الفصل الثالث

(بهو في منزل بسيط، له باب واسع الصدر وأبواب في الجهتين، اليمنى واليسرى، وهو أقرب إلى المكتبة منه إلى بهو لمجرد الجلوس والاستقبال؛ إذ به خزائن مملوءة بالكتب المكدسة … رجل وسيدة جالسان بصبر نافد.)

عمر (يخرج ساعة) : مضت ساعة ونحن ننتظر!

(علية لا تريد أن تجيب.)

عمر : كدت أعتقد أنه ليس هنا حقيقة، وأن خادمه قد صدقنا القول!
علية : هنا … أو ليس هنا … لا بد من مقابلته!
عمر : إذن؛ فلننتظر حتى الليل، ولنترك أعمالنا!
علية :
عمر : أسامعة؟ … ولنترك أعمالنا؟!
علية : نترك أعمالنا أو لا نتركها؛ لن أنصرف حتى أراه.
عمر : أبشري إذن بضياع الليلة سدًى! … إنه لن يراكِ ولو مكثت هنا أسبوعًا!
علية : أتعني لا يحفل بي إلى هذا الحد؟ … من هو حتى يصنع معي ذلك؟
عمر : يصنع معك ما يصنع مع الناس أجمعين!
علية : خسئت!
عمر : هو لا يحب أن يرى أحدًا!
علية : لماذا؟ … ألأنه عظيم الشهرة؟
عمر : بل لأنه يفزع من الناس.
علية : لأي سبب؟
عمر : طبيعة فيه! … ولعله مرض عصبي!
علية : إنه لم يتزوج طبعًا!
عمر : أظن أنه لم يفعل! … إنه لا يحب النساء، ويهرب منهن خاصة!
علية : صحيح … هذا ما لحَظته أنا أيضًا!
عمر : هل سبق أن رأيتِه؟
علية : نعم … مرةً واحدة في حياتي!
عمر : في الصحف؟ … تقصدين صورته؟
علية : بل هو نفسه … قدَّموني إليه منذ شهر!
عمر : وهل حادثك؟
علية : طبعًا!
عمر : عبارة واحدة لا أكثر: لي الشرف بمعرفتك أيتها الآنسة؟!
علية : بل تحدث إلى مليًّا!
عمر : لا تبالغي! … مليًّا؟ … إنكِ لا تعرفين ما تقولين!
علية : إنك مغفل!
عمر : إني أزن كلماتي!
علية : أتراني لست جديرةً أن يحادثني رجل كهذا؟ … لقد حادثني أعظم الناس قدرًا ومقامًا! … لقد حادثني وزراء وكبراء!
عمر : وزراء وكبراء! … هذا جائز! … وأغنياء وظرفاء! … جائز أيضًا! … يرتمون على أقدامك! … كل هذا جائز! … أما صاحبنا فلم يسمع أنه حادث أحدًا أكثر من كلمتين أو ثلاث؛ سواء أكان يحادث رجلًا عظيمًا، أم امرأة جميلة.
علية : أنت أبله! … إنه حادثني عن دوري في روايته!
عمر : كذبت أيضًا حتى في هذا، فهو لا يتكلم كثيرًا، وإلا كنت أنا أولى منكِ بالحديث، يوم جئته أتلقى تعليمات عن الرواية، وأنا المخرج الفني!
علية : أولم يقل لك شيئًا؟
عمر : كلمتين.
علية (في اهتمام) : ماذا؟
عمر : قال «افعل ما شئت … افعل ما شئت! …» ثم غرق في صمت أحرجني، فاستأذنت وانصرفت!
علية : هل كان عابس الوجه؟
عمر : إنه دائمًا كذلك … حتى في صوره.
علية (كمن تخاطب نفسها) : نعم … يخيل إليَّ أن هذا الرجل لا يمكن أن يبتسم!
عمر (يعود إلى النظر في ساعته) : أتعرفين كم الساعة الآن؟ … الخامسة! … أي إن أمامنا أقل من ساعة على رفع الستار! … أنسيتِ أن اليوم حفلة نهارية؟
علية : هذا لا يهمني!
عمر (ينظر إليها محدقًا) : هذا لا يهمك؟!
علية : نعم … لا يهمني!
عمر : هذا يهم من؟! … أتستطيعين أن تجيبي؟!
علية (في ضيق) : لا تحرج صدري!
عمر (بعد لحظة) : هل من الضروري رؤيته الآن؟
علية : نعم.
عمر : أتستطيعين إخباري … ما وجه الضرورة؟

(علية تبدي إشارة ضيق وغضب!)

