صلات الشريف الرضي بخلفاء بني العباس

أيها السادة

إن محاضرة الليلة أشقتني كثيرًا، ولكنها ستفصل في أعظم معضلة سياسية تحدث بها من عرضوا لترجمة الشريف: وهي تساميه لتبوء عرش الخلافة الإسلامية وأكاد أجزم بأن هذا المطمح لم يكن إلا خيال شعراء، ولم يجسمه إلا الأدباء الذين يسرهم أن يكون لهم زميل يتطلع إلى المعالي ويتسامى إلى عرش الرشيد والمأمون؛ ولذلك نرى مؤرخي الأدب يشيرون إلى هذه المسألة فرحين متهللين كأنهم ظفروا بكنز مدفون.١

والحق أن الظروف التي عاش فيها الشريف كانت سيئة جدًّا، ويكفي أني لا أستطيع اليوم بعد مئات السنين أن أذكر بالتفصيل ما كانت تضطرب به بغداد في ذلك العهد؛ لأن تلك السنين العجاف تركت عقابيل حمل الناس أثقالها من جيل إلى جيل.

وأنتم تعرفون أن أشهر من شجعوا الشريف على طلب الخلافة هو أبو إسحاق الصابي، ومع ذلك كان الصابي يشكو الفقر وسوء الحال فلا يملك الشريف أن يعينه بشيء؛ لأن الشريف كان أفق من الصابي وإنما كان يتجمل ويستر فقره عن الناس.

والذي يعيش في مثل تلك الحال لا يفكر جديًّا في قلب النظام السياسي، بحيث يصبح وهو السيد الذي يسيطر على الأقطار العربية والفارسية.

على أنه لا بأس من تصوير حال الخلافة في ذلك العهد، لنعرف متى بدأ الشريف يداعب تلك الأمنية، ومتى انصرف عنها انصراف اليائسين.

عاش الشريف في عهود ثلاثة من الخلفاء، هم: المطيع والطائع والقادر، وما يمكن أن نلتفت لأيامه في عهد المطيع؛ لأنه كان طفلًا لا يحسب له حساب.

ننتقل إلى عهد الطائع الذي استمر من سنة ٣٦٣ إلى سنة ٣٨١ وهو عهد كانت فيه الخلافة قوة وهمية؛ لأن الديلم كانوا هم المسيطرين على العراق، وكان الخليفة صورة يجيزون بها الأحكام إذ كانت الجماهير في أعماق قلوبها تحترم الخلفاء، وكان البويهيون لا يرون بأسًا من استبقاء تلك الصورة تجنبًا لعواطف الأهواء.

والتاريخ يشهد بأن الخلفاء في القرن الرابع كانوا قد اطمأنوا إلى الحرمان من السلطة التنفيذية، حتى إمارة الحج لم يكن الخليفة يصدر بها مرسومًا إلا نص فيه على اسم الملك الذي يحكم ويسود، فقد كتب الصابي على لسان الخليفة المطيع مرسومًا بإمارة الحج جاءت فيه هذه الكلمات:

ولما قلَّدك أمير المؤمنين النقابة على الطالبيين، فبان له فيها محمود سيرتك وظهر من أفعالك ما يدل على سلامة سريرتك، رأى أمير المؤمنين أن حق العادة التي عوَّده الله فيها الصلاح، وأجرى له فيها طائر النجاح، أن يزيدك فضلًا وإحسانًا، ولا يألوك إنعامًا وامتنانًا، فأنهى معز الدولة أبو الحسين — أحسن الله حياطته — أمر رفاق الحجيج الشاخصة من العراقين، وإيثار تقليد تسييرها إلى الحرمين، والاعتماد عليك في حمايتها، وتوليك الحرب والأحداث فيها، فوافق رأي معز الدولة أبي الحسين تولَّى الله كفايته الصواب، ووقع عند أمير المؤمنين موقع القبول والإيجاب.

فالخليفة في هذا المرسوم الديني ينص على اسم الأمير البويهي؛ لأنه لم يكن يملك غير ذلك.

وهناك عبارة أصرح من هذه العبارة، وهي منشور كتب على لسان الطائع، جاء فيه أن الإمامة لا تصح ولا تسلم إلا برعاية البويهيين.

وقد أخرجت من رسائل الصابي شواهد كثيرة تؤيد ما أقول، ولكن لا موجب لسرد تلك الشواهد، فهذا أمر مفروغ منه، ومسلم به، والذي اطلع منكم على كتاب «تجارب الأمم» يرى أن القرن الرابع لم يكن إلا مسرحًا للعراك بين الفرس والترك، ولم يكن الخلفاء يذكرون إلا من باب الاستطراد، فكأنهم كانوا يعيشون على هامش الحياة.

•••

ولنقل بصراحة: إن الشريف كان حريصًا على الظهور بمظهر الولاء للديلم والأتراك؛ لأنه كان يعرف أن الأمر إما أن يكون لأولئك أو هؤلاء وقد سافر مرة إلى الكوفة، فتحدث ناس أنه عزم على التوجه إلى مصر، فلما رجع إلى بغداد نفى الشبهة بقصيدة مدح فيها بني بويه وتودد إلى الأتراك، ولا يعلم إلا الله ما في تلك القصيدة من عناصر الصدق، ولكنها شاهد على ما كان يجب أن يصطنعه الرجل من السياسة وهو يعيش في بغداد في النصف الثاني من القرن الرابع، واسمعوا كيف يقول:

أفي كل يوم للمطامع جاذب
يجشمني ما يعجز الأسد الوردا٢
كأني إذا جادلت دون مطالبي
أجادل للأيام ألسنة لدَّا٣
أحل عقود النائبات وأنثني
وخلفي يد للدهر تحكمها عقدا٤
إذا ما نفذت السد من كل جانب
رأيت أمامي دون ما أبتغي سدَّا
أترك أملاكًا رزانًا حلومهم٥
حلولًا على الزوراء أيمانهم تندى
كأنك تلقى منهم آجمية٦
مؤللة الأنياب أو قللًا صلدا٧
ولا يأنف الجبار أن يعتفيهم٨
ولا الحر يأبى أن يكون لهم عبدا
إذا ما عدمنا الجود منهم لعلة
فلا نعدم العلياء منهم ولا المجدا
نحاسن أقمار الدجى بوجوههم
فنبهرها نورًا ونغلبها سعدا
تخالهم غيدًا إذا بذلوا الندى
وتحسبهم جنًّا إذا ركبوا الجردا٩

