مشكلة الموسيقى في مصر
لا جدال أن في مصر شعورًا بالضِّيق من قصور الموسيقى الحالية وأفقها المحدود، وهذا الشعور، الذي يتزايد على الدوام، يتَمثَّل بصورة ظاهرة في تلك المناقشات الحامية التي تدور في الصحف في أيامنا هذه، وهي المناقشات التي تتراوح الآراء فيها بين الدعوة إلى التجديد التام، وبين الرجوع إلى الماضي الذي يصفه أنصارُ هذا الرأي بأنه ماضٍ «مَجيد».
على أن هذا الضيق يتمثل أيضًا — وبصورة واقعية — في الطابع الذي تتخذه الموسيقى المصرية في وقتنا الحالي؛ ففي وُسعنا أن نقول: إن الطرق التقليدية في التلحين الشرقي تتجه إلى الاندثار، ولا يمنعها من الاختفاء التام سوى شهرة مُغنِّين ارتبطت أسماؤهم بطريقة التلحين هذه، ولكن إذا اختفى هؤلاء من المسرح الفني، فسوف تنتهى — بكل تأكيد — فترة الغناء الشرقي الصميم.
ولكن ما الذي يحل الآن محلَّ هذا الغناء الشرقي؟ إن الاتجاه الواضح الذي يزداد الإقبال عليه — وخاصة من جمهور المدن — هو اتجاه «مختلط»، تمتزج فيه الموسيقى الشرقية ببعض العناصر الغربية. والامتزاج ذاته أمر مقبول؛ وخاصةً لأننا نؤكد بكل قوة ضرورة الخروج عن الحدود الشرقية التقليدية، والاستفادة من التجارب العميقة التي مر بها الغربُ في ميدان الموسيقى. ولكن هل الاتجاه السائد الآن في الموسيقى الشرقية هو الحل المنشود؟
الحق أن هذا الحل هو في نظرنا أتعسُ حل ممكن؛ فالفترة الحالية من تاريخ الموسيقى فترة بائسة بحق؛ ذلك لأن محترفي هذا الفن، عندما أحسوا بقصور الطريقة الشرقية الخالصة، لم يَلجَئوا إلا إلى أتفه أنواع الموسيقى الغربية ليقتبسوا منها ألحانهم. فكانت النتيجة خليطًا غير متجانس بين الألحان الشرقية، وبين صخب موسيقى المراقص الغربية، خليطًا لا لون له، ولا طابع يتميز به، ولا ينطوي على أية محاولة جدية لترقية الموسيقى الشرقية، بل هو في أساسه امتزاج خارجي — لا اندماج باطن — بين عناصر متنافرة فحسب.
والخطأ الأكبر — الذي نَعُدُّ التنبيه إليه أمرًا أساسيًّا في المهمة النقدية التي يأخذها هذا الكتابُ على عاتقه — هو في الاعتقاد بأن إصلاح الموسيقى الشرقية يكون عن طريق نقل «ألحان» غربية، أو أنماط لحنية معينة. وذلك هو الخطأ الذي يقع فيه أولًا دعاة «الاقتباس»، الذين ينقلون قِطَعًا بأسرها من سياقها الأصلي في موسيقى الغرب، ويُقحِمونها داخل ألحانهم الشرقية، فيشوهون جلال الأصل الذي نُقِلَت منه، ولا يُفيدون المجال الذي نقلوا إليه، فضلًا عما ينطوي عليه هذا «الاقتباس» من افتقار إلى الأمانة لم يعترف به الفن الخلَّاق في أي عصر من عصوره. ويقع في ذلك الخطأ ثانيًا أولئك الذين ينسجون على مِنْوال الملحِّنين الغربيين، فيقلدونهم في ألحانهم (وهم في ذلك أقرب إلى الأمانة من الفئة السابقة) أو يعهدون بألحانهم إلى من يقوم بإجراء عملية «توزيع موسيقيٍّ» لها؛ لكي يكسبها طابعًا قريبًا من الموسيقى الغربية الراقصة. ولنذكر هاهنا أن فكرة «التوزيع الموسيقي» هذه — وهي بدعة تثير السخرية — لا تُعرَف إلا في موسيقانا المصرية؛ إذ إن الأصل في الموسيقى أن فكرتها تطرأ على ذهن الفنان كاملة؛ فهو لا يَتصوَّر اللحن وحده، وإنما يَتصوره مَصوغًا في قالب معين، تعزفه آلة معينة. والتوزيع على الآلات جزء لا يتجزَّأ من مهمة الفنان نفسِه، وإذا كانت هناك مقطوعات غربية معينة تُوزَّع فيما بعد على آلات غير التي أُلِّفَت من أجلها، فلا شك في أن هذا التوزيع يكون في هذه الحالة عملًا مستقلًّا، أُضيفَ إلى عمل المؤلف الأصلي على سبيل الرغبة المتعمَّدة في التنويع، وعندئذٍ يُذكَر اسم موزِّع اللحن أو منظِّمه بجانب اسم المؤلف الأصلي؛ لأن اللحن عندئذ أصبح شبه جديد. أما عملية التوزيع التي تتم في الألحان المصرية فتنطوي بلا شك على فَصْم غير مشروع لوَحْدة الخلق الفني.
ففي كل هذه الحالات يقع الموسيقيون في خطأ الاعتقاد بأن التأثر بالموسيقى الغربية يكون عن طريق نقل ألحانها أو تقليدها. وهذا الخطأ مسئول عن التدهور الحالي الذي تعانيه موسيقانا. وإنما الحل الصحيح هو أن نقتبس من الغرب «أسلوب» التأليف، لا التأليف ذاته؛ أعني: أننا يجب أن نستفيد من تجرِبتهم الموسيقية العميقة، التي سبقَتْنا بما يقرب من أربعة قرون، فنتعمق في دراسة عناصر اللغة الموسيقية، ونفيد من خبرتهم الواسعة في ميدان التأليف والأداء.
فأسلوبنا في التأليف ينبغي أن يتضمن «التوافق الصوتي» حتى يضاف إلى موسيقانا عنصر العمق، وعندئذ تستطيع الموسيقى أن تكون معبرة بحق، وإذا اكتسبت القدرة على التعبير، استطاعت أن تتحرر من عبوديتها للغناء، وتصبح فنًّا مستقلًّا له كيانه الخاص. والأداء ينبغي أن يزداد دقة؛ فأصوات المغنين عندنا محدودة المدى إلى حد مؤسف، وليست هناك جهود جدية تُبذَل لتمرين الأصوات وتوسيع نطاق قدرتها في الأداء، مع أن هذا علم كامل قائم بذاته. بل إن المغنيَ عندنا يظل — في سعيه وراء الكسب — يواصل الغناء دون أن يعترف بتأثير الزمن على صوته، حتى لنجد منهم من يمرِّن حنجرته بصوت عالٍ بين مقاطع الغناء، وتظهر آهاته في التسجيل، ولا يعترف مع ذلك بضياع صوته! وهي بدورها ظاهرة مؤسفة لا نظير لها في عالم الغناء! أما العزف، فأستطيع أن أقول، مطمئنًّا: إن المسافة بين أكبر عازفي الكمان عندنا، مثلًا، وبين عازفي الكمان المشهورين في الغرب، لا تُقاس إلا بالسنين الضوئية!
فالفن الموسيقيُّ المصري إذنْ في محنة، والوسيلة الوحيدة لانتِشاله منها هي اقتباس خبرة الغرب الطويلة، وأسلوبه في التأليف الموسيقيِّ وفي الأداء. وعلينا أن نبذل في ذلك أشقَّ الجهود؛ حتى نعوض تخلفنا الهائل في هذا الميدان، أما لو ظلت الأمور على ما هي عليه، فسوف تزداد الهوَّة بيننا وبينهم اتساعًا على الدوام.
