الشاعر المثقف

أيها السادة

حديث الليلة عن ثقافة الشريف الرضي وبصره بالبلاغة وإحساسه قوة الكلام البليغ.

ولا يمكن تصور هذا الجانب من حياة الشريف إلا بتصور ما كانت عليه الحياة العقلية في القرن الرابع، ذلك العهد الذي رأى كيف تتصاول العقول، وكيف تصطرع الأقلام، وكيف يكون الحول والطول مقرونين بسلاح المنطق وبراعة البيان.

ففي ذلك العصر عرفت اللغة العربية نهضة أدبية لا تزال تسيطر على الأقلام والعقول إلى اليوم، في ذلك العصر نبغ أبو الحسن الجرجاني صاحب الوساطة بين المتنبي وخصومه. وفي ذلك العصر نبغ أبو بكر الباقلاني صاحب إعجاز القرآن. وفيه نبغ أبو القاسم الآمدي صاحب الموازنة بين الطائيين أبي تمام والبحتري. وفيه ظهر أبو علي الحاتمي الذي سن المذاهب للهجوم على المتنبي. وفيه تفجرت فصاحة أبي هلال العسكري صاحب الصناعتين.

وفي ذلك العصر ظهر إخوان الصفاء الذين دانوا اللغة العربية برسائلهم العميقة التي وعت معارف العرب والفرس واليونان. وفيه نبغ أبو حيان التوحيدي وابن مسكويه. وفيه عرف النثر الفني أقطابًا عظامًا لا يزالون أعلام الفصاحة وفرسان البيان، وكيف تنسى لغة العرب آثار ابن العميد وابن عباد والهمذاني والخوارزمي والتنوخي وابن وشمكير وابن شهيد.

ومن هذه الإشارات ترون القرن الرابع تميز بمزايا ثلاث: النقد الأدبي والجدل العقلي، والنثر الفني، وهي مزايا كانت تفترق ما شاء لها الزمن الجائر، فيرى بعضها في الشام، وبعضها في مصر، وبعضها في الأندلس، ولكنها كانت تجتمع في بغداد، وكانت بغداد وطن الشريف كما تعلمون.

وصورة بغداد في القرن الرابع تتمثل في قول الصاحب بن عباد في خطابه إلى ابن العميد: «بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد» وتتمثل أيضًا في الجزع على فراقها، الجزع الذي أحسه أبو العلاء وأبو العلاء كما تعرفون كان يرى الدنيا بأذنيه لا بعينيه، فلما قدم بغداد رأت أذناه ما لم تريا من قبل، وصارت المجالس والمساجد هي الزهر والماء في إحساس ذلك الأديب الفيلسوف.

ومن ثقافة القرن الرابع ومعارف بغداد تكونت عقلية أبي العلاء، الذي دان الأدب برسالة الغفران وبقصائده اللزوميات.

وقد شاءت الظروف أن يعيش الشريف الرضي في القرن الرابع، وبعقل القرن الرابع، وشاءت الظروف أيضًا أن يكون من أسرة لها في العلم والأدب ماض جميل، بل وشاءت الظروف أن يكون له أخ من الأئمة في العلوم العقلية والنقلية، ثم قضت بأن يكون الشريف الرضي نقيب الأشراف في زمن لم يكن فيه للأشراف عرش ولا تاج، وإنما كان لهم مجد العلم والأدب والبيان.

وقد وفى الشريف الرضي لعصره وأسرته أصدق الوفاء، فأقبل على الحياة العلمية والأدبية إقبال الرجال، وشارك في التأليف مشاركة الفحول، فألف كتاب «حقائق التأويل في متشابه التنزيل» وكتاب: «مجازات الآثار النبوية» وكتاب: «تلخيص البيان عن مجازات القرآن» وكتاب: «الخصائص» و«أخبار قضاة بغداد».

وما أزعم أني اطلعت على جميع هذه المؤلفات، فقد ضاع أكثرها مع الأسف، وإنما اطلعت على مجازات الآثار النبوية، وهو كتاب ممتع، يمثل ثقافة الشريف أصدق تمثيل، ويدل على بصره باللغة والأدب ومذاهب البيان.

ولم تكن ثقافة الشريف مقصورة على الجوانب الجافية التي وقف عندها بعض الأعلام في ذلك الزمان، وإنما رق الشريف وظرف، فمشى به ذوقه اللطيف إلى دراسة شعر ابن حجاج أظرف شعراء القرن الرابع وأبرعهم في وصف اللهو والمجون، وقد تخير الشريف طائفة من شعره سماها: (الحسن من شعر الحسين) ولعله بهذه التسمية كان صاحب الفضل على أبي العلاء الذي سمى كتابه عن المتنبي: (معجز أحمد) وكتابه عن البحتري: (عبث الوليد) وكتابه عن أبي تمام: (ذكرى حبيب).

ولم تكن ثقافة الشريف موقوفة على ما وعت الكتب والمصنفات، وإنما امتد بصره فدرس الدنيا وخبر الناس، وساقه إلى ذلك أسباب خطيرة ترجع في جملتها إلى اثنين: الأول: تطلعه إلى الخلافة وحرصه على الاتصال بأقطاب الزعماء في الحواضر الإسلامية، والثاني. تشوفه إلى ما أجن الوجود من غرائب الصباحة، وعجائب الجمال، وسترون في الليالي المقبلات كيف كان الشريف يعيش موزع القلب والعقل بين الحب وبين المجد، وكيف كان فريسة للدسائس في عالم المجد وعالم الوجدان.

فالشريف الرضي أيها السادة عاش شعره كله، كما يعبر الفرنسيون، وهو لم يصف أزمات الحياة كما يفعل اللاهون والعابثون، وإنما وصف حياة رآها بعينيه، وأحسها بقلبه، وذاق من شهدها وصابها ما يذوق أحرار الرجال.

ونحن بهذه الأحكام لا نتعصب لشاعر أحببناه، وإنما نطوف حول نفس روحانية لم يعرف نظيرها العلم، ولم يشهد مثيلها الخيال.

نطوف حول نفس مظلومة مهيضة كافحت في الحياة أصدق كفاح، وناضلت في سبيل المجد أشرف نضال.

لقد كان الناس في عهد الشريف يتفقهون ليعيشوا، أما هو فكان يتفقه ليسود.

كان الشعراء في عهد الشريف ينظمون الشعر ليحظوا بأعطيات الخلفاء، أما هو فكان ينظم الشعر ليزلزل الرواسي من عروش الخلفاء.

كان الشعراء يتغزلون لاهين لاعبين، أما الشريف فكان له في كل أرض صبابة، وكان له في كل بقعة غرام ماحق مبيد.

