الفصل الأول

(بهو على طراز عربي، له جملة أبواب، أحدها زجاجي متسع يؤدي إلى شرفة على النيل، والمكان بديع التنسيق، باديةٌ فيه يدُ الفن … «عنان» مستلقية بين الوسائد على فراش وثير، تطالع كتابًا، وهي تضع على رأسها عمامة حريرية، وترتدي ثوبًا ذا سراويل، كثياب الجواري في عصر هارون الرشيد …)

إدريس (يدخل من باب في الجهة اليسرى) : سيدتي!
عنان (ترفع رأسها) : ماذا تريد يا إدريس …؟
إدريس : سيدي مريض في فراشه.
عنان : مريض في فراشه …؟
إدريس : نعم يا سيدتي.
عنان : ومتى عاد …؟
إدريس : عاد منذ قليل، ودخل غرفته توًّا، وخلع ملابسه.
عنان (تفكر لحظة) : أهو الذي أمرك أن تخبرني بهذا؟

(إدريس يتردد ولا يدري ما يجيب.)

عنان : أجب …!
إدريس : …؟
عنان : اذهب …!

(يخرج إدريس، وتبقى عنان في مكانها تفكر قليلًا، وتنظر إلى الباب الأيسر، ثم تنهض في الحال إلى بيانو كبير على مقربة من باب الشرفة، فتجلس إليه وتأخذ في العزف.)

مختار (يظهر من الباب الأيسر في روب دي شامبر) : أتوسل إليكِ أن تكفي عن هذه الضوضاء …!
عنان (تلتفت إليه ملطِّفة من شدة العزف) : أنت …؟!
مختار (في تقطيب) : نعم! أنا.
عنان : يا للمصادفة السعيدة …!
مختار : ألم يخبركِ أحد أني مريض …؟
عنان : أخبرني إدريس (ثم تعود إلى العزف في شدة).
مختار (يصيح بها) : ألم تسمعي ما قلت أيتها السيدة؟
عنان (تلطِّف العزف كي تتكلم) : ماذا قلت …؟
مختار (في حدة) : قلت لكِ أنْ كُفي عن هذه الضوضاء!
عنان (في رقة) : أتسمي عزفي ضوضاءَ يا عزيزي …؟
مختار (في عبوس) : أسميه ما شئت.
عنان (في رقة) : أأنت مريض يا عزيزي …؟
مختار (في عبوس) : لقد أخبرك إدريس.
عنان : نعم … أخبرني إدريس … (ثم تعود إلى العزف في شدة).
مختار (يتقدم ويدنو منها) : لم أعد أستطيع صبرًا … أغلقي هذا.

(ثم يغلق بنفسه البيانو في قوة.)

عنان (تلفظ صيحة خافتة) : آه …!
مختار (متغير الصوت فجأة) : هل وقع الغطاء على إصبعك؟
عنان : كلا!
مختار : أنت تكذبين!
عنان : إني لم أكذب قط في حياتي!
مختار : أريني إصبعكِ.
عنان (تمد يدها إليه) : ها هي ذي.

(مختار يتناول إصبعها ثم يفحصها ويلثمها.)

مختار : أمحرَّم عليَّ هذا؟!
عنان : نعم.
مختار : لماذا …؟
عنان : لأني لم آذَنْ لك.
مختار : نعم، لقد أخطأت خطأً جسيمًا … أرجو أن تعتبري ما حدث كأن لم يكن.
عنان : لك هذا!
مختار (بعد لحظة) : وأنا وحدي المحرَّم عليه ذلك …؟
عنان : ليس هذا شأنك.

(مختار ينظر إليها طويلًا في صمت …؟)

عنان : لماذا تنظر إليَّ هذه النظرة …؟
مختار (في هدوء) : هنالك لحظات أحس فيها حاجةً إلى أن أنشب أظفاري في هذا العنق البديع … (يشير إلى عنقها).
عنان (باسمة) : أعلم ذلك حقَّ العلم!
مختار (بعد قليل) : عنان!
عنان : ماذا تريد مني …؟
مختار : أريد أن أتحدث إليكِ مليًّا.
عنان : فيمَ …؟
مختار : في موضوع خطير.
عنان : تحدَّث إذن على عجل!
مختار (يجلس بين الوسائد) : تعالي هنا إلى جانبي!
عنان (تتحرك) : كلا … إني مصغية إليك في مكاني.
مختار (في قوة) : قلت لك تعالي واجلسي بجانبي …!
عنان (تلبي وتذهب إلى جانبه) : يا لها من أوامر! … جلسْت!
مختار (يميل إليها) : عنان!
عنان (تتباعد قليلًا) : ماذا بك …؟
مختار (يستنشق) : شذى البنفسج الذي تتعطرين به … ما أجمله … ألَا تذكرين قولي لكِ ذات يوم إنه لو كان للحب شذًى، لكان هذا شذى الحب؟
عنان : أهذا هو الموضوع الخطير …؟!
مختار (ينظر إليها طويلًا) : يا لكِ من امرأة!
عنان : ماذا …؟ أكمل عبارتك …؟!
مختار : لست أجد وصفًا خليقًا بكِ!
عنان (باسمة) : أرى في وجهك أنك تودُّ الآن لو تنشب أظافرك في عنقي!
مختار (كالمخاطب نفسه) : لم أعد أستطيع صبرًا!