•••
على أن رأيي هذا — القائلَ بضرورة الاستفادة من الخبرة التي اكتسبها الغربيون في أساليبهم الموسيقية — يَلقى معارضة من طرَفَين متناقضين: طرف يميني محافظ، أصحابه من دعاة القومية، وطرف يساري تقدمي، أصحابه من دعاة الشعبية. ومن الضروري أن أناقش هذين الرأيين المعارضين؛ حتى تَستبين حدودُ الدعوة التي أقترحها بوضوح.
فالطرف اليميني المحافظ، القائل بالقومية، يرتد رأيه إلى قدْر من سوء الفهم، وقدر من المغالطة؛ أما سوء الفهم فيتمثل في الاعتقاد بأن ما نرمي إليه هو أن نؤلف ألحانًا كالألحان الغربية، وهذا أبعد الأمور عما ندعو إليه؛ فنحن نعترف حقًّا بأن الموسيقى فن مرتبط بحياة كل شعب، وأن حياتنا الشرقية لا بد أن تَفرِض علينا أنواعًا من الألحان، تختلف عن تلك التي نستمع إليها من الغرب. هذا كله صحيح، ولكن ما ندعو إليه هو أن ندرس أسلوب التأليف والأداء، لا نواتج الموسيقى الغربية ذاتها. ونستطيع أن نضرب للفارق بين الدعوتين مثلًا يقربه من الأذهان؛ فالشعب الصيني يحاول اليوم أن يبسط لغته، وأن يستبدل بالحروف المرسومة الهائلة العدد، عددًا قليلًا من الحروف البسيطة تكون هي قِوامَ الكتابة. وقد يَلجَئون في ذلك إلى الكتابة بالحروف اللاتينية وتعميمها. ولكن هل يعني اقتباسُ هذه الحروف، أن مضمون اللغة ذاتها قد تغير؟! وهل تعني كتابتهم بالحروف اللاتينية، أنهم قد استعاروا آدابَ وعلوم الأمم التي تكتب بهذه الحروف؟! لا شك أن موقف لغتنا الموسيقية مماثل لهذا إلى حد بعيد. فنحن ندعو إلى تعديل عناصر اللغة الموسيقية ذاتها، وإلى الإفادة من الخبرة الطويلة التي توافرت لغيرنا في هذا المضمار، ولكنا لا ندعو أبدًا إلى نقل ألحانهم كما هي، وإلا لكان في ذلك دعوة إلى تحطيم الفن، لا إلى إنهاضه.
وأما المغالطة، فتتمثل في نشر الفكرة الباطلة، القائلة: إن الأسلوب الغربي في الموسيقى غير مفهوم بالنسبة إلى الأذن الشرقية. وتلك الفكرة التي يرددها إلى اليوم كثيرٌ من المهيمِنين على مصير الموسيقى في بلادنا، قد أضرَّت بفنِّنا الموسيقي، وبأذواق مستمِعينا أشدَّ الإضرار؛ ولهذا فسوف أرد عليها ردًّا مفصلًا.
ولأبدأ بأن أقول: إن ظاهر الأمور يوحي بشيء كهذا الذي يقولونه؛ أعني أن معظم المستمعين المصريين، والشرقيين عامة، لا يتذوقون الموسيقى الغربية الراقية، بل لا يستسيغونها على الإطلاق، ويحكمون على أرفع سيمفونياتها بأنها «ضجيج» وعلى أجمل أغنياتها بأنها «صراخ». هذا حق، وتلك بالفعل ظاهرة ماثلة في الواقع الشرقي بوجه عام. ولكن هل يعني ذلك أن تلك الموسيقى غريبة تمامًا عن آذان المستمع الشرقي، وأنها لغة لا يفهمها إلا الناطقون بها وحدهم، يَستغلق فَهمُها على غيرهم، وليس لها من تأثير إلا عليهم؟ تلك بلا شك فكرة باطلة، على الرغم من عدم استساغة الأغلبية العظمى من الشرقيين للموسيقى الغربية.