وكان ذلك مزاجًا بين طغيان العقل وعدوان القلب، كان مزاجًا بين العقل المثقف والقلب الحساس.

وجملة القول: أن الرضي لم يكن من طراز شعراء الجاهلية، الشعراء العوام الذين لم يعرفوا غير ما كان يعرف سكان البيداء، ولم يكن من طراز شعراء العصر الأموي الذين وقفوا عند المعارف الجاهلية بعد أن أنارتها بعض المعارف الدينية، ولم يكن من طراز الشعراء الذين شهدوا صباح العصر العباسي، أولئك الشعراء الذين وقفوا عند عربدة الكؤوس، ولم يعرفوا الخلفاء إلا في طلب الرزق الحرام أو الحلال، وإنما كان شاعرًا مثقفًا يدرك تمام الإدراك كيف تصطرع العقول والمذاهب والأهواء، ويفهم أن الدنيا في عصره نهب مقسم بين الديلم وأحفاد بني العباس، ويتمنى لو أقام على شواطئ دجلة حاضرة تساوي الحاضرة التي أقامها الفاطميون على شواطئ النيل.

فالشريف الرضي كان يرى الدنيا بعين الرجل المثقف، المثقف الشريف لا المثقف الصعلوك، وكانت أحاسيسه في دنياه لا تقدر بالأوهام، وإنما كان ينصب لها دقيق الموازين، ويسعى في تحقيقها سعي الفحول.

كان الشريف في حرب شعواء بين القلب والعقل، وكان يطمح في أن يجمع لنفسه جميع أقطار المجد، فيكون من أئمة الفقهاء، وأقطاب الشعراء، وأعيان الخلفاء.

وقد ضاعت أمانيه ضياع الزهر في الوادي الجديب، ولم يبق منها الإمامة في الشعر والبيان.

أيها السادة

قد تقولون: وأين الشواهد على بصره بالمذاهب اللغوية والأدبية؟

إن قلتم ذلك فنحن نحدثكم عن فهمه لأصول الكلام البليغ، وحجتنا في ذلك ما وصف به شعره وما تحدث به عن البلاغة وهو يتحدث عن اللغويين والشعراء.

وأول ما ننص عليه: إحساس الشريف بالصلة بين المعاني وبين الأوزان، يدل على ذلك ما جاء في ص٩٤٥ من الديوان، فقد أرسل إليه أبو إسحاق الصابي قصيدة مدح نثبت منها هذا المطلع:

أبا كل شيء قيل في وصفه حسن
إلى ذاك ينحو من كناك أبا الحسن

قال جامع الديوان: «فأجابه عن هذه القصيدة وجعل الجواب على رويها دون وزنها؛ لأن ذلك الوزن المقيد لا يجيء في الكلام إلا مقلقلًا ولا النظم إلا مختلًّا».

فالشريف كان يشعر بالصلة بين الوزن وبين المعنى، وهذا الاتجاه كان معروفًا عند أدباء القرن الرابع، فقد حدثنا الصاحب بن عباد أنه لم يجد فيمن صحبهم من الأدباء من يفهم الشعر كما كان يفهمه أبو الفضل ابن العميد «فإنه كان يتجاوز نقد الأبيات إلى نقد الحروف والكلمات، ولا يرضى بتهذيب المعنى حتى يطالب بتخير الوزن والقافية»، وحدثنا أن ابن العميد كان يقول: «إن أكثر الشعراء ليس يدرون كيف يجب أن يوضع الشعر ويبتدأ النسج؛ لأن حق الشاعر أن يتأمل الغرض الذي قصده، والمعنى الذي اعتمده، وينظر في أي الأوزان يكون أحسن استمرارًا ومع أي القوافي يحصل أجمل إطراد».١

فما كان ابن العميد يراه من الوجهة النظرية كان الشريف يحققه من الوجهة العملية، وما كان الشريف شاعرًا فحسب، وإنما كان كذلك من أقطاب الناقدين.

ويتصل بهذا حرصه على تحبير القصائد، وقد كان ذلك الحرص يوقعه أحيانًا في المضحكات، فقد احتفل بنظم قصيدة يهنئ بها أخاه المرتضى بمولود، ولكن شاء الحظ أن تلد امرأة أخيه بنتًا، فصرف القصيدة إلى غيره من الأصدقاء. وقد وقع له هذا الحادث المضحك مرتين.٢

وقيمة هذا الشاهد ترجع إلى دلالته على احتفال الشريف بقرض القصائد، فقد كان يتخير المناسبات ويستعد لها أتم استعداد.

وهناك وجه آخر من وجوه البصر بالتاريخ الأدبي، فقد تفرد بميزة لم نجدها إلا قليلًا عند غيره من الشعراء، وتلك عنايته بتاريخ قصائده، فهو الشاعر الوحيد الذي نجد جميع قصائده مؤرخة من بين سائر القدماء، ولهذا التاريخ نفع من وجهتين: فهو أولًا شاهد على شعور الشريف بأن البلاغة من المواد الوصفية في حياة المجتمع، وأنها لذلك خليقة بالتاريخ، وهو ثانيًا يسعف من يهمهم أن يعرفوا كيف تطورت عقلية الشاعر من حال إلى حال.

ولقد تظنون أن هذا العمل النافع قام به جامع الديوان، ولم يقم به الشريف، ونجيب بأن ديوان الشريف رُتِّبَ بعنايته وهو حيٌّ، وقد طلبت منه «تقية» بنت سيف الدولة نسخة وهي بمصر، وطلبه كذلك الصاحب بن عباد، ولا يطلب الديوان إلا وهو عند صاحبه حاضرٌ عتيد.

