«أحمد» وحده في قلب «باريس»!

أنهى «أحمد» مُهمَّته السرية التي کلَّفه بها رقم «صفر» في «باريس»، وجلس في حجرته بفندق «نابليون»؛ ليرسل رسالة إلى المقر السري. ضرب الأرقام الشفرية المتفق عليها، ثم فجأة توقَّف جهاز الإرسال. في هدوء، أخذ يُصلح الجهاز، لكنه لم يجد فيه أيَّ عُطل. لقد كان الجهاز سلیمًا تمامًا، لكنه مع ذلك لا يعمل. فكر قليلًا، ثم قال – في نفسه: لعلَّ الموجة قد حدث فيها تغيير!

نقل الرسالة إلى الموجة الأخرى، فعمِل الجهاز، لكن الموجة الجديدة لا تنقل الرسالة إلى المقر السري. تساءل: هل حدث شيء؟ وهل يمكن أن تكون الموجة السرية التي يعمل عليها قد انكشفت؟ لم تكن هناك إجابات مُحدَّدة يمكن أن يتصرف على أساسها. لكنَّه — في نفس الوقت — وضع ذلك الاحتمال، وإن كان قد تساءل: تُرى مَن الذي يستطيع أن يكشف هذه الموجة السرية التي لا يعرفها سوى الشياطين، ورقم «صفر»، وعميل رقم «صفر» في «باريس»؟ …

فكر قليلًا، وبدأ يضع احتمالاتٍ أخرى، ويضع حلولًا أخرى للموقف. رفع سمَّاعة التليفون الموجود بجواره، ثم طلب عميل رقم «صفر». سأله عما حدث لموجة الإرسال، ولم يكد العميل ينطق بكلمة، حتى اختفى صوته.

ووضع «أحمد» السمَّاعة، ثم شرد قليلًا. قال في نفسه: هل يمكن أن تكون هناك إحدى العصابات تتبعه؟ وهل يمكن أن تكون قد اكتشفَت عميل رقم «صفر»؟!

كان كلُّ شيء يحدث مفاجأة له، غير أن المفاجأة لم تشلَّ تفكيره. لقد دفعته إلى مزيد من التفكير، بل إنه أيقن بسرعة أن فكره يعمل بطريقة جيِّدة، وهذه عادة الشياطين؛ إن عقولهم تعمل بقوة في أوقات الأزمات.

فكر إذا كانت هناك عصابة قد اكتشفت فعلًا الموجة السرية، فهذا يعني أنها تعرف مكانه؛ حيث يقيم في فندق «نابليون» بشارع «الشانزلزيه». بل إنها يمكن أن تكون قد وضعت خُطَّتها الآن، لتتخلص منه، أو تخطفه. في نفس الوقت، لا بد أن تكون قد وضعَتْ يدها على عميل رقم «صفر»، إن لم تكن قد خطفته فعلًا! …

قام وقطع عدة خطوات داخل الحجرة الفسيحة، حتى وقف أمام الشُّرفة العريضة. كان يظهر من بعيد «قوس النصر» الذي مرَّ من تحته القائد الفرنسي الشهير «نابليون»، والذي أصبح إمبراطور «فرنسا» بعد ذلك، والذي يُعَد واحدًا من أشد قُواد التاريخ … ومن خلال «قوس النصر»، كانت تظهر المسلَّة المصرية، وسط میدان «الكونكورد» الفسيح. ظلَّ يتأمَّل المنظر، حيث توقَّفت عيناه عند المسلَّة الضخمة. إنه يعرف أنها نُقلت من «مصر» إلى «باريس»، بعد الحملة الفرنسية على «مصر». قال في نفسه: إن «مصر» موجودة في كل مكان!

ظل يُتابع المنظر، الذي كانت أضواء الليل تجعله وكأنه لوحة لفنَّان عبقري. لكن أفكاره لم تستمرَّ في نفس الخط؛ فقد عادت من جديد إلى ما حدث. كان من الضروري أن يُرسل إلى رقم «صفر»؛ ليُخبره أن المُهمة قد انتهت، ومن جهة أخرى؛ ليخبره بما حدث الآن. قال في نفسه: سوف أُجرب مرة أخرى، ربما يكون عطل مفاجئ قد تسبَّب في عدم الاتصال بعمیل رقم «صفر».

اتَّجه إلى التليفون، ثم أدار القرص في حذر، لكنه توقَّف دون أن يُكمل الرقم … فكر لحظةً، ثم أدار القرص يطلب المركز الثقافي المصري في «باريس». لحظةً، ثم جاءه صوت من يتحدَّث. أدار معه حوارًا عاديًّا، يسأله عن العروض السينمائية التي يعرضها المركز، ثم شكره وأنهی المكالمة.