عمر : لا تغضبي! … سحبت سؤالي.
علية : إذا كنت تريد الانصراف فانصرف أنت.
عمر : وأترككِ وحدكِ ها هنا؟
علية : وأي ضرر في ذلك؟
عمر (في تخابث) : صدقت … ولا ضرر؟ … على العكس … الفائدة كلها في ذلك!
علية : أي فائدة تعني؟
عمر : طبعًا … تفضلين أن تلاقيه على انفراد!
علية : ما الذي يحملك على هذا الاعتقاد؟
عمر (باسمًا في خبث) : يا سيدتي العزيزة! … إن الفقير الواقف أمامك، مدير فني منذ عشرة أعوام! … منذ كنتِ طفلة تلعبين … وكم رأى من ممثلات! … وكم شاهد من أطماع وأحلام لممثلات؟ … لا سيما الكواكب منهن والنجوم!
علية (في تقطيب) : ماذا تقصد؟!
عمر : أقصد أن الذين حدثوكِ عن «رضوان» قد خدعوك.
علية (في جفاء) : لم يحدثني أحد عنه، ولم أسأل أحدًا أن يحدثني عنه.
عمر : إلا البارحة، حيث لم تتركي مخلوقًا حيًّا في المسرح دون أن تسأليه عن المؤلف … حتى خُيِّل إليَّ أنكِ كنتِ ترقبين ليلة الأمس منذ زمن طويل … لقد كنت، ولا شك، تعتقدين أنه لن يتخلف عن الحضور، في مثل هذه الليلة!
علية (كاظمة) : وبعد؟
عمر : وبعد … فلما علمت أنه لم يحضر شحب لونُكِ واضطربت أعصابك، وكدت تضربين «سالم» الملقن؟
علية : وبعد.
عمر : وبعد، لا شيء طبعًا، سوى أنكِ عدت إلى بيتكِ في كآبة … وما إن أصبح الصباح حتى لبِستِ وجئتِ هنا، فلما قيل لك إنه غير موجود انصرفت، وأتيت العصر وانتظرت … وها أنت ذي تنتظرين، وستنتظرين إلى ما شاء الله!
علية : وأخيرًا، ماذا تريد أن تقول؟
عمر (باسمًا) : ليس لي أن أقول شيئًا … إني فقط أسرد وقائع بريئة!
علية (متضاحكة) : هذا الشيخ المسن المكتئب؟!
عمر : سن الرجل لا يهم الممثلة الطَّموح.
علية : إنك لا تفهمني أيها المدير الأحمق!
عمر : إني أفهمك أيها الكوكب الساطع كما فهمت من قبل بقية الكواكب!
علية : إنك مخطئ إذا حسبتني كبقية الممثلات.
عمر : إن غرضك على كل حال شريف، ويدهشني منك أنك تخفينه؛ حيث تتباهى بإعلانه الأخريات.
علية : اخرس!
عمر : أقسم لك بشرف مهنتي، إني مهتم بالأمر غاية الاهتمام … لأني أرى غرضك إنما هو في سبيل الفن!
علية : قلت لك اخرس!
عمر (في حركة تمثيلية) : خرست، وأُسدل الستار يا مولاتي! … لكن نسيت كلمة! … أن أقول إن «مختار رضوان» ليس مثريًا … يقال إنه كان فيما مضى ذا ثروة ورثها عن والدته … ولكنها ذهبت، وهو يعيش الآن على ربع بسيط، وعلى ما يأتيه من عمله … هذا ما أردت أن أنبهك إليه، حتى تكوني على بينة من أمرك!
علية : لا شأن لي بثروته!
عمر (في دهشة) : ماذا أسمع؟! … أتريدين القول بأنكِ تنتظرين هنا لسبب آخر؟!
علية : كفى!
عمر : ولكنكِ قلتِ الساعة، أنت نفسك، إنه كهل مسن مكتئب!
علية (في حنق) : ألا تريد أن تكفَّ عن الكلام في هذا؟
عمر : الآن، مستحيل! … لقد بدأ الشك يخالجني! … لو أنه على الأقل أصغر من ذلك سنًّا! … ولو لم تكن في ملامحه هذه الصرامة والكآبة.
علية : «عمر» اسکت!
عمر : سكت، وأُسدل الستار! (لحظة صمت.)
علية (مطرقة) : إنني أحترم هذا الرجل … هذا كل ما في الأمر … احترامًا عميقًا! … نعم … وأُحس نحوه شيئًا من العطف … إني لم أره سوى مرة، لكن صورته ووجهه الحزين انطبعا في نفسي دائمًا، وهذه القصة التي كتبها … أقسم لك يا «عمر» إن فيها سطورًا تُبكيني لغير ما سبب، وكم أتلوها وحدي كل مساء، وأردد كلماتها الحزينة، وأنظر من نافذتي والشمس تغيب، فلا أتمالك! … إني ما تأثرت في حياتي مثل هذا التأثر!
عمر : شيء جميل!
علية : إنك تتهكم!
عمر (في تمثيل) : حاشا لله! … إني لم أكن يومًا جادًّا أكثر مما أكون الساعة! … (ينظر في ساعته ثم ينهض) إلى اللقاء في المسرح … لا تتأخري عن السادسة!
علية : أتذهب؟
عمر : ينبغي أن أكون هناك قبل الميعاد بمقدار نصف ساعة على الأقل! … حسب التعليمات!
علية : أوَتتركني هنا وحدي؟
عمر : طبعًا … وأي ضرر في ذلك؟
علية : «عمر»! … ابقَ!
عمر (ينظر إليها محدقًا) : أخائفة؟
علية (بصوت خافت) : نعم!
عمر : مم تخافين؟
علية : لست أدري! … ابقَ معي اليوم!
عمر : يا للعجب العجاب! … «علية حمدي»، التي تخفق لها القلوب، وهي جامدةٌ، ترتجف الآن خوفًا في هذا المنزل؟!
علية (في كبرياء) : لست خائفة … اذهب حيثما شئت.
عمر : نعم! تجلدي!
علية : خسئت!