وقد كان الشريف ينظر إلى الشعر نظر الفنان، فنراه يقول في وصف قصائده الجياد:

منتصبات كالقنا لا ترى
عيًّا من القول ولا أفنا
لا يفضل المعنى على لفظه
شيئًا ولا اللفظ على المعنى
فمثل الشريف في نظم شعره مثل الصيدلي البارع الذي يحسن تركيب الدواء، فهو شخص مسئول يركب الدواء بمقادير معينة محددة يؤخذ بعضها بالقطارة وبعضها بالميزان، وهو يعلم أن الدواء لو نقص منه جزء أو زيد عليه جزء لأصبح ضارًّا أو غير مفيد.٣

وكان يشعر بأن أهم عناصر البلاغة قوة الذاتية، نعرف ذلك من كلامه في تجريح من يسرقون شعره وينتحلونه في بعض البلاد، فقد هدَّدهم بالفضيحة وأعلنهم أن شعره سينمُّ عليه وسيبوءون بالخيبة والإخفاق، وذلك إذ يقول:

ألا من عذيري من رجال تواعدوا
لحربيَ من رامي عقوق ورامح
وغرهم مني اصطبار على الأذى
وقد يكظم المرء الأذى غير صافح
فما الجارم الجاني عقوق بسالم
ولا الماطل اللاوي ديوني برابح
أغار على ذود من الشعر آمن
تقادم عندي من نتاج القرائح٤
فيا ليتهم أدوه في الحي خالصًا
ولم يخلطوه بالرذايا الطلائح٥
وإنك لو موهت كل هجينة ٦
على ناظر ما عددت في الصرائح
أرى كل يوم والعجائب جمة
على وبر الجربَى وسوم الصحائح٧
إذا طاردوها خالفت برقابها
رجوعًا إلى أوطانها والمسارح
وإن أوردوها غير مائي حايدت
حياد عيوف ينكر الماء قامح٨
إذا انجلفت٩ في غارة بت ناظرًا
أراقب منها روحة في الروائح
كأن بني غبراء إذ ينهبونها
أحالوا على مال بذي الدوح سارح
يرجون منها والأماني ضلة
رجاء نتاج الحمل من غير لاقح١٠
أباغث أضرتها السفاهة فاغتدت
تخطف هذا القول خطف الجوارح١١
هبوها إليكم من يدي منيحة
لقد آن يا للقوم رد المنائح١٢
دعوا وردماء لستم من حلاله١٣
وحلوا الروابي قبل سيل الأباطح١٤
ولا تستهبوا العاصفات وأصلكم
نجيلٌ رمت فيه الليالي بقادح١٥
فما أنتم من مالئ ذلك الحبا
ولا فيكم أكفاء تلك المناكح
ولم تحسنوا رعي السوامخ قبلها
فكيف تعاطيتم ركوب الجوامح١٦
ولا تطلبوها سمعة في معرة
تحدث عنكم كل غاد ورائح
خمول الفتى خير من الذكر بالخنا
وجر ذيول المنديات الفواضح١٧

فهذا الشاعر يصور قصائده المسروقة حين تضاف إلى قصائد غيره بصور الصحاح من الإبل والخيل، حين تضاف إلى المراض، ويتمثلها تلوي رقابها نزاعًا إلى وطنها الأصيل، وتأبى ورود الماء الغريب ثم يرمي سارقي شعره بأنهم ليسوا أكفاء للزواج من تلك القصائد، وأنهم لم يحسنوا رعي البقل فكيف يخاطرون بركوب الجياد الجوامع؟

ووصف قصائده المسروقة في مكان آخر فقال:

تصغي لها الأسماع والقلوب
مثل السهام كلها مصيب
لطيمة نم عليها الطيب١٨
تودعها الأردان والجيوب١٩
يتعب ذو البراعة الأديب
ويغنم الهلباجة المعيب٢٠
في كل هجمة تلوب٢١
هاج عليها الكلا الرطيب٢٢
يطلبن أرضي والهوى طلوب
لا أمم مني ولا قريب
عند الأعادي وسمها غريب
يرصدهن الحارب المريب٢٣

فأنتم ترون أن الشريف يؤمن بأن سرقة شعره عناء في عناء وهي نظرة لا تقع إلا من رجل مثقف العقل، وهي دليل على قوة الذاتية التي تعد من أهم العناصر في مقومات الآداب والفنون، فالشاعر الوسط، أو الكاتب الوسط، أو الموسيقار الوسط، تضاف آثاره إلى آثار غيره فلا يحس أحد أنها نقلت من أرض إلى أرض. ومن الأدباء والفنانين من تصبح آثارهم كالدنانير التي يتميز بها جيل عن جيل، ولا يمكن تزييفها إلا بجهد عنيف، وأنتم تجدون شواهد ذلك عند كثير من أدباء اليوم، فشوقي ينم شعره عليه، والبارودي ينم شعره عليه، وكذلك ينم الأسلوب عن أمثال إبراهيم المازني وطه حسين، ولو نشروا رسائلهم بدون إمضاء.

والشريف الرضي كان أعجوبة الأعاجيب في هذا الباب، فلا هو من طراز أبي نواس ولا مسلم بن الوليد ولا أبي تمام ولا البحتري ولا المتنبي، وإنما هو الشريف صاحب الحجازيات.

•••

وإحساس الشريف بخطر البلاغة قاده إلى الإشادة بقوة القلم وما له من السيطرة على الوجود. والحديث عن قوة القلم معروف، فقد أقسم الله به في كتابه الكريم، واهتم بوصفه كثير من الشعراء والكتاب، كما ترون في الفقرات التي أثبتها الثعالبي في سحر البلاغة ونقلها الحصري في زهر الآداب، ولكن حديث الشريف عن القلم لا دلالة على اتجاهاته الذوقية والنفسية، فهو يتحدث عنه حديث المتيم المشتاق، ويكاد يتغزل فيه وهو يجول فوق القراطيس. وأي سحر فات الشريف وهو يصف قلم الصاحب بن عباد:

لك القلم الماضي الذي قرنته
يجري العوالي كان أجرى وأجودا٢٤
إذا انسل من عقد البنان حسبته
يحوك على القرطاس بردًا معمدا٢٥
يغازل منه الخط عينًا كحيلة
إذا عاد يومًا ناظر الرمح أرمدا
وإن مج نصل من دم الصرب أحمرا٢٦
أراق دمًا من مقتل الخطب أسودا
إذا استرعفته همة منك غادرت٢٧
قوادمه تجري وعيدًا وموعدا

أو حين يقول:

لك القلم الجوال إذ لا مثقف
يجول ولا عضب تهاب مواقعه٢٨
سواء عشيته النقس رهبة
وذو لهذم غشي من الدم رادعه٢٩
يلجلج من فوق الطروس لسانه
وليس يؤدي ما تقول مسامعه
وينطق بالأسرار حتى تظنه
حواها وصفر من ضمير أضالعه٣٠
إذا اسود خطب دونه وهو أبيض
يسود وابيضت عليه مطالعه

أو حين يقول:

له قلم إن جرى غربه
أمنا القنا وخشينا اليراعا٣١

والشريف حين يمنح القلم هذه الأوصاف إنما يفعل ذلك وهو يتمثل ما صنعت الأقلام في بناء الممالك والشعوب، ويتصور جناياتها على التيجان والعروش.