إلى أن يقول:

أآل بويه ما نرى الناس غيركم
ولا نشتكي للخلق لولاكم فقدا
نرى منعكم جودًا ومطلكم جدًّا
وإذلالكم عزًّا وأمراركم شهدا
وعيش الليالي عند غيركم ردى
وبرد الأماني عند غيركم وقدا
إذا لم تكونوا نازلي الأرض لم نجد
بها الوادي المطمور والكلأ الجعدا
وكنت أرى أني متى شئت دونكم
وجدت مجازًا للمطالب أو معدى
فلم أر من مطلع عن بلادكم
ولا من مراح للأماني ولا مغدى١٠
خذوا بزمامي قد رجعت إليكم
رجوع نزيل لا يرى منكم بدَّا
أريد ذهابًا عنكم فيردني
إليكم تجاريب الرجال ولا حمدا

ومن الواضح أن سيطرة الفاطميين على مصر لم تكن إيذاءً مباشرًا للمطيع أو الطائع، وإن كانت طعنة موجهة إلى من يسيطرون على فارس والعراق؛ ولهذا نرى لغة المشرق في ذلك العهد لا تسمي الخليفة الفاطمي «صاحب مصر» وإنما تسميه «صاحب المغرب» وهو تعبير كله إيحاء!

ونعود فنقول: إن الشريف أنس كل الأنس بالطائع، فكان يمدحه بصدق وإخلاص، ومع أن الطائع كان خليفة يستضعفه البويهيون أشد الاستضعاف، فقد رأى فيه الشريف رجلًا عربيًّا هو البقية من مجد بني العباس.

وهنا أذكر أن الأستاذ عبد الحسين الحلي أراد أن يشكك في صدق عواطف الشريف وهو يمدح الطائع، وأنا أرى غير ذلك، أرى أن الشريف كان يفهم جيدًا أنه يخاطب خليفة بالرغم من فساد الأحوال، وأرى أن مطامع الشريف في ذلك العهد كانت تقف عند استرداد أملاك أبيه التي صادرها عضد الدولة منذ سنين، فمن الإسراف في حسن الظن بعزيمة الشريف أن يقال: إنه كان يطلب الخلافة في ذلك العهد.

فإن لم يكن بد من تمجيد الشريف، فيكفي النص على أن عواطفه نحو الطائع كانت خالصة من شوائب الرياء، بخلاف ما أراد الأستاذ عبد الحسين.

ومن الواجب أن ننص على أن مدائح الشريف للطائع لم تبدأ إلا بعد أن اطمأن على خلاص أبيه من الاعتقال، وقرب رجوعه إلى بغداد، أي: بعد سنة ٣٧٣، فأقدم قصيدة مدحه بها هي الحائية التي ذم فيها أعداءه ثم تخلص إلى المدح فقال:

نعلِّل بالزلال من الغوادي
ونتحف بالنسيم من الرياح
وحاورنا الخليفة حيث تسمو
عرانين الرجال إلى الطماح
نوجه بالثناء له مصونًا
ونرتع منه في مال مباح
وسيال١١ اليدين من العطايا
مهيب الجد مأمون المزاح
إذا ابتدر الملام ندى يديه
مضى طلقًا على سنن المراح١٢
أمير المؤمنين أذال سيري
ذرى هذي المعبدة الرزاح١٣
فكم خاض المطي إليك بحرًا
يموج على الأماعز والضواحي١٤
وكم لك من غرام بالمعالي
وهم في الأماني وارتياح
وأيام تشن بها المنايا
عوابس يطلعن من النواحي١٥
فلا نقل: المهيمن عنك ظلا
من النعماء ليس بمستباح

وفي سنة ٣٧٦ مدح الطائع وشكره على تكرمه خصه بها وثياب وورق، فقال بعد أبيات:

وإذا أمير المؤمنين أضاف لي
أملي نزلت على الجواد المفضل
بالطائع الميمون أمجج مطلبي
وعلوت حتى ما يطاول معقلي
قرم إذا عرت الخطوب مراحه
أدمى غواربها بها بناب أعصل١٦
متوغل خلف العدو وعلمه
أن الجبان إذا سرى لم يوغل
وإذا تنافلت الرجال غنيمة
قسم التراث لها بحد المنصل
ثبت لهجهجة الخطوب كأنما
جاءت تقعقع بالشنان ليذبل١٧
رأي الرشيد وهمة المنصور في
حسن الأمين ونعمة المتوكل
آباؤك الغر الذين إذا انتموا
ذهبوا بكل تطاول وتطول
درجوا كما درج القرون وعلمهم
أن سوف يخبر آخر عن أول
نسب إليك تجاذبت أشياخه
طولًا من العباس غير موصل١٨
هذي الخلافة في يديك زمامها
وسواك يخبط قعر ليل أليل
أحرزتها دون الأنام وإنما
خلع العجاجة سابق لم يذهل
طلعت بوجهك غرة نبوية
كالشمس تملأ ناظر المتأمل

وهي قصيدة طويلة أسلم فيها الشريف أمره للطائع فقال:

أرجوك للأمر الخطير وإنما
يرجَى المعظم للعظيم المعضل
وأروم من غلواء عزك غاية
قعساه تستلب النواظر من عل
كم رامها منك الجبان فراوغت
شقاء يلعب شقها بالمسحل١٩
تدمي قلوب الحاسدين وتنثني
فتردد عادية الخطوب النزل
ضاق الزمان فضاق فيه تقلبي
كالماء يجمع نفسه في الجدول
هذا الحسين إلى علائك ينتمي
شرفًا وينسب مجده في المحفل

إلى آخر القصيدة، والحسين هنا هو أبوه، لا الحسين بن علي بن أبي طالب، وهذه القصيدة صريحة في أن الشريف كان يؤمن بأن الطائع أسدى إلى أبيه فنونًا من المعروف.

