الشريف كاتبًا ومؤلفًا

في الرابع عشر من صفر سنة ١٣٥٧ فرغت من كتاب «عبقرية الشريف الرضي» وأنا اليوم في السابع والعشرين من المحرم سنة ١٣٥٩، وقد لا أفرغ من هذه الحواشي إلا في الرابع عشر من صفر؛ لأني موزع الوقت والجهد بين أسفار وشواغل لا تمنحني من هدوء البال ما أريد.

فاين كنت من صحبة الشريف قبل فراق عامين؟

كنت أنهيت القول في حياته الشعرية، ولم يبق إلا أن أتحدث عن مكانته في الكتابة والتأليف، فما الذي جد بعد ذلك الفراق؟

ظهرت فصول عن الشريف الرضي في مجلة «الغري» كتبها سماحة السيد محمد الحسين آل كاشف الغطاء، وهو من أكابر أهل العلم بالنجف، ولكن تلك الفصول لم تحملني على أن أرجع إلى كتابي بشيء من التغيير أو التعديل؛ لأن طريقتي في البحث تختلف عن طريقته كل الاختلاف؛ ولأني أحرص دائمًا على تجنب الطريق المسلوك عساني أوفق إلى رأي طريف.

وقد تلطف السيد آل كاشف الغطاء فأشار إلى اسمي مرة بالتصريح ومرة بالتلميح، في موطن أوجبت فيها الأمانة العلمية أن يستأنس بكلامي فعليه مني أجزل الثناء.

والآن أرجع إلى الشريف الكاتب والمؤلف بعد أن استجمعت عامين فأقول:

لم يصح عندي أن الشريف كان من كتاب الرسائل القصار أو الطوال، وإن كنت احتفظت بالآثار التي نقلتها مجلة «العرفان» عن كتاب الدرجات الرفيعة، في أعيان الشيعة للسيد علي خان الشيرازي.١

وتعليل ذلك سهل فالشريف غلبت عليه النزعة الشعرية في كل ما يتصل بنقد المجتمع أو الإفصاح عن الوجدان.

والثروة التي أثرت عنه في التأليف لا تنفي ما أقول؛ لأن تأليف الكتب غير إنشاء الرسائل، فالمؤلف يتخذ أسلوبًا في التعبير يغاير أسلوب النثر الفني، وقد يبعد عنه أشد البعد في كثير من الأحايين. الشريف كاتب بلا جدال ولكن طريقته في التعبير طريقة علمية لا فنية، وإن غلبت عليها الصنعة في بعض الأحوال.

والمهم هو النص على أن الشريف شاعر أولًا وقبل كل شيء، فحياته الشعرية هي ثروته الباقية على الزمان، وإن كان من أعاظم الباحثين في الحدود التي تسمح لرجل مثله بأن يكون من أقطاب الحياة الفكرية والعلمية في عصر «إخوان الصفاء».

ومعاذ الأدب أن أستخف بآثار الشريف في ميادين الفكر والعقل: فقد بلغ الغاية في كتاب «المجازات النبوية» وكتاب «حقائق التأويل» ولو كان الشريف غير شاعر لاستطاع أن يزاحم أماثل العلماء، ولكن عبقريته الشعرية جنت عليه فخف ميزانه في الحياة العلمية بالقياس إلى بعض معاصريه، ومنهم أخوه الذي أتى بالأعاجيب في الفقه والتوحيد.

ولو أن الرضي وقف عند آثاره العلمية لكان له مكان بين أقطاب المؤلفين، ولكنه شغل الناس بشعره الفائق فظنوه وسطًا بين الباحثين، وهو عند التأمل من أساطين الفكر المنظم الدقيق.

وهنا تسنح الفرصة لتسجيل خصيصة من خصائص الشريف: فأشعاره لا تشهد بأنه من المشتغلين بالعلوم اللغوية والشعرية؛ لأنها في الأغلب خالية من السمات الاصطلاحية؛ ولأنها أدب صرف لا يعرف البهرج والتزويق إلا في الحدود المقبولة من الصناعة الشعرية، ولو قيل: إن الشريف شاعر بدوي ينطق بالفطرة والسليقة، وأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب لجاز ذلك في أذهان من يجهلون مكانته في التاريخ.