قال في نفسه: إن هذا يعني أن الجهاز سلیم، وأن المسألة مُتعلقة فقط بعمیل رقم «صفر»! لكنه مع ذلك طلب رقم العميل. رنَّ جرس التليفون، وظل يرِنُّ باستمرار، دون أن يجيب أحد. وضع السمَّاعة، وقد تأكَّد تمامًا أن العميل قد تعرَّض لشيء.

جلس في مقعدٍ وثير بجوار السرير، وشرد طويلًا، لكنه كان يُراقب كل شيء حوله؛ باب الحجرة المغلق، والشُّرفة، وباب الحمَّام المُلحق بالحجرة. في النهاية وصل إلى قرار. قام، واتَّجه إلى جهاز الإرسال، ثم أرسل رسالة عاديَّة إلى عمیل رقم «صفر» في «إيطاليا». وفي لحظة جاءه الرد. أرسل له رسالة أخرى يقول فيها: «انتظِر رسالة هامَّة!» ثم أرسل رسالةً إلى عميل رقم «صفر» في ألمانيا، فجاءه الرد … بعدها أخذ يُرسل عدة رسائل إلى عدد من عملاء رقم «صفر» في أنحاء العالم، وكل منهم له موجة سرية خاصة. وكانت النتائج كلها تؤكد أن موجة الإرسال إلى المقر السري في «باريس»، هي وحدها التي لا تعمل.

ابتسم وقال في نفسه: هذه مغامرة جديدة، لم أكن أحلم بها! وإذا كانت كل المغامرات السابقة خطيرة، فهذه المغامرة أكثر خطورة؛ إنها تتعلَّق بأسرار الشياطين!

نظر إلى ساعة يده، وكانت تشير إلى التاسعة مساء. أسرع يُرسل رسالة إلى عميل رقم «صفر» في «إيطاليا». كانت الرسالة بطريقة الشفرة: «١ – ١٠ – ٢٣ – ٢٦ – ١» … وقفة … «١ – ٢٣ – ٢٨» وقفة «١٠ – ٢١ – ٢٤» وقفة «١٤ – ٢٠ – ١٠» انتهت الرسالة. وكانت ترجمة الرسالة: «أرسلها إلى رقم «صفر».»

بعد لحظةٍ، أرسل الرسالة الثانية بطريقة الشفرة أيضًا: «١ – ٢٣ – ٢٤ – ٢٧ – ٢١ – ٢٠» وقفة «٧ – ١٦ – ٢٨ – ٢٠» وقفة «٣ – ٣ – ١٨ – ٨ – ٢٣» وقفة «٢٤ – ٢٧ – ٥ – ٢٦» وقفة «٢ – ١ – ٢٨ – ١٢» انتهت. وكانت ترجمة الرسالة: «الموقف خطير؛ تتعدل موجة «باريس».»

فکر «أحمد»: هل يغادر الفندق إلى الخارج؟ وأجاب على السؤال في نفسه: إن الخروج الآن قد يكون بداية للصِّدام، وهو لا يريد أن يصطدم بالعصابة الآن، حتى تأتي رسالة رقم «صفر»، ويكون على اتصالٍ بالشياطين. في النهاية، قرَّر أن يبقى بالحجرة، في انتظار رسالة عميل رقم «صفر» من «إيطاليا» …

أخذ طريقه إلى الشُّرفة، ووقف فيها. كان هواء بارد قليلًا يتسلَّل من خلال الشُّرفة، ويُلامس وجهه فيجعله نشيطًا. كان الوقت منتصف سبتمبر، وهو مُناخ قریب من المناخ المصري. أخذ يتفحَّص الشُّرفة جيدًا؛ لیری إمكانية أن يتسلَّل أحدٌ إليه. كان خارج الشُّرفة إفريز صغير، لا يسمح بمرور أحد. لكنه فكر — في نفس الوقت — أن رجال العصابات يستطيعون عمل أي شيء … مرَّت ربع ساعة. فجأة، أعطى جهاز الاستقبال إشارة، فأسرع إليه. كانت هناك رسالة في الطريق.

بدأ يتلقَّى الرسالة، ويترجمها مباشرة. كانت الرسالة شفرية: «١ – ٢٣ – ٢٤ – ٦ – ٥ – ٢٦» وقفة «٦٠٠». وكانت ترجمة الرسالة: «الموجة ٦٠٠.»