(عندئذٍ يُسمع صوت في حجرة داخلية ينادي: يا إدريس.)

علية (تشير إلى جهة الصوت، في همس) : عمر!
عمر (ينظر إليها محدقًا) : هذا هو! … يا لله! … ما هذا الاحمرار والاخضرار، كأنما كل مصابيح الإضاءة قد تسلطت بألوانها على مسرح وجهك!
علية (ناظرة إلى جهة الصوت) : صه!

(الصوت ينادي مرة أخرى: يا إدريس.)

عمر (يتحرك) : إني ذاهب.
علية : لا تذهب.
عمر : ماذا؟ … أعدت إلى …
علية (هامسة) : عمر! … ألا تسلم عليه وتسأله عما منعه من الحضور البارحة؟
عمر : لا … الوقت أزف لانصرافي … افعلي أنت ذلك نيابةً عني وعن الفرقة … إلى الملتقى! (ينصرف بسرعة).

(يُفتح باب بالجهة اليسرى، ويسمع صوت نداء واضح: يا إدريس، أين الكراوية؟)

إدريس (يظهر مسرعًا وقد كبِرت سِنُّه بعض الكِبَر عن ذي قبل) : فنجان الكراوية!

(عندئذٍ يظهر مختار من الباب الأيسر وهو لابس رداء للمنزل من الصوف، وعلى رأسه قلنسوة منزلية … وقد ابيضت سوالفُه قليلًا وتجعَّد وجهُه بعضَ الشيء.)

مختار : نعم … كالمعتاد! (إدريس يخرج … ويستدير مختار فيلمح علية) مَن هنا؟
علية (واقفة في شيء من الاضطراب) : أنا يا سيدي الأستاذ! … جئت کي …
مختار (صارخًا من غير قصد) : أنتِ من؟
علية : ألا تذكرني يا سيدي؟ … أنا «علية حمدي» ممثلة الدور الأول في رواية «الخروج من الجنة»، ألا تعرفني؟ … إني تقدمت إليك مرةً قبل الآن! … كان ذلك قرب قصر النيل، في عصر خميس!
مختار : نعم … أذكر التاريخ … كان هذا من نحو شهر.
علية : نعم … منذ شهر!
مختار : نعم!
علية : سيدي الأستاذ لا يسألني لماذا جئت؟ … ولا يريد أن يعرف السبب الذي أتى بي؟
مختار (يشير إلى مقعد) : بالطبع!
علية (تجلس) : لقد لقيت الرواية نجاحًا لم يسبق له نظير في مصر.
مختار (في غير حماسة) : حقيقة؟
علية : أوَما كنت تتوقع لها هذا النجاح يا سيدي الأستاذ؟ … إن اسمك على رواية لَكفيل أن يرفعها إلى السماء.
مختار (في غير اكتراث) : لا شأن لنا الآن بالسماء.
علية (تنظر إليه ولا تفهم عبارته) : لا تحسب يا سيدي أني جئت أزفُّ إليك البشرى! … إني منذ قرأتها وأنا أعرف النتيجة! … إحساسي وحده، وقلبي وما تركتْه فيه تلك الصفحاتُ من أثر جعلني أقدر مبلغ وقْعها في نفوس الناس! … (في تردد) ولعل من الناس من بكى لكلماتك، مثلما …

(مختار يجلس.)