الشريف شاعر بدوي منقطع عن الحياة العلمية أشد الانقطاع وهو في هذه الناحية ظاهر كل الظهور، بحيث يظن أنه لم يعرف من حياة العلم ما عرف بشار وأبو نواس وابن الرومي والمتنبي، الشريف في شعره بعيد كل البعد من أساليب العلماء من نحاة ولغويين وفقهاء، هو شاعر بدوي لا تظهر عليه سيما الحضارة إلا في ترف العقل والذوق، وهو في شعره أقل حضارة من عمر بن أبي ربيعة ومن الكميت ومن جميل، مع أنه نشأ في بغداد وعرف المترفين من أهل فارس وأهل العراق، الشريف في شعره نموذج للسليقة البدوية التي لم تعرف من الحضارة غير أطياف ولم تسمع بقعقعة النحاة واللغويين في بغداد.

فإذا انتقلنا إلى نثر الشريف رأينا شخصية جديدة، رأينا عالمًا يشهد نثره العلمي بأنه من أقطاب الأدباء، رأينا رجلًا يكتب في العلوم اللغوية والشرعية بأسلوب مضمخ بعطر الأدب الرفيع.

وكذلك نعرف أن للشريف شخصيتين مختلفتين بعض الاختلاف:

شخصية الشاعر المطبوع، وشخصية العالم الأديب.

فكيف اتفق لصديقنا الشريف أن يكون كذلك!

أغلب الظن أن الرجل كان يعمد إلى الابتكار والابتداع: كان يرى شعراء عصره قد غلبت عليهم المظاهر الحضرية فآثر التفرد بالشمائل البدوية، فهو بالشعر بدوي وهو في العلم أديب. وتلك خصيصة نادرة في ذلك الزمان.

وتظهر هذه الخصيصة إذا وازنا بينه وبين أخيه، وقد نشأ في بيت واحد وتلقيا العلم في الحداثة على رجل واحد هو الشيخ المفيد، فأخوه المرتضى يكتب كما يكتب العلماء، ويشعر كما يشعر العلماء، ونفسيته نفسية عالم لا نفسية أديب، حتى قيل: إن المرتضى كان يحرص على منافع دنياه حرص الفقهاء، أما الرضي فكان رجلًا سمحًا يجود بما يملك، ويرى الكرامة أثمن ما يحفظ الأحرار من ذخائر الوجود.

شخصية الشريف شخصية معقدة عند من يجهل، ولكنها في غاية البساطة والوضوح عند من يعرف، هو رجل يحب التفرد بكرائم المعاني، فهو يشتهي أن يكون شاعرًا لا كالشعراء، وأن يكون عالمًا لا كالعلماء وقد وصل إلى ما يريد.

ولو اتسع المجال لدرس خصائص الشريف لوصلنا إلى طرائف: فأنا أعتقد أن لغة الشريف في شعره تجمع النوادر من الألفاظ البدوية، وأن لغة الشريف في نثره تجمع الأطايب من المصطلحات العلمية.

ومن المحتمل أن لا تكون حياة العلم عرفت باحثًا أمضى قلمًا من الشريف قبل ذلك العهد، وقد قوي عندي الظن بأنه مهد السبيل لعبد القاهر الجرجاني، فعبد القاهر عندي تلميذ الشريف في الميادين البيانية، وليس كتاب «دلائل الإعجاز» إلا خطوة ثانية بعد كتاب «المجازات النبوية»، وإن كان الجرجاني أقدر من الرضي على الإفاضة والاستقصاء.

قد أقول: إن البويطي في «الأم» هو أول عالم شرح دقائق الفقه بأسلوب أدبي، وإن سيبويه في «الكتاب» هو أول نحوي شرح تكوين الجمل بعبارة أدبية، ولكني مع ذلك مقهور على الاعتراف بأن الشريف تفرد من بين سائر الباحثين بأسلوب يجمع بين الرقة والجزالة في شرح أغراض القرآن والحديث.