أسرع «أحمد» يعدِّل موجة الجهاز، ثم أرسل رسالة سريعة إلى رقم «صفر». كانت الرسالة عن المهمة التي قام بها في «باريس»، والتي حققها بنجاح. في نهاية الرسالة قال: «إن هناك رسالةً أخرى». انتظر لحظة، ثم أرسل الرسالة الثانية؛ كانت الرسالة عن الموقف، واختفاء موجة إرسال «باريس»، وعدم رد عميل رقم «صفر» …

شرح «أحمد» كل شيء، ثم انتظر الرد. مرَّت عدة دقائق، ثم جاءه الرد.

کان رقم «صفر» يقول بطريقة الشفرة: «٣ – ٦ – ٢١ – ٢١» وقفة «٢٤ – ١» وقفة «٢٠ – ٢٢ – ٣» وقفة «٢٠ – ٢٨ –٢٦» وقفة «١٨ – ١٤ – ١ – ٢ – ٢٦» وقفة «١ – ٢٢ – ٣ – ٢٠ – ٣» وقفة «١ – ٢٣ – ٢٤ – ٢٧ – ٥ – ٢٦» وقفة «١ – ٢٣ – ١٨ – ٢٤ – ٢٨ – ٢٣» وقفة «٣٠ – ٢٨» وقفة «٢٤ – ٢٢ – ١ – ٢٥ – ٢٦» وقفة «٥ – ١٠ – ٩ – ١٢» وقفة «٢٠ – ٢٨» وقفة «١ – ٢٣ – ١٦ – ١٠ – ٢٨ – ٢١» انتهت. وكانت ترجمة الرسالة: «تحقَّق ما فكرت فيه؛ العصابة اكتشفت الموجة! العميل في مكانه. «بو عمير» و«ريما» و«خالد» و«باسم» في الطريق …»

ابتسم «أحمد»، وقال: إذن، يجب أن أبدأ المغامرة الآن! … نظر في ساعة يده، وكانت تُشير إلى العاشرة. قال في نفسه: هذا يعني أنهم سوف يصلون في حدود الثانية صباحًا.

نظر حواليه يرصد الحجرة جيدًا؛ حتى لا يعبث بها أحد، ثم أخذ طريقه إلى الخارج. أغلق الباب بالمفتاح، ثم اتَّجه إلى «الأسانسير». وقال في نفسه: ينبغي أن استخدم المصعد، ففيه تقل الفرصة لأن يهاجمني أحد.

ضغط الزر، فأضاءت اللوحة. كان المصعد في الدور العشرين، بينما يقف «أحمد» في الدور الرابع. مرت لحظة، ظهر خلالها أحد الرجال، وأخذ طريقه إلى المصعد، ثم وقف بجوار «أحمد». كان الرجل في منتصف العمر تقريبًا، تبدو على ملامحه البشاشة؛ ولذلك فعندما وصل قريبًا من «أحمد» حيَّاه بفرنسية سليمة. رد «أحمد» التحية بابتسامة هادئة، غير أن هذه التحية ذاتها جعلت «أحمد» يشك؛ فليس من عادة الأوربيين أن يفعلوا ذلك! وصل المصعد، وفتح الباب. أشار «أحمد» إلى الرجل أن يتقدَّم، إلا أن الرجل أشار ﻟ «أحمد» أن يتقدم هو.

فكر «أحمد» بسرعة: إن وجوده أمام الرجل يمكن أن يُعرِّضه للخطر؛ فسوف يكون ظهره له، إلا أنه مع ذلك تقدم. في نفس الوقت الذي كان يُركِّز فيه انتباهه على أي حركة. دخل الرجل بعد «أحمد» مباشرة. لم يكن أحد في المصعد سواهما؛ فلم يكن عامل المصعد فيه. ضغط «أحمد» الزرَّ، فتحرَّك المصعد إلى الطابق الأرضي، وعندما فتح الباب خرج بسرعة.

كانت صالة الفندق تكاد تكون خاليةً، إلا من عُمَّال الفندق، أو موظفيه. اتجه مباشرة إلى باب الخروج، في نفس الوقت الذي استطاع فيه أن يُلقي نظرة على الرجل، الذي كان يمشي مُتمَهِّلًا. فكر «أحمد»: هل يكون أحدهم فعلًا؟

وقف أمام باب الفندق.

