَئون دائمًا إلى التشبيهات في فَهمهم للموسيقى، وإلى إيراد الارتباطات التي تُذكِّرهم بها، أما محترف الموسيقى، أو ذلك الذي اكتسَب دِرايةً بأصولها، فلا يفكر أثناء الاستماع إلا في الموسيقى من حيث هي موسيقى، ويتمتَّع بها تمتعًا جماليًّا يخلو من أية صورة تخيُّلية أو تشبيهية. ومن هذه التجارِب نستطيع أن نستنتج أن الخبرة الطويلة تؤدِّي بالمرء إلى أن يَفهم الموسيقى على النحو الصحيح، فلا يحشدها بالمعاني الجزئية؛ إذ إن الموسيقى تَقبل عديدًا منها، وإنما يَكتفي بالاستمتاع بها دون إقحامٍ للخيال الشِّعري أو التصويري.

وهنا قد يتساءل المرء: هل تَعني قابليةُ القطعة الموسيقية الواحدة لتفسيرات مختلفة، أنَّ الموسيقى لا تَعني شيئًا على الإطلاق، وأنَّ لكل فرد أن يفهمها كما يشاء، وفَهمُه في كل الأحوال باطل؟ الواقع أن هذه النتيجة أبعدُ ما تكون عمَّا نَهدِفُ إليه؛ فللموسيقى — كما أكَّدْنا مِن قبل — معنًى بالضرورة، غير أنَّ من طبيعتها أن يكون هذا المعنى عاليًا على التشبيهات الجزئية التي يلجأ إليها أصحابُ المِزاج الشاعري أو الرُّومانتيكي من غير الخبراء في الموسيقى، الذين يؤكدون أن هذه الحركة من سيمفونية بيتهوفن الخامسة (مثلًا) تشير إلى ضرَباتِ القدَر، وتلك تعني الاستِسلامَ له، وهذه يُمثِّل بها الصراعَ معه، والأخيرة تَعني الانتصار عليه … إلى آخر هذه التشبيهات الأدبية التي تُسيء إلى المتعة الجمالية أكثرَ مما تُعين على تحقيقها؛ ذلك لأن أقصى ما تستطيع الموسيقى أن تبعثه فينا، هو أن تُضفِيَ علينا معانيَ وأحاسيسَ عامة، أي: إنها تَخلق فينا «جوًّا» معينًا، يمكننا أن ندرك تياره العام، ولكننا لا نستطيع أن نحدد تفصيلاتِه الجزئية، ولن نستفيد شيئًا لو استطعنا ذلك.

كل هذه الأفكار عن صلة المعنى الموسيقيِّ بمجال التشبيهات الشعرية أو التصويرية تؤدِّي بنا ضرورةً إلى بحث علاقة الموسيقى بمجالٍ مرتبط بها أوثقَ الارتباط، وأعني به مجال الكلمات، الذى اختلط بها اختلاطًا وثيقًا في الغناء. فإلى أيِّ مدًى تفيد الكلماتُ المرتبطة بالموسيقى في تحديد معانيها؟ وهل يَزداد معنى الموسيقى دقَّة ووضوحًا إذا شُرِح عن طريق الأغنية؟

لكي نُجيب عن هذا السؤال، ينبغي أولًا أن نفهم العلاقة بين الغناء والموسيقى فَهمًا صحيحًا؛ فليس الغناء أمرًا دَخيلًا على الموسيقى، أو عنصرًا أضيف إليها فيما بعد، بل إن العلاقة بينهما عكس ذلك؛ فالموسيقى هي التي استُمِدَّت من الغناء؛ ذلك لأن الفن الموسيقيَّ قد بدأ منذ أن تَعلَّم بعضُ المنشدين كيف ينظمون طريقة إنشادهم على نحو إيقاعي منغم، وظل فن الأنغام مرتبطًا بالغناء طويلًا، وعندما ظهرَت الآلات الموسيقية، كان الغرضُ منها هو مساعدةَ الصوت البشري أو تقويتَه أو تزيينَه. وبعد تطورٍ طويل بدأت الآلاتُ تستقل عن الصوت تدريجيًّا، ونظرًا لاتِّساع مجال التعبير بها، فقد أخذَت تَفُوقه بالتدريج، حتى أصبحت موسيقى الآلات هي الأساسيةَ عند الغرب، وإن كان فن الغناء لا يزال على ازدهاره. وعلى ذلك فتطور علاقة موسيقى الآلات بالغناء تتلخص في أنها كانت تعتمد عليه في أول الأمر اعتمادًا تامًّا، ثم استقلت عنه فيما بعد. وهذا الاستقلال الذي أصبحَت تتَّصِف به موسيقى الآلات في الوقت الحاليِّ هو في ذاته دليلٌ على أن الأنغام الخالصة، دون أية كلمات مصاحبة، هي وسيلةٌ كافية للتعبير. بل إن هذه بعينها هي الصفة المميزة للتعبير في الموسيقى؛ أن يكون عامًّا، مستقلًّا عن كل وسيلة لتخصيص معانيه. فإذا قيل: إن هناك وجهًا هامًّا للموسيقى الغربية لم نتحدث عنه، وهو الفنون الغنائية؛ كالأوبرا، قلنا: إن هذا الوجه ليس استثناءً لهذه القاعدة؛ فالأصوات البشرية في الأوبرا إنما تُعامَل معاملةَ الآلات الموسيقية، أعني أنَّ المقصود منها هو التأثيرُ عن طريق أنغامها، لا عن طريق كلماتها. والدَّور الذي تلعبه الكلماتُ في الأوبرا دورٌ غير كبير، فما هي إلا وسيلةٌ لإظهار الصوت البشري، ومَطيَّة له فحسب. والمستمعون إلى الأوبرا لا يتردَّدون عليها من أجل ما فيها من كلمات، بل من أجل موسيقاها: موسيقى الآلات، وموسيقى الأصوات معًا.