(ينهض.)

عنان : خيرًا تفعل بانصرافك … إن هذه الحال لا يمكن أن تدوم بغير أن يحدُث حدَث.
مختار : نعم … إني أخشى ذلك!
عنان : عُد إلى سريرك!
مختار (في قوة وعزم) : بل سأفعل ما هو أجدى من هذا.

(يخرج مختار من حيث أتى … وعنان مُطرِقة لحظة … وفجأةً يُسمع بوق سيارة، فتنهض عنان إلى الباب الأيسر الذي خرج منه مختار، فتغلقه في عجلة وحذر، ثم تتجه إلى باب الصدر تستقبل القادم.)

إدريس (يدخل من باب الصدر في عجلة واهتمام) : سيدي الباشا …!
الباشا (يدخل من خلفه سريعًا) : عنان …! أين مختار؟
عنان (في هدوء) : لماذا تسأل عنه يا أبي على هذا النحو؟
الباشا : أجيبي أولًا … أهنا هو أم مسافر؟
عنان : أهو مسافر …؟
الباشا : ألا تعلمين …؟
عنان (في شبه استدراك) : أجهل القطار.
الباشا : الليلة إلى الأقصر في صحبة.
عنان (هادئة) : امرأة!
الباشا : من أخبركِ …؟
عنان : ليس يهم الذي أخبرني … لماذا جئت الآن تسأل عنه …؟
الباشا : لأن هذا الرجل لا ينبغي أن يبقى لكِ زوجًا بعد اليوم.
عنان : خفِّض صوتك.
الباشا : أهو هنا؟
عنان (في استدراك) : الخدم!
الباشا (ينظر في ساعته) : الساعة الآن السادسة وعشر دقائق، ولم يعُد بعد … لا ريب أنه يأتي عجِلًا كي يأخذ حقائبه ويمضي بقطار السابعة.
عنان : وكيف علمت يا أبي؟
الباشا : هذا أمر لا يخفى على أحد … إنه هو الذي أخبر «كامل» زوج أختك وأخبر كل المتصلين بنا … نعم … إن الغريب المحزن في أمر هذا الرجل أنه يُشيع ما يفعل كأنما هو لا يحفِل بكِ ولا يخشى أن يبْلغُكِ أمرُه …!
عنان : قل إنه يريد أن يبْلُغَني أمره.
الباشا : إلى هذا الحد يسعى في تنغيص حياتكِ …؟!
عنان (باسمة) : لا تخف … لا تخف … لا شيء يؤثر في حياتي.
الباشا : وأنتِ … لأي سبب تسكتين على كل هذا؟! … ألثروته …؟
عنان : هذا شأني!
الباشا (في شيء من الغضب) : وشأننا أيضًا … ألَا تعلمين أن في عمل هذا الرجل امتهانًا لكِ؟
عنان (باسمة) : امتهانًا لمقام ابنة وزير سابق …!
الباشا : نعم … امتهانًا لنا جميعًا.
عنان (تنظر إليه مليًّا) : أُقسم إن لديك أخبارًا عن قرب عودتك إلى الجنة …!
الباشا (في اهتمام) : کيف علمتِ …؟
عنان (باسمة) : عند دخولك شممت رائحة وزير جديد قد انطلقت في البيت …!
الباشا : كلا … إني لا أريد العودة إلى الوزارة.
عنان : أترفض الكرسيَّ لو عُرض عليك اليوم …؟
الباشا : ولِمَ لا …؟
عنان : هذا حلم بعيد المنال!
الباشا : كرسي الوزارة؟
عنان : بل خلاصك من حبه!
الباشا : ومن قال لك إني أحبه …؟
عنان (باسمة) : وهل يخفى الحب …؟
الباشا (باسمًا) : أيتها الشاعرة، لا تسرفي في اللفظ …! ما أنا إلا رجل يحب اليوم أن يعيش في هدوء بين ذويه وذكرياته.
عنان : أي ذكريات …؟ لو أنك تكتب على الأقل مذکرات؟ … ولكنك لا تفعل شيئًا … إنك تنتظر …
الباشا (في رجفة) : أنتظر ماذا …؟ كلا … إني لا أنتظر شيئًا!
عنان (كالمخاطبة نفسها) : حقًّا ما أشقَّ الانتظار …!
الباشا : عنان …!
عنان (كالمخاطبة نفسها) : أنا أيضًا أنتظر …
الباشا (في عجب) : أنت؟!
عنان : نعم!
الباشا : تنتظرين ماذا …؟
عنان : أنتظر يوم الخلاص!
الباشا : الخلاص من ماذا؟
عنان (كالمخاطبة نفسها) : من حبه.
الباشا : كرسي الوزارة …! أنتِ أيضًا …؟!
عنان (في ابتسامة باهتة) : كلا … لست أعني كرسي الوزارة!
الباشا : إني لا أفهم ما تقولين.

(صمت.)

