غرائب الوفاء عند الشريف الرضي

أيها السادة

أشرنا قبلًا إلى رجل من أصدقاء الشريف يقال له ابن ليلى، وهو رجل لم تتحدث عنه كتب التاريخ، وإنما نعرف أن اسمه عمرو؛ لقول الشريف وهو يرثيه:

وأين كفارس الفرسان عمرو
إذا رزء من الحدثان فاجا

ونعرف أن كنيته أبو العوام من قول الشريف:

أين أبو العوّام للعواصي
يروضها والخيل والدلاص١

والمفهوم أن ابن ليلى كان رجلًا عربيًّا من سادة البوادي، والمظنون أنه كان داعية للشريف، وتشهد أشعار الرضي أن بني تميم هم الذين قتلوا ذلك الصديق.

تلك هي ترجمة ابن ليلى، فهل كان يستحق أن يبكيه الشريف بأربع قصائد، وأن يجعله في قصيدة خامسة مثلًا أعلى لأشراف الرجال.

أن ابن ليلى رجل صغير القدر عند من تستهويهم عنعنات التواريخ، فلو كان لهذا الرجل شأن لأفاض في أخباره المؤرخون، ولكنا نرى أن ابن ليلى رجلًا عظيمًا جدًّا؛ لأنه ذكر بالحمد والثناء في أثر أعظم من كتب التواريخ وهو ديوان الشريف.

والحقّ أن شخصية ابن ليلى تعطينا صورة من صور الرضي، أو هي تدلنا على بعض مذاهبه في الحياة، ومن الواجب أن ننص بصراحة على صفة أساسية من صفات الشريف هي الفروسية، فقد كان الشريف الرضي فارسًا، وكان أبوه فارسًا، وكان أقطاب أسرته من الفرسان، وأبطال الفروسية لهم شمائل تقترب من شمائل الأعراب، فليس من المستغرب أن يكون للشريف صديق بدوي يحبه أصدق الحب، ويبكيه حين يموت بالقصائد الباقيات.

أضيفوا إلى هذا أن الشريف كان ورث عن أبيه صداقات كثيرة، صداقات بدوية أسسها في غدوه ورواحه بين العراق والحجاز، وكان الشريف وأبوه قد عرفا أقطاب البوادي، وشياطين الصحراء، وهما يحجان، وقد حجا مرات كثيرة بفضل المنصب الموروث، منصب إمارة الحج، ومن هنا جاز أن يقال أن ابن ليلى كان داعية الشريف، فليس من المستبعد أن يكون الشريف فكر في تكوين عصبية عربية يناهض بها خلافة بني العباس حين تسمح الظروف، وكان ابن ليلى من الذين اصطفاهم لتحقيق ذلك الغرض المرموق، ولكن ستظل هذه القضية ظنونًا في ظنون إلى أن يظهر ما يحققها من شواهد التاريخ.

والمهم أن نقرر أن الشريف تفجع على ابن ليلى أعظم تفجع، وشهدت أشعاره بأنه كان يرى ذلك الرجل من كرام الأصفياء، والواقع أن البوادي فبها كنوز من الشهامة، والفتوة، والمروءة، وهي عالم مجهول، ولكنه موجود، وكان من حظّ الشريف أن يعرف ما في ذلك العالم من شمائل وخصال.

لا نعرف بالضبط متى مات ابن ليلى، ولكن الأرجح عندنا أن أقدم قصائد الشريف في رثائه هي القصيدة التي نظمها في مطلع سنة ٣٩٣، والظاهر أن ابن ليلى قتل في ذلك الحين، فإن الشريف يقول:

تعيف٢ الطير فأنبأنه
أن ابن ليلى علقته علوق٣
وأن سجلًا من دم آمن
أفرغه الطعن بوادي العتيق

وهي قصيدة بدوية النسج تشهد بأن الشريف أراد أن يلائم بين سمات المبكي، وبين سمات الأسلوب، وفيها يقول:

بعدًا لأرماح تميم لقد
هددن عاديّ بناء عتيق
قرعن في أصل كريم الثرى
وجلن في فرع عزيز العروق
حدوا له من حيث لا يتقي
عيرًا من الطعن ملاء الوسوق٤
ما كان بالراجع عن نهجه
لو وقف السيف له في المضيق