وهو أيضًا يشعر بمعنى الوصف ومعنى البيان، فليست الأوصاف عنده تهاويل وتزاويق، وإنما هي استقراء واستقصاء، وليس البيان في فهمه ضربًا من المحاجاة أو التنميق، وإنما هو كشف وجلاء، نعرف هذا من قوله في خطابه خاله أبي الحسين:

يشيعني بوصفك كل نطق
ويعرفني بمدحك من رآني
وليس الوصف إلا بالتناهي
وليس القول إلا بالبيان

وهو بهذا يثور على التقاليد الأدبية التي شاعت في القرن الرابع، وكانت تعتمد على البهرج والبريق.

وكان معه فهمه لقيمة البيان ذلك الفهم يدرك تمام الإدراك أن البيان يوجب على طالبه أن يكد خاطره في تصيد كرائم المعاني، وتحير الألفاظ الصحاح التي لا يصلح بغيرها أداء، نفهم ذلك من قوله عتاب الخليفة الطائع لله:

فالآن منك اليأس ينقع غلتي٣٢
واليأس يقطع غلة الظمآن
فاذهب كما ذهب الغمام رجوته
فطوى البروق وضن بالتهتان
أو بعد أن أدمى مديحك خاطري
بصقال لفظ أو طلاب معاني

وفي هذا المعنى نفسه يقول في مدح أبيه:

قدها فغرتها من الكلم الجني
وحجولها من صنعة ومعاني٣٣
هي نطفة رقرقتها من خاطري
بيضاء تنقع غلة الظمآن

وكذلك يقول في آخر موطن:

ومحوكة كالدرع أحكم سردها
صنع فأفصح في الزمان الأعجم٣٤

وفي هذا المعنى يقول في العتاب:

جاءتكم أسلًا مشرعة
متوقعًا فيكم تقصفها٣٥
قد بات فيها قائل صنع
يحمي لها ذمها ويرهفها
أعزر علي بأن يكون لكم
بالأمس ثقفها مثقِّفُها

ويقول في وصف نظام قصائده وهو يمدح أحد وزراء بهاء الدولة:

وعندي لك الغر التي لا نظامها
يهي أبدًا ولا يبوخ شهابها٣٦
وعندي للأعداء فيك أوابد٣٧
لعاب الأفاعي القاتلات لعابها

وفي قوة نظام القصائد يقول أيضًا وهو يمدح أباه:

تصون مناقبك الشاردا
ت أن تتخطى إليها العيوب
إذا نثرتها شفاه الروا
ةِ راقك منها النظام العجيب

وفي سلاسة النظام يقول:

براني الدهر سهمًا ثم ولى
فجردني من الريش اللؤام
وها أنذا أبثك كل بيت
رقيق النسج رقراق النظام

وفي رنين شعره يقول:

منحتك من منطقي تحفة
رأيت بها فرصة تستلب
تصفقها بالنشيد الرواة
كما صفق الماء بنت العنب

ويصف جلجلة شعره فيقول:

أنا القائل المرموق من كل ناظر
إذا صلصلت للسامعين غرائي

ويصف قدرته على إيذاء الأعداء بالشعر فيقول:

فلا ترهبوني بالرماح سفاهة
فعيدان أوطاني قنًا وصعاد٣٨
ولا توعدوني بالصوارم ضلة
فبيني وبين المشرفي ولاد٣٩
سأمضغ بالأقوال أعراض قومكم
وللقول أنياب لدي حداد٤٠
ترى للقوافي والسماء جلية
عليكم بروق جمة وعاد

ويصف نفسه بالسيطرة على الألفاظ فيقول:

ألا من كنت شاعره
فإن المجد شاعره
وإن اللفظ مطروح
على فكري جواهره

فما رأيكم فيما سمعتم، يا أدباء بغداد؟

أترون كيف يتحدث عن صقال الألفاظ وطلاب المعاني، وكيف يصف نفسه مرات بأنه صنع، ويصف قصائده بأنها كمشرعات الأسل ومحكمات الدروع؟

أرأيتم كيف يبدئ ويعيد في وصف ما تمتاز به قصائده من إحكام النظام، وكيف تجلجل جلجلة الرعود والبروق؟

إن هذا الشاعر يقفنا أمام حقيقتين: الأولى: أن البلاغة بريئة من البهرج والتكلف، والثانية: أن البلاغة لا تكون دائمًا من عفو الطبع، وإنما يصل إليها الرجال بالجهاد والجلاد في تخير الألفاظ وتصيد المعاني، وهذا ولا ريب مطمح الشاعر المثقف الذي يعرف أنه مهدد بالشهرة التي غنمها المتنبي والشهرة التي سيغنمها أبو العلاء.

وعقل القرن الرابع هو الذي أورد شاعرنا هذه الموارد، فقد كان يرى العلم والفلسفة يحيطان به من كل جانب، وكان يرى الناس لا يقنعون بالمواهب الفطرية التي كانت تغني في عصر امرئ القيس أو عمر بن أبي ربيعة أو مسلم بن الوليد، وكان يرى الأدباء يتغنون بفنون أبي تمام والبحتري وابن الرومي، وكان يتطلع إلى أن تكون له منزلة في صدور الأدباء المتفلسفين أمثال التوحيدي والصاحب بن عباد.

وسترون في المحاضرة المقبلة أن الشريف الرضي لم يكن يعيش وحده، وإنما كان يعيش في زمن أكثر علمائه شعراء، فهو يقارعهم مقارعة الشاعر المثقف، ويلقاهم بعزائم الفحول.

•••

ننتقل إلى فن آخر يظهر فيه حرصه على الكلام البليغ، فنرى كيف كان يدرك أن محاسن الرجال لا تتم بغير العقل والبيان.

كتب إليه الصابي يشكو زمنه عرضت له، فقال الشريف يجيبه من قصيد طويل:

لئن نال قبضًا من بنانك حادث
لقد عاضنا منك انبساط جنان٤١
وإن بز من ذاك الجناح مطاره
فرب مقال منك ذي طيران٤٢
وإن أقعدتك النائبات فطالما
سر موقرًا من مجدك الملوان٤٣
وإن هدمت منك الخطوب بمرها
فثم لسان للمناقب باني٤٤
مآثر تبقى ما رأى الشمس ناظر
وما سمعت من سامع أذنان
وموسوعة مقطوعة العقل لم تزل
شوارد قد بالغن في الجولان٤٥
وما زال منك الرأي والعزم والحجا
فنأسى إذا ما زلت القدمان٤٦

وهو في هذه الأبيات يرى أن مرض الصابي غير ضائر ما دام له قلب ولسان. ونصه على بلاغة الصابي وهو يعزيه في علته يشرح لكم كيف كان يقدر نعمة الكلام البليغ.