عنان (ترفع رأسها) : ما علينا …!
الباشا : ماذا بكِ يا عنان؟
عنان : لا شيء … (في صوت آخر) إني ما زلت أذكر كلمتك يا أبي يوم رُشحت وزيرًا في المرة الأولى … أذكر: «إذا دخلتُ الوزارة فقد دخلت الجنة …!»
الباشا (في حرارة) : جنة ليست خالدة …!
عنان : ككل جنة على هذه الأرض.
الباشا : قصيرة العمر.
عنان : كجنة الحب.
الباشا : صحيح!
عنان (كالمخاطبة نفسها) : ومع ذلك، هنالك أحوال ينبغي للإنسان فيها أن يبدأ هو بالخروج من الجنة في عزم وشجاعة قبل أن يُطرد منها طردًا.
الباشا : نعم … هنالك أحوال … لكن ليس من السهل دائمًا أن ترى عين الإنسان هذه الأحوال.
عنان (كالمخاطبة نفسها) : عيني أنا ترى دائمًا.
الباشا (مازحًا) : إنها ليست عين وزير!
عنان (كالمخاطبة نفسها) : إني أرى تلك الجنة الزائلة شيئًا مخيفًا، وأتمنى أن تزول بإرادتي أنا … وأخشى أن تذهب دون أن أستبقي منها على الأقل شيئًا جميلًا أو عملًا عظيمًا.
الباشا : عملًا عظيمًا! … هذا كلام الشباب والكتب.
عنان : كلا يا أبتِ … بل كلام قلبي وشعوري. إني ألقي عليك أيضًا هذا السؤال.
الباشا : أي سؤال؟
عنان : لقد دخلت يا أبي الوزارةَ وخرجت منها … فماذا حدث؟
الباشا (يتفكر لحظة) : ماذا تريدين أن يحدث؟
عنان : ألَا يمكن أن يحدث شيء ذو أثر عظيم؟
الباشا : من غير شك، يحدث شيء …
عنان : ماذا يحدث؟
الباشا : يحدث أن الوزير عند دخوله الوزارة يفقد نصف عقله.
عنان : أهذا كل ما يحدث؟
الباشا : ألَا يكفيكِ هذا؟!
عنان : وعند خروجه منها؟
الباشا : يفقد النصف الآخر.
عنان : كلا … لا تقل هذا الكلام … إنك تمزح!
الباشا : دعينا يا عنان مِن كل هذا، عودي إلى شأنكِ أنتِ، وكتبكِ، وزوجكِ.
عنان : أصبت؛ فلأتحدث عن نفسي، أخبرني يا أبتِ، کيف ترى هذه العمامة؟!

(تشير إلى عمامتها الحريرية فوق رأسها.)

الباشا (ينظر إليها وإلى البهو باسمًا) : العمامة والبهو والسراويل! … في أي عصر تعيشين أيتها الفتاة؟!
عنان (باسمة) : إني جارية هارون الرشيد!
الباشا : بل أنت عنان جارية الناطفي … (في صوت آخر) حقًّا ما كان يخطر لي على بال أن شغفي بالشعر والتاريخ ينتقل إلى ابنة لي على هذا النحو؟!
عنان : نعم … تُرى، ماذا كنت أفعل بغير الشعر والغناء؟ … إنهما عزائي في الحياة!
الباشا (في شيء من التأثر) : عِمي مساء يا عنان! … شأنكِ إذن مع زوجكِ! … إنكِ فيما أرى أسمى فكرًا من أن تُعني بحماقات هذا الرجل.

(يخرج وتشيِّعه عنان، ثم تعود إلى الوسائد فتستلقي عليها بكل جسمها الممشوق، وتطالع كتابها، ولا تمر لحظة حتى يُفتح الباب الأيسر ويظهر منه مختار لابسًا أغلب ثياب الخارج، ومنهمكًا في عقد رباط الرقبة.)

مختار (يتقدم ثم ينادي) : يا إدريس!

(ثم يترنم بالغناء في صوت خافت وهو أمام مرآة الجدار.)

(عنان تلقي عليه نظرة سريعة ثم تعود إلى كتابها ولم تلفظ حرفًا.)

مختار (يلتفت إليها) : غريب أنك لا تسألينني لماذا عجلت اليوم بالعودة؟

(عنان تهز كتفيها دون أن تلتفت إليه.)

مختار : لا تهزي كتفيك … سليني لماذا عدت مبكرًا اليوم؟
عنان (وهي ناظرة في الكتاب) : لأنك مريض.
مختار : لست مريضًا كما ترين … ولا إخالك تجهلين السبب الحقيقي.
عنان (في غير اكتراث) : لأنك مسافر.
مختار : نعم … إلى الأقصر.

(عنان تطالع ولا تجيب.)

مختار : ليس يهمك هذا أيضًا؟
عنان : كما ترى!
مختار (يكظم غيظه، وتمضي لحظةُ صمت، ثم لا يتمالك فينادي في حدَّة) : يا إدريس!
إدريس (يظهر) : نعم!
مختار : هيئ حقائبي … سأمضي في سفر طويل.

(إدريس يخرج مسرعًا.)