وفيها توجع الشريف أعنف توجع إذا يقول:

كان هوى للنفس لو أنني
في حلق القدو أنت الطليق٥
ما كنت بالهائب طرق الردى
ما سلم العضب وأنت الرفيق٦
ما أنا باللاقي بذات النقا
خيل وغى مشعلة بالعنيق٧
ماطلها الماء فلما سلت
عن الروي ماطلها بالعليق
ولّى ابن ليلى عارضًا رمحه
يحدو بخفان جمالًا ونوق٨
يأبى إذا الضيم غدا مضغة
سلسالة سائغة في الحلوق
يروح من يرجو له غرة
قد خضخض السجل بجال عميق٩
استبدل الحي بعقبانه١٠
أغربة بعدك حمق العنيق
خاطرت الشول بأذنابها١١
لما انطوى قرقار ذاك الفنيق١٢
ما الحيُّ بالضاحك عن مثله
ولا وجوه الحي مذ غاب روق١٣
لا أغفلت قبرك حنانة١٤
خرقاء بالقطر صناع البروق
ولا أغب الأرض تمسي بها
ظل صفيق ونسيم رقيق

وهناك قصيدة أخرى سلكت هذا المسلك الوعر، أرق ما فيها قوله:

يا قبر بين القور والدعاص١٥
ضمَّ على لؤلؤة الغواص
قاد ابن ليلى قائد المعتاص
كان سياغي فغدا اغتصاصي
ما أثقل اليأس على الحراص
هل لجروح الدهر من قصاص
قد ينزل العالي من الصياصي١٦
وقد يطيع الرأس وهو عاصي

ولكن الشريف سيترك هذه الوعورة، ويبكي ابن ليلى بالشعر السمح كأن يقول:

أداري المقلتين عن ابن ليلى
ويأبى دمعها إلا لجاجا
لها ثبط على الأيام باق١٧
تجيش به معينًا أو أجاجا
كأن بها ركية١٨ مستميح١٩
يخضخضها بكورًا وأدلاجا
أذود النفس عنه وذاك منها
عنان ما ملكت له معاجا
كأن العين بعد اليوم جرح
إذا طبوا له غلب العلاجا
تجم على القذى وتفيض دمعًا
مطال الداء وادع ثم هاجا
وأين كفارس الفرسان عمرو
إذا رزء من الحدثان فاجا
بحق كان أولهم ولوجًا
على هول وآخرهم خراجا
إذا رسبت حصاة القلب منه
طفا قلب الجبان به انزعاجا

وهو يحدثنا أن ذلك الرجل كانت إليه قيادة العرب إذ يقول:

فمن يزع العريب٢٠ إذا تناغت
ويضرب بين غاربها سياجا
ويذكرها الحلوم على تناس
وقد بلغت حفائظها الهياجا
يحاججها٢١ عن الأرحام حتى
يقر القوم أن له الحجاجا

ثم يختم القصيدة بأقباس الالتياع فيقول:

أقاض حق قبرك ذو غرام
أعاج الركب عن طرب وعاجا
يريق عليك ماء القلب صرفًا
وماء العين يجعله مزاجا
ولو بلغ المُنى إنسان عيني
خلا منها وأسكنك الحجاجا٢٢

وما زال الشريف يبدئ ويعيد في التفجع على ابن ليلى حتى ذهب الحزن به كل مذهب، فخلد ذكره بقصيدة قليلة الأمثال، إذ يقول:

لعمر الطير يوم ثوى ابن ليلى
لقد عكفت على لحم كريم
وإن قنا العدا ليردن منه
دمًا لم يجر في عرق لئيم
كأن الرمح يصدر منه عدوًا
عن الأجمي ذي اللبد الكليم٢٣
وأقسم إن ثوبك يا ابن ليلى
لمجموع على عرض سليم
رزئتك كالوذيلة لم تمتع
بها بعد الوجود يد العديم٢٤
تنام وتترك الأضغان يقظى
خماشات الذوابل في تميم٢٥
إذا نزعوا الملابس أذكرتهم
ذحول يديه آثار الكلوم
ومن مطل الديون أعد صبرًا
على عنت المطالب والغريم
تداعت لي بمصرعه الليالي
وأوعبت النوائب في أديمي
وتقترع القوارع في جناني
قراع النبل في الغرض الرجيم٢٦
أأجزع أن حطمن حجاز أنفي
وهن يقصن أعناق القروم٢٧
وما لي لا أراع وقد رمتني
يد الجلى بقارعة التميمي
أحنُّ إليه واللقيا ضمار٢٨
حنين العود للوطن القديم٢٩
وأنشده وأعلم أين أمسي
مطالا للبلابل والهموم
كأدماء القرا نشدت طلاها٣٠
وما وجدان جازية بغوم٣١
تطيع اليأس ثم تعود وجدًا
إليه بالمقصة والشميم٣٢
يعارضني بذكرك كل شيء
عداد الداء غبّ على السليم٣٣
أجدك هل ترى بعد ابن ليلى
طعانًا بين رامة والغميم
أأرجو للحواضن كابن ليلى؟
أحلت إذن على بطن عقيم

وكان الشريف يذكر ابن ليلى كلما ضجر في أسفاره، فكأنه كان يراه ملك البيداء.

أيها السادة

ليس الذي يهمني في هذا المقام هو النص على وفاء الشريف، وإنما الذي يهمني هو تعليل ذلك الوفاء، فالشاعرية التي كانت تتفجر في صدر الشريف هي التي جعلت الدنيا أمام عينيه منادح للأطراب والأشجان، فإذا كان من الشعراء من يتكلف أسباب الحنين فيتفجع لغروب الشمس، أو يتوجع لسقوط الأوراق في الخريف، فإن الرضي يجد من نوائبه الوجدانية ينابيع للحزن لا تنضب، ولا تغيض.

والحزن أيها السادة طيف أسود، ولكنه محبوب، والشعراء هم الذين جعلوا وصف الحزن من الشرائع الإنسانية، والحزن لا يكون دائمًا صفة سلبية كما يتوهم بعض الناس، فهو حين يسمو يكون دليلًا على عافية القلب، وسلامة الروح، ولا يحزن حق الحزن إلا الأصحاء.

إن الحزن العنيف هو الشاهد على قوة شعورنا بما نفقد، وهو الدليل على أننا نحاول العظائم، فنطلب الخلود لكل ما تصطفي أرواحنا في عالم المحسوس والمعقول.

وما كان الشريف يبكي أحبابه مرة واحدة، ثم يلوذ بالصمت، لا، وإنما كان يصل أحبابه بالذكرى والحنين؛ فلا يفقد منهم غير الوجود الملموس، فطريق الحج على طوله في تلك العهود كان يمثل للشريف أممًا كثيرة من عوالم الأحياء والأموات، ولعل ظهور الخيل لم تعرف فتى أقوى شاعرية من ذلك الفتى البكاء، والفرح والترح يفيضان من ينبوع واحد، لو تعلمون.

ومن عجائب ما وقفت عليه أن الناس كانوا يسألون الشريف أن يبكي موتاهم فيجيب، والشجي يبعث الشجي، والدنيا عند الحزين كلها قبر مالك.٣٤

أليس من العجيب أن يسأل الشريف بكاء ميت لا يعنيه فيقول:

ألا مخبر فيما يقول جلية
يزيل بها الشك المريب يقين
أسائله عن غائب كيف حاله
ومن نزل الغبراء كيف يكون
وما كنت أخشى من زماني أنني
أرق على ضرائه وألين
إلى أن رماني بالتي لا شوى لها
فأعقب من بعد الرنين أنين
وإن أحق المجهشين بعترة٣٥
ووجد قرين بان عنه قرين
وما تنفع المرء الشمال وحيدة
إذا فارقتها بالمنون يمين
تجرم عام لم أنل منك نظرة
وحان ولم يقدر لقاؤك حين٣٦
أمر بقبر قد طواك جديده
فأبلس حتى ما أكاد أبين٣٧
وتنفضُّ بالوجد الأليم أضالع
وترفضُّ بالدمع الغزير شؤون

ومعاذ الأدب أن يكون الشريف في هذه القصيدة كالنائحة المستأجَرة، وهل كانت النائحة المستأجرة تعني حقًّا من دعيت للبكاء عليه؟ إنها تبكي ودائعها في التراب، فهي نائحة ثكلى مفطورة الفؤاد.