وكانت سنة ٣٧٧ من أعوام الخصب بين الرضي والطائع: فقد مدحه خمس مرات، منها مرتان في شهر رمضان، الأولى بقدوم الصوم، وهي قصيدة نفض الشريف بها همومه، وشكا بها دهره، إذ يقول:

بلوت وجربت الأخلاء مدة
فأكثر شيء في الصديق ملال٢٠
وما راقني ممن أود تملق
ولا غرني ممن أحب وصال
وما صحبك الأدنون إلا أباعد
إذا قل مال أو نبت بك حال
ومن لي بخل أرتضيه وليت لي
يمينًا يعاطيها الوفاء شمال
تميل بي الدنيا إلى كل شهوة
وأين من النجم البعيد منال
وتسلبني أيدي النوائب ثروتي
ولي من عفافي والتقنع مال
إذا عزني ماء وفي القلب غلة
رجعت وصبري للغليل بلال٢١
أرى كل زاد ما خلا سد جوعة
ترابًا وكل الماء عندي آل
ومثلي لا يأسى على ما يفوته
إذا كان عقبى ما ينال زوال
كأنا خلقنا عرضة لمنية
فنحن إلى داعي المنون عجال
نخف على ظهر الثرى وبطونه
علينا إذا حل الممات ثقال
وما نوب الأيام إلا أسنة
تهاوى إلى أعمارنا ونصال
وأنعم منا في الحياة بهائم
وأثبت منا في التراب جبال
أنا المرء لا عرضي قريب من العدا
ولا في للباغي علي مقال
وما العرض إلا خير عضو من الفتي
يصاب وأقوال العداة نبال
وقور فإن لم يرع حقي جاهل
سألت عن العوراء كيف تقال

وهو سيمدح الطائع بعد ذلك مدحًا طيبًا، ولكن ما رأيكم في هذه المقدمات؟ إنه يأنس بالطائع كل الأنس فيفضي إلي بذات نفسه ويشكو أمامه قسوة الفقر وخشونة الزمان.

وهو حين يصل إلى مدحه لن يقول: أعطني مالًا، وإنما سيقول: أعطني منصبًا:

أزل طمع الأعداء عني بفتكة
فلا سلم إلا أن يطول قتال
فإن نفوس الناكثين مباحة
وإن دماء الغادرين حلال
وشمر فما للسيف غيرك ناصر
ولا للعوالي أن قعدت مصال٢٢
ومن لي بيوم شاحب عجاجه
أنال بأطراف القنا وأنال٢٣
أردني مرادًا يقعد الناس دونه
ويغبطني عم عليه وخال
ولا تسمعن من حاسد ما يقوله
فأكثر أقوال العداة محال٢٤

إلى آخر القصيدة، وفي الشهر نفسه هنأه بالمهرجان فمدحه ومدح أصوله من بني العباس:

يلقى الخطوب ووجهه طلق
ويخوضهن وقلبه جذل
تخفي بشاشته حميته
كالسم موه طعمه العسل
من معشر كانت سيوفهم
حليًّا لمن ضربوا ومن عطلوا
بالفخر يكسون الذي سلبوا
والذكر يحيون الذي قتلوا٢٥
أنت الجواد إذا غلا أمل
والمستجار إذا طغى وجل

وفي هذه القصيدة يصرح بأنه ورث محبة الطائع عن أبيه إذ يقول:

إن المجرد في هواك فتى
لا اللوم يردعه ولا العذل
مثل الحسين فبين أضلعه
قلب بغيرك ما له شغل

وبعد أيام هنأه بعيد الفطر، تهنئة شاعر يعرف أنه يخاطب خليفة وهي تجمع بين العذوبة والجزالة، وقد عرض فيها بخصوم الطائع أعنف تعريض، والذي يهمنا هو الشاهد الآتي:

أعيذ مجدك أن أبقى على طمع
وأن تكون عطاياي المواعيد
وأن أعيش بعيدًا عن لقائكم
ظمآن قلب وذاك الورد مورود
ما لي أحب حبيبًا لا أشاهده
ولا رجاي إلى لقياه ممدود
وأتعب القلب فيمن لا وصال له
يا للرجال أقل الخرَّد الغيد٢٦
أكثرت شعري ولم أظفر بحاجته
فسقني قبل أن تفنى الأغاريد

وبعد شهر عزاه في عمر بن إسحاق بن المقتدر وكان آخر ولد بقي من ظهر ذلك الخليفة، وهي قصيدة تكثر فيها الحكم والأمثال.

نؤمل أن نروى من العيش والردى
شربٌ لأعمار الرجال أكول
وهيهات ما يغني العزيز تعزز
فيبقى ولا ينجي الذليل خمول
نقول: مقيل في الكرى لجنوبنا
وهل غير أحشاء القبور مقيل
دع الفكر في حب البقاء وطوله
فهمك لا العمر القصير يطول
ولا ترجُ أن تعطي من العيش كثرة
فكل مقام في الزمان قليل
ومن نظر الدنيا بعين حقيقة
درى أن ظلًّا لم يزل سيزول
تشيع أظعان إلى غير رجعة
وتبكى ديار بعدهم وطلول
إذا لم يكن عقل الفتى عون صبره
فليس إلى حسن العزاء سبيل
وإن جهل الأقدار والدهر عاقل
فأضيع شيء في الرجال عقول
ومن مات لم يعلم وقد عانق الثرى
بكاه خليل أم سلاه خليل

وهذا البيت يشهد بأن الشريف الرضي كان يرتاب فيما يعرف الأموات من أحوال الأحياء

وفي العام نفسه عاتبه بقصيدة قوية طاب فيها التشبيب وطاب فيها العتاب وأي تشبيب أعنف من هذه الأنفاس الحرار:

خليلي هل تثني من الوجد عبرة
وهل ترجع الأيام ما كان ماضيا
إذا شئت أن تسلي الحبيب فخله
وراءك أيامًا وجر اللياليا
أعف وفي قلبي من الوجد لوعة
وليس عفيفًا تارك الحب ساليا
إذا عطفتني للحبيب عواطف
أبيت وفات الذل من كان آبيا
وغيري يستنشي الرياح صبابة
وينشي على طول الغرام القوافيا
وألقى من الأحباب ما لو لقيته
من الناس سلطت الظبا والعواليا
فلا تحسبوا أني رضيت بذلة
ولكن حبًّا غادر القلب راضيا
رعى الله من ودعته يوم دابق٢٧
ووليت أنهي الدمع ما كان جاريا
وأكتم أنفاسي إذا ذكرته
وما كل ما تخفيه يا قلب خافيا
فعندي زفير ما ترقى من الحشا
وعندي دموع ما طلعن الأماقيا
مضى ما مضى ممن كرهت فراقه
وقد قل عندي الدمع إن كنت باكيا
ولا خير في الدنيا إذا كنت حاضرًا
وكان الذي يغري به القلب تائيا

ولما وصل إلى عتاب الطائع مدحه أجزل المدح ثم قال:

إلى كم أمني النفس يومًا وليلة
وتعلمني الأيام أن لا تلاقيا
وكم أنا موقوف على كل زفرة
عليل جوى لو أن ناسًا دوائيا
أيسنح لي روضًا وأصبح عازبًا٢٨
ويعرض لي ماء وأصبح صاديًا
وما أنا — إلا أن أراك — بقانع
وإن كنت جرارًا إليَّ الأعاديا
تركت إليك الناس طرًّا وكلهم
يتوق إلى قربي ويهوى مقاميا
عليك علام الله إني لفازع
إليك وإن لم أعط منك مراديا

وأنتم ترون أنه يمن على الخليفة بمدحه منًّا صريحًا، ويقول: إنه يترك في سبيله أقوامًا كرام الأكف، وسنرى فيما بعد من هم أولئك الأقوام، ولكن لا بأس من التصريح بأن الرضي كان يحب أن يستأثر بمودة الطائع، فلا يرى في حضرته أحدًا من خصومه الألداء، ومن شواهد ذلك أنه عرف أن بعض خصومه ظفر بمودة الطائع، فأرسل إليه يعاتبه عتاب الأنداد فيقول:

ونمي إليَّ من العجائب أنه
لعبت بعقلك حيلة الخوان
وتملكتك خديعة من قولة
غرارة الأقسام والأيمان
حقًّا سمعت ورب عيني ناظر
يقظ تقوم مقامها الأذنان
أين الذي أضمرته من بغضه
وعقدته بالسر والإعلان
أم أين ذاك الرأي في إبعاده
حنقًا وأين حمية الغضبان
سبحان خالق كل لون معجب
ما فيكم من كثرة الألوان
يوم لذا، وعد لذاك، وهذه
شيم مقطعة قوى الأقران
فالآن منك اليأس ينقع غلتي
واليأس ينقع غلة الظمآن
فاذهب كما ذهب الغمام رجوته
فطوى البروق وضن بالتهتان
لي مثل ملكك لو أطعت تقنعي
وذوو العمائم من ذوي التيجان
ولعل حالي أن يصير إلى علا
فالدوح منبتها من القضبان
فاحذر عواقب ما جنيت فربما
رمت الجناية عرض قلب الجاني
أعطيتك الرأي الصريح وغيره
تنساب رغوته بغير بيان
وعرضت نصحي والقبول إجازة
فإذا أبيت لويت عنك عناني

وأنتم ترون أن هذه جرأة لو صدرت في عهد خليفة مثل الرشيد لأطاح رأس الشاعر بلا تردد، ولكن الرضي كان يثق بأن الطائع يعطف عليه، وكان يثق بأن الطائع لا يملك الأمر كله في بغداد.

وفي سنة ٣٧٨ مدح الطائع بقصيدة تفيض بالوداد، إذ يقول:

يا جميلًا جماله ملء عيني
وعظيمًا أعظامه ملء قلبي
بك أبصرت كيف يصفو غديري
من صروف القذى ويأسن سربي٢٩
أنت أفسدتني على كل مأمو
ل وأعديتني على كل خطب
فإذا ما أراد قربي مليك
قلت: قربي من الخليفة حسبي
عز شعري إلا عليك وما زا
ل عزيزًا يأبى على كل خطب
أنت ألبستني العلا فأطلها
أحسن اللبس ما يجلل عقبي٣٠
أنني عائد بنعاك أن أكـ
ـثر قولي وأن أطول عتبي
نظرة منك ترسل الماء في عودي
وتمطي٣١ ظلي وتبت تربي
ما ترجيت غير جودك جودًا
أيرجى القطار من غير سحب
لا تدعني بين المطامع واليأس
ووردي٣٢ ما بين مر وعذب

وفي سنة ٣٧٩ مدحه وعاتبه على تأخير الإذن له في لقائه بمجلس خاص، وذلك في قصيدة طويلة نشير إليها بالمطلع:

ضربن إلينا خذودًا وساما٣٣
وقلن لنا: اليوم موتوا كراما

وفي سنة ٣٨٠ مدحه بعدة قصائد، أهمها القصيدة النونية:

الآن أعربت الظنون
وعلا على الشك اليقين

وإنما كانت أهم قصائده في تلك السنة بفضل ما نظمت من أجله، فقد كان الطائع تأثر من قصيدة قال فيها الشريف:

متى أنا قائم أعلا مقام
ولاقٍ نور وجهك بالسلام
ومنصرف وقد أثقلت عطفي
من النَّعماء والمنن الجسام
ولي أمل أطلت الصبر فيه
لو ان الصبر ينفع من أوامي٣٤
وما خِفت النوائب ترتمي بي
وقد أقعَى بجامحها لجامي
أيعرقني الطوى والروض حالٍ
ويغلبني الظما والبحر طام٣٥
ولي قربى رؤوم كنت أرجو
يمينك أن تقرب لي مرامي
وباب الإذن مني كل يوم
يقعقع بالقوافي والنظام
لكم أرجاء زمزم والمصلى
وبطحاء المشاعر والمقام
وأنت أطول العظماء طولا
وأندى في المحول من الغمام
وأبعد موطنًا من كل عار
وأمنع جانبًا من كل ذام
وأجري عند مختلف العوالي
وأفلج عند معترك الخصام٣٦
بآباء مضوا وهم عوارٍ
من القول المهجن والملام
وأمَّات٣٧ درجن على الليالي
وهن أصحُّ من بيض النعام