مختار (يلتفت إلى عنان ويرمقها لحظة) : ماذا تطالعين يا عزيزتي بكل هذا الانهماك؟
عنان (بدون أن تلتفت إليه) : كتابًا.
مختار : لست أعمى … إني أرى أنه كتاب!
عنان : ولماذا تسأل إذن؟
مختار : وأنه لأبي نواس … أليس كذلك؟ … وأنكِ ربما تطالعين في هذه اللحظة قوله لعنان جارية الناطفي …
عنان (تلتفت إليه) : أتصفحته؟
مختار (يستمر مترنمًا) :
عنانُ يا من تُشبه العينا
أنتم على الحب تلومونا
حُسنكِ حُسن لا يُرى مثلُه
قد ترك الناسَ مجانينا
عنان (باسمة في خبث) : إياي تعني بهذا؟
مختار (يشير بإصبعه؛ علامة السكوت) : صه … لا تذكري الشطر الآخر من البيت، إن عنان الأخرى تخابثت على المسكين أبي نواس، وأنتِ اليوم تصنعين معي مثل ذلك، والتاريخ يعيد نفسه دائمًا.
عنان : أي تاريخ؟ … إنك لا تشبه أبا نواس في قليل أو كثير.
مختار : أهذا رأيك فيَّ؟
عنان : تشبهه في لَهْوه … ربما … لا في جِدِّه.
مختار : هذا الاحتقار لي ستدفعين ثمنه غاليًا.
عنان : لا أظن أني أحتقرك.
مختار : إني أحس أنك تبخسينني قدري، وتنكرين عليَّ كل موهبة.
عنان : لست أرى أني أبخسك قدرك.
مختار : وإني لأحس البغضاء التي تضمرينها لي.
عنان (في تهكم) : البغضاء كلمة شديدة.
مختار : إني لست أرتاع لشيء قدْرَ ما أرتاع لهذا النوع من التكبر الصامت والترفع والفتور والابتسامات الباردة والضحكات الهازئة وقلة العناية والاكتراث وعدم الاحتفال الذي ألقاه منكِ، ويكتنفني وُجومٌ في هذا البيت.
عنان (في تهكم) : يا لك من مسكين!
مختار (مستمرًّا) : إني كذلك أُبغضك … ولأكن صريحًا … إلى حد بعيد أبغضك.
عنان (ساخرة) : إنك حقيقةً صريحٌ إلى حد بعيد!
مختار (مستمرًّا) : لكن عبثًا أحاول في نفسي أن أصغِّر من شأنكِ، لم أستطع يومًا إقناع نفسي أنكِ امرأة كأيَّة امرأة لا قيمة لها ولا لعقلها وشخصيتها.
عنان (تطرح كتابها جانبًا وتستوي جالسة) : مختار! … تعالَ إلى جانبي.
مختار (يذهب في الحال إليها ويجلس كما أرادت) : عنان …
عنان : أتشعر أحيانًا بيأس؟
مختار : نعم … وأسائل نفسي عنكِ كثيرًا، وعن علة هذا الفتور منكِ والإعراض منذ زواجنا.
عنان : لست أسألك عن هذا، ألا تشعر بيأس من عملك …؟ من الحياة …؟ من أمر مستقبلك …؟ لقد كانت لك موهبة للكتابة وقرض الشعر، ألا تشعر أنك أضعتها؟!
مختار : أحيانًا أشعر بشيء مثل هذا … ويخيَّل إليَّ أني أصغر منكِ شأنًا، وأني مخلوق عاطل في الحياة، لا يُحسن عملًا، ولم يُخلق ليعمل، ولا قدرة له على شيء، وكنت أفضي بشعوري هذا إلى صديق، فكان يسفِّه من رأيي حتى يملأني اطمئنانًا.
عنان : من هذا الصديق؟ … امرأة؟
مختار : يحزنني أنكِ تلفظين هذه الكلمة بغير غضب.
عنان : ولِم الغضب؟ … إني أعرفك حق المعرفة.
مختار : وأنا للأسف لا أعرفكِ مطلقًا، أريد على الأقل أن أعرف ما تُضمرين لي في أعماق نفسكِ، إنكِ المرأة الوحيدة في حياتي التي لم أستطع معرفة ما تُكنِّينه لي … انقضى الآن عام على زواجنا دون أن أعرف هذا الشيء المغلق المجهول؛ الذي هو أنتِ!
عنان (باسمة) : الشيء المغلق المجهول!
مختار : نعم … وإني لأخافكِ أحيانًا … «لحظة» … أخبريني کيف شعوركِ نحوي؟
عنان : كما ترى!
مختار : لست أرى شيئًا!
عنان (ساخرة) : هذه غلطتك!
مختار : كلا … أنتِ لا تحبينني، هذا كل ما في الأمر … سيان عندك وجودي وغيابي، سفري وإقامتي، ثم حجرتكِ المنفصلة عن حجرتي … لماذا لا تَقبلين أن نعيش في حجرة واحدة كزوجين؟ … حتى لَثْم أصابعكِ تأبينه عليَّ، ها نحن أولاء في خَلوة، فهل إذا التمست منكِ أن تقبِّليني …؟
عنان (مقاطِعة) : لا!
مختار : لماذا؟!
عنان : لأني لست أريد.
مختار (في حزن) : أرأيتِ؟!

(عنان لا تجيب.)