فللموسيقى إذَنْ قدرةٌ معبِّرة بذاتها، وهي ليست في حاجة إلى مَعونة الكلمات النَّثرية أو الشِّعرية لإكمال قدرتها التعبيرية، بل إنَّ قوتها لَتَكمُن في استقلالها، وفيما لها من كيان خاص يَنقُل لنا معانيَ عامة حقًّا، ولكن عموميتها هي أصل روعة هذا الفن.

على أن هناك موسيقيًّا واحدًا له رأي آخر في علاقة الموسيقى بالكلمات أو الشعر، ولن يَكمُل عرضُنا للقدرة التعبيرية في الموسيقى إلا إذا ناقشناه؛ هذا الموسيقيُّ هو رتشارد فاجنر.

فقد رأى فاجنر — وهو في رأيه هذا يتفق مع ما قلناه ها هنا — أن تعبير الموسيقى عامٌّ إلى حد بعيد؛ فمَعانيها لا تُحدَّد في نطاق واضح يدركه الذهن عن وعي، بل هي غامضة مبهمة، تتَّسع لعديد من التفسيرات والتأويلات؛ فهي في رأيه تتعلق حقًّا بالمجال الباطن للنفس الإنسانية، ولكنها لا تُقدِّم عن هذا المجال صورة واضحة المعالم. ومن جهة أخرى، فهو يرى أن الشعر قد ابتعد عن المجال الباطن، وأصبح أميل إلى سرد الحوادث الخارجية التي لا تتغلغل في أعماق النفس. أما محاولة التقريب بين الموسيقى والشعر في الأوبرا المعتادة، فيصفها بأنها محاولة سطحية، تظل الموسيقى فيها هي الطاغية؛ لهذا دعا فاجنر إلى خلق «الدراما الموسيقية»، التي تحاول الموسيقى فيها أن تقترب من الشعر إلى أقصى حد، ويعمل الشعر من جهته على تَكمِلة الموسيقى؛ إذ إن الكلمات، بما تُثيره من معانٍ عقلية، تأخذ طريقها إلى النفس بتوسُّط الذهن أو العقل، وهي مع ذلك — وربما من أجل ذلك — تستطيع بسهولة أن تحدد المعنى الذي ترمي إليه، وتخصص الانفعال الذي تتَّجه إلى إثارته؛ فالموسيقى والشعر إذَنْ وجهان يكمل كلٌّ منهما الآخرَ في الدراما، كما تَصوَّرها فاجنر: الأولى تنفذ إلى أعماق النفس مباشرة، ولكنها لا توجِّهها وجهة محددة، بل يتولَّى الشِّعر هذه المهمة، فتوضح كلماتُه مَعالم الصورة التي قدَّمَتها إلينا الموسيقى في إطار مبهَم.

figure
رتشارد فاجنر.
وفي ضوء ما قلناه من قبل، يمكننا أن نَهتديَ إلى عناصر النقد الذي يُوجَّه إلى رأي فاجنر هذا؛ فمن الخطأ البيِّنِ الاعتقادُ بأن عمومية التعبير الموسيقي هي مصدرُ نقص فيه، بل إن هذه هي طبيعة ذلك التعبير. وليست الموسيقى في حاجةٍ إلى فن آخر مكمِّل، كالشعر؛ حتى تُعوِّض هذا النقص المزعوم. وللمرء أن يشك في القيمة الحقيقية لهذا العمل الفني الجامع Gesamtkunstwerk الذي دعا إليه فاجنر، والذي يتضافر فيه، مع الموسيقى، الشعر والتصوير (في المناظر المسرحية) والتمثيلُ والرقص في بعض الأحيان؛ ذلك لأن كل هذه العناصر الفنية مجتمعةً، لا تجلب متعة تفوق تلك التي يَستشعرها المرء إذا استمع إلى سيمفونيات بيتهوفن أو برامز مثلًا. والذي لا شك فيه أن رواد المسارح التي تُؤدَّى فيها درامات فاجنر، لا يَؤمُّونها من أجل ما فيها من شعر، ولا ما فيها من تمثيل أو مَناظر مسرحية بارعة، بل من أجل ما فيها من موسيقى وغناء مُصاحِب لها فحَسْب. وما كان فاجنر بالشاعر الممتاز، كما ظن الكثيرون، بل إن الميدان الذي جلَب له الشهرة هو الموسيقى وحدها.

وأخيرًا، فعلينا أن نؤمن بأنَّ للموسيقى، في مجالها الخاصِّ، قدرةً تعبيرية كاملة، وأنها فنٌّ مُكتفٍ بذاته، وأن عمومية معانيها مصدرُ قوة لها؛ إذ إن المؤلفات الموسيقية ذاتَ الموضوع الواضح، الذي نستطيع أن نشير إليه لأول وهلة، هي عادةً أضعفُ تأثيرًا من تلك التي تؤثر فينا تأثيرًا عامًّا، هو حقًّا مبهم، ولكن صداه في انفعالاتنا وأذهاننا واضحٌ كلَّ الوضوح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