فكيف اتفق ذلك للشريف؟

أعتقد أن مرجع ذلك إلى أخلاقه الشخصية:

فالشريف كان رجلًا صريحًا في جميع ما يتناول من الشؤون، وأظهر صفة من صفات الشريف هي بغض النفاق، ألم يتخذ الحج موسم صيد وهو نائب عن خليفة المسلمين؟

كان الشريف يرى أن التعبير الصريح عن أوطار القلوب لا يقع إلا من أشراف الرجال، وبهذا الرأي صح له أن يعبر عن أحلام هواه بقصائد خالية من شوائب الزور والرياء.

وقد انساق هذا الطبع السمح إلى حياته العلمية، فعبر عن أغراضه في اللغة والفقه والتوحيد بعبارات هي أساس وأرشق من تبختر الجدول الرقراق.

وهنالك خصيصة ظاهرة من خصائص الشريف، هي اندماجه اندماجًا كليًّا في الجو الذي يعيش فيه: فهو في الشعر يخيل إليك أنه لا يحلق في غير الأجواء الشعرية، ويكاد من يطلع على ديوانه يؤمن إيمانًا جازمًا بأنه لم يعرف التعبير عن أغراضه بغير القوافي، ومثله في ذلك مثل ابن الرومي وقد قيل: إن الشعر كان أقل أدواته، وهو قول لا نصدقه إلا بعناء؛ لأن شاعرية ابن الرومي أدت إلينا محصولًا يمنع من الاطمئنان إلى أنه كان يعبر عن أغراضه بغير القوافي، وقد قرأنا مرة أن البحتري كان من المؤلفين فلم نصدق؛ لأن البحتري فيما نرى لا تجود فطرته بغير الغناء.

وقد اتفق لأبي تمام أن يكون مؤلفًا، ولكن كيف؟ غلب عليه التصنيف في اختيار الأشعار، وهو فن ينساق مع ذوق الشاعر كل الإنسياق.

يمكن للشاعر أن يكون مؤلفًا، كما يمكن للمؤلف أن يكون شاعرًا، ولكن الذي وقع للشريف عجب من العجب، فمؤلفاته تشهد بأنه أديب، ولكنها توهمك أنه لم يكن شاعرًا تعد جياد أبياته بالألوف.

ما الذي نراه حين نقرأ مؤلفات الشريف؟

نجد رجلًا يحيل على مباحثه الماضية بأسلوب يشعرنا بأنه قضى دهره وهو مشغول بالتأليف، نجد رجلًا يحدثنا عن مؤلفاته بلغت العشرات في موضوعات مختلفات، وتشهد قوة تعبيره، وغزارة علمه بأن «المؤلف» هو الشخصية الأصيلة التي تحتل صدر ذلك الباحث الجليل.

ومؤلفات الشريف تقنعنا بأنه لم يعرف غير الحياة العلمية، ولم يعان شواغل السياسة والشعر والحب، ولو أن ديوان الشريف كان ضاع، وبقيت مؤلفاته لما صدق أحد أنه كان من أعلام الشعراء، فضلًا عن التصديق بأنه أشعر قريش.

يضاف إلى ذلك أن الشريف المؤلف كان واسع الأفق: فهو يكتب في الفقه والتوحيد والنحو والبيان، وله إشارات إلى مؤلفات الأكابر تدل على أنه من المطلعين على ذخائر العلوم الأدبية والشرعية، وله توجيهات لكلام من سبقوه، توجيهات تشهد بأنه تناول حياة التأليف بالنقد والتمحيص والتهذيب.

الشريف العالم شخصية هائلة جدًّا، وهي تنسيك مواهبه الأدبية والسياسية والوجدانية، وتفرض عليك الإيمان بأنه لم يجد غير ذلك الفن من فنون التفكير الحصيف.

فكيف اتفق له ذلك؟

لا تنس أنه كان إمامًا من أئمة الدين وأن شهرته بالشعر والحب كانت تؤرقه من وقت إلى وقت؛ لأنها كانت دعامة يعتمد عليها أعداؤه في الغض من مكانته الدينية، مساهم يهونون من شأنه فيقصونه عن مناصب التشريف باسم الدين.

فهل نستطيع أن نقول: إن الشريف كان يتعمد الكتابة في الشؤون اللغوية والعلمية؛ ليصد عن مجده الأدبي والسياسي عدوان خصامه ومنافسيه.