ويظهر جانب المروءة من وفاء الشريف حين نتذكر بعض المواقف التي تجلَّت فيها شجاعته، فقد اتفق لرجل من عظماء بغداد أن يتألب الجمهور عليه لبعض الأسباب، وكان لذلك الرجل كثير من الأصدقاء والأشياع، فلما مات خاف أصدقاؤه وأشياعه عواقب التفجع عليه، فلم يمشِ في جنازته غير ثلاثة منهم الشريف، وفي هذا الحادث البشع يقول:

لعمري لقد ماطلت لو دفع الردى
مطال وقد عاتبت لو سمع الدهر
أفي كل يوم أنت غادٍ مشيع
حبيبًا إلى دار يقال لها القبر
لئن كان لي في كل ما أنا تارك
وراء الثرى أجر لقد عظم الأجر
سقيت أبا بكر على البعد والنوى
ولا بل هام الشامتين بك القطر
أخي ما أقل التابعيك إلى الثرى
وإخوانك الأدنون من قبلها كثر
لقد كانت النكراء منك خليقة
ولا عرف حتى يتقي قبله النكر
ألا إنما الماضون منا هم الألى
أراحوا وحطوا والبواقي هم السفر
تتبعه أبصارنا وهو ذاهب
كما مال قرن الشمس أو وجب البدر٣٨
عليك سلام الله فات بك الردى
ولم يبق عين للقاء ولا أثر

ومن هذا الباب جزع الشريف على أصدقاء لم ترفعهم مواهبهم، ولا مقاماتهم لمرتبة النص على أسمائهم في الديوان، وهم ناس كانوا في صدر الشريف معارف، وكانوا في زمانهم نكرات، وهؤلاء الأصدقاء المجهولون لا يعرف أقدارهم غير الشعراء، وهل من العدل أن يغلق باب الصداقة فلا يفتح إلا لمن ظفروا بالشهرة وبعد الصيت؟ أليس من حق الشاعر أن يقول: إن أخلص من ودعوني يوم الفراق هو كلبي؟!

وما هذه الغطرسة التي نعتصم بها فلا نهب معاني المودة لغير المشهورين؟ وهل كان المشهورون أصدق من نعرف حتى نقف عليهم لواعج الشوق والحنين؟

كم رجل حرمته الطبيعة أسباب التفوق في الميادين المعاشية والأدبية والسياسية، ثم وهبته قلبًا يشعر، ولسانًا لا يبين!

كم رجل خامل الذكر صغير الشأن يقبل عليك بنفس تواقة، وقلب حنان!

كم امرأة أمية لا تعرف غير شؤون البيت، ثم تمد زوجها بأرواح من القوة والفتوة لا تقدر على مثلها المتخرجات في السوربون!

إن الصداقة لها منابع غير منابع العرفان، والرجل العالم لا يصادق إلا حين يرجع إلى الفطرة الأولى، فطرة الإنسان الحساس.

فلا تلوموا الشريف إن رأيتموه يرثي ناسًا لم يسمح مقامه الاجتماعي بذكر أسمائهم في الديوان، فتلك وثبة فطرية لا تصدر إلا عن كرام الرجال.

وإن وقفات كهذه لأشرف من وقفاته وهو يرثي رجلًا من بني أمية، أو رجلًا من بني العباس؛ لأن في بكاء العادلين من الخصوم لونًا من الأثرة، وحب الإعلان، أما بكاء المغمورين المجهولين فهو فيض من الطبع الصادق، والإحساس الأمين.

ومثل الشريف في هذا الباب مثل الفنان الذي ينحت التماثيل، فهو دائمًا يوهم الجمهور أنه يضع تمثالًا لامرأة مجهولة، أو رجل مجهول، هو يخدع الناس حين يوهمهم أنه لا يهتم بغير تمثيل المعاني، ولو أبيح له أن يفصح لقال إنه لا ينظر إلى النموذج، وإنما يستوحي صورة هي بعض ما في ضميره من دفائن الكنوز.

وقد اهتديت إلى هذا المعنى لطول ما عاشرت المثالين، فقد صحبت المسيو بلانشو وهو يضع تمثال العارية، وصح عندي أن في التمثال شمائل لم تكن في النموذج، فأدركت أن المثال يستعين النموذج على تذكر ما كان فتن به في عالم العيان.