ولما مات الصابي رثاه الشريف أكثر من مرة، وكان كلما رثاه نص على قلمه وبلاغته، كأن يقول:

ثكلتك أرض لم تلد لك ثانيًا
أنى ومثلك معوز الميلاد٤٧
من للبلاغة والفصاحة إن همى
ذاك الغمام وعب ذاك الوادي٤٨
من للملوك يحز في أعدائها
بظبًا من القول البليغ حداد٤٩
من للممالك لا يزال يلمها
بسداد أمر ضائع وسداد٥٠
من للجحافل يستزل رماحها
ويرد رعلتها بغير جلاد٥١
من للموارق يسترد قلوبها
بزلازل الإبراق والإرعاد
وصحائف فيها الأراقم كمن
مرهوبة الإصدار والإيراد٥٢
تدمي طوائعها إذا استعرضتها
من شدة التحذير والإبعاد٥٣
حمر على نظر العدو كأنما
بدم يخط بهن لا بمداد
يقدمن إقدام الجيوش وباطل
أن ينهزمن هزائم الأجداد
فقر بها تمسي الملوك فقيرة
أبدًا إلى مبدى لها ومعاد
وتكون سوط للحرون إذا ونى
وعنان عنق الجامح المتمادي٥٤
ترقى وتلدغ في القلوب وإن يشأ
حط النجوم بها من الأبعاد٥٥

فماذا ترون في هذه الصورة الشعرية، صورة القلم البليغ الذي يحز في قلوب الأعداء وكأنه السيف المسلول، القلم البليغ الذي يستنزل الرماح ويرد الجنود، ويسترد موارق القلوب بالترهيب والتخويف، القلم الذي يصير الصحائف وكأنها مملوءة بكوامن الأراقم والصلال، القلم الذي يخيل الصحائف للعدو وهي حمر قانية كتبت بالدم لا بالمداد، القلم الذي يسد مسد السوط في رياضة الحرون، ومسد العنان في عنق الجواد الجموح، القلم الذي يلدغ القلوب إن شاء، ويرقيها إن شاء، ويحط النجوم من الابعاد حين يريد.

إن هذا الوصف يعطينا فكرة واضحة عن فهم الشريف لقوة القلم البليغ، وهو ليس كالوصف الذي رأيناه منذ لحظات، وإنما هو وصف حي يأخذ ملامحه من قوة الإحساس ويقظة الجنان.

وقد وصف البلاغة مرة ثانية وهو يرثي الصابي فقال:

إن تمض فالمجد المرجب خالدٌ
أو تفن فالكلم العظام بواقي٥٦
مشحوذة تدمَى بغير مضارب
كالسيف أطلق في طلى الأعناق٥٧
يقبلن كالجيش المغير يؤمه
كمش الإزار مشمر عن ساق٥٨
قرطات آذان الملوك خليقة
بمواضع التيجان والأطواق٥٩
عقدوا بها المجد الشرود وأثلوا
درجًا إلى شرف العلا ومراقي
أوترتها أيام باعك صلب
وكددتها بالنزع والإغراق٦٠
حتى إذا مرحت قواك شددتها
باسم على عقب الليالي باقي٦١
كنجائب قعدت بها أرماقها
محسورة فمشين بالأعراق٦٢

وهو في هذه الأبيات يضع أمام أعيننا صورة ثانية تغاير الصورة الأولى بعض المغايرة وتماثلها في المدلول، ولكنه يأتي بمعنى جديد حين يصور ما كان عليه القلم في الحالين: حال الشباب وحال المشيب، فهو في الحال الأول يشد كلامه بوثاق القوة، وهو في الحال الثاني يسند كلامه بقوة الروح.

وقد وصف بلاغة الصابي وهو يرثيه مرة ثانية فقال:

هو الخاصب الأقلام نال بها علا
تقاصر عنها الخاضبون العواليا
مفيد ضراب باللسان لو انه
بيوم وغى فل الجراز اليمانيا٦٣

وهذا يدلكم على أن البلاغة كانت تملأ أقطار ذهنه فيراها أكرم ما يبكي به الرجال.

•••

ومدح الشريف ابن جنى ورثاه، وقد رأيناه في الحالين ينص على بلاغته، فيقول في المدح:

فدى لأبي الفتح الأفاضل إنه
يبر عليهم إن أرم وقالا٦٤
إذا جرت الآداب جاء إمامها
قريعًا وجاء الطالبون إفالا٦٥
فتى مستعاد القول حسنًا ولم يكن
يقول محالًا أو يحيل مقالا٦٦
ليقري أسماع الرجال فصاحة
ويورد أفهام العقول زلالا٦٧
ويجري لنا عذابًا نميرًا وبعضهم
إذا قال أجرى للمسامع آلا٦٨

ويقول في الرثاء:

فمن لأوابي القول يبلو عراكها
ويحذفها حذف النبال الموارق٦٩
إذا صاح في أعقابها اطردت له
ثواني بالأعناق طرد الوسائق٧٠
وسومها ملس المتون كأنها
نزائع من آل الوجيه ولاحق٧١
تغلغل في أعقابهن وسومه
بأبقى بقاء من وسوم الأيانق٧٢
ففي الناس منها ذائق غير آكل
وقد كان منها آكلًا غير ذائق
ومن للمعاني في الأكمة ألقيت
إلى باقر غيب المعاني وفاتق٧٣
يطوح في أثنائها بضميره
مرير القوى ولاج تلك المضايق٧٤
تسنم أعلا طودها غير عاثر
وجاوز أقصى دحضها غير زالق٧٥

فهو في الأبيات الأولى يصفه بحلاوة القول، وهو في الأبيات الأخيرة يصفه بسياسة القول. ولا يلتفت إلى سياسة القول إلا الشعراء المثقفون الذين راضتهم الأيام على وزن مقامات البيان.