كان شارع «الشانزليزيه» خافت الضوء، وكانت المحالُّ على جانبيه قد أغلقت أبوابها. إن «الشانزليزيه» يُعتبر واحدًا من أطول شوارع الدنيا وأعرضها، بجوار أنه يضم أشهر محلات الأزياء والمجوهرات والمسارح. كانت بعض واجهات محلات السهر مضاءة، وكان هذا يُلقي بأضواء مُركزة حولها. كان «قوس النصر» يبدو شاحبًا وسط الإضاءة الخافتة. فكر «أحمد» لحظةً: إن الاتجاه إليه الآن يبدو أكثر أمانًا؛ فالمساحة الواسعة تكشف أي حركة …

اتجه فعلًا إلى «قوس النصر» المُقام من الحجر الصخري الأبيض المُصفَر. كان المارَّة في الشارع قليلين، لكن الوقت كان يُغري بالسير. توقَّف عند «قوس النصر» الضخم الذي يمتدُّ فوق الشارع، وألقى نظرةً على المِسلَّة المصرية التي كانت تظهر بوضوحٍ الآن؛ تحت تأثير الإضاءة المُسلطة عليها … تذكَّر رحلاته إلى المناطق الأثرية في مصر، عندما زار الأقصر والبر الغربي، ومعبد الكرنك. تذکَّر أيضًا رحلته إلى مدينة قنا، عندما زار معبد «إيزيس»، غير أن ذکریاته لم تمتدَّ طويلًا.

فجأة، كانت أضواء سيارة مُسرعة تغمُر المكان، حتى إنه لم يعد يرى جيدًا، وكانت قوة الإضاءة سببًا في أن يتحرك من مكانه، في نفس الوقت الذي كانت السيارة قد أصبحت أمامه … وفي لمح البصر، رأی بریق طلقة تخرج من نافذة السيارة. كان صوت الطلقة مكتومًا، لكن الذي أطلقها لم يكن يظن أن «أحمد» قد فكر واستعدَّ. أصابت الطلقة طرَف «قوس النصر»، ثم ارتدَّت بعيدًا. عندما استطاع أن يرى جيِّدًا. كانت السيارة قد أصبحت في مكانٍ بعيد، ولم تكن تظهر سوى أنوارها الخلفيَّة. ظل ينظر في اتجاهها، وهو يُفكر: إنهم لن يختفوا الآن؛ فسوف يُعيدون الكرَّة مرة أخرى. وإذا كانت المغامرة قد بدأت بإطلاق هذه الرصاصة، فإنها لن تتوقف قبل النهاية! …

ظل في مكانه، بينما أخذ ينظر حوالیه، حتى لا يُفاجأ بشيء. لم يكن هناك ما يلفت النظر. كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة، وأصبح الشارع خاليًا تقريبًا. لقد كان يقف ويده على مسدسه، في انتظار عودة السيارة، إلا أنها لم تعد. فكر أن يقطع عرض الشارع إلى الاتجاه الآخر، لكنه تردَّد؛ فالشارع عريض بما يكفي لأن يكون هدفًا لأي شيء!

عاد أدراجه إلى نفس الرصيف، في اتجاه الفندق. عند أول تقاطع عرضي مع شارع «الشانزلزيه» توقَّف لحظة. أخذ يرقب شارع ١٨ الضيِّق، القليل الضوء. قال في نفسه: من الممكن أن يحدث أي شيء في هذه الشوارع! قطع شارع ۱۸ في حذر. وعندما اقترب من شارع ٢٠ توقَّف أيضًا، وهو يُمسك مُسدسه في جيبه. توالت الشوارع ٢٢، ثم ٢٤، ثمَّ ٢٦. سمع صوت موتور سيارة يكشفه هدوء الليل. أبطأ خطواته، ورکَّز سمعه. توقَّف صوت السيارة. فكر: ربَّما تكون إحدى سيَّاراتهم! … لكن صوت الموتور ارتفع مرَّة أخرى. فجأة ظهر تاکسي من شارع عرضيٍّ؛ كان يبعد عنه بحوالي مائة متر. توقَّف في مكانه، واستعدَّ؛ ربما تكون خدعة! لكن التاكسي استمرَّ في طريقه حتى اختفى. كان فندق «نابليون» لا يزال بعيدًا.

قال في نفسه: هل أستقلُّ تاكسيًا إلى الفندق، بدلًا من أن أُعرِّض نفسي للخطر؟ لم يتخذ قرارًا سريعًا. ظل يُفكر؛ فقد كان يخشى أن يكون التاكسي الذي يستقلُّه تابعًا لهم. استقرَّ رأيه — في النهاية — على أن يقطع المسافة سيرًا، حتى مع خطورة المسألة. وكان تفكيره صحيحًا؛ فما كاد يقترب من شارع ٣٤، حتى شعر بحركة لم يستطع رؤيتها، لكن إلهامه حدَّثه بأن شيئًا ما سوف يحدث. أنزل قدمه اليمنى من فوق الرصيف؛ ليقطع شارع ٣٤، ولم يكد يقطع خطوات أخرى، حتى انطلقت سيارة من الظلام في محاولة للقضاء عليه …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