فالشريف يجسم معناني الأخوة وهو يبكي أصدقاءه المجهولين، وهو أيضًا يشرع للناس مذاهب الوفاء، وللشعر في صدر ذلك الرجل جوهر لا يملك مثله إلا من اصطفاهم الله للتعبير عن حقائق الوجود.

أيها السادة

إنكم في غنى عن التذكير بما في آداب المجتمع من أوهام وأغاليط، فلا تضق صدوركم حين يطوي الشريف أسماء فريق من الذين سكب على قبورهم شآبيب الدمع السخين، وإنما أرجوكم أن تتمثلوا ديوان شعره شبيهًا بمصانع الرسامين والنحاتين في القديم والحديث، فليس يعلم إلا الله من الذين يعنيهم فنان مثل أحمد راسم، أو فنان مثل محمود سعيد، كما لا يعلم إلا الله من الذين كان يعنيهم البحتري وهو يفتتح قصائد المديح بالنسيب.

إن قلب الشاعر كالغابة الشجراء، لا يعرف مجاهلها غير الأيقاظ من الأدلاء، وقد دللتكم على قلب الشاعر الذي اسمه الشريف؛ لأنه أقدم صديق عرفته في بغداد، وإني لأرجو أن يعذرني حين يراني نممت عليه، فما أذكر أننا تعاهدنا على كتمان هذه الأحاسيس.

وإليكم شواهد من شعره في بكاء المغمورين، قال من قصيدة:

ما لي أودع كل يوم ظاعنًا
لو كنت آمل للوداع لقاء
وأروح أذكر ما أكون لعهده
فكأنني استودعته الأحشاء
فرغت يدي منه وقد رجعت به
أيدي النوائب والخطوب ملاء
أحبابي الأدنين كم ألقى بكم
داء يمض فلا أداوي الداء
أحيا إخاءكم الممات وغيركم
جربتهم فثكلتهم أحياء
إلا يكن جسدي أصيب فإنني
فرقته فدفنته أعضاء

وقال من قصيدة ثانية:

أقول وقد قالوا مضى لسبيله
مضى غير رعديد الحنان ولا نكس٣٩
كأن حداد الليل زاد سواده
عليك ورد الضوء من مطلع الشمس
أرى كل رزء دون رزئك قدره
فليس يلاقيني ليومك ما ينسى

وقال من قصيدة ثالثة، وهي في رجل كانت له شخصية، ولا نعرف السبب في طيّ اسمه عن الناس:

ما بعد يومك ما يسلو به السالي
ومثل يومك لم يخطر على بالي
وكيف يسلو فؤاد هاض جانبه
قوارع من جوى هم وبلبال
يا قلب صبرًا فإن الصبر منزلة
بعد الغلوّ إليها يرجع الغالي
نقص الجديدين من عمري يزيد على
ما ينقصان على الأيام من حالي
مضى الذي كنت في الأيام آمله
من الرجال فيا بعدًا لآمالي
قد كان شغلي من الدنيا فمذ فرغت
منه يدي زاد طول الوجد أشغالي
تركته لذيول الريح مدرجة
ورحت أسحب عنه فضل أذيالي
ما بالي اليوم لم ألحق به كمدًا
أو أنزع الصبر والسلوان من بالي

أيها السادة

هناك جانب من غرائب الوفاء عند الشريف هو بكاء النساء، وهذا أغرب الجوانب، وهو يحتاج إلى تأمل ودرس، ولا نعرف بالضبط كيف نشأ هذا عند الشريف، فقد كان من المألوف في التقاليد العربية أن لا يبكي من النساء غير المعشوقات، وبكاء الأمهات والحلائل باب من النبل، ولكنه في شعر العرب قليل، فقد لا يساوي واحدًا من خمسين إذا أحصينا ما قيل في الرثاء، فكيف اتفق للشريف الرضي أن يكثر من تعزية الناس في أمهاتهم، وبناتهم، وأخواتهم؟

إن هذه الظاهرة ليس لها عندي غير تعليل واحد، هو أن الشريف الرضي كان (ابن أمه) كما يعبر المصريون حين يداعبون من يغضبون لأمهاتهم من الأطفال.