علية : على كل حال! … إني جئت يا سيدي لأمر آخر! … جئت أعتب عليك … لماذا لم تحضر؟
مختار : أين؟
علية (في حرارة) : في مقصورتك بالمسرح! … إنك لا تهتم لشيء، لكن لو تعلم كيف كنت البارحة في حاجة إليك، إلى كلمة نصح منك أو تشجيع! … لقد تألمت كثيرًا … نعم … تألمت ألمًا شديدًا … لماذا لم تحضر أمس؟
مختار : لست أخرج في المساء.
بلية : لا تخرج في المساء؟ … لماذا؟ … أنت لست مسنًّا! … أنت رجل في كمال القوة والشباب!
مختار (في تهكم مرير) : أشكرك!
علية (تنظر إليه مستفسرة) : سيدي الأستاذ لا يرى في حديثي ما يثقل عليه؟
مختار : لا … استمري!
علية : ليت كلامي يسرُّك قليلًا!
مختار (في فتور) : إني مصغٍ إليك!
علية : سيدي الأستاذ … ألا تنوي مشاهدة الرواية يومًا ما؟
مختار : نعم … يومًا ما!
علية : اليوم حفلة نهارية!
مختار : قد يأتي يوم أذهب فيه!
علية : إني أعلم أنك تفضل السير على الأقدام وحدك، وأنك تكره الناس والضجيج، لكني أراك تبالغ في ذلك بعض الشيء!
مختار : ماذا تريدين أن أفعل؟ … الناس والضجيج! … فرغت من هذا كله منذ أمد طويل!
علية : لماذا؟
مختار : إنكِ حديثة السن؛ لهذا تستغربين!
علية : وأنت أيضًا لست كهلًا فانيًا إلى الحد الذي تظن!
مختار : يخيَّل إليكِ هذا!
علية : كيف تملأ إذن فراغ حياتك؟
مختار : ليس عندي فراغ!
علية : عمل طول الوقت؟
مختار : نعم!
علية : العمل فقط؟ … لا شيء غير العمل؟
مختار (في نغمة عميقة غريبة) : إنه نعمة كبرى وعزاء جميل.

(بعد لحظة كأنما يخاطب نفسه): ماذا كانت تصبح الحياة بدونه؟

علية (وهي تنظر إليه) : عزاء جميل!

(مختار يغمض عينيه.)

علية : لماذا تغمض عينيك؟
مختار : تکلمي.
علية : إنك لا تُصغي إليَّ … أنت تفكر في شيء آخر!
مختار : إني مصغٍ!
علية (تنظر إليه في تردد ودهش) : لا!
مختار (وهو مغمضٌ نصفَ إغماض) : من أين اشتريت عطر البنفسج هذا الذي تتعطرين به؟
علية : إنه قُدم إليَّ هدية! … أتراه جميل الشذى؟
مختار : نعم!
علية (في انتعاش) : كم أنت لطيف المعشر! … والناس يقولون عن جهل وحمق إنك جاف نَفور! (لحظة صمت … ثم تلتفت حولها): أتعيش وحدك … هكذا دائمًا؟
مختار : أوَتتعطرين به منذ زمن طويل؟
علية : عطر البنفسج؟ … أتعجبك رائحته كثيرًا؟!
مختار : لا بأس به.
علية : عندي زجاجة منه … أكون سعيدة لو تقبلتها مني!
مختار : لا … لا تفعلي!
علية : سأرسلها إليك غدًا … أو إذا أحببت فإني أقدمها إليك بيدي غدًا؟
مختار (في جفاء) : لا!
علية : لماذا؟
مختار : لا تفعلي! … قلت لك!
علية : لِم لا أفعل؟!
مختار (في شدة) : لا أحب هذا العطر!
علية (مأخوذة) : عجبًا!
مختار (ناهضًا) : لست أريد هذه الرائحة في منزلي!
علية (مصدومة مرتبكة) : سيدي الأستاذ!
مختار : لماذا أتيتِ أيتها السيدة؟
علية (في وجل) : ما الذي جرى يا سيدي؟
مختار : إنك لا تدركين إلى أي حد أسأت إليَّ!
علية : إني لم أسئ إليك قط!
مختار : …!
علية : لست أفهم … لكني على أي حال سأنصرف، ولن أعود.

(مختار مطرق.)

علية : أود لو تخبرني، على الأقل، بماذا أسأت إليك؟
مختار : آسف إذ أضطر الآن ملازمة حجرتي أيتها السيدة … عِمي مساء!
علية (وهي تنصرف) : لن أمثل بعد اليوم قصتَك يا سيدي، ولن تراني أبدًا!