مختار : وإذا التمستُ شم عبير البنفسج في شعركِ (يميل نحوها).
عنان (تنهض هاربة كالرِّيم المنفلت من شبكة) : لا! لا!
مختار : لا تهربي … إني لن أفعل.
عنان : لا فائدة تُرجى منك، عبثًا أحاول حملك على الكلام في شيء مفيد!

(مختار في صوت خافت وهو يتبعها بنظره.)

عنان (تتجه إلى مائدة صغيرة عليها آلة تليفون أوتوماتيكي) : ألو … ألو … أرجو حجز مقصورة في الجانب الأيمن … نعم هذا المساء … حرم مختار بك رضوان … نعم … رقم (٥) … مع الشكر!

(تضع سماعة التليفون في مكانها.)

مختار : أتذهبين إلى السينما هذا المساء؟
عنان (في ابتسام) : كما ترى!
مختار : بمفردكِ؟
عنان : ليس شأنك هذا!
مختار (في حدة) : ليس شأني هذا؟! … ومن شأني ومن حقي أن أسألكِ هذا السؤال … مع من ستذهبين؟
عنان (باسمة في هدوء) : أختي!
مختار : أنتِ كاذبة!

(عنان تهز كتفيها.)

مختار : سأذهب معكِ هذا المساء.
عنان : أوَنسيت أن حقائبك هُيئت … وأنك ماضٍ في سفر طويل … طويل؟
مختار : كلمة منك تبطل السفر، ونذهب معًا هذا المساء حيث تشائين!
عنان : كلا!
مختار : ألَا تريدين؟

(عنان تهز رأسها أنْ لا.)

مختار : عنان! … لماذا لا تريدين؟
عنان : لأني لست أريد.

(إدريس يظهر من الباب الأيسر حاملا حقائب.)

مختار (في حدة) : إدريس! … ضع الحقائب في السيارة، وليستعد السائق … إني ذاهب في الحال.

(ثم يعود إلى استكمال ارتداء ملابسه أمام المرآة.)

(عنان تدنو من البيانو وتعبث بأحد مفاتيحه الصغيرة، فيحدث صوت صغير رفيع.)

مختار (يضحك فجأة ضحكة مصطنعة) : يا لكِ من امرأة! … أحسبت حقًّا أني أبطل السفر من أجل مثلك …؟ أصبتِ في كل هذا الإعراض … إنك لست بلهاء … هذا كل ما عندكِ من مزايا …!
عنان : على النقيض … كل ما عندي من مزايا أني بلهاء!
مختار : أنتِ …؟!
عنان : ألَا تصدق …؟!
مختار : كفى … إني مسافر إلى الأقصر، وسأمكث فيها شهرًا!
عنان : شهر العسل؟!
مختار : نعم … كالشهر الذي قضيناه معًا في الشتاء الماضي!
عنان : لم ترُقْ لي الأقصر كثيرًا في الشتاء الماضي.
مختار : ولا لي أنا … لقد كان عسلًا مريرًا ذلك الشهر الذي قضيته معكِ هناك!
عنان : لست أحب أن أجرعك عسلًا مريرًا.
مختار : لقد تجرعته وقُضي الأمر … ثلاثون يومًا مرت هناك، فما رأيتكِ ابتسمت غير يومين!
عنان : ليست لي الشجاعة أن أبتسم طويلًا.
مختار (كالمخاطب نفسه) : أعرف لماذا!

(صمت.)

مختار (بعد لحظة مستذكرًا) : آه يا عنان! … ومع ذلك لن أنسى أننا كنا نعيش هذا الشهر في حجرة واحدة … نعم … إن مجرد الشعور بأنكِ معي في حجرة أمر غير قليل … إنكِ كنت تنامين ملء عينيك … وكنت أنا أقوم في الليل مرارًا لأضيء الكهرباء فوق رأسك، وأتأمل ذلك الوجه … وأستوثق من كفاية الغطاء … وكانت نفسي تسوِّل لي أحيانًا أن أقبلك، فما كنت أجرؤ … ثم ذلك اليوم الجميل؛ إذ مرضت وكدت أنتحب من وقع الصداع، فجلستِ إليَّ، وأخذتِ رأسي بين راحتيك، وقبَّلتِني هنا.

(يشير إلى خده الأيمن.)