لذلك شواهد في العصر الحديث، فقد كان شاع أن الشيخ محمد عبده رجل أديب لا يصل ذهنه إلى قرارة العلوم الأزهرية، فحمله ذلك على الدفاع عن سمعته العلمية، فألف في شؤون دقيقة لا يحسنها إلا الأزهريون المتفوقون.

وكان شاع أن الشيخ محمد المراغي رجل بعد عهد بالعلوم الأزهرية فصد كيد خصومه بدروس ألقاها في علم الأصول.

لم يبق عندي شك في أن الشريف كان يفهم جيدًا أنه معرض للأكاذيب والأراجيف؛ بسبب إيغاله في شعاب الصبابة والوجد، وبسبب حيرته في بيداء الحياة السياسية، فلم يكن له بد من تمزيق الحبائل التي ينصبها أعداؤه وحاسدوه، وكذلك أقبل على التألف بعزائم الفحول؛ ليقيم الأدلة والبراهين على أنه أهل للتشريف باسم العلم والدين.

فما الذي وصل إليه؟

ما زال الرجل يبدئ ويعيد حتى أتى بالغرائب والعجائب في ميادين الفكر والعقل، وحتى صح القول: بأنه تفرد بآراء لم يهتد إلى مثلها الإسلاف.

وهنا تظهر خصيصة جديدة من خصائص الشريف، هي خصيصة العالم المزود بأدوات الأدب، والأدب هو ديوان العرب، وهو التعبير الصادق عن ذوقهم الأصيل.

ولو بقيت آثار الشريف في التأليف لجاز القول: بأنه طراز فريد بين أقطاب المؤلفين، ولكانت له منزلة تعز على من رامها وتطول.

على أن الآثار الباقية لهذا الباحث المبتكر لم تخيب ظنون محبيه، فهي تدل على القيمة الأصيلة لمواهبه العقلية، وهي تعرب عن قدرته على التصرف في علوم القدماء.

وليست أولئك الخصائص هي كل ميزات الشريف المؤلف، فهنالك خصيصة أعظم وأروع، وهي طغيان العقلية العلمية على النزعة المذهبية.

كان الشريف شيعيًّا، والشيعة فيما يظهر كانت لهم آراء خاصة في فهم أغراض القرآن والحديث، والشريف نفسه لم يحفظ القرآن إلا في سن الثلاثين مع أنه نشأ في بيت من بيوتات الدين، وتلك ظاهرة قد توهم أن حفظ القرآن لم يكن عند جماعته فرضًا على المشتغلين بالشؤون الدينية، ومن أجل ذلك كثرت القالة حول أولئك القوم، واحتاجوا إلى الدفاع عن أنفسهم من هذا الجانب الدقيق.

وحين زرت السيد آل كاشف الغطاء بالنجف رأيت أمامه نسخة من المصحف الشريف، فحدق في وجهي وقال: اشهد أنك رأيت المصحف في يدي وقد زرتني على غير ميعاد!

وإنما احتاج الرجل إلى هذه العبارة؛ لأن في الشيعة فرقة لا تهتم كثيرًا بالمصحف الشريف، وهي فرقة لا يرضى عنها جمهور الشيعة في العراق.

والمهم هو النص على أن الشريف كان شيعيًّا سليمًا، أعني أنه كان مسلمًا صحيح العقيدة، والتشيع في جوهره لا ينافي الدين إلا حين يوكل أمره إلى الجهلاء من أهل الانحراف.

ولا يحتاج الشريف إلى من يشهد له بصحة الدين، وهو من عظماء المؤمنين وإنما انساق القول إلى فضل هذا الرجل في حماية البيئات الشيعية من ضلالات الذين كفروا باسم التشيع، وهو فضل عظيم.

مثل الشريف بين أهل التشيع كمثل الجاحظ بين أهل الاعتزال، فالجاحظ لا يدرك مراميه غير الخواص، وكذلك الشريف لا يدرك مراميه غير الخواص.

وأقول: إن اهتمام الشريف بشرح خصائص البلاغة القرآنية والبلاغة النبوية هو دحض للمفتريات التي وجهت إلى التشيع، والتي ادعت أن الشيعة لا يهتمون بالقرآن والحديث.

ومن هنا نفهم أن الشريف المؤلس كان معلمًا عظيمًا، وكان من الساهرين على رعاية الوحدة الإسلامية، وهو بالتكريم خليق.