ولا بأس من أن نستطرد قليلًا فنقول: إن اهتمام الشريف بمدح ابن جني ورثائه موصول الأواصر بحياته الأدبية، فقد كان ابن جني شرح قصيدته الرائعة في رثاء إبراهيم بن ناصر الدولة الحمداني، وهي التي يقول في مطلعها:

ألقى السلاح ربيعة بن نزار
أودى الردى بقريعك المغوار٧٦
وتجردي عن كل أجرد سابح
ميل الرقاب نواكس الابصار٧٧

وسنعود إلى هذه القصيدة بعد حين، ولكن المهم أن نسجل أن الشريف كان يعادي ويصادق في سبيل حياته الشعرية، فهو قد مدح ابن جني ورثاه؛ لأنه شرح إحدى قصائده في الرثاء، وكذلك فعل مع الصاحب بن عباد، فقد بلغه أن شيئًا من شعره وقع إليه فأعجب به وأنفذ إلى بغداد لاستنساخ سائر شعره، فلما بلغه ذلك أخذ منه الطرب كل مأخذ، ومدح الصاحب بقصيدة بارعة منها الأبيات التي سلفت في وصف القلم، ولكنه أخفاها عنه ولم يرسلها إليه خوفًا من أن يتهم بالسعي في طلب المال، ثم مدحه بقصيدة ثانية لا يعنينا منها في هذا المقام إلا اهتمامه بوصف بلاغة الصاحب إذ يقول:

كم حجة لك في النوافل نوهت
بدعاء دين العدل والتوحيد٧٨
ومجادل أدمي جدا لك قلبه
وأعضه بجوانب الصيخود٧٩
وشفيت ممترض الهوى من معشر
سدوا من الآراء غير سديد
قارعتهم بالقول حتى أذعنوا
وأطلت نوم الصارم المغمود
جمر بمسهكة الرياح نسفته
كان الضلال يمده بوقود٨٠

فهذه الأبيات تمثل فهمه لخطر الجدل والقلم أصدق تمثيل، وترينا كيف كان يدرك أن القلم واللسان يغنيان أحيانًا عن سل السيوف في كبح الخصوم وتأييد الآراء؟

ولما مات الصاحب رثاه الشريف بقصيدة قوية جاء فيها قوله في وصف ما تصنعه الأقلام:

واهًا على الأقلام بعدك إنها
لم ترض غير بنان كفك آلا٨١
أفقدن منك شجاع كل بلاغة
إن قال جلى في المقال وجالا
من لو يشا طعن العدا برؤوسها
وأثار من جريالها قسطالا٨٢
وإذا تجايشت الصدور بموقف
حبس الكلام وقيد الأقوالا ٨٣
بصوائب كالشهب تتبع مثلها
ورعال خيل يتبعن رعالا٨٤

فهو يجعل الحجج الصوائب في قوة الخيل المغيرات، وهي أخيلة بدوية كلن يحس صورها كل الإحساس.

•••

وفي الشواهد التي سلفت ما يريكم كيف كان الشريف يهتم بوصف اللسن، وكيف كانت تروعه قوة الجدل، وقد وصل في ذلك إلى أبعد الغايات وهو يقول في رثاء عبد العزيز بن يوسف:

أبكيك يا عبد العزيز لخطة
تعمي مطالعها وخطب مضلع٨٥
ومقاوم ما زلت تُعجز ليلها
بلسان قوَّال وقلب سَمَيذَع٨٦
إني أرى في المجد بعدك ثَلمة
تبقى وخرقًا ما له من مرقع٨٧
من يشرق الخصم الألدَّ بريقه
عيًّا ويقدع منه ما لم يقدع٨٨
أم من يبلغ بالبلاغة غايةً
تُلوى بحسرى طالبين وظلع٨٩
أم من يرد من المغيرة غربها
والخيل تنهض كالقطا بالدرع٩٠
بنوافذ للقول يبلغ وقعها
ما ليس يبلغ بالرماح الشرع٩١
شهب تشعشع في النوائب ضوءُها
كالشمس تنغض رأسها للمطلع٩٢
حتى يقول الغابطون وقد رأوا
فعلاتِه: زاحم بجدٍّ أو دع
ويود من حمل الثنا لو أصبحت
تلك الأداة على الكميِّ الأروع٩٣
إن لا تكن في الجمع أمضي طعنةً
فلأنت أمضى خطبة في المجمع٩٤
إن الفصاحة ذللت لك عنقها
فأخذت منها بالعِنان الأطوع
أمست ظهور المجد عندك ترتقي
منها إلى قمع السَّنام الأمنع٩٥
كيد كمارقة النضال ودونه
بشر كبارقة النصول اللمع٩٦
نهاز أذنبة الكلام إذا هفا
قلب الجريء وعي قول المصقع٩٧
قد قلت للمتعرضين لسطوه:
خلوا وجار الأرقم المتطلع٩٨

وهذا فن جديد عند الشريف، فأكثر من وصفهم بالبلاغة كانوا من رجال السيف، أما عبد العزيز بن يوسف فلم يكن له من أدوات القتال غير القلم واللسان، وقد وصف كلماته بأنها تفعل ما لا تفعل مشرعات الرماح، وإنها ترد الخيل المغيرة وعليها أقطاب الدارعين، وحدد مقامه بين مقامات الأبطال بهذا البيت:

إن لا تكن في الجمع أمضى طعنة
فلأنت أمضى خطبة في المجمع

وقد وصفه بالكيد، وذلك وصف طريف؛ لأنه يفصح عن خصلة نادرة لا يجيدها إلا الأقلون، والكيد سلاح عرفه الساسة من قديم الزمان وأنا لا أعرف من أصوله شيئًا، ولكني سمعت أنه يبني ويهدم ويبرم وينقض. والشريف يعني ما يقول وهو ينعت مبكيه بالكيد في موقف لا تذكر فيه غير كرائم الخلال.

وقد قلت في كتاب النثر الفني: إن ما بين أيدينا من أخبار عبد العزيز بن يوسف ورسائله لا يعطينا صورة صحيحة عن نفسه وأخلاقه، فهل أستطيع اليوم أن أعتمد على حكم الشريف فأقول: إن ذلك الكاتب كان من كبار الكائدين؟

المهم أن نسجل أن الشريف كان يفهم جيدًا خطر القول، وكان يعرف أنه يطلب لكثير من الغايات، ويدرك أن البلاغة لها مواطن خفية يدركها أقطاب الليل. ونعوذ بالله من كيد الكائدين، ودسائس الخاتلين.

•••

ومع هذا لم يكن الشريف يرى الدنيا في جميع أحوالها حومة قتال، فقد كانت عنده مواطن يرى فيها البلاغة تطلب لإيناس الافئدة والقلوب، أليس هو الذي يقول في رثاء أبي منصور الشيرازي؟:

كم مجلس صبحته ألسننا
تفض فيه لطائم الأدب٩٩
من أثر يونق الفتى حسن
أو خبر يبسط المنى عجب١٠٠
أو غرض أصبحت خواطرنا
تساقط الدر منه في الكتب
كالبازد العذب روقته صبا
الفجر أو الظلم زين بالشنب١٠١

وكيف لا يعشق البلاغة ويراها من موارد الأنس من يقرنها بجمال العزم والحلم، فيقول في مدح أبي سعيد بن خلف:

خطاب مثل ماء المزن تبرى
مواقعه العليل من القلوب١٠٢
وعزم إن مضيت به جريًا
هوى مطر القنا بدم صبيب١٠٣
وحلم إن عطفت به معيدًا
أطار قوادم اليوم العصيب١٠٤
وألفاظ كما لعبت شمال
ملاعبها على الروض الخصيب١٠٥

أيها السادة

تلكم ثقافة الشريف الرضي، وذلكم إحساسه بخطر البلاغة وقوة الكلام البليغ.