(تخرج مسرعة، ويقف «مختار» بلا حراك لحظة، ويدخل «إدريس» وفي يده جريدة.)

إدريس : سيدي!
مختار (يرفع رأسه) : أخرجت السيدة؟
إدريس : أية سيدة؟
مختار : التي كانت هناك الساعة.
إدريس : نعم … وركبت سيارة كانت تنتظرها بالباب!
مختار (يشير إلى الجريدة شاردًا) : ما هذا؟
إدريس : صحيفة المساء!
مختار : ضعها قرب فراشي كالمعتاد.
إدريس : فيها يا سيدي خبر، قرأه لي سائق الجيران!
مختار (في فتور) : أي خبر؟
إدريس : أحمد بك رفعت، مسافر في وظيفة كبيرة إلى بلاد العجم مع أسرته!
مختار (برغمه يخطف الصحيفة) : أرني! … (وبعد أن يفرغ من قراءة الخبر يلقي بالصحيفة إلى إدريس) هذا لا شأن لي به!
إدريس (يطوي الصحيفة ويذهب إلى حجرة مختار) : سيدي يريد فنجان الكراوية الآن؟
مختار (شاردًا) : نعم!

(ولا يكاد إدريس يتحرك حتى يسمع صوت الجرس في دهليز المنزل.)

إدريس : من هذا؟
مختار (لإدريس) : لست أقابل أحدًا!

(إدريس يخرج مسرعًا، ويتجه مختار إلى حجرته مطرقًا.)

إدريس (يعود وهو يلهث) : أتعرف يا سيدي من الزائر؟
مختار (يقف مضطربًا في صوت متغير) : لا أريد أن أعرف!
إدريس : سيدتي «ليلى هانم»!
مختار : ماذا تقول؟
إدريس : هذه سيدتي «ليلى هانم» التي جاءت!

(تدخل ليلى في الحال بدون تردد أو انتظار.)

ليلى (ترى مختارًا واقفًا مأخوذًا) : مختار!

(مختار ما زال في دهش، ويخرج «إدريس» وهو ينظر إليهما في حب استطلاع.)

ليلى : تدهشك زيارتي بعد هاته السنوات! … لكنها لن تسوءك فيما أعتقد! … إنك لست ناقمًا علينا … أليس كذلك؟
مختار (يتمالك) : لا يا سيدتي!
ليلى : أود لو أحادثك قليلًا!
مختار (يشير إلى المقعد) : تفضلي!
ليلى : لا إخالك ناقمًا على أختي «عنان» لأنها تزوجت!
مختار : على النقيض يا سيدتي، إني تمنيت لها السعادة يومًا ما، ولم أزل!
ليلى (تنظر إلى أنحاء المكان) : نعم! … لكن حياتك بمفردك، هذه الحياة حتى الآن مما يزيد المسألة دقة!
مختار : أية مسألة؟ … إنما أحيا بمفردي هذه الحياة؛ لأني لا أستطيع أن أحيا مع شخص آخر!
ليلى : نعم … هذا هو الفرق بين الرجل والمرأة! … إن المرأة لَتستطيع أن تحيا مع آخر وتلد منه، دون أن تجد مع ذلك الحبَّ أو السعادة!
مختار : ربما!
ليلى : إن أختي «عنان» سيئة الحظ يا «مختار»!
مختار : في زواجها الثاني أيضًا؟
ليلى : إنها امرأة قد مات قلبها!
مختار (في تهكم خفيف) : أهذا حادث جديد؟
ليلى : أنت مخطئ! لقد ذهبنا البارحة نشاهد قصتك، ولست أكتمك أنها بكت بكاء مرًّا، ولقد أدركت من بكائها أنها امرأة خرجت من الجنة إلى الأبد!
مختار (في تهكم خفيف) : هي أيضًا؟
ليلي : إني أعلم الآن!
مختار : تعلمين ماذا؟
ليلى : لقد أخرجت «حواء» «آدم» من الجنة حقيقة؟ … ولكن أشَقِي هو مِن دونها؟! … أو أنهما هبطا معًا إلى …
مختار : «حواء»! … «آدم»؟ … كدت أنسى هذه الكلمات!
ليلى : نعم! … لقد أفضت إليَّ هذا الصباح بأشياء عجيبة، لو أردت العلم بها!
مختار : لقد طويت تلك الصحائف منذ أمد بعيد!
ليلى : وما الضرر من أن تنشر مرة أخرى؟ … إنك، ولا شك، تحكم على «عنان» حكمًا ظالمًا!
مختار : لا يا سيدتي!
ليلى : بلى … كما حكم الزمن على «حواء»! … أتريد عقيدتي يا «مختار»؟ … عقيدة المرأة التي تفهم المرأة! … إن «حواء» أخرجت «آدم» من الجنة؛ لأنها خافت ذلك اليوم الذي يقول لها فيه «سئمتك»! … كذلك فعلت «عنان»، وطلبت الطلاق منك كارهة؛ لأنها خشيت تلك الكلمة! … ليس ذلك كبرياءً منها، بل هو حرص على الحب! … إن ما يسمونه يا «مختار» كبرياء المرأة ليس في حقيقة الأمر إلا الحرص على حياة الحب! … إن «حواء» قد خلَّدت بفعلها الحب، وأنقذته من الفناء! … كذلك فعلت «عنان» بما كان بينكما من … أريد ألفظ الكلمة!
مختار : افعلي!
ليلى : لست أنا التي تستطيع.
مختار : من إذن؟
ليلى : هي نفسها إذا أذنْت … إنها منتظرة في السيارة!
مختار (مضطربًا) : ماذا تقولين؟
ليلى (تنهض) : لحظة واحدة حتى أدعوها!