وقبل أن أوضح سبب بطلان هذه الفكرة، أود أن أمهِّد لذلك بالكلام عن ظاهرة أخرى، مستمَدَّة من واقعنا الشرقي ذاته؛ فنفس هذا الواقع، الذي لا يهضم الموسيقى الغربية الراقية، قد استطاع أن يستسيغ موسيقى غربية خالصة، هي الموسيقى الراقصة! والمتتبع للأغاني التي تَشيع اليوم في بلادنا، وتَلْقى أكبر قدر من الرَّواج بين المستمِعين، وبخاصة الأجيال الجديدة منهم، يجد طابع الموسيقى الغربية الراقصة غالبًا عليها.
وصحيح أن هذه الموسيقى تختلف عن الموسيقى الغربية الكلاسيكية اختلافًا بيِّنًا، غير أنها أيضًا تختلف عن الصور التقليدية للموسيقى الشرقية اختلافًا أعظم. ومجرَّد كَون الجمهور الشرقي قد استساغ هذا اللونَ الذي يختلف عن اللون الشرقي القديم كلَّ الاختلاف، وأبدى إعجابه به، وردَّده في غُدوِّه ورَواحه، هو في ذاته دليلٌ واقعي ملموس على أن اللغة الموسيقية، رغم قوميتها، تستطيع أن تَعبُر حواجز القومية وتؤثر في الجميع. وليس من المستبعَد، والحالُ هذه، أن يأتي اليوم الذي يَفهم فيه الجمهور الشرقي موسيقى الغرب الكلاسيكية ويُحسِن تذوقها.
وإذن فالسبب الحقيقي ليس هو الطابَع القومي، وإلا لظلَّت الموسيقى محصورة في حدودها القديمة لا تتعدَّاها، وإنما السبب الحقيقي افتقارٌ إلى الخبرة فحَسْب، ولنضرب لذلك مثلًا؛ فمن المعروف أنَّ ذَوي الثقافة القاصرة يجدون متعة كبرى في الروايات البوليسية ذاتِ الأفكار السطحية، ولا يستطيعون مطلقًا أن يَستسيغوا المؤلَّفات أو الدراسات الأدبية العميقة. ولكن هل يَعني ذلك أن مثل هذه الدراسات تنتمي إلى عالم غير عالمهم، وأنها ستظل إلى الأبد غريبة عنهم؟ لا شك أن في هذا مغالطةً واضحة، وأن في وُسْع أيِّ شخص محدود الثقافة أن يهضم أعمق الدراسات إذا لجأ إلى حل بسيط، هو أن يعمِّق ثقافته، وعندئذ سيجد متعة كبرى في فهم الكتابات العميقة، ويدرك مدى قصور تجربته القديمة. والحال كذلك في الموسيقى؛ فمشكلتنا بإزاء أرقى أنواع الموسيقى الغربية ليست مشكلةَ طابَعٍ قومي يمنعنا من فهمها، وإنما هي مشكلة افتقار إلى الخبرة والتجرِبة، ولو توافر هذا الشرط لأمكننا أن نستمتع بكل أنواع الموسيقى، دون أن يكون لقوميَّتِنا أدنى تأثير. أما القائلون بأن الشرق شرق والغرب عرب، وبأن طريقتهم في التأليف ستظل إلى الأبد غريبة علينا، فما أشبهَهم بمُربٍّ يرى أبناءه مدمِنين على القراءة السطحية، فلا يحاول نصحهم بتعمق ثقافتهم، بل يتركهم وشأنهم، مكتفيًا بالقول: إن ذلك هو نوع الثقافة الذي يُلائم طبيعتهم، وهذا بلا شك حل رجعي للمشكلة؛ ولذا وُصِفت فئة دعاة القومية بأنها فئة رجعية محافظة.
