مقدمة الطبعة الأولى

بقلم  زكي مبارك
٣١ آذار سنة ١٩٣٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين.

أما بعد فهذا كتاب «عبقرية الشريف الرضي» وما أقول: إني شغلت به نفسي سنة كما قلت يوم أخرجت شرح «الرسالة العذراء»، ولا سبع سنين كما قلت يوم أخرجت كتاب «النثر الفني»، ولا تسع سنين كما سأقول بإذن الله يوم أخرج كتاب «التصوف الإسلامي».

فما شغلت نفسي بكتابي هذا غير خمسة أشهر، ولكنها من أشهر بغداد، لا أشهر القاهرة ولا باريس، وما كان لي في بغداد لهوٌ ولا فتون، فكانت الليلة في بغداد كليلة القدْر خيرًا من ألف شهر. والتوفيق من أشرف الأرزاق.

وكتابي هذا هو مجموعة المحاضرات التي ألقيتها في قاعة كلية الحقوق، وكانت تلك المحاضرات من أشهر المواسم في حياتي، فقد كان أصدقائي يخشون أن يملَّ الجمهور بعد أسبوع أو أسبوعين، ولكن الجمهور كان يزداد إقباله من أسبوع إلى أسبوع، ولم ينقذني منه غير التصريح بأني أنفقت كل ما كنت أملك، ولم يبق إلا أن أستريح!

ومحاضراتي بكلية الحقوق في بغداد هي الموسم الثاني بعد محاضراتي عن «المدائح النبوية» وهي المحاضرات التي ألقيتها باسم الجامعة المصرية في قاعة الجمعية الجغرافية بالقاهرة، فهل يتسع العمر لموسم ثالث في القاهرة أو في بغداد؟

•••

لا تسألوني كيف ظلمتُ نفسي فأعددت هذه المحاضرات وأنشأت معها مقالات كثيرة جدًّا نشرتها صحف مصر ولبنان والعراق، ورججت الحياة الأدبية في بغداد رجًّا عنيفًا، فذلك كان أقل ما يجب أن أصنع في مقابل الثقة التي شرفتني بها حكومة العراق، وذلك كان أقل ما يجب أن أصنع لأحفظ لنفسي مكانًا بين المصريين الذين تشرفوا بخدمة العلم في العراق أمثال الأساتذة محمد عبد العزيز سعيد وأحمد حسن الزيات وعبد الرزاق السنهوري وعبد الوهاب عزام ومحمود عزمي، وذلك كان أقل ما يجب أن أصنع في خدمة تلاميذي وتلميذاتي في بغداد، وقد رأيت في وجوههم وجوه أبنائي وبناتي، فكلفت نفسي في خدمتهم فوق ما أطيق.

لا تسألوني كيف ظلمت نفسي فأنفقت من العافية ما أنفقت، فقد ساءني أن أعرف أن «دار المعلمين العالية» لها في بغداد تاريخ: فكانت تفتح ثم تغلق، وتفتح ثم تغلق، فاستعنت الله وانتفعت بعطف معالي وزير المعارف الأستاذ محمد رضا الشبيبي وأريحية الأستاذ طه الراوي ومودة الدكتور فاضل الجمالي، وعولت على همة زميلي وصديقي الدكتور فؤاد عقراوي، وأقمنا لدار المعلمين العالية أساسًا من متين التقاليد الجامعية، فأغنينا مكتبتها بالمؤلفات القديمة والحديثة، وعلمنا طلابها كيف يبحثون ويراجعون، وغرسنا فيهم الشوق إلى التحقيق والاستقصاء.

ورأيت أن يكون من تقاليد هذا المعهد العالي أن يخرج في كل سنة كتابًا عن شاعر أو أديب أو مفكر لم يدرسه أحد من قبل، فألفت كتابي هذا عن الشريف الرضي، فإن ترفقت شواغلي بمصر وأذنت لي بالرجوع إلى بغداد فسأخرج في كل سنة كتابًا جديدًا، وإن أبت تلك الشواغل أن أتمتع مرة ثانية بالاستصباح بظلام الليل في بغداد فسيذكر من يخلفني أني طوقت عنقه بطوق من حديد، وأن لا مفر له من أن يشقى في سبيل «دار المعلمين العالية» كما شقيت.