(تخرج مسرعة غير منتظرة جواب «مختار».)

مختار (بلا حراك، ثم يلفظ همسًا) : «عنان»!

(تمضي لحظةٌ أخرى، ثم تظهر «عنان» وحدها وقد غيَّر منها الزمن ما غيَّر من «مختار»، لكن جمالها لم ينل منه الزمن … أما أناقتها فغير بالغة الحد الذي كانت عنده فيما مضى، فهي في ثياب بسيطة.)

عنان (تقف قليلًا بالعتبة مترددةً مضطربة، ثم تلفظ بصوت خافت) : «مختار»!

(مختار يرتجف قليلًا ولا يَحير جوابًا!)

عنان (تتقدم خطوة) : أنسيتني؟
مختار :
عنان : ألا تسرك رؤيتي قليلًا بعد هذه الأعوام؟
مختار (متماسكًا) : سيدتي تشرفني اليوم بالزيارة لأية مناسبة؟
عنان (متألمة) : أهكذا تخاطبني؟
مختار :
عنان : لا بأس! … إني جئت بعد تردد كثير؛ إذ ليس من السهل المجيء بعد هذا الزمن! … لكني رأيت من واجبي المجيء، فهذا اليوم كنت أنتظره طول حياتي! … يوم أستطيع أن أقنع نفسي أن شخصي الصغير كان له يومًا في حياتك بعضُ الأثر! … إنك لا تدرك مقدار سعادتي حين رأيت مواهبك الدفينة قد بُعثت فيك، واستيقظت دفعة واحدة … أليس من حقي أن أهنئك اليوم يا «مختار» مع مصر كلها، قائلة لك: مرحى أيها الشاعر العظيم!
مختار : إني أشكر لسيدتي عطفها النبيل وثناءها الجميل!

(صمت.)

عنان (تتململ في ألم، ثم تتجلد، وتتأمل المكان) : إنك تقطن هذا المنزل منذ زمن طويل؟
مختار : منذ خمسة أعوام يا سيدتي!
عنان : نعم! … نعم! … جميل على بساطته! … وتركت إذن منزلك الفخم ﺑ «الجيزة» أمام النيل؟ … أين ذهبت ثروتك؟ … لا … ليس لي حق في سؤالك مثل هذه الأسئلة! … إنك بخير إذن؟ … ها هنا؟
مختار : نعم!
عنان : نعم! … جميل هذا المنزل برغم أنه خُلوٌ من الشرفات! … وصغير طبعًا! … غير أني أرى هذا البهو يقع من هذا المنزل عين موقع البهو الآخر، ولعل حجرتك هنا، في هذه الجهة أيضًا (تشير إلى الجهة اليسرى)، أما حجرتي، أقصد في المنزل الآخر، فكانت في هذه الجهة! … (تشير إلى الجهة اليمنى) طراز البهو وحده، وما فيه من أثاث هو الذي تغير! … هذه الكتب وهذه الخزائن! … فلا وسائد، ولا فرش، ولا «بيانو»! … هنا مكان «البيانو» قديمًا (تشير إلى ركن) … ألَا تذكر؟ … إني ما زلت أذكر الأنغام التي كنت أعزفها، بالرغم من مر الزمن! … (صمت عميق … ثم تنظر إلى «مختار» الجامد!) … إني أراك لم تتغير كثيرًا، عدا هذا الشيب القليل في شعرك! … وأنا هل تراني تغيرت؟
مختار (بدون أن ينظر إليها) : لا.
عنان : نعم! … إني لم أتغير كثيرًا أنا كذلك! … غير أن عنايتي بالزينة والأزياء لم يعُدْ لها وجود، ورغبتي في التعطر والتجمل قد زالت، وعمامتي وسراويلي قد ذهبت! … إني لم أعُد «جارية الرشيد»!
مختار (مطرقًا) :

(صمت.)

