وصف السود الملاح

أيها السادة

حدثتكم منذ أشهر أن ابن سكرة كان أولع بجارية سوداء، فقال: فيها ألوف الأبيات، وحدثتكم أن الشريف الرضي تأثر ذلك الشاعر في وصف السود الملاح، وفي هذا المساء يتضح لكم أن الشريف وقف عند حدِّه في الوصف، فلم يتعد الكلام عن اللون، إذ قال على لسان من سأله مدح جارية سوداء:

لاموا ولو وجدوا وجدي لقد عذروا
وذنب من لام مظلمًا غير مغتفر
لما تمالوا على عذلي أجبتهم
بعزّ معترف لا ذلّ معتذر
أهوى السواد برأسي ثم أمقته
فكيف يختلف اللونان في نظري
تأبى طلائع بيض ذرّ شارقها
في عارضي أن تكون البيض من وطري
إني علقت سواد اللون بعدكم
علاقة تشمت الظلماء بالقمر
لو لم يكن فوق لون البيض ما رقمت
صبغ الليالي على الأجياد والعذر
جعلته لسواد الرأس تذكرة
أن تفقد العين يرض القلب بالأثر
والليل أستر للخالي بلذته
والصبح أفضح للساري على غرر
وللفتى في ظلام الليل معذرة
وما له في الضحى إن ضلّ من عذر
لا أجمع الحب للبيض الحسان إلى
ما بيض الدهر والأيام من شعري
وكيف يذهب عن قلبي وعن بصري
من كان مثل سواد القلب والبصر

فما هذا الكلام؟ وما هذا المنطق؟ إن الشريف في هذه القصيدة يعبث عبث الأطفال!

فهل من الحق أن الرجل يعشق السوداء؛ لأن سوادها يذكره بسواد الناصية؟

وهل من الحق أن الرجل يبغض البيضاء؛ لأن بياضها يذكره ببياض الشيب؟

نترك هذا، وننظر قوله من كلمة ثانية:

أحبك يا لون الشباب لأنني
رأيتكما في القلب والعين توأما
سواد يودّ البدر لو كان رقعة
بجلدته أو شق في وجهه فما
لبغض عندي الصبح ما كان مشرقًا
وحبب عندي الليل ما كان مظلمًا
سكنت سواد القلب إذ كنت شبهه
فلم أدر من عزّ من القلب منكما
وما كان سهم الطرف لولا سواده
ليبلغ حبات القلوب إذا رمى
إذا كنت تهوى الظبي ألمي فلا تعب
جنوني على الظبي الذي كله لمى

فماذا ترون في هذه الأبيات؟ هل غرست في قلوبكم الميل إلى السواد في الملاح؟

ولنسايره مرة ثالثة، فننظر كيف يقول:

أذات الطوق لم أقرضك قلبي
على ضني به ليضيع ديني
كفاك حلي جيدك أن تحلى
بأطواق النضار أو اللجين
سكنت القلب حيث خلقت منه
فأنت من الحشا والناظرين
أحبك أن لونك لون قلبي
وإن ألبست لونًا غير لوني
عديني وامطلى وعدي فحسبي
وصالًا أن أراك وأن تريني
نظرتك نظرة لما التقينا
على وجلين من هجر وبين
كأني قد نظرت سواد قلبي
بوجهك ظاهرًا لسواد عيني

الحق أن أشعار الشريف في النساء السود كلها لعب في لعب، وقد جاء في الديوان أنه سئل أن يقول في السواد كما قال ابن الرومي، فقال: والسكوت كان أولى وأوجب؛ لأن الشريف لم يكن يستطيع أن يجاري ابن الرومي في هذه الميدان، وكيف وابن الرومي شاعر فاجر لا يضيره أن يذكر الخصائص الأصلية في المليحة السوداء؟ وهل كان يكفي أن يقال: إن السواد أفضل من البياض كما فعل الشريف، وكان من الغافلين؟

إن قصيدة ابن الرومي في محبوبته السوداء قصيدة فريدة في الشعر العربي، وما كان يجوز للشريف أن يتورط في معارضته؛ لأن الفصل في هذه القضية ما كان يمكن لشاعر يتقنع بالحياء، ومركز الشريف في المجتمع لم يكن يسمح له بأن يخلع قناع الحياء.

الواقع أن الشريف لم يكن يستطيع أن يفضل لونًا على لون، أو جنسًا على جنس؛ لأن هذا التفضيل لا يتيسر إلا لجماعة من الشعراء سيصيرون فيما يقال من حطب الجحيم.

والشريف — فيما نرجح — كان رجلًا «طيبًا» يصف الجمال بالسماع!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