فالموسيقى إذن لغة تتخطى حاجز القومية. وليس هناك أدنى تعارض بين هذا القول، وبين القول الآخر الذي يبدو مضادًّا له، والقائل: إن لكل أمة أو مجتمع طابَعَه الخاصَّ في موسيقاه؛ ذلك لأن القوة الدافعة إلى التأليف الموسيقي تكون دائمًا مرتبطة بالواقع الذي يعيش فيه الفرد، أي: بظروف علاقاته بمجتمعه، فيَصطبغ إنتاجه الفني ضرورةً بطابع بيئته الاجتماعية، ولكن ليس معنى ذلك أن هذا الإنتاج يَقتصر تأثيرُه على هذه البيئة وحدها، وإنما هو يتجاوز النطاق القومي، ويصبح ذا تأثير شامل، إذا كان فنًّا أمينًا مخلصًا. وكم من الأعمال الأدبية الرائعة تصطبغ حوادثها بصبغة محلية، تُستمدُّ من ظروف المجتمع الخاص الذي كان يحيا فيه مؤلِّفها، ولكنها مع ذلك تَذيع وتُصبح أدبًا عالميًّا، له تأثيره البالغ في نفوس أفرادٍ ينتمون إلى مختلِف القوميات والبيئات! فوجود الطابع القومي أو المحلي للموسيقى لا يجعلها إذن لغة منطوية على ذاتها، وليس هناك ما يحول دون فهم كل إنسان لها، إذا بلغ المستوى الثقافي الكافي.
وأما الرأي الآخر، الذي يبدو متعارضًا مع دعوتنا إلى اقتباس الأساليب الغربية، فيتقدَّم به مفكرون تقدُّميون، ينادون بدعوة مشابهة في ظاهرها للدعوة السابقة، ولكنها في مَرْماها وجوهَرِها مُناقِضة لها، تلك هي دعوة الرجوع إلى الفن الشعبي. ونقول: إن هذه الدعوة مشابهة في ظاهرها لما يدعو إليه المحافظون مِن تمسكٍّ بالقالب الشرقي القديم بوصفه هو القالب «القومي»؛ فالفن الشعبي بدَوْره فنٌّ مصطبِغ بالصِّبغة المحلية، نابعٌ من ظروف مجتمع بعينه. ولكن جوهر الدعوة إلى التمسُّك بالفن الشعبي تناقض الفكرة القومية؛ إذ إنها لا تُبنى على اعتقاد راسخ بأن إنتاج شعب معين لا يُفهَم إلا في الدائرة التي نتَج خلالها، بل إنها تنطوي على إيمان بأن أي فن شعبي، مهما كانت صِبغته محلية، يمكن أن يُنقَل ويُفهَم ويُقدَّر على نطاق أوسعَ كثيرًا من نطاقه المحلي؛ فالفنون، مع كونها شعبية، هي في حقيقة الأمر عالمية، أو إنسانية؛ فالفن الذي يخلقه شعب معين، ويَصبَغُه بصِبغته، قادر على التأثير في كل الشعوب الأخرى. ولا جدال في أن هذه النظرة إلى الفنون الشعبية أصدقُ مِن نظرة المحافظين، الذين يُبالغون في تقدير أهمية «الطابع القومي».
والحق أن التعارض بين ما ندعو إليه من دراسةٍ للأساليب الغربية، وبين الداعين إلى الرجوع إلى الفن الشعبي، ليس تَعارضًا شديدًا، بل إن ما نرمي إليه هو في حقيقة الأمر محاوَلة لتصحيح معنى الرجوع إلى الفن الشعبي في مجال الموسيقى؛ ذلك لأن دعاة فكرة الفن الشعبي يَبلغ بهم التحمُّس حَدًّا يجعلهم في بعض الأحيان يُخطئون فَهْم الفكرة ذاتها؛ فالفن الشعبي تنعكس عليه دائمًا مختلِفُ الأحداث التي مر بها الشعب، فيكون سجلًّا صادقًا يصور تاريخ الشعب في تطوراته وتقلباته. والذي لا شك فيه أن تاريخنا الشعبي الطويل كان في معظم فتراته تاريخَ الظلم والاضطهاد اللَّذَين ظل شعبنا يُعانيهما حتى الأمس القريب. حقًّا إن الكفاح ضد هذا الاضطهاد لم ينقطع، غير أن تعاقب مظاهر الاستبداد واحدًا بعد الآخر لم يترك للشعب فرصة في ممارسة تجرِبة الحرية والتغنِّي بها في فنونه. وانعكس ذلك على أوضح صورة ممكنة في موسيقانا الشعبية، فأصبحَت زاخرة بمعاني الذل والخضوع، وانعكسَت المعاني على الألحان فإذا بها حزينة باكية، لا تُقبِل على الحياة بقدر ما تندب حظها فيها.