وإنما أطلنا في سرد الشواد وضرب الأمثال لنريكم أن الشريف لم يكن في حياته الشعرية من اللاهين، وإنما كان يقتحم البلاغة اقتحام الفحول، ويؤمن بأن الفصاحة من أشرف ما يزدان به الرجال، ويرى آثار الأقلام أبقى على الزمن من آثار الرماح والسيوف.

فإن قلتم: وكيف صح للشريف أن يفتن بنفسه وبشعره ذلك الفتون؟

قلنا: إن لذلك موجبات سنعود إليها في المحاضرة المقبلة بالتفصيل.

هوامش

(١) انظر تحقيق هذه القضية في كتاب الناثر الفني ج٢ ص٥٢ و٥٦.
(٢) انظر الديوان ص٢٥١ و٤٦٢.
(٣) النثر الفني ج١ ص٢٩٦.
(٤) الذود من الثلاثة إلى العشرة في الإبل والخيل. وهو هنا مجاز عن القصائد.
(٥) الرذايا: جمع رذي وهو الذي أثقله المرض، والأنثى رذية، وأرذى صارت إبله وخيله رذايا. والطلائح جمع طليح وهو المهزول.
(٦) الهجينة: غير الكريمة. والهجين من أبوه خير من أمه، والصرائح جمع صريح وهو ضد الهجين.
(٧) الوبر: صوف الابل والأرانب ونحوها. والجربى: جمع جربان والوسوم: جمع وسم وهو العلامة التي يميز بها الحيوان من ضروب الصور.
(٨) المحايدة: المجانبة. والقامح: الذي يرفع رأسه عند الخوف ويمتنع من الشرب.
(٩) انجفلت: نفرت.
(١٠) اللاقح: الناقة قبلت اللقاح.
(١١) الأباغث والبغاث: لئام الطير، وتطلق مجازًا على أخلاط الناس. والجوارح ذوات الصيد من السباع والطير.
(١٢) المنيحة من قولهم: منحة الناقة إذا جعل له وبرها ولبنها وولدها.
(١٣) أي: لستم أهلًا للحلول به.
(١٤) الروابي: جمع رابية وهي ما ارتفع من الأرض. والأباطح: جمع أبطح وهو مسيل واسع فيه دقاق الحصى. وهو ينهاهم عن التعرض للخطر بانتحال أشعاره.
(١٥) النجيل ضرب من الحمض وهو معروف في مصر وتصلح به أرض الملاعب والقادح: كان يقع في النبت والشجر والأسنان.
(١٦) السوامخ: البقول: والجوامح جمع جامح وهو الفرس الذي يركب رأسه فلا يراهن.
(١٧) المنديات: جمع مندية وهي الفعلة يندى لها الجبين.
(١٨) اللطيمة: المسك وكل طيب يحمل على الصدغ.
(١٩) الأردان: جمع ردن بالضم وهو أصل الكم.
(٢٠) الهلباجة: الأحمق الجامع لكل عيب.
(٢١) الهجمة من الإبل أولها أربعون. أو هي ما بين السبعين إلى المئة. وتلوب: تعطش وإبل أوب ولوائب: عطاش.
(٢٢) هاج الكلأ: يبس.
(٢٣) الحارب: الناهب.
(٢٤) العوالي: رؤوس الرماح، مفردها عالية.
(٢٥) المعمد: الموشى.
(٢٦) الصرب بالكسر هو الصبغ الأحمر.
(٢٧) استرعفته: أخرجت منه الرعاف وهو الدم. والعبارة مجازية.
(٢٨) المثقف: الرمح. والعضب: السيف.
(٢٩) النقس: المداد. واللهذم: السنان القاطع. والرادع: الملطخ بالدم.
(٣٠) صفر: خال.
(٣١) الغرب: الحد. والقنا: الرمح. واليراع: القصب.
(٣٢) الغلة بالضم: الظمأ الشديد.
(٣٣) الغرة: البياض في جبين الفرس. والحجول جمع حجل بالكسر وهو البياض في قوائم الفرس.
(٣٤) محوكة: صفة من الحوك وهو النسج. والسرد: نسج الدرع. والصنع بالتحريك: الماهر في الصناعة. والمؤنث صناع.
(٣٥) الأسل بالتحريك: الرماح. والمشرعة: المسددة. والتقصف: التكسر.
(٣٦) يبوخ: يبرد.
(٣٧) الأوابد: القوافي الشوارد.
(٣٨) القنا: جمع قناة وهي الرمح. والصعاد: جمع صعدة وهي القناة التي تثبت مستوية فلا تحتاج إلى مثقف.
(٣٩) المشرفي: السيف. نسبة إلى مشارف الشام.
(٤٠) حداد: جمع حديد. من الحدة وهي القوة.
(٤١) الجنان بالفتح: القلب.
(٤٢) بز: سلب.
(٤٣) موقر: مثقل. من قولهم: نخلة موقرة إذا كانت كثيرة الثمار. والملون الليل والنهار. ولا مفرد له. ومن أجل ذلك جازعود الضمير عليه بالتذكير.
(٤٤) المناقب: المحامد. والمفرد منقبة.
(٤٥) العقل: جمع عقال.
(٤٦) نأسي من الأسى وهو الحزن.
(٤٧) معوز الميلاد: قليل الأمثال.
(٤٨) همى الغمام: انهمر. وعب الوادي: سال.
(٤٩) الظبا: جمع ظبة بالضم هي حد السيف أو السنان.
(٥٠) السداد بالكسر: صحة التدبير. وبالفتح صواب.
(٥١) الجحافل: جمع جحفل وهو الجيش الكثير، والرعلة. القطعة من الخيل. والجلاد: القتال.
(٥٢) الأراقم جمع أرقم وهو أخبث الحيات. والكمن: جمع كامن وهو المستتر. والمرهوبة: المخوفة.
(٥٣) تدمي: يسيل منها الدم. والايعاد: الانذار.
(٥٤) الحرون: الذي يعف بعد أن يستدر الجري. والجامع: الذي يخرج على طاعة الفرس.
(٥٥) ترقى: من الرقية بالضم وهي علاج المريض بالتعاويذ.
(٥٦) المرجب: المصون. على التشبيه بالنخلة المرجبة وهي التي يوضع حولها الشوك؛ لئلا يصل إليها آكل.
(٥٧) الطلي: أصول الأعناق. والمفرد طلية بضم فسكون أو طلاة.
(٥٨) يؤمه: يقوده. وكمش وكميش: مشمر.