عنان (وهي تعبث بالمفتاح الأوسط فيحدث صوت غير مرتفع) : لست أذكر ذلك.
مختار : طبعًا لا تذكرين … لقد كانت الأولى والأخيرة، وأريتِني بعدها من الاضطهاد ألوانًا … كم أُبغضك أيتها المرأة!
عنان (تضرب بإصبعها على مفتاح كبير، فيخرج صوت هائل ساخر) : يا للهول!
مختار : إني ليلذُّ لي أن أراك يومًا تتألمين … أتصدقين هذا …؟ أقسم لك إني أدفع نصف ثروتي ثمنًا لدمعة تذرف من عينيك أمامي … أتتصورين يا عنان أني ابتهلتُ إلى الله يومًا أن تمرضي حتى أشاهد ضعفك …؟ لكن العام انقضى دون أن تمرضي غير يوم واحد في الصيف، فلزمتِ حجرتكِ، وأغلقتِ الباب، ومنعتِني من الدخول عليكِ … ألَا تذكرين …؟
عنان : تطلب لي المرض …؟
مختار : وماذا تريدين أن أطلب لمثلكِ …؟
عنان : أنا لا أطلب لك سوءًا.
مختار : هذا مع الأسف صحيح … إنك لا تطلبين لي سوءًا.
عنان : مع الأسف؟!
مختار : نعم … مع الأسف …!
عنان (في تهكم) : هذه أول مرة أرى فيها من يأسف لمثل هذا …!
مختار : ليتكِ تطلبين لي الهلاك … ليتكِ تفعلين أي شيء أدرك منه لون عواطفك … لكنك امرأة محاطة بالضباب … أنا الذي ما أذلته قط امرأة … أنا الذي ألقى الطاعة والتقدير والاحترام من كل إنسان … إلا أنتِ أيها المخلوق الممقوت … ثقي أني، إذ ألهو الآن بالنساء، إنما أفعل لا رغبةً فيهن … بل رغبةً في انتهاك حرمة الزوجية … حرمة زوجة مثلكِ. إن مجرد الشعور بإلحاق الإهانة بك وبإذلال شخصك المقدس لَهُو أكبر لذةٍ عندي الآن … هذا كل ما في الأمر.

(عنان تهز كتفيها.)

مختار (في غيظ) : تهزين كتفيك …؟!
عنان : كما ترى …!
مختار (في غضب) : أيتها الخاسرة …! أنا المخطئ؛ إذ أحترمك أكثر مما ينبغي … سأغير منهجي منذ الساعة، وأصارحك بكل شيء!
عنان (في تهكم) : أهناك أشياءُ أخرى تصارحني بها …؟
مختار : إني ما صارحتكِ بعدُ بشيء … الحقيقة العظمى هي الآتية.
عنان (في سخرية) : العظمى …؟!
مختار : نعم … أنت، ولا شك، فهمتِ خطأً لما ترين ملاطفتي أني أحبكِ … أو أني أحببتك منذ تزوجنا … هذا غلط محض يا سيدتي … لو أن الأمر كذلك لَمَا كنت أسافر الليلة إلى الأقصر وأترككِ وحيدة … الحقيقة أني أحب يا سيدتي حبًّا مبرِّحًا … مؤلمًا!
عنان (باسمة ساخرة) : يا للعاشق الولهان!
مختار : وكنت أكتم عنك احترامًا للزوجية!
عنان : يا للتناقض المبين …! منذ دقيقة واحدة كان امتهان الزوجية كل شغلك الشاغل!
مختار : هنالك أشياء لا تقال للزوجة مهما بلغ الأمر، لكني الآن لست أُحجِم عن الإقرار.
عنان : الإقرار بماذا …؟
مختار : بأني في حياتي ما أحببت سوى امرأة واحدة؛ هي هذه … معي صورتها دائمًا … أتريدين رؤيتها …؟
عنان : كلا … لا داعي!
مختار : أحب هذه السيدة إلى حد غير معروف في تاريخ الحب!
عنان : ولماذا تقول لي هذا الكلام …؟
مختار : لأني قد عزمت ألا أكتمَك شيئًا.
عنان : إني ما طلبت إليك الإفضاء إليَّ بأسرارك …؟
مختار (في سرور) : أيؤلمكِ أن تسمعي هذه الأسرار؟
عنان (في تردد) : كلا … ولكن …
مختار : إذن فاسمعي، هذه المرأة يا عنان كانت تستطيع بكلمة أن تدخلني الجنة!
عنان : إن المرأة لا تُدخل الجنة.
مختار : أجل …!
عنان : وظيفة المرأة الإخراج من الجنة.
مختار : هذا كلامك أنتِ.
عنان : ولا وزن له عندك …؟
مختار : بالطبع … أما كلامها هي … أتريدين أن تعرفي من هي التي أفضِّلها عليك …؟

(عنان تهز كتفيها.)

مختار (في غضب) : قلت مرارًا لا تهزي كتفيكِ!
عنان (في هدوء) : أوَتمنعني من إظهار رأيي؟
مختار (في حدة) : هذا ليس إظهار رأي، وإنما هو سوء أدب.
عنان (في صوت خافت) : سوء أدب؟
مختار (في حنق) : نعم!
عنان (في هدوء) : صدقت … إنك لم تعُد تحترمني.
مختار : أكثر من هذا … أراكِ في حاجة إلى التأديب!
عنان : أيضًا؟!
مختار (صائحا) : أنتِ امرأتي، ولي عليكِ حق التأديب، وإني لغافل إذ ألجأ إلى الرفق واللين مع مثلك، مضى اللطف والرفق، وسأنقلب رجلًا خليقًا بتأديب امرأة … إن المرأة مخلوق تافه، وكما ذكر كتاب ألف ليلة: «ينبغي للرجل إذ يدخل على المرأة ألا ينسى أن يُخفي في ثيابه سوطًا.»
عنان (هادئة) : في غرفتك سوط للخيل!
مختار : سآتي به … وسترين أني لا أُحجم الساعة عن استعماله!
عنان (في هدوء غريب) : اذهب إذن وأحضر السوط.
مختار : سأفعل، وسيترك السوط بهاتين الذراعين أثرًا لا يُمحى (يذهب سريعًا إلى حجرته من الباب الأيسر).
عنان (في مكانها جامدة تتنهد) : ماذا أصنع بعدُ يا إلهي! أعطني قوةً اليومَ أيضًا!
مختار (يعود وفي يده السوط) : ها هو ذا.
عنان (تغير صوتها قائلة) : إن كنت حقًّا رجلًا فلتضربني به!
مختار : سأضربك ضربًا مبرِّحًا حتى تذرفي الدمع!
عنان (جامدة تنظر إليه نظرات طويلة فيها معانٍ مختلفة، وقد أرخت أهدابها الطويلة على نحو يَسحَر) : لماذا تجبن؟
مختار (يدنو منها ويرفع السوط) : خذي!