وإنما نصصت على هذه المعاني في مقدمة هذا الكتاب لأجتدي العطف على «دار المعلمين العالية» وممن أجتديه؟ من حكومة العراق؛ فما يجوز أن يغلق هذا المعهد، وإنما يجب أن تبذل الجهود ليصبح منافسًا قويًّا لكلية الآداب بالجامعة المصرية.

قد يقول قوم من خلق الله: ولماذا ابتدأت بالشريف الرضي؟

إن قالوا ذلك فالجواب عند الأستاذ عباس محمود العقاد، فهو يذكر جيدًا أنني قد قلت له يوم أخرج كتابه عن ابن الرومي: كان الأفضل يا أستاذ أن تنفق هذا الجهد في دراسة أشعار الشريف الرضي.

إن قالوا ذلك فالجواب عند الأستاذ الدكتور طه حسين، فهو يذكر جيدًا أني نبهته إلى أن الاهتمام بدراسة شعر الشريف الرضي كان أولى من الاهتمام بدراسة شعراء القرن الثالث؛ لأن له خصائص ذاتية لا نجدها عند أولئك الشعراء.

إن قالوا ذلك فالجواب عند نادي الموظفين بالقاهرة، فقد طلب في سنة ١٩٣٢ أن ألقي محاضرة عن أعظم شاعر في اللغة العربية، فكانت محاضرتي عن الشريف الرضي.

ابتدأت بالشريف الرضي على غير موعد، فقد رأيتني فجأة بين دجلة والفرات، فتذكرت أن قد جاء الأوان لدراسة هذا الشاعر الذي تعصبت له منذ أعوام طوال.

ويشهد الله — وهو خير الحاكمين — أني لم أفكر في إنصاف الشريف الرضي يوم قدم لي الدكتور شريف عسيران نسخة من كتاب الأستاذ أنيس المقدسي عن أمراء الشعر في العصر العباسي، فأزعجني أن يهتم بأبي العتاهية وينسى الرضي، مع أن ديوان أبي العتاهية لا يساوي قصيدة واحدة من قصائد الشريف.

فمن شاء له هواه أن يزعم أن لي غاية في التعصب للشريف الرضي فليتق الله في نفسه، وليذكر أن الدكتور زكي مبارك لو كان أنفق نشاطه في الاتجار بالتراب لأصبح من كبار الأغنياء، ولكنه —بلا أسف — سيموت فقيرًا؛ لأنه أنفق نشاطه في خدمة الأدب العربي.

والأدب العربي خليق بأن يكون له شهداء، وأنا في طليعة أولئك الشهداء.

سيرى قراء هذا الكتاب أني قد جعلت الشريف أفحل شاعر عرفته اللغة العربية، وقد سمع بذلك ناس فذهبوا يقولون في جرائد بغداد: أيكون الشريف أشعر من المتنبي؟

وأستطيع أن أجيب بأن الشريف في كتابي أشعر من المتنبي في أي كتاب، ولن يكون المتنبي أشعر من الشريف إلا يوم أؤلف عنه كتابًا مثل هذا الكتاب!

والقول الفصل في هذه القضية أن المتنبي في بابه أشعر من الشريف، والشريف في بابه أشعر من المتنبي، وكل عبقري هو في ذاته أعظم الناس؛ لأن ميدانه لا يجاريه فيه أحد سواه، والشريف بهذا المعنى أفحل الشعراء؛ لأنه جرى في ميادين سيظل فارسها السباق على مدى الأجيال.

وما الذي يضر أنصار المتنبي حين أقدم عليه الشريف؟

هل فيهم من يحفظ ديوان المتنبي كما أحفظ ديوان المتنبي؟

إن سجلات كلية الآداب بالجامعة المصرية تشهد بأنني كنت أول من دعا إلى الاحتفال بمرور ألف سنة على وفاة المتنبي، ولي على ذلك شهود منهم الشيخ أحمد السكندري والأستاذ عباس محمود والدكتور منصور فهمي.

وما الذي يضر أهل العراق من أن اهتم بشاعر لا يعرف العراقيون موضع قبره على التحقيق؟ أليس من العجائب أن يعرف العراقيون قبر معروف الكرخي ويجهلوا قبر الشريف الرضي؟

إن هذا هو الشاهد على أن العوام أحفظ للجميل من الخواص!

إن كان خصومي في بغداد دهشوا من أن أتعصب لشاعر رضي عنه ناس وغضب عليه ناس، فليذكروا أنني كنت كذلك طول حياتي فوضعت بالنقد قومًا ورفعت آخرين، وفقًا للحق لا طوعًا للأهواء.