ونحن نعرف أن أيام البؤس في حياة الشريف مضت وهو في رعاية أمه الرءوم التي باعت أملاكها، وحليها لتقيه، وتقي أخاه ذل العوز والاحتياج.

والأم الرءوم لم تجد من يؤرخ فضلها في اللغة العربية، ويندر بين كتاب العرب من يقول: حدثتني أمي، وأنبأتني أختي، وأخبرتني حليلتي، وإن كان في شعرائهم من يقبل النعال في أقدام الملاح!

وما أريد أن أطيل القول فيما أثر عن العرب والهنود من بغض البنات فذلك معروف، وإنما أريد أن أقف عند هذه النزعة النبيلة من نزعات الشريف، وأنا أجزم بأنه كان يرى المرأة في صورة أمه، تلك الأم التي وقته مكاره الحياة في السنين العجاف يوم أودع أبوه غياهب الاعتقال.

والحق أن اللغة العربية كانت تحتاج إلى من يمجدون الأمهات، والأخوات، والبنات على نحو ما وقع في اللغات الأجنبية، فإن المرأة عناصر من العطف والتضحية لا يدركها إلا ذوو الألباب، وصاحبنا الشريف قد وفق في هذه الناحية كل التوفيق.

ورثاء الشريف لأمه يشهد بأنه كان يفهم قيمة هذا المذهب النبيل، فهو يجعل موتها بابًا لشماتة الأعداء؛ إذ يقول:

كم عبرة موهتها بأناملي
وسترتها متجملًا بردائي
أبدي التجلد للعدوّ ولو درى
بتململي لقد اشتفى أعدائي

والتصريح بأن موت الأم باب إلى الشماتة هو أعظم تمجيد لكرائم النساء.

وهو يصرح بأن أمه كانت تقيه النوائب، وتنفق عليه وتواسيه، فيقول:

فبأي كف أستجنّ وأتقي
صرف النوائب أم بأي دعاء
ومن المموّل لي إذا ضاقت يدي٤٠
ومن المعلل لي من الأدواء٤١
ومن الذي إن ساورتني نكبة
كان الموقى لي من الأسواء٤٢
رزءان يزدادان طول تجدد
أبد الزمان فناؤها وبقائي
قد كنت آمل أن يكون أمامها
يومي وتشفق أن تكون ورائي

إلى أن يقول:

لو كان يبلغك الصفيح رسائلي٤٣
أو كان يسمعك التراب ندائي
لسمعت طول تأوهي وتفجعي
وعلمت حسن رعايتي ووفائي
كان ارتكاضي في حشاك مسببًا
ركض الغليل عليك في أحشائي

وهذا البيت يتضمن صورة حسية لا يصرح بها إلا شاعر يفهم الحقائق، فهو يرى حياته في بطن أمه دينًا واجب الأداء.

وكذلك صح لهذا الشاعر الإنساني أن يعزي بعض الناس في بنت ماتت بعد بنت، فيقول من قصيد طويل:

هذا العزاء وإن تحزن فلا عجب
إن البكاء بقدر الحادث الجلل٤٤

ولكن ما بالنا نحصر أسباب هذه العاطفة فيما تلقاه الشريف عن أمه الرءوم؟ ما الذي يمنع من افتراض أن تكون هذه المعاني أوحيت إليه من التعرف إلى كرائم النساء؟ ما الذي يمنع من التصريح بأن أشراف الرجال لا تخلو حيواتهم من مودات شريفة نبيلة يضمرونها لبعض العقائل المصونات؟ ما الذي يمنع من القول بأن في بنات الأعمام والأخوال ظلالًا من العطف نلوذ بها في هجير الحياة؟ بل ما الذي يمنع من القول بأن في بعض الأجنبيات نفحات من الرفق نتنسم بها أرواح الفردوس؟

وهل قضى علينا سوء الطالع أن لا تكون صلاتنا بالنساء إلا شبهات تحوطها شبهات؟

إن تلك المعاني السود لا ينبغي أن تطيف بأخيلة الكرام من الرجال، فللرجل النبيل كل الحق في أن يشغل قلبه وذهنه بشواغل المودة الصادقة لمن يعرف من أشراف النساء، وهذا باب من أنس الضمائر والقلوب عرفه الناس من قديم الزمان وإن جبنوا عن التصريح به فيما يكتبون وما ينظمون.