(عنان لا تتحرك.)

مختار (ينزل سوطه دون أن يمسَّ عنان) : ألا تتحركين؟
عنان : لماذا لا تضرب؟
مختار (في هدوء) : من أي شيء أنتِ مصنوعة؟!
عنان (باسمة) : لماذا لا تضرب؟
مختار : أنتِ ميتة القلب لا ينفع فيك ضرب.
عنان : أمَا من وسيلة أخرى لتأديبي؟!
مختار : كنت أحسبكِ تبكين لمرأى السوط!
عنان (باسمة) : كما بكت عنان!
مختار (باسمًا) : جارية الناطفي …
عنان (باسمة) : وقال فيها الأعرابي …
مختار (ينشد) :
إن عنانًا أرسلت دمعها
كالدرِّ إذ ينسل من خيطه
عنان (تنشد) :
فليت من يضربها ظالمًا
تجف يمناه على سوطه
مختار (يُلقي بالسوط من يده على الفراش) : ظالمًا أو غير ظالم …
عنان : أندمت؟
مختار : إني واثق بأني لم أظلمك يومًا!
عنان : أعترف بذلك!
مختار : عنان … أخشى أن يكون قد أغضبكِ مزاحي هذا أو ثقَّل عليكِ … فلنتصافح … هاتي يدك، وخذي من هذه الحلوى.

(يخرج من جيبه صندوقًا صغيرًا من الحلوى.)

عنان : أبعد هذا كله؟
مختار : أوَكنتِ تتصورين غير ذلك؟ … لقد أحضرت الحلوى مع السوط؛ إذ كنت أعلم أني مهما ضربتك فلن أدعك حتى تصفحي!
عنان (باسمة) : أعترف أنك رجل لا تخلو من ظَرف
مختار (ينظر إليها في ارتياب) : أتسخرين؟
عنان : بل أقول الجد.
مختار (يخرج من الصندوق قطعة حلوى) : اقبلي مني هذه!
عنان : أوَتراني جديرةً بقطعة من الحلوى؟
مختار : ولِم لا؟
عنان : إني مخلوق تافه!
مختار : ماذا أسمع؟
عنان : وفي حاجة إلى التأديب!
مختار : من قال هذا الهراء؟!
عنان : قاله رجل!
مختار : لا بد أن يكون عاشقًا أو مجنونًا!
عنان (تضحك عن ثغر من اللؤلؤ ضحكةً رقيقة ساحرة) : بديع!
مختار : لأول مرة تضحكين هذه الضحكة، منذ زمن لا أعيه … كم أنا سعيد! … أتأذنين لي أن أضع قطعة من الحلوى في هذه الكأس من اللؤلؤ؟

(عنان تفتح فمها وتمده إليه.)

مختار : ما أحلى أويقات إشراقك! … وما أقصرها! … أنت في هذا البيت كالشمس في لندن!

(تبتسم ويتناول قطعة أخرى من الحلوى ويلثمها عن بُعد ويضعها في ثغرها.)

عنان : وأنت أيها المخلوق … كيف أصفك! … ألا تحب الحلوى، خذ هذه في فمك!

(تأخذ قطعة من الصندوق وتضعها في فمه.)

مختار : أشكر لكِ هذه اللحظة! … وتقولين، يا عنان، إن امرأة لا تُدخل الرجل الجنة؟
عنان (في شبه رعدة) : لا تذكِّرني بالجنة!
مختار : لماذا؟ … إنكِ مخطئة … أعطيني قطعة أخرى!

(يفتح فمه، وإذ تريد عنان أن تضع في فمه القطعة … يحاول مختار أن يلثم يدها الدانية من فمه … فتجذبها في الحال.)

عنان (تصيح به) : دع هذه اليد! … دع هذه اليد …!
مختار (مرتاعًا) : ممَّ تخافين؟!
عنان (في اندفاع) : إني خائفة!
مختار : خائفة مني؟ … أفصحي! … أتكتمينني شيئًا؟ … ماذا بكِ؟
عنان (تتمالك وتستدرك) : كلا … لا شيء مطلقًا … إني لست خائفة شيئًا … إني أخطأت التعبير … أردت أن أقول خائفة من ضغط يدك … هذا كل ما في الأمر.
مختار : وهل تخيفك يدي بهذا المقدار؟
عنان : نعم!
مختار (يُطرق) : هذا غريب … لست أفهم من أمرك شيئًا … عنان … يخيل إليَّ أنكِ تخافين السعادة وتفرين منها، ولا تُطيقين النظر إليها وجهًا لوجه!