النفحات السارية في مؤلفات الشريف هي أنفاس المؤمن الحق، المؤمن الخالص من شوائب الابتداع والتجديف.٢

يؤيد هذا ما أثر عن الشريف من الاهتمام بدرس مذهب الشافعي وهو مذهب سني أصيل، ولا يقال: إن مرجع ذلك إلى عذوبة لسان الشافعي فيما يتصل بأهل البيت؛ لأن تعظيم أهل البيت مما يرعاه السنيون كما يرعون كرامة سائر أهل العلم والدين.

وإمارة الحج التي وكلت إلى الشريف وإلى أبيه من قبل تشهد بأن التشيع لم يكن ينظر إليه بعين الغضب والمقت، فقد كان مذهب أهل السنة هو السائد يومئذ في العراق، ولم يكن السنيون يرون ما يمنع من أن تكون إمارة الحج لرجل شيعي في مثل فضل الشريف.

فما معنى ذلك؟

معناه أن الغلو في التحاقد بين المذاهب الإسلامية لم يكن يقع إلا من أهل الغفلة والحمق، أما أهل اليقظة والعقل فكانوا يعرفون أن الاختلاف في الفروع لا يضير مع الاتفاق في الأصول، وكذلك اشترك عقلاء السنة في الالتفاف حول راية القرآن والحديث، ولن تمر أعوام طوال قبل أن تسود الألفة بين سائر المذاهب الإسلامية، ويحل الوفاق مكان الشقاق.

ومهما يكن من شيء فالخلاف بين السنة والشيعة هو جزء من ماضينا، وهو خلاف كان له فضل عظيم في يقظة العقول والآراء، فواجبنا اليوم هو الدعوة إلى التآخي الصحيح بحيث يمكن نسيان ما وقع في ماضينا من صراع ونضال.

والعبرة من هذا الكلام: هي إبراز شهامة الشريف، الشريف الشيعي الذي عاش في عصور لا تخلو من ظلمات، واستطاع مع ذلك أن يكون مثلًا في السماحة المذهبية، وأن يظفر بعطف من ترجموا له من أهل السنة، وأهل السنة رجال ينصبون الموازين لأقدار الرجال.

وهنا ملاحظة تستحق التسجيل.

لما دخلت العراق وجدت قومًا من أهل العلم يحقدون عليَّ أشنع الحقد بسبب كتاب «الأخلاق عند الغزالي» ثم هالني أن أعرف أن السيد هبة الدين الشهرستاني من أولئك الحاقدين وهو شيعي لا سني، فكيف يتعصب الغزالي وهو خصمه في المذهب؟

تعصب الشهرستاني للغزالي لمعنى نبيل هو الغضب للنيل من إمام جليل مثل الغزالي، وكذلك تكون شمائل العلماء.

ورأيت هناك باحثًا يعطف عليَّ لاهتمامي بدرس أشعار الشريف وهو الأستاذ عباس العزاوي فقدرت أنه شيعي، ثم عرفت أخيرًا أنه سني، وكذلك يكون الصدق في فهم المعاني.

ورأيت الأستاذ طه الراوي يحفظ ديوان الشريف عن ظهر قلب فحسبت ذلك برًّا بالعصبية المذهبية، ثم عرفت أنه سني لا شيعيٌّ، وطه الراوي من أعيان الفضل والعلم والذوق في بغداد.

صديقنا الشريف هو الذي سن شريعة التسامح بين المذاهب والآراء، وفضله على الشيعة عظيم؛ لأنه خلق لهم صداقات في البيئات السنية وحفظ لهم مكانة عالية في العراق بفضل جهاده في الأدب والدين.

ونحن في مصر لا نحس الخلافات المذهبية، ويؤذينا أن نعرف أن إخواننا في الدين يثور بينهم الخلاف من حين إلى حين، فهل أرجو التقرب إلى الله بتهوين شأن تلك الخلافات! وهل أستطيع الترحم على الشريف؛ لأنه منحني الفرصة لهذه الكلمات التي أردت بها التقريب بين القلوب.

الله يشهد أني أكتب هذا وأنا متوجع، فما يرضيني أن يقال: إن في المسلمين أقوامًا يخاف بعضهم بأس بعض.