وأنا والله راض بأن يغضب عليَّ أهل بغداد، فقد غضبوا على أبي طالب المكي فمنحوه الخلود.

أنا أحب الخصومات؛ لأنها تذكي عزيمتي، ومن أجل هذا أنظر نظر الجزع على مصير خصوماتي في بغداد، فلن يكون لي في بغداد خصوم بعد ظهور هذا الكتاب، وإنه لقادر على أن يفجر العطف في القلوب المنحوتة من الجلاميد.

سيذكر أدباء بغداد أنني أحييت شاعرًا هو من ثروة العروبة وثروة العراق، سيذكر أدباء بغداد أنني وفيت لمدينتهم السحرية، حين اهتممت بشاعر كان أصدق من عرف النعيم والبؤس فوق ثرى بغداد.

•••

وكتابي هذا تطبيق لما شرعت من قواعد النقد الأدبي، القواعد التي أذعتها في كتاب «الموازنة بين الشعراء» وهو من أجل هذا لون جديد في اللغة العربية، وسيكون له تأثير شديد في توجيه الدراسات الأدبية، وقد يصلح ما أفسد الزمان من عقول الباحثين.

وبيان ذلك أني لم أقف من الشاعر الذي أدرسه موقف الأستاذ من التلمذ، كما يفعل المتحذلقون، وإنما وقفت منه موقف الصديق من الصديق، والتشابه بيني وبين الشريف الرضي عظيم جدًّا، ولو خرج من قبره لعانقني معانقة الشقيق للشقيق، فقد عانى في حياته ما عانيت في حياتي: كافح في سبيل المجد ما كافح وجهله قومه وزمانه، وكافحت في سبيل المجد ما كافحت، وجهلني قومي وزماني.

وهذا الترفق في معاملة الشريف ليس نزوة شخصية، وإنما هو وثبة علمية، فما كان يمكن أن أكون وفيًّا للبحث إلا إن سايرت الشاعر الذي أعرض عقله وروحه على تلاميذي، وهذه هي المزية التي انفرد بين أساتذة الأدب العربي.

سايرت الشريف مسايرة الصديق للصديق: فإن آمن آمنت، وإن كفر كفرت، وإن جد الشريف جددت، وإن لعب لعبت، إن عَقَل الشريف عقلتُ وإن جُن جُنِنت، إن قال الشريف: إن غاية الرجل العظيم هي الحرب قلت: صدقت، وإن قال: إن الحياة هي الحب، قلت: والحب حياة!

ولكني مع هذا عاملته معاملة الصديق الأمين فنبهته إلى عيوبه بتلطف وترفق، نبهته تنبيهًا دقيقًا جدًّا لا يفطن إليه إلا الأذكياء — وفي بني آدم أذكياء نبهته إلى عيوبه أكثر من ستين مرة، وما أظنه يحقد علي؛ لأن الصديق الذي في مثل حالي تغفر له جميع الذنوب.

والشواهد في هذا الكتاب كثيرة جدًّا، وذلك هو أسلوبي في البحث فأنا أشغل القارئ بالشاعر الذي أدرسه أكثر مما أشغله بنفسي، وهذه إشارة أرجو أن ينتفع بها المتحذلقون.

اعتمدت على طبعة بيروت وصححت ما صادفني فيها من أغلاط، وشرحت ما يجب شرحه من الأشعار خدمة للقارئ الجاحد الذي لا يفهم قيمة الوقت الذي ينفقه الشارح في تحديد المعاني، وصححت الكتاب كله بنفسي تصحيحًا دقيقًا، فإن رأى فيه القارئ أغلاطًا فذلك ذنب العجلة لا ذنبي، وأدخلت فنونًا من الذوق على الطباعة في بغداد سيذكرها من عاملت من أصحاب المطابع.

بغداد

هذا كتابي، أقدمه بيميني في تهيب واستحياء، فإن رضيت عنه فذلك لطف ورفق، وإن غضبت عليه فلست أول حسناء تجحد الجميل!

اصنعي في ودادي من التنكر والتقلب ما شاء لك الدلال، أما أنا فأشهد أنك صنعت بقلبي وعقلي ما عجزت عنه القاهرة وباريس.

أنت مظلومة يا بغداد، وأنا مظلوم يا بغداد، والظلم يجمع بين القلوب. نصرك الله ونصرني، ورعاك ورعاني، إنه سميع مجيب! وعليك مني السلام!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