(عنان في إطراق واضطراب.)

مختار : نعم … إني أرى الآن.
عنان (تبتعد قليلًا) : لا!
مختار : أرأيتِ؟ … إنكِ تبعدين كلما دنوتُ منكِ، إنكِ تخشين الجنة! … ولا تجسرين على البقاء فيها طويلًا!
عنان (تملك نفسها) : سأخرجك منها.
مختار (في رعدة) : ماذا تقولين؟
عنان (في عزم) : كما أخرجت حواء آدم!
مختار : إنك، ولا شك، تمزحين يا عنان … وأعترف أن مزاحك يخيفني، ومع ذلك … هل أنا دخلتها؟ … إن كلمتك لم تصدر بعد …؟
عنان : إنك فيها طول حياتك … أنت من أهلها منذ ولدت!
مختار : أنا؟
عنان : نعم … أنت … وهل لأهل الجنة صفات غير صفاتك الثلاث؟!
مختار : أي صفات ثلاث؟
عنان : الشباب، والفراغ، والثراء!
مختار : أنتِ دائمًا تسخرين!
عنان : وهل لأهل الجنة شغل سوى التنقل من هوًى إلى هوًى، ومن هناء إلى هناء!
مختار : کفى مزاحًا يا عنان!
عنان : كل طلب لك مجاب … كم من النساء عرَفت؟! … وكم من النساء هجرت؟! … هل رفضت لك امرأة طلبًا؟ … هل عصى لك أحد أمرًا؟ … كل ثمار الأرض وقلوب الغيد طوع بنانك … إنك منذ ولدت السيدُ الآمِر الجميل! … ها هي ذي الجنة التي أنت فيها دائمًا!
مختار : هنالك امرأة رفضت لي طلبًا.
عنان : من هي؟
مختار : إنكِ لا تجهلينها يا عنان.
عنان : ومن تكون امرأة من بين مئات؟!
مختار : هذه المرأة هي عندي كل شيء!
عنان : أرأيت؟
مختار : ماذا؟
عنان (كالمخاطبة نفسها) : هكذا الرجل دائمًا!
مختار : عنان! … إنكَ لا تعرفين.
عنان : بلى … كل ثمار الأرض لم تكن شيئًا، والثمرة الممنوعة وحدها كانت كل شيء!
مختار (في قلق) : دعينا من هذه التشبيهات والاستعارات … إن المسألة يا عنان لَأبسطُ من هذا كله!
عنان : إن المسألة لَأخطر مما تظن!
مختار (دانيًا) : عزيزتي عنان!
عنان (في تجهم) : ماذا تريد مني؟
مختار : أعُدت إلى التجهم المخيف …؟
عنان (في جد) : إنك تحسن صنعًا لو سافرت الآن!
مختار (مصدومًا) : أتريدين هذا حقًّا؟
عنان : نعم … أريده!
مختار : أجادة أنتِ … احذري! … ستجعلينني أعتقد حقيقةً أنكِ لا …
عنان : إني ضقت بك ذرعًا!
مختار : كذا! … لا بأس! … فلتكن مشيئتك (يتجه إلى باب الصدر وينادي) يا إدريس!
إدريس (يظهر وعلى ذراعه معطف مختار وعصاه) : کل شيء جاهز.
مختار (يشير إليه فيُلبسه المعطف ويتناول منه العصا) : حسن … ها أنا ذا أنصرف.

(يخرج إدريس.)

(عنان مطرقة تعبث بطرف ثوبها.)

مختار : سأسافر طويلًا كما ترغبين! … ولن أعود إلا بعد أن ألقى بقلبي بعيدًا … (لحظة، ولا تجيب عنان بشيء) ولن تطأ قدمي هذا البهو حتى يكون لي قلب جديد لا يتحرك لاسم عنان اللعين، وليتبارك اليوم الذي تصبح فيه هذه المرأة عندي كسائر النساء، لا قيمة لها … (عنان لا تتحرك) إني ذاهب … (يتحرك، ثم يلتفت إليها) ألا تريدين أن تقولي شيئًا …؟
عنان : لا!
مختار : قبل أن أذهب، ألَا تمنحينني؟
عنان (في جفاء) : ماذا؟
مختار : قُبلة!
عنان : لا!
مختار : أهي الفاكهة المحرمة؟
عنان : …؟
مختار (يدنو) : وإذا هجمت عليكِ الآن، وحصلت عليها بالرغم منكِ …؟
عنان (تسرع إلى السوط فوق الفراش فترفعه في يدها وتقول في عزم) : اسمع … إني امرأة إذا قالت فعلت … والله لئن دنوت مني لأضربن بالسوط وجهك!
مختار (يقف) : إنما أريد لثم يدك!
عنان (في تجهم) : لا سبيل إلى ذلك!
مختار : لن تري لي وجهًا …!

(يخرج بخطًى سريعة دون أن ينظر إليها وتظل هي في مكانها جامدة لحظة، ثم تلقي بالسوط بعيدًا وترتمي على المقعد باكيةً.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