إلى أن يقول:

ألان٣٨ جذبت من أيدي الليالي
عناني واشتملت على زمامي
فما أخشى الزمان ولو تلاقت
يداه من ورائي أو أمامي

أقول: إن الطائع رق لهذه القصيدة فأمر بأن يسير الشريف إلى داره في يوم الخميس لعشر بقين من رمضان، وجلس له جلوسًا خاصًّا، وكانت خلع السواد قد أعدت له فجلببت عليه، وزاد الخليفة في إكرامه فلم يخرج إلا وهو مثقل بالهدايا الفاخرات، وقد ظهر أثر ذلك في النونية إذ يقول:

أترى أمين الله إلا
من له البلد الأمين
لله درك حيث لا
تسطو الشمال ولا اليمين
والأمر أمرك لا فم
يوحي ولا قول يبين
لما رأيتك في مقا
م يستطار به الركين٣٩
ورأيت ليث الغاب معـ
ـترضًا له الدنيا عرين
أقدمت إقدام الذي
يدنو وشافعه مكين
فلذاك ما ارتعد الجنا
ن حيًا ولا عرق الجبين
وسمت بفضلك غرة
تغضي لهيبتها الجفون
وامتد من نور النبي
عليك عنوان مبين
وجمال وجهك لي بنيـ
ـل جميع ما أرجو ضمين
فأفيضت الخلع السوا
د على ترشقها العيون
شرف خصصت به وقد
درجت بغصته القرون
وخرجت أسحبها ولي
فوق العلا والنجم دون
جذلًا وللحساد من
أسف زفير أو أنين

أيها السادة

إلى هنا رأيتم صلات الشريف بالطائع، رأيتم شاعرًا يمدح وخليفة يثيب، فهل يدوم هذا النعيم؟

أخشى أن تكون مدائح الرضي بابًا يدخل منه الشر إلى قصر الطائع؛ فقد أطال في وصفه بالشجاعة والجرأة والبطولة، وأطال في وصف جوائزه وعطاياه، وكان هناك قومٌ لا يرضيهم أن يكون للخلفاء جاه أو مال.

وكذلك تطوع بعض الدَّسَّاسين وأفهم بهاء الدولة أن قصر الخليفة مملوء بالذخائر العظيمة، وزين له القبض عليه، فانخدع بهاء الدولة وتوهَّم أنه سيظفر بكنوز الأرض حين يقبض على الطائع، فأرسل إليه يسأله الإذن بالحضور في خدمته ليجدد العهد، فأذن له في ذلك، وجلس له كما جرت العادة، فدخل بهاء الدولة ومعه جمع كثير، ولما دخل قبَّل الأرض بين يدي الخليفة وأُجلس على كرسي، ودخل بعض الديلم كأنه يريد أن يقبِّل يد الخليفة فجذب الطائع بحمائل سيفه وأنزله عن سريره والخليفة يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي لحظات معدودات أخذ ما في دار الخليفة من الذخائر، ونهب الناس بعضهم بعضًا، وكاد حبل الأمن ينقطع في بغداد.

وكان الشريف الرضي في مجلس الخليفة في تلك الساعة السوداء، فلم يدفع عنه بيد ولا لسان، وإنما لاذ بالفرار ليسلم من عدوان الباغين.

وقد كان موقفه في هذه الحادثة الشنعاء شبيهًا بموقف البحتري حين قُتِلَ المتوكل، ولكن البحتري كان أشجع وأوفى، فقد دافع عن المتوكل بيديه ثم رثاه بعد ذلك أشرف رثاء، أما الرضي فترك صاحبه لأيدي الغادرين، وكان يملك الدفاع عنه لو شاء، ثم سجل الحادث بقصيدة أطال فيها الغزل والتشبيب، كأن تلك الفاجعة لم تنسه ثورة الوجد ولوعة الحنين، ولما وصل إلى صميم الموضوع وصف نفسه بالحزم فقال:

إذا ظننا وقدرنا جرى قدر
بنازل غير موهوم ومظنون
اعجب لمسكة نفس بعد ما رميت
من النوائب بالأبكار والعون
ومن نجائي يوم الدار حين هوى
غيري ولم أخل من حزم ينجيني
مرقت منها مروق النجم منكدرًا
وقد تلاقت مصاريع الردى دوني
وكنت أول طلاع ثنيتها
ومن ورائي شر غير مأمون
من بعدما كان رب الملك مبتسمًا
إليَّ أدنوه في النجوى ويدنيني
أمسيت أرحم من أصبحت أغبطه
لقد تقارب بين العز والهون
ومنظر كان بالسراء يضحكني
يا قرب ما عاد بالضراء يبكيني
هيهات أغتر بالسلطان ثانية
قد ضل ولاج أبواب السلاطين

«وهذا تعريض جارح برجال كان يعرفهم الشريف، رجال اضطهدهم عضد الدولة فلم يثبتوا على البأساء وقهرتهم الحوادث على التنصل من مذاهبهم السياسية. وقد حاولنا أن نتعرف إلى بعض كبار العلويين في ذلك العهد، ولكنا خشينا أن نظلم الأموات بلا سبب تسنده البراهين، وأول من فكرنا فيه أبو الحسن العلوي وكان شخصية هائلة تملك جماهير الناس في الكرخ وبغداد أقوى امتلاك، وقد اعتقل مع أبي أحمد الموسوي وصودرت أملاكه فكان في خزائنه من الذهب مليون دينار. وهذا الرجل سكت الشريف عنه حين توجع لأبيه وعمه، فهل يمكن الظن بأنه دخل في مكاتبات سرية مع عضد الدولة لينعم بالخلاص؟ ذلك ظن من الظنون لا يقوم عليه دليل، ويكفي أن نسجل أن من المحتمل أن يكون الشريف قصده بذلك التعريض».