ولستُ أرمي من ذلك إلى نقدِ فنِّنا الشعبي في ذاته؛ إذ إن هذا الفن كان أمينًا في تصويره للأحوال التي مر بها شعبُنا خلال تاريخه الطويل. ولكني فقط أرمي إلى أن تكون نظرتُنا إلى الفن الشعبي — في مجال الموسيقى — نظرة نقدية فاحصة. فإلى هؤلاء الذين يعتقدون بأن الخلاص من ضيق الأفق الذي تعانيه الموسيقى المصرية في وقتنا الحالي لا يكون إلا بالرجوع إلى الأنغام الشعبية، إلى هؤلاء أتوجه بأسئلتي هذه؛ آمِلًا أن يجيبوا عنها إجابة صريحة أمينة: أليس الفنُّ الشعبي — دائمًا — سجلًّا لمختلِف الأحداث التي مرَّ بها الشعب؟ وهل كانت الأحداث التي مر بها شعبنا إلا سلسلةً متصلة من الاضطهادات، يمارسها الطُّغاة من المحتلين الأجانب، أو المستبدِّين من الإقطاعيين والمستغلِّين؟! إذن فقد كان من الضروريِّ أن تنعكس هذه الظروف على فننا الشعبي عامةً، وعلى موسيقانا الشعبية بوجه خاص، فأصبحت أنغام هذه الموسيقى نُواحًا وبكاءً، حتى حينما لا يَستدعي الحالُ مثل هذا الحزن.
والحق أن الاضطهاد الطويل الذي مرَرْنا به — والذي ينبغي أن نعترف به في صراحة — يدفعنا إلى أن نكون حذرين أشد الحذر كلما رجعنا إلى فننا الشعبي. ففي الموسيقى الشعبية — الريفية منها والمدنية — ينعكس بوضوح خداعُ المستغلين والمستعمرين، وتزيف الأهداف الحقيقية التي كان ينبغي أن يسعى إليها الشعب، فيحل النواح والبكاء محل الدعوة إلى النِّضال والإقبال على الحياة، ويبدو كأن المشكلة الكبرى للمواطن المصري الذي لم يكن يجد قوت يومه، هي الغرام وهجران الحبيب! وتسود فلسفة تواكُلية زائفة تؤمن بالقدر و«المكتوب»، وتُثبِّط الهمم وتُقعِدها عن الكفاح ضد الظالمين. وهكذا أصبح الفن الموسيقي الشعبي يعكس كل عوامل الظلم ومظاهر التزييف التي فُرِضت على شعبنا. حقًّا إن الرغبة في المقاومة لم تخمد، وإن بعض الأعمال قد ظلت تحمل طابع الكفاح، ولكن هذه لا تُقارَن بالأعمال التي تعكس ما فُرض على الشعب، أو ما انزلق فيه رغمًا عنه، من أهداف زائفة.
وإذن فعلينا دائمًا — قبل أن نُسايِر الدعوة إلى الاسترشاد بالفن الشعبي في الموسيقى — أن نسائل أنفسنا: ما هي الأحوال التي كان يعكسها هذا الفن في بلادنا؟ وعندئذٍ، سوف ندرك أننا ينبغي أن نكون حذِرين أشد الحذر في استرشادنا بهذا الفن، وأن ظروف بلادنا قد تكون مختلفة عن غيرها من البلدان التي استطاعت أن تحقق نهضة موسيقية باستيحاء ألحانها الشعبية. وسوف نُدرك أيضًا أن إنسانَ المستقبل الذي نَودُّ أن نكونه لا بد أن يتخذ لنفسه أهدافًا سليمة، مختلِفةً كل الاختلاف عن تلك التي تغنَّت بها معظمُ الألحان الشعبية في عهود الظلم والاضطهاد الماضية.