(٥٩) القرطات: جمع تصحيح القرطة بكسر ففتح والقرطة جمع تكسير للقرط، وهو الحلية تعلق في شحمة الأذن.
(٦٠) أوترها جعل لها وترًا وهو شرعة القوس. والصلب: الشديد. والكد النزع بشدة، والاغراق من قولهم: إغراق النازع في القوس إذا استوفى مدها.
(٦١) مرحت قواه: ضعفت.
(٦٢) الأرماق: جمع رمق وهو بقية الحياة. والمحسورة التي نال منها الأعيان.
(٦٣) الوغي: الجلبة في الحرب، وفل: كسر. والجراز. السيف القاطع.
(٦٤) يبر عليهم: يغلبهم. أرم: سكت.
(٦٥) القريع: الفحل. والأفال جمع أفيل. على وزن أمير. وهو الفصيل.
(٦٦) المحال من الكلام ما غدل به عن وجهه. وأحال المقال أتى به كذلك.
(٦٧) يقري من القرى بكسر القاف وهو إكرام الضيف.
(٦٨) النمير: الصافي. والآل: السراب.
(٦٩) الأوابي: الممتنعات. والمفرد أبية وهي في الأصل الناقة تعاف الماء. والعراك هنا ازدحام الإبل في الورد. والحذف: الرمي.
(٧٠) الوسائق جمع وسيقة وهي من الإبل كالرفقة من الناس. فإذا سوقت طردت معًا.
(٧١) سومها: أرسلها. والملس جمع أملس وهو الصحيح المتن أي: الظهر. وفي المثل. «دهان على الأملس مالاق الدبر» يضرب في سوء اهتمام الرجل بشأن صاحبه. والنزائع جمع نزيع وهو الغريب. والوجيه ولاحق فرسان تنسب إليهما الخيل العتاق.
(٧٢) الوسوم: العلامات. وهي ما يوسم به الحيوان من ضروب الصور والأيانق: جمع الجمع للناقة التي نجمع على أينق ونياق وأنواق.
(٧٣) الأكمة جمع كمامة بالكسر وهي وعاء الطلع وغطاء النور. والباقر: هو الذي يكشف مكنونات المعاني، وبه سمي الباقر محمد بن علي بن الحسين — رضي الله عنهم — لتبحره في العلم. والفائق كذلك.
(٧٤) القوي جمع قوة وهي طاقة الحبل. والمرير المحكم القتل. والعبارة مجازية.
(٧٥) تسنم الطود: علاء. والطود: الجبل. والدحض: المكان الزلق وجمعه دحاض ومنه المدحضة وهي المزلة.
(٧٦) القريع: الفحل.
(٧٧) الاجرد: الحصان القصير الشعر. والميل: جمع أميل. وهو من يميل على السرج. وهو هنا المنكسر الذي يميل عنقه من الضعف.
(٧٨) النوافل هنا معناها الشدائد. ومفردها نوفل. والعدل هو مذهب الاعتزال. وفي أخبار المصاحب بن عباد أنه كان يذهب مذهب العدل
(٧٩) الصيخود: الصخرة الشديدة.
(٨٠) المسهكة: ممر الرياح.
(٨١) الآل: أصله أهل أبدلت الهاء همزة فصارت أأل بفتح فسكون ثم إبدلت الهمزة الثانية ألفًا. ويقال في تصغيره: أويل وأهيل.
(٨٢) الجريال: ما خلص من لون أحمر أو غيره. والقسطال والقسطل: الغبار.
(٨٣) تجايشت الصدور: غلت وهاجت.
(٨٤) الرعال: جمع رعلة بالفتح وهي القطعة من الخيل.
(٨٥) خطب مضلع: مهلك.
(٨٦) المقاوم: جمع مقام وهو المجلس. والسميذع: السيد الكريم والشجاع.
(٨٧) الثلمة: فرجة المكسور والمهدوم.
(٨٨) القدع: الكبح.
(٨٩) الحسرى: جمع حسير وهو الذي نال منه الإعياء. والظلع: جمع ظالع وهو الذي يغمز في مشيه من الضعف.
(٩٠) الغرب: الحدة. والدرع جمع دراع وهو لابس الدرع.
(٩١) الشرع: المرسلة.
(٩٢) تغض: تحرك واضطرب. وأنغض. أمال وحرك.
(٩٣) الكمي: الشجاع أو لابس السلاح. والأروع: من يعجبك بحسنه وجهارة منظره أو بشجاعته. ومثله الرائع.
(٩٤) الجمع في ميدان القتال. والمجمع في حومة الجدال.
(٩٥) القمع: جمع قمعة بالتحريك وهي رأس السنام. والأمتع الذي لا ينال.
(٩٦) النصال والنصول جمع نصل وهو حديدة السهم والرمح والسيف ما لم يكن له مقبض.
(٩٧) الأذنبة جمع ذنوب بفتح فضم، وهو الدلو، والنهاز الذي يضرب بالدلو في الماء لتمتلئ، والمقصع على وزن منبر البليغ أو العالي الصوت أو من لا يرتج عليه ولا يتتعتع، ولعله جاء من الصقعاء وهي الشمس لما يمتاز به من الوضوح والجلاء.
(٩٨) الوجار بالكسر والفتح الجحر. والأرقم: الحية. وهو أخبث الحيات. والمتطلع وصف كاشف للأرقم؛ لأنه يتطلع إلى إيذاء الناس ويبدأ بالعدوان.
(٩٩) صبحته: سقته الصبوح وهو ما حلب من اللبن بالغداة وما أصبح عند السامرين من شراب. واللطائم جمع لطيمة وهي المسك.
(١٠٠) يوفق: يعجب ويطرب.
(١٠١) الظلم بالفتح الثلج وهو هنا ماء الأسنان. وأظلم الثغر تلألأ، والشنب بالتحريك ماء ورقة وبرد وعذوبة في الأسنان.
(١٠٢) تبزي: تشفى. فهي من البرء.
(١٠٣) صبيب: متدفق.
(١٠٤) القوادم هنا جمع قادم وهو الرأس.
(١٠٥) الشمال بالفتح ويكسر الريح التي مهبها نين مطلع الشمس. وبنات نعش أسماء كواكب والمعروف أن ريح الشمال ميمونة الهبوب وفيها لطف ورفق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