وبعد الفراغ من طبع الكتاب وقفنا على نص يؤيد هذا الافتراض، ويشهد بأن أبا أحمد الموسوي وأبا الحسن العلوي كانا عدوين، فقد جاء في تجارب الأمم ج٣ ص٢٦٧ ما نصه على لسان أحد المضطهدين:

وجاءني في أثناء ذلك الشريف أبو أحمد الموسوي، وكان يتهمني بالميل إلى الشريف أبي الحسن محمد بن عمر ويستوحش مني لأجله.

ولعلكم أيها السادة في غنى عمن يحدثكم أن بهاء الدولة أظهر أمر الخليفة القادر بالله ونادى بشعاره في أسواق بغداد، وكتب على الطائع كتابًا بالخلع وتسليم الأمر إلى القادر، شهد فيه الشهود عليه. والملك لله الواحد القهار.

ولكن ألا ترون من الظلم أن يقال: إن موقف الشريف شبيه بموقف البحتري، وإن الشريف كان يجب عليه أن يدافع عن الطائع كما دافع البحتري عن المتوكل؟

إن الشبه بين الحادثتين لا يتم إلا من الوجهة الشكلية، أما من حيث الجوهر فهو مفقود؛ لأن شخصية المتوكل غير شخصية الطائع، فقد استطاع بلباقته وبراعته أن يقنع العالم الإسلامي بأن الخلافة باقية، وأنها لا تزال تملك مصاير الأمور: فترفع من ترفع، وتخفض من تخفض، وكذلك كان الفتك به في مجلس شراب جريمة يثور عليها أضعف الجبناء.

أما الطائع فتولى الخلافة وهي كالقلب المنخوب لا تثبت أمام عاصفة ولا يحسب لها يوم الروع حساب، ومن المؤكد أن الشريف لم ير فيما صنع بهاء الدولة مع الطائع شيئًا جديدًا، فتلك الصورة المنكرة كانت لها سوابق في غاية من البشاعة والقبح، فقد صيغت على نموذج الحادث الفظيع الذي وقع للمستكفي بالله يوم دخل عز الدولة ومعه أتباعه، والمستكفي على سرير الخلافة، فقبلوا الأرض بين يديه، ثم تقدم اثنان كأنهما يريدان تقبيل يده فمدها إليهما وهو متلطف مترفق، فجذباه وطرحاه إلى الأرض ووضعا عمامته في عنقه ثم جراه مهينًا ذليلًا ليعتقل في دار عز الدولة.

ومن هذا التماثل التام بين ما وقع للمستكفي بالله وما وقع للطائع ترون أن الشريف الرضي كان يتوقع هذه الحوادث، وترون أنه كان يعرف ما يصنع في مثل هذه المواقف ولست أستبعد أن يكون الشريف وطن نفسه على إيثار السلامة إن وقع مثل هذا الحادث؛ لأن الظروف لم تكن تسمح أبدًا بتأليف جيش يحارب الديلم ويناصر بني العباس.

والقصيدة التي أشرنا إليها منذ لحظات تشهد بذلك، فهي قصيدة رجل يكرثه التضجر والتألم ولا يهتاج للقتال؛ لأنه كان يعرف أن القتال لا يطلب منه في مثل تلك الحال.

أضيفوا إلى ذلك أنه كان جرب الحوادث وجربته الحوادث، فكان يذكر بالتأكيد أن عضد الدولة اعتقل أباه وصادر أملاكه، ثم نفاه، ومع ذلك لم تسقط السماء على الأرض، ولم يمتشق في سبيله سيف، ولم يبذل في الدفاع غير قطرات من الدمع. وما أضيع من لا يحامي عنه أنصاره بغير الدمع!

لست من القائلين: بأن الشريف لم يكن يهمه أمر الطائع: فذهني لا يسبغ هذا النوع من الدفاع عن الشريف؛ لأني أعتقد أن الشريف كان صادقًا كل الصدق في مودة الطائع، ولعله أصدق علوي مدح العباسيين وأطال عليهم الثناء.

أن الأستاذ عبد الحسين الحلي نظر إلى الشريف من وجهة مذهبيه حين حكم بأنه كان يداري الطائع، أما أنا فأنظر إلى الشريف، من وجهة إنسانية، وأعتقد أن الشريف لم يكن مداجيًا ولا مرائيًا ولا وصوليًّا في مودته للطائع، وإنما كان يراه بقية من بقايا بني العباس الذين أذاعوا معاني العظمة في الأمم الإسلامية زمنًا غير قليل، وكان يتمنى لو يعتدل الميزان فتصبح الخلافة قوة فعلية ترتفع بها العروبة وتنهار أمهامها الشعوبية.

ولست بهذا القول أعطي الشريف ما لم يكن له أهل، لا، فليس من همي أن أمنح الشريف ما لا يملك، وإنما أقول هذا القول فرارًا من ظلم الشريف فإن شعره يشهد بأنه توجع لنكبة الطائع، ويشهد بأنه تألم لنكوله عن الدفاع عنه في ذلك اليوم المشئوم.

وشاهد ذلك أيها السادة أن الشريف لم يكتف بالقصيدة التي صور بها ما وقع في ذلك اليوم، وإنما آذاه وأرمضه أن يرى الطائع مخلوعًا يعيش على هامش الحياة بعد أن كان بالأمس خليفة يبرم وينقض، ويعطي ويمنع، وكذلك رأيناه يقول:

إن كان ذاك الطود خر
فبعدما استعلى طويلَا٤٠
موف على القلل الذوا
هب في العلا عرضًا وطولَا٤١
قرم يسدد لحظه
فترى القروم له مثولا٤٢
ويرى عزيزًا حيث حلَّ
ولا يرى إلا ذليلَا٤٣
كالليث إلا أنه اتـ
ـخذ العلا والمجد غيلَا
وعلا على الأقران لا
مثلًا يعد ولا عديلَا٤٤
من معشر ركبوا العلا
وأبوا عن الكرم النزولا
كرموا فروعًا بعدما
طابوا وقد عجموا أصولا٤٥
نسب غدًا روَّاده
يستنجبون لنا الفحولا
يا ناظر الدين الذي
رجع الزمان به كليلا
يا صارم المجد الذي
ملئت مضاربه فلولا
يا كوكب الأحساب أعجـ
لك الدجى عنا أفولا
يا غارب النعم العظام
غدوت معمودًا جزيلًا٤٦
يا مصعب العلياء قا
دتك العلا نقضًا ذلولا٤٧
لهفي على ماضٍ قضى
أن لا ترى منه بديلا
وزوال ملك لم يكن
يومًا يقدر أن يزولا
ومنازل سطر الزما
ن على معالمها الحؤولا
من بعدما كانت على
الأيام مرباة زلولا٤٨
والأسد ترتكز القنا
فيها وترتبط الخيولا
من يسبغ النعم الجسا
م ويصطفي المجد الجزيلا
من ينتج الآمال يو
م تعود بالليان حولا٤٩
من يورد السمر الطوا
ل ويُطعم البيض النُّصولا
من يزجر الدهر الغشو
م ويكشف الخطب الجليلا
وتراه يمنع دوننا
وادي النوائب أن يسيلا٥٠
عقَّاد ألوية الملو
ك على العلا جيلًا فجيلا
هذا وكم حرب تبزُّ الأ
سد سطوتها الغليلا
صماء تخرس آلها
إلا قراعًا أو صهيلا
والخيل عابسة تجر
من العجاج بها ذيولا
اجتاب عارضها وقد
رحل المنون به همولا
كالثائر الضرغام وإن
لبس الوغى دقَّ الرعيلا
صانعت يوم فراقه
قلبًا قد اعتنق الغليلا
ظعن الغني غنى وحوَّ
ل رحله إلا قليلا
إن عاد يومًا عاد وجـ
ـه الدهر مقتبلًا جميلا
ولئن مضى طوع المنو
ن مؤممًا تلك السبيلا
فلقد تخلف مجدُه
عبئًا على الدنيا ثقيلا
واستذرت الأيام من
نفحاته ظلًّا ظليلا

وإنما نقلنا هذه القصيدة على طولها لتروا كيف كان وفاء الشريف، فمثل هذه القصيدة لا ينظمها رجل متظرِّف ولا متكلف، وإنما ينظمها رجل محزون وقد عالجنا الشعر سنين، فرأيناه لا يسلم زمامه لغير الأوفياء، والشريف في هذه القصيدة وفيٌّ أمين.

وأرجو أن تتذكروا أن هذه القصيدة نظمت في شعبان من سنة ٣٨١ أي: في خلال الأيام العصيبة التي اقترف فيها بهاء الدولة ما اقترف، فهي من أظهر الشواهد على جسارة الشريف.

•••

وفي سنة ٣٩٣ مات الطائع بعد أن عاش مخلوعًا أكثر من عشر سنين وهو في رعاية القادر، وهي رعاية وقعت فيها أعاجيب أشارت إلى بعضها كتب التاريخ فهل تغافل عنه الشريف؟ هيهات، فقد رثاه بقصيدتين هما شاهد على ما كان يملك من الشرف والنبل. وفي الأولى يقول:

إن للطائع عندي منة
وحمى قد بلها لي ببلالي
ليس ينسيها وإن طال المدى
مر أيام عليها وليالي
فاتني منك انتصار بيميني
فتلافيت انتصارًا بمقالي

وهذه الأبيات تشهد بأن الشريف كان يتألم لنكوله عن نصرة الطائع يوم الدار، يوم هجم عليه بهاء الدولة وأنصاره المجرمون.

وتلك قصيدة طويلة يراها القارئ في الديوان، أما القصيدة الثانية فمطلعها:

ما بعد يومك ما يسلو به السالي
ومثل يومك لم يخطر على بالي

والمهم أن نسجل أن الشريف ظل يتوجع لنكبة الطائع مدة طويلة، فرثاه بعد ذلك خفية بقصيدة نتخير منها هذه الآيات:

ومؤمر نزلوا به في سوقة
لا شكله فيهم ولا قرناؤه
قد كان يفرق ظله أقرانه
ويغض دون جلاله أكفاؤه
ومحجب ضربت عليه مهابة
يعشى٥١ العيون بهاؤه وضياؤه
نادته من خلف الحجاب منية
أمم فكان جوابها حوباؤه٥٢
شقت إليه سيوفه ورماحه
وأميط عنه عبيده وإماؤه
لم يغنه من كان ود لو أنه
قبل المنون من المنون فداؤه
حرم عليه الذل إلا أنه
أبدًا ليشهد بالجلال بناؤه
أقنى الحياء تجملًا لو أنه
يبقى مع الدمع اللجوج حياؤه
فاذهب فلا بقي الزمان وقد هوى
بك صرفه وقضى عليك قضاؤه

ومن كل ما سلف ترون أن الشريف لم يكن مرائيًا في حب الطائع، وأنه ندم على أن لم يدفع عنه بيمينه، وأنه ظل وفيًّا له بعد الخلع وبعد الممات. والظاهر أن الطائع كان أحسن إلى الشريف وإلى أبيه، والإحسان يحفظه كرام الرجال وكان الشريف من الأكرمين.

قد تسألون: وماذا صنع الشريف بعد خلع الطائع؟

ونجيب بأنه صنع ما يصنع السياسيون، وهل للسياسيين قلوب؟

لقد استقبل الخليفة الجديد بقصيدة شهد فيها أنه جدد شرف الخلافة العباسية، وجعله موطدًا للبناء الذي وضع قواعده أبو العباس السفاح، واستباح لنفسه أن يخاطب القادر فيقول:

مجد، أمير المؤمنين، أعدته
غضًّا كنور المورق المياس
بعثت في قلب الخلافة فرحة
دخلت على الخلفاء في الأرماس
ومكيدة أشلى عليك نيوبها
غضبان للقربى القريبة ناس
فغرت إليك ففتها وتراجعت
ففرته بالأنياب والأضراس

ثم مدحه بقصيدة «لمن الحدوج تهزهن الأينق».