ولكن، ليس معنى ذلك أن نقطع الصلة بماضينا، وأن نشيِّد فنًّا لا جذور له! وكل ما في الأمر أن الطابع الشعبي الأصيل سوف يَظهر في الفنان من تلقاء ذاته، طالما كان فنانًا صادقًا؛ فذلك الذي توافرت له دراسة وخبرة عميقة بالأساليب الموسيقية الصحيحة، لن يردد ألحان الغرب، بل سيتأثر حتمًا بالطابع المحليِّ الذي يُحيط به، ويَصوغ ألحانه في قالَبٍ يفهمه الجميع، ويتذوَّقونه بعمق. وللفنان — إذا شاء — أن يقوم بدراسةٍ شاملة للألحان الشعبية؛ فإنَّ دراسة كهذه تفيده كثيرًا، على شرط أن يكون حذرًا — كما قلنا — في تقبُّله للمادة التي تُقدِّمها إليه هذه الألحان، وأن يدرك طبيعة الظروف التي خُلِقَت فيها، ويدرسها بمنهج نقدي فاحص.
- أولًا: ينبغي أن ننظر إلى الموسيقى على أنها فن يُبنَى على أسس علمية، تقتضي دراسة طويلة شاقة. وعلى الرغم من أن الوقت الذي كان الفنُّ يعد فيه خلقًا تلقائيًّا، أو ارتجاليًّا، قد انقضى منذ عهد بعيد، فإننا لم نعترف حتى اليوم بهذه الحقيقة في مجال الموسيقى، ولا زال أمر هذا الفن في أيدي أشخاص ذَوي خبرة موسيقية ارتجالية إلى حد بعيد.
- ثانيًا: إذا اعترفنا بالمبدأ العام السابق، وجب علينا أن نضع الأسس التي تَكفل تحقيق شرط العلم والدراسة، ولِنبدأَ يجب أن نتَّجِه إلى تكوين جيل جديد، يُبنى فيه على أسس بأن نقول: إن الجيل الموسيقيِّ الحالي ميئوس منه تمامًا، وإن العناية علمية صحيحة، ويعتمد على المران الشاق، والدراسة المثابِرة لا على الارتجال أو الاجتهاد الشخصي وحده. ومن أجل تكوين جيل كهذا؛ ينبغي أن تُنشَأ معاهدُ موسيقية راقية، تَستقبل الناشئين منذ المراحل الأولى من عمرهم، وتتدرج بهم حتى يَكمُل إعدادهم. ولا بد أن نَستقدم للتدريس في هذه المعاهد أساتذةً من الأجانب؛ إذ ليس في بلادنا حتى الآن مواطنون يصلحون لإعداد موسيقيين في المستوى العالمي، سواء أكان ذلك في ميدان التأليف أم في ميدان الأداء. وليست الاستعانة بخبرة الغير، والاعتراف بأسبقيتهم في هذا الميدان بالأمر المخجِل؛ فنحن نستقدم الخبراء الأجانب في ميدان الذَّرة، أو نبعث بمواطنينا إلى الخارج لتعلُّم أسرارها، وتخلُّفُنا في ميدان الموسيقى يفوق بكثير تخلفَنا في ميدان العلوم الذرِّية، وليس لنا أن نخشى من أن تَفقد موسيقانا طابعها المحليَّ أو القومي إذا استَعنَّا بغير مواطنينا؛ إذ إن هؤلاء لن يُلقِّنونا سوى المواد والأدوات التي نستعين بها في التأليف، واللغةَ التي نستطيع أن نَصوغ بها ما شئنا من الأفكار. ولا جدال في أن مجرد انتماء الفنان إلى بيئة معينة، ترتبط بها مشاعره وأفراحه وآلامه، سيَصبَغ إنتاجه الفني بصِبغتها حتمًا.