عنان : اليوم فقط بدا لي أن أعود إلى عطر البنفسج المحبوب! … لست أدري لماذا تنقُلني هذه الرائحة إلى جو قديم جميل؟! … (صمت) أرى أن زيارتي تثقل عليك!
مختار : لا.
عنان : أرجو ذلك (لحظة صمت … ولا تجد عنان ما تقطع به الصمت) إنك تقطن هنا منذ خمسة أعوام! … هذا حسن! … نعم … لا بأس بهذا الحي! … إنه هادئ، خصوصًا في فصل الشتاء، وفي الصيف أيضًا! … نعم! … (لحظة صمت … وكأنما قد فرغ منها الكلام، وتريد ألا يكون صمت.) جميلة هذه الخزائن، وهذه الكتب! … نعم! … جميلة هذه الكتب وهذه الخزائن! … (فجأة بعد لحظة حيرة منها) مختار أريد أن أقول لك شيئًا … أتسمع مني؟
مختار : تفضلي يا سيدتي!
عنان : لا … لا تقل يا سيدتي! … لست أريد أن أصدق أنك تعاملني حقيقةً هكذا! … أنت، ولا شك، ناقم عليَّ! … وتتعمد هذا الفتور کي تؤلمني! … أليس كذلك «يا مختار»؟ … إنك تظلمني … أنت لا تعلم شيئًا مما حدث … أريد أن تُصغي إليَّ لحظة … أريد أن تستمع إليَّ …
مختار : قلت لكِ تفضلي!
عنان (تتمالك في حزن) : ومع ذلك، أيُّ نفع في أن أقول لك الآن؟
مختار : حقيقةً … لا نفع!
عنان : وا أسفاه!
مختار : على كل حال، إني شاكر لك هذه الزيارة!
عنان (في ألم) : مختار! … لا تهزأ بي … إنك حقيقةً فعلت شيئًا عظيمًا! … وإني لفخور بك و … بنفسي!
مختار : نعم! … افخري بنفسك يا سيدتي!
عنان : حقيقةً لست أنت وحدك الذي … لن أقول أكثر من هذا … إني أجد لذةً وفخرًا في الصمت! … دعنا مني، كلمني أنت نفسك! … إني فخور بك! … إني لم أكن أتصور قط أن يحدث منك كلُّ هذا! … وأنك كنت تحمل في نفسك كل هذا! … إني أرى، على ما قرأت وسمعت وشاهدت من قصة البارحة، أنك قاسيت كثيرًا تلك الأعوام بما لم يخطر لي على بال … لا تندم! … لا ينبغي أن تندم! … كل شيء سيفنى … لكن الحب باقٍ! … لقد ارتفعنا إلى ما فوق الأيام الزائلة! … إن عاطفتنا الآن ملك التاريخ … قل لي … لو لم يحدث كل ذلك كيف كنا نصل إلى هذا؟ … أنت الذي كنت لاهيًا في شباب وفراغ وثراء، أي قوة كانت تستطيع إبقاء هذا الحب في قلبك طويلًا؟!
مختار (في شبه تهكم) : الحب؟!
عنان : نعم!
مختار : لست أفهم مع الأسف ما تقولين.
عنان : لا تسخر مني يا «مختار»! … أتوسل إليك ألا تسخر مني.
مختار : ما الذي يهمك اليوم من أمري؟ … ولماذا تتكلمين اليوم هذا الكلام؟ … لقد مضى كل شيء! … مضى!
عنان : لا يا «مختار»! … لم يمضِ شيء … إن ما في قلبَينا لا يمكن أن يزول … قد يتفرق شملنا وتفنى أجسامنا، وما بيننا باقٍ ما بقيت للبشر قلوب!
مختار (في قسوة) : هراء!
عنان (تُطرق وتنحدر من عينيها دمعة) : لا بأس!
مختار : أتبكين؟!

(عنان تخرج منديلها، وتجفف دمعها!)

مختار : هذه الدموع تأخرت عن حينها عشرة أعوام!

(عنان يتساقط دمعها ولا تستطيع جوابا!)