وهي القصيدة التي ختمها بقوله:

عطفًا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا تتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
أبدًا كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني
أنا عاطل عنها وأنت مطوق

فقال له القادر: على رغم أنف الشريف!

وكانت هذه العبارة فيما يظهر أصل الفرقة بين الرجلين، فانصرف الشريف عن مدح القادر وأسقطه من حسابه، ثم مضى يمدح الوزراء والملوك؛ ولذلك حديث طويل يضيق عنه الوقت في هذا المساء.

هوامش

(١) قد عرضنا لهذه القضية في الجزء الثاني من هذا الكتاب حين تكلمنا عن صداقته للصاني، فارجع إليها هناك لتعرف كيف نشأت فكرة الخلافة في نفس الشريف.
(٢) الورد بفتح الواد من صفات الأسد، وهي صفة لونية، والورد من الخيل ما كان بين الكميت والاشقر.
(٣) لد بضم اللام جمع ألد، واللدد بالفتح هو العنف في الخصومة.
(٤) تحكمها: من الإحكام مصدر أحكم وهو شدة الربط.
(٥) الأملاك: الملوك، والرزان جمع رزين.
(٦) الأجمية: الأسود نسبة إلى الأجام. مؤللة: محددة، والقلل: جمع قلة بالضم وهي الصخرة العالية، والصلد، بالضم جمع صلداء وهي الصخرة الصلبة الملساء.
(٧) يعتفيهم: يطلب جودهم.
(٨) الجرد جمع أجرد وهو الفرس القصير الشعر.
(٩) الكلا الجعد: العشب الندي.
(١٠) يشير هذا البيت إلى أن الشريف كان يرى آل بوبه ملوك العراق، والسياسة في ذلك الوقت لم تكن تسمح بأن يراهم دخلاء.
(١١) الواو حرف جر شبيه بالزائد: واو رب، وسيال مبتدأ مجرور لفظًا مرفوع محلًّا، وخبر المبتدأ هو الجملة الشرطية في البيت الثاني، وهي في الظاهر صفة ولكنها في الواقع خبرية؛ لأن الشاعر أراد النص على أن ذلك الكريم لا يصده عن الكرم ملام.
(١٢) المراح بالكسر هو الاسم من مرح يمرح.
(١٣) الرزاح: البعيد الأطراف.
(١٤) الأماعز جمع أمعز، من المعز بالتحريك وهو الصلابة، فيقال: مكان أمعز وأرض معزاء.
(١٥) تشن: تصب، ومنها شن الغارة.
(١٦) الأعصل: الناب الأعوج، وفي الديوان «أعضل» بالضاد المعجمة وهو تحريف.
(١٧) الهجهجة: الصياح ويذبل اسم جبل.
(١٨) الطول على وزن عنب هو الحبل، وقد مر في قصيدة سالفة بمعنى طاقات الحبل.
(١٩) المسحل على وزن منبر: المنحت أو المبرد.
(٢٠) أكثر أبيات هذه القصيدة يجري مجرى الأمثال.
(٢١) الغلة بالضم الظمأ الشديد. والبلال بالكسر هو الري.
(٢٢) المصال. بفتح الميم وهو مصدر من صال يصول.
(٢٣) أنال وأنال: الأول بالبناء للفاعل والثاني بالبناء للمفعول.
(٢٤) المحال بالكسر هو الكذب والدهاء.
(٢٥) هذا البيت غاية في المداح.
(٢٦) الخرد جميع خرود وخريدة، وهي البكر لم تمس أو الخفرة الطويلة. السكوت الخافضة الصوت، والغيد جمع غيداء وهي المتثنية لينًا أو هي الطويلة العنق.
(٢٧) دابق: قرية في حلب، وردت مرات في كلام الشعراء، من ذلك قول عيسى بن سعدان:
ناجوك من أقصى الحجاز وليتهم
ناجوك ما بين الأحص ودابق
أمفارقي حلب وطيب نسيمها
يهنيكم أن الرقاد مفارقي
والله ما خفق النسيم بأرضكم
إلا طربت من النسيم الخافق
وإذا الجنوب تخطرت أنفاسها
من سفح جوشن كنت أول ناشق
(٢٨) العازب: البعيد عن المرعى.
(٢٩) الشرب بالكسر هو القطيع من الظباء والنساء، وهو أيضًا الطريق والبال والنفس والقلب.
(٣٠) العقب على وزن كتف هو مؤخر القدم، وسكنت القاف للوزن ويجلله يغطيه.
(٣١) تمطي: تطيل.
(٣٢) الورد بالكسر الماء المورود.
(٣٣) وسام جمع وسيم والوسامة هي الجَمال.
(٣٤) الأوام بالضم الظمأ الشديد.
(٣٥) الطوى هو الجوع، ويعرقه يذهب لحمه.
(٣٦) أفلج صفة الفلج بالتحريك وهو النصر.
(٣٧) أمات لغة في أمهات.
(٣٨) مخففة من (الآن).
(٣٩) الركين: القوي القلب.
(٤٠) الطود: الجبل، وخر سقط.
(٤١) القلل جمع قلة وهي القمة.
(٤٢) القرم بالفتح الفحل.
(٤٣) يرى الأولى بالبناء للمفعول وكذلك الثانية، والمعنى أنه على عظمته متواضع.
(٤٤) المعنى أنه علا على أمثاله فلا شبيه ولا مثيل.
(٤٥) العجم هو الاختبار، والأصل فيه أن يعض الرجل القناة ليعرف صلاحيتها لعمل الرماح.
(٤٦) الغارب هو الكامل، والمعمود المجروح، والجزيل هو البعير الذي يقطع القتب غاربه.
(٤٧) المصعب: الفحل، والنقض بالكسر المهزول، والذلول: الطيع.
(٤٨) المرباة: المكان المرتفع، والزلول التي يزل ويسقط من يعلوها.
(٤٩) حول جمع حائل وهي الناقة لم تلقح.
(٥٠) في هذا البيت خيال طريف.
(٥١) في الديوان (يغشى) بالغين المعجمة وهو تحريف.
(٥٢) أمم بالتحريك: قريب، والحوباء: بقية النفس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