- ثالثًا: لا يكفي أن نعمل على إعداد المؤلِّفين الموسيقيين، والعازفين أو المغنِّين، إعدادًا علميًّا صحيحًا، بل ينبغي أن نُعِدَّ المستمِع لكي يتقبَّل هذا الفن الصحيح، ويعملَ على تشجيعه. ولهذا وسائل عدة؛ فينبغي أن تَدخل الموسيقى كل بيت، عن طريق الإذاعة، وعن طريق توفير التسجيلات للجميع. أما الإذاعة فلا أتردد في القول: إنها قصَّرَت في هذا المجال، ولم تَعمل على ترقيَةِ أذواق المستمِعين، وتعلَّلَت في ذلك تارةً بترديد فكرة الطابع القومي — وهي فكرةٌ أوضحنا مدى بُطلانها من قبل — وتارة بالقول: إن المستوى الثقافيَّ لأغلبية السامعين يمنعهم من تذوق هذه الموسيقى، وكأنه ليس من صميم مهمتها، وأساسِ رسالتها، أن تعمل على رفع هذا المستوى باتباع مناهجَ دقيقة مدروسة! وأما مسألة توفير التسجيلات للجميع، فمن المؤسف أن ما يُفرض عليها من الرسوم الجمركية يجعل الحصول عليها أمرًا لا يَقدِر عليه إلا المتْرَفون وحدهم؛ إذ تُعدُّ هذه التسجيلات من أدوات «التَّرف»، مع أنها في الحق من صميم الثقافة التي ينبغي أن نحرص على انتشارها بين أفراد الشعب، تمامًا كما نحرص على انتشار الكتب. وليس أضَرَّ بقضية الموسيقى من تلك العقلية التي تَعُد تكوين المكتبات الموسيقية ترفًا ينبغي أن يقتصر على الأغنياء. فإذا أمكن إزالةُ هذه الحواجز التي تحول دون تذوُّق فئات الشعب على اختلافها لهذا الفن الرفيع، فعندئذٍ سيُفتح أمامنا عالم جديد، ونمارس تجرِبة فنية لم نعرفها من قبل على الإطلاق، ونستمتع بمشاعرَ وأفكار لم يُثِرها فينا من قبل أيُّ فن آخر.
ولكن كل هذه الوسائل ليست في نظري حاسمة، بل إن هناك وسيلةً أخرى لإنهاض هذا الفن، وكل فن آخر، بدونها لا تفيد الدراسة، ولا العلم، ولا الخبرة.
فالموسيقى، ككل فن آخر، مرتبطةٌ بحياة الناس الواقعية أوثقَ الارتباط. وطالما كانت هذه الحياة يَسودها الخمول، واليأس، والإحساس بالظلم؛ فمن العبث أن ننتظر نهضة حقيقية في مجال الفن. ولو لم يكن للناس في حياتهم هدفٌ وأمل في مستقبل مشرِق، فلن ينهض بينهم فن سليم؛ إذ لن يوجد الشيء الذي يعبر عنه ذلك الفن. ونهضتنا الموسيقية مرتبطة بنهضتنا الاجتماعية ارتباطًا وثيقًا. ففي اليوم الذي يُحس فيه كل فرد بكيانه، وبأن الحياة بدأت تُقبِل عليه، ويَشعر في أعماق نفسه بأنَّ له في هذه الحياة هدفًا يسعى مع أقرانه إلى تحقيقه … في هذا اليوم وحده (وكل الدلائل تدل على أنه قريب) يحق لنا أن ننتظر نهضة موسيقية وفنية صحيحة. وعندئذ يكون لهذه الخطة التي أوضحنا خطوطها العامةَ جدواها؛ إذ إنها تُمِدُّنا بالوسائل والأدوات، بينما تُمِدنا أحاسيسنا الإنسانية بأسمى المعاني والأفكار.