وصديقنا الشريف الرضي كان يفهم هذه المعاني، وأكاد أجزم بأنه كان يضمر الإعزاز لكثير من عقائل الكرخ وبغداد، وأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إنه كان يصادق كثيرًا من نساء البيداء، فإن لم تصدقوا ذلك فحدثوني كيف صحّ له أن يقول في رثاء سيدة غيبها التراب:

على أي غرس آمن الدهر بعدما
رمى قادح الأيام في الغصن الرطب
ذوى قبل أن تذوى الغصون وعهده
قريب بأيام الربيلة والخصب٤٥
كفى أسفًا للقلب ما عشت أنني
بكفي على عيني حثوت من الترب
جرت خطرة منها وفي القلب عطشة
رفعت لها رأسي عن البارد العذب
وقلت لجفني ردّ دمعًا على دم
وللقلب عالج قرح ندب على ندب
ومما يطيب النفس بعدك أنني
على قرب٤٦ من ماء وردك أو قرب
ألا لا جوى مسّ الفؤاد كذا الجوى
ولا ذنب عندي للزمان كذا الذنب
خلا منك طرفي وامتلا منك خاطري
كأنك من عيني نقلت إلى قلبي

إي والله، كذلك تسجل مودات الكرائم من النساء، ولو أفنينا الأعمار في تخليد مآثر الحرائر، وفضلهن على أرباب العقول لما بلغنا بعض ما نريد.

أيها السادة

إن المقام يضيق عن شرح ما عند الشريف من غرائب الوفاء، ويكفي في ختام هذه المحاضرة أن نشير إلى ما في شعره من رقة الحنين؛ فهو الذي يقول في رثاء بعض الأصدقاء:

أمسى كأن من القنا
بأضالعي قرعًا ووخزا
يا ثانيًا للنفس بل
يا ثالث العينين عزّا
عضو عثث فيه المنيـ
ـة ما أجلّ وما أعزا٤٧

وهو الذي يقول:

مصابك لم يدع قلبًا ضنينًا
بغلته ولا عينًا جمادا٤٨
كأن الناس بعدك في ظلام
أو الأيام ألبست الحدادا
وكنت أفدت خلته ولكن
أفادني الزمان وما أفادا٤٩
فإن لم أبكه قربي تلاقت
مغارسها بكيت له ودادا

وهو الذي يقول في التوجع على من فقد من الأهل:

قف موقف الشك لا يأس ولا طمع
وغالط العيش لا صبر ولا جزع
وخادع القلب لا يود الغليل به
إن كان قلب على الماضين ينخدع
سائل بصحبي أنى وجهة سلكوا
عنا وأي الثنايا بعدنا طلعوا٥٠
غابوا فغاب عن الدنيا وساكنها
مرأى أنيق عن الدنيا ومستمع
أبكيهم ويد الأيام دائبة
تدوف لي فضلة الكأس التي جرعوا٥١
لا أمتري أنني مجر إلى أمد
جروا إليه قبيل اليوم أو نزعوا
أعتادهم لا أرجي أن يعود لهم
إليّ ماض ولا لي فيهم طمع
فما توهج أحشائي على نفر
كانوا عواري٥٢ للأيام فارتجعوا
ذوائب من لباب المجد ما فجعوا
بمثل أنفسهم يومًا ولا فجعوا
… … … …
… … … …
هل تعلمون على نأي الديار بكم
أن الضمير إليكم شيق ولع٥٣
لكم على الدهر من أكبادنا شعل
من الغليل ومن آماقنا دفع
لواعج أفصحت عنها الدموع وقد
كادت تجمجمها الأحشاء والضلع
أنزفت دمعي حتى ما تركت له
غربًا يفيض على رزء إذا يقع٥٤
ثم اضطررت إلى صبري فعذت به
وأعرب الصبر لما أعجم الجزع

ومن هذه الشواهد ترون أنه كان يخاطب الأحباب الذاهبين، كما يخاطب الأحباب الغائبين، وذلك فيض من قوة الإحساس.