مختار (يترنم كما كان يفعل قديمًا!) :
إن عنانًا أرسلت دمعها
كالدرِّ إذ ينسلُّ من خيطه
عنان (تجيب) : فليت من يضربها ظالمًا! (ولا تستطيع الإتمام، وتشهق بالبكاء).
مختار : أكملي!
عنان (في نغمة رجاء أن يكف) : مختار!
مختار : أصبتِ! … لا ينبغي أن أذكِّرك بأويقات رجل كنت ترين السعادة في الخلاص منه!
عنان (تتمالك وتترنم) : فليت من يضربها ظالمًا! … لا … لست أريد أن تجفَّ يمناه على سوطه!
مختار (بلسان لاذع) : مهما يكن من أمرك، فأنتِ الآن سيدة تعيش في هناء مع زوج وأبناء!
عنان (في زفرة مكتومة) : هذا صحيح!
مختار : ما شأنكِ والماضي إذن؟!
عنان : احكم عليَّ يا «مختار» حكمًا ظالمًا أو غير ظالم … إنك لن تصدق الحقيقة، وليس يعلم غيرُ الله كيف أعيش! … إنك لا تعرف المرأة … إنك لا تعرف المرأة! … إني أستطيع أن أتزوج، وألد، وأؤدي واجبي كزوجة وأم؛ دون أن أنسى أني امرأة قد خرجت من الجنة إلى ما شاء الله! … إننا ما كنا زوجين يا «مختار»! … تذکر قليلًا ما كان بيننا … إن تصرفات أحدنا قبل الآخر ما كانت تصرفاتِ زوج قِبل زوجه! … لقد قلتها أنت يومًا … إنا كنا نسير على منطق آخر! … تلك ما كانت الزوجية، ولأعترف لك الآن بدوري اعترافات!
مختار : خطيرة!
عنان : لا تنتقم يا «مختار» … ولا تكن لك هذه النفس الناقمة … إنك برغم كل شيء تشعر، ولا ريب، في أعماق قلبك بالحقيقة … إني أرتضي حكم قلبك! … سَلْه ينبئك أن الذي كان بيننا أسمى عاطفةٍ عرَفتْها الأساطير؛ لهذا مضى ذلك وشيكًا، وكان ينبغي له أن يُطوى كما تُطوى الأساطير! … لا بأس! … فلنعش تجلُّدًا … ولنمُتْ تبلُّدًا! … إني مع ذلك صابرة؛ فلقد تحققت أحلامي … حسبي هذا ظفرًا من الحياة! … ماذا يهم أن تعرف أنت الثمن؟
مختار (في تأثر) : عنان!
عنان : الوداع يا «مختار»!
مختار : «عنان»! … (يسمع بوق سيارة ينفخ مرات للتنبيه.)
عنان : دعني أذهب! … هذه «ليلى» تنبهني إلى الوقت!
مختار (في توسل) : لا تذهبي! … لا تذهبي الآن!
عنان : أنسيت أن ورائي واجبًا يدعوني؟!
مختار (كمن يفيق) : واجبًا؟
عنان : نعم! … بيتي! … إننا سنبرح غدًا إلى «طهران»!
مختار : «طهران»! … نعم! … نسيت! … سامحيني! … ما أنا إلا أحمق … حسبت أننا عدنا إلى …
عنان : سوف نعود إليها في السماء!
مختار : اذهبي إذن!
عنان : لا تحزن يا «مختار»!
مختار : لا!
عنان : أحسِنْ ظنك بي قليلًا، أو لا تفعل! … ماذا يهم؟! … المهم عندي أن تغيِّر حياتك قليلًا … أدخل على نفسك شيئًا من السرور! … صحيح أن الحياة لا تساوي شيئًا، ما دمنا قد أخذنا منها أسمى ما فيها، إلا أني أتوسل إليك أن تعيش عيشًا خيرًا من هذا … اترك هذه الوَحدة وهذا الصمت حولك! … اقلب كل هذا ضجةً وأُنسًا … لو أن لك أحدًا يواسيك! … كم أرثي لك يا «مختار»! … ليت لك أولادًا يلعبون حولك، في هذا الشطر من حياتك! … ولكنك وحيد … لا بأس! … تشجَّع!
مختار : لا تهتمي بأمري! … إني أعيش كما أعيش!
عنان (في ألم) : مختار! … (تمد يدها له)!
مختار (يمد يده لها) : الوداع يا «عنان»!

(يشيعها حتى باب الصدر، فتخرج دون أن تجرؤ على النظر إليه نظرة أخيرة! … ويظل مختار واقفًا لحظةً بالباب حيث تركها، ثم يتنبه ويتحرك ذاهبًا إلى حجرته قاطعًا البهو على مهل وهو مطرق، إلى أن يبلغ باب الجهة اليسرى، فيسند كفه إليه، ويقف لحظة، ثم يرفع رأسه بعد إطراق ويمسح دمعة لمعت في عينيه!)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