الخلاف جميل على شرط أن لا يصل إلى القلوب.

الخلاف نعمة ربانية إذا وقف عند اصطراع العقول، فإن جاوز ذلك فهو رجس من عمل الشيطان.

الشقاقات المذهبية لم يعرفها الشرق والغرب إلا في عصور الظلمات، ونحن في عصر النور، فإن لم يكن بد من الخلاف فلنختلف في أساليب الخلاص من أقفاص الظلم والاضطهاد، والقراء يعرفون ما أعني ومن أعني.

يرحم الله الشريف فقد داس الشهوات المذهبية بقدميه فظفر بالإعزاز والتبجيل من الجميع.

وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

أيراني القارئ حددت خصائص الشريف كاتبًا ومؤلفًا؟

لقد وضعت الأساس لمن يهمه أن يستقصي أحوال الشريف في الكتابة والتأليف، ولم يبق إلا أن أقدم بعض الشواهد التي تعين مذاهبه في التعبير، فما هي تلك المذاهب!

أنا أعتمد في تحديد مذاهبه الإنشائية على كتابين اثنين: المجازات النبوية، وحقائق التأويل.

أما كتاب «المجازات النبوية» فقد طبع أولًا في بغداد طبعًا ممسوخًا تأذى به روح المؤلف، ثم طبع أخيرًا في القاهرة بعناية الاستاذ محمود مصطفى المدرس بكلية اللغة العربية، وقد تأنقت مكتبة مصطفى الحلبي بإخراجه في حلة رقيقة الحواشي.

وأما كتاب «حقائق التأويل» فقد طبع بالنجف وأخرجه «منتدى النشر» في رونق جميل.

ما هي تلك المذاهب الإنشائية؟

نلمح — أولًا — أن الشريف الكاتب قصير النفس، فهو لا يطنب إلا في قليل من الأحايين.

ونلاحظ — ثانيًا — أن الشريف الكاتب قليل الفضول فهو لا يتكلم إلا بميزان.

ونرى — ثالثًا — أن الشريف المؤلف قليل الاستطراد، وهذا يشهد بأن النزعة الفنية أغلب عليه من النزعة العلمية؛ لأن العلماء الذين سبقوه كانوا يتخذون الاستطراد وسيلة إلى عرض ما تقضي به المناسبة من المعارف الأدبية واللغوية والشرعية.

ونشهد — رابعًا — أن الحرفيات قد تسيطر عليه، فقد همَّه أن يسجل أن قول الرسول في أحد: «هذا جبل يحبنا ونحبه» محمول على المجاز؛ لأن الجبل على الحقيقة لا يحب ولا يحب.

وهذا خطأ من الشريف ساقه إليه خضوعه للحرفيات في بعض الأحوال فالرسول في رأيي أراد الحقيقة لا المجاز، وسر ذلك لا يدركه غير من يطمئن إلى فكرة «وحدة الوجود».

ونسجل — خامسًا — أن الشريف يحرص بعض الحرص على السجع والازدواج؛ ولذلك شواهد مبثوثة في المجازات النبوية وحقائق التأويل يدركها المطالع بدون عناء.

ونقرر — سادسًا — أنه قد ينسى الزخرف نسيانًا تامًّا في بعض المواضع فيصبح أسلوبه وهو مثل أعلى في سماحة التعبير، كأن يقول في تلخيص ما قاله علي بن عيسى النحوي في أحوال كان:

«قال لي في القراءة عليه: إن لكان أربعة مواضع: أحدها أن تكون مستقلة بالفاعل غير مفتقرة إلى الخبر، نحو: كان الأمر، أي: حدث ووقع. والثاني: أن تكون ممنوعة من الحدث مفتقرة إلى الخبر، نحو: كان زيد منطلقًا ويكون عمرو شاخصًا. والثالث: أن تكون زائدة، مثل قولهم: زيد — كان — منطلق وما — كان — أحسن زيدًا، أي: ما أحسن زيدًا، كقول الشاعر: «وجيران لنا كانوا كرام» إذا لم تجعل «لنا» الخبر وجعلته صفة جيران كأنك قلت: «وجيران لنا كرام كانوا» والرابع: أن تكون كصار، تقول: كان زيد منطلقًا، أي: صارت حاله هذه تزيد هو الآن كذا لا فيما مضى، وأنشد قول الشاعر:

بفيفاء قفر والمطي كأنها
قطارًا لحزن قد كانت فراخًا بيوضها
يريد صارت فراخًا. قلت: أنا والصحيح في رواية هذا البيت «قد صارت فراخًا بيوضها» وإنما غير ليوافق الاستشهاد؛ فلأجل ذلك ضعف هذا القسم من بين أقسام كان».٣

فهذا كلام تقريري يقوم على أساس الدقة والجلاء، ثم ختمه بلفتة نقدية تؤرخ عبث النحاة برواية الشعر ليوافق الاستشهاد!

وهذه اللمحة تبيح لنا أن نسجل — سابعًا — أن الشريف في مؤلفاته كثير الاهتمام بشرح الدقائق النحوية، والنحو كان في تلك العهود ميدانًا لسباق الفرائح الجياد.

أما بعد فتلك حالة الشريف الكاتب والمؤلف، وهي تجلوه في صورة تضيف إلى حياته الشعرية ألوانًا من الظلال، وهي تؤكد ما قلناه من أنه شاعر مثقف يرى الوجود في ظواهره وخوافيه بعين الناقد البصير الذي لا يشغله التأمل في جمال الوجود عن النظر في فهم الرجال لحقائق الوجود.

الشريف عجيب حقًّا، فهو تارة يحدثك بأنه كان يقرأ على شيخه فلان باب كذا من أبواب النحو وأن شيخه قال له كيت وكيت، وتارة يحدثك بأنه كان يقرأ على شيخه فلان ناب كذا من أبواب الفقه وأن شيخه قال له زيت وزيت، وحينًا يذكر أنه اختلف في فهم آية أو حديث، وأنه اعترض بكيت فأجيب بزيت، وأحيانًا يتحدث عن مصاولاته مع اللغويين وما تقل عنهم من توجيه كلام الأعراب.

وفي هذا الجو المشبع بأقباس المجادلات النحوية والفقهية والأدبية واللغوية لا ترى الشريف إلا شيخًا يجادل أهل العلم والأدب والدين في مساجد بغداد، وهو في زي المجاورين الذين شر فهم الله بالانقطاع إلى البحث والتنقيب في مخلفات القدماء.

ثم تلتفت فتسمع أنه كان فارسًا لا يشق له غبار.

ثم تنظر فتعرف أنه كان من أقطاب السياسة ومن أهل البصر بتدبير المكايد في ظلام الليل.

ثم يصل إلى علمك أنه كان عاشقًا يحس بالجمال بأروع مما أحس عمر وكثير وجميل.

ثم تسمع أنه صال وجال في أشهر الأقطار الإسلامية بالشرق.

ثم تعلم أنه كان مدير مدرسة، وأنه مع ذلك تعقب أخبار الماجنين والعابثين.

ثم تعرف أنه كان رب بيت وله أهل وأبناء.

فما معنى هذا التعقيد الغريب؟

معناه أن الشريف الرضي كان منوع المواهب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فلا يعجب الكسالى المتزمتون من ظفره بحسن السمعة في جميع ما اخترق من الميادين، ولا يستكثروا عليه أن يكون من أفاضل المؤلفين! وأكابر المربين وأشاوس الفرسان، وأماجد العشاق، وأماثل العارفين الواصلين، ولو عرف قبره على التحقيق لكان مثابة لطلاب الخيرات والبركات، رحمة الله وطيب مثواه، وجعلنا من أصدقائه الأوفياء!!

هوامش

(١) قيل: إن المراسلات بينه وبين الصابي بلغت ثلاثة مجلدات، ولكنا نعرف مكان تلك الرسائل حتى نحكم له أو عليه.
(٢) في كتاب (التصوف الإسلامي) تفاصيل وافية عن أصل فكرة التشيع وعماعرض لها في ميادين الأدب والأخلاق، وعن صلتها بالسياسة الإسلامية وكذلك تحدثنا عنها بالتفصيل في كتاب (المدائح النبوية)، فليرجع القارئ إلى هذين الكتابين إن كان يهمه الاستقصاء.
(٣) انظر إلى حقائق التأويل ص٢٢١ و٢٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