هوامش

(١) دلاص على وزن كتاب: درع ملساء.
(٢) تعيف الطير وعافها: زجرها، وهو أن يعتبر بأسمائها ومساقطها، وأنوائها فيتسعد أو يتشاءم.
(٣) العلوق بفتح العين وضم اللام: المنية.
(٤) الوسوق: جمع وسق وهو ستون صاعًا، أو حمل بعير.
(٥) القد بالكسر: القيد.
(٦) العضب: السيف.
(٧) العنيق على وزن أمير: شدة الجري.
(٨) خفان: اسم موضع.
(٩) الجال: البئر.
(١٠) جمع عُقاب بالضم.
(١١) الشول بالفتح: النوق تشول بذنبها للقاح.
(١٢) القرقار: الهدير، والفنيق: الفحل.
(١٣) روق بضم الراء: حسان.
(١٤) الحنانة: السحابة الماطرة.
(١٥) القور بضم القاف: جمع القارة وهي الجبيل المنقطع عن الجبال، أو الصخرة العظيمة، أو الأرض ذات الحجارة السود، والدعاص: جمع دعص بالكسر، وهو قطعة من الرمل.
(١٦) الصياصي: جمع الصيصة بالكسر وهي الحصن.
(١٧) الثبط: هو من قولهم: أثبطه المرض: لم يكد يفارقه.
(١٨) الركية: البئر.
(١٩) المستميح: الذي يستخرج الماء، وفي الديوان «مستميت».
(٢٠) العريب: مصغر عرب.
(٢١) يحاججها: يحاجها، بفك الإدغام وهو الأصل، وهو يكثر في شعر الشريف.
(٢٢) الحجاج بالفتح وبكسر: عظم ينبت عليه الحاجب.
(٢٣) الأجمي: ساكن الأجم وهو الليث، واللبد: جمع لبدة وهو شعر كاهل الأسد، والكليم: الجريح.
(٢٤) الوذيلة: على وزن سفينة المرآة والقطعة المجلوة من الفضة.
(٢٥) الخماشات: جمع خماشة بالضم، وهو ما ليس له أرش معلوم من الجراحات.
(٢٦) تقترع: تقتتل، والغرض الرجيم الهدف المنصوب.
(٢٧) يقصن: من الوقص وهو الكسر.
(٢٨) الضمار على وزن كتاب: هو ما لا يرجى رجوعه من المال.
(٢٩) العود بفتح العين: الجمل.
(٣٠) القرا: الظهر، والأدماء: في لونها أدمة، وهي في الظباء لون مشرب بياضًا.
(٣١) الجازية: الظبية يجزيها العشب، والبغوم: الرخيمة الصوت.
(٣٢) المقصة: من قص الأثر إذا تتبعه، والشميم: شم الأرض لتعرف الطريق الذي مشى فيه المفقود.
(٣٣) العداد بالكسر: اهتياج وجع اللديغ بعد سنة والسليم الملدوغ، سمي بذلك تفاؤلًا، وغب الداء: تحرك وهاج.
(٣٤) إشارة إلى أبيات متمم بن نويرة.
(٣٥) في الديوان (لعبرة).
(٣٦) تجرم: مضى.
(٣٧) أبلس يبلس: سكت على ما في نفسه.
(٣٨) وجب البدر: غاب.
(٣٩) النكس بالكسر: المقصر عن غاية الكرم، والجمع أنكاس.
(٤٠) الممول واهب المال.
(٤١) الأدواء جمع داء.
(٤٢) الأسواء جمع سوء وهو الردى.
(٤٣) الصفيح هنا هو القبر وجمعه صفائح.
(٤٤) الجلل: العظيم، وهو أيضًا الحقير، فهو من الأضداد.
(٤٥) الربيلة على وزن سفينة: السمن والنعمة، والمراد بها وفرة الشجر.
(٤٦) القرب بالتحريك: سير الليل لورد الغد، أو ألا يكون بينك وبين الماء إلا ليلة.
(٤٧) عثت: عاثت، من العيث وهو الإفساد.
(٤٨) الغلة بالضم: هي الظمأ الشديد، والمراد بها اللوعة.
(٤٩) أفدت: استفدت.
(٥٠) الثنايا: جمع ثنية وهي الطريق في الجبل.
(٥١) داف الشراب: مزجه بشيء.
(٥٢) في الديوان (عوادي) وهو تحريف.
(٥٣) شيق: مشتاق.
(٥٤) الغرب بالفتح: عرق في العين يسقي ولا ينقطع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