الفصل الرابع

النسبية العامة و«أسعد أفكار حياتي»

لم يكتف أينشتاين بكل الإنجازات العظيمة التي حققها والتي جعلته واحدًا من أهم فيزيائيي عصره؛ فقد كان يدرك أنه لا تزال هناك على الأقل ثغرتان كبيرتان في نظريته النسبية، أولاهما هي أن تلك النظرية تقوم كلية على الحركات القصورية Inertial motions، في حين لا تكاد تلك الحركات توجد في الطبيعة؛ فكل شيء في تسارع مطرد كحركات القطارات المتسارعة، والحركات المتعرجة التي تتخذها أوراق الأشجار الساقطة، ودوران الأرض حول الشمس، وحركة الأجرام السماوية، وقد فشلت النسبية في تفسير أكثر حركات التسارع شيوعًا على الأرض.

أما الثغرة الثانية فهي أن النسبية لم تتناول الجاذبية لا من قريب ولا من بعيد، مع أنها، كما ادعت، تشرح التماثل الكوني للطبيعة وتصلح لتفسير جميع الظواهر الكونية، إلا أن الجاذبية بدت خارج نطاقها، وهذا شيء محرج لأن الجاذبية ظاهرة معروفة وأثرها واضح في كل مكان، ولهذا فقد كان قصور النظرية النسبية أوضح من أن ينكر. إذا كانت سرعة الضوء هي أقصى سرعات الكون كما تقول النظرية النسبية فهذا يعني أن أي اضطراب يحدث في الشمس سيصل إلى الأرض بعد ثماني دقائق، لكن هذا يتعارض مع نظرية الجاذبية التي وضعها نيوتن والتي نصت على لحظية تأثيرات الجاذبية. (لم يشر نيوتن إلى سرعة الضوء في معادلاته وهو ما يجعلنا نستنتج أنه اعتبر سرعة الجاذبية الأرضية غير محدودة.) وهكذا كان على أينشتاين أن يفحص معادلات نيوتن فحصًا دقيقًا لكي يوفق بينها وبين نظريته عن سرعة الضوء.

الخلاصة أن أينشتاين أدرك عظم المشكلة التي ستنتج إذا حاول تعميم النسبية على ظاهرتي التسارع والجاذبية، ولهذا فقد أعاد تسمية نظريته القديمة التي أتى بها عام ١٩٠٥ مطلقًا عليها اسم «النظرية النسبية الخاصة» كي يفرق بينها وبين النظرية القوية التي يحتاجها لوصف الجاذبية والتي سمّاها «النظرية النسبية العامة»، وعندما أفضى إلى ماكس بلانك بهدفه من النظرية الجديدة حذره الأخير قائلًا: «بصفتي صديقك الأكبر منك سنًّا عليّ أن أحذرك منذ البداية بأنك لن تنجح في مسعاك، وحتى إن نجحت فلن يصدقك أحد.»١ لكن مع هذا كان بلانك يدرك جيدًا حجم المشكلة الموجودة في النسبية الخاصة، وهو ما تبين مما قاله بعد ذلك لأينشتاين: «إذا حالفك التوفيق ونجحت في هذا فسوف تصير كوبرنيكوس الثاني.»
ولقد جاء الإلهام الأول بهذه النظرية إلى أينشتاين عام ١٩٠٧ حينما كان لا يزال يعمل موظفًا حكوميًّا مطحونًا في مكتب الاختراعات ببيرن، يروي أينشتاين قصة هذه الفكرة قائلًا: «كنت أجلس على كرسيي في مكتب براءات الاختراع في بيرن عندما خطر ببالي خاطر على حين غرة فروعني، وهو أنه إذا سقط شخص ما سقوطًا حرًّا فلن يشعر بوزن جسده. تركت هذه الفكرة البسيطة أثرًا عميقًا في نفسي ووضعتني على أول الطريق للوصول إلى نظرية للجاذبية الأرضية.»٢

كانت لحظة واحدة استنتج أينشتاين فيها أنه إذا سقط من على كرسيه فسوف يصبح على الفور عديم الوزن، ولفهم هذه الفكرة تخيل نفسك في مصعد ثم حدث أن انقطعت حباله وسقط فجأة، في هذه اللحظة سوف تسقط سقوطًا حرًّا بنفس معدل سقوط أرضية المصعد، ولأنك والمصعد تسقطان بنفس المعدل فسوف تسبح في الهواء كما لو كنت عديم الوزن. وبالمثل أدرك أينشتاين أنه إذا سقط من فوق الكرسي فسوف يدخل في حالة السقوط الحر مما يلغي تأثير الجاذبية عليه مع التسارع المطرد في سرعته ويجعله يبدو بلا وزن.

على أن هذا المفهوم لم يكن جديدًا إذ سبق أن أشار إليه جاليليو Galileo كما تقول القصة المشكوك في صحتها حين ألقى حجرًا صغيرًا وقنبلة مدفع ضخمة من فوق برج بيزا المائل، وعن طريق تلك التجربة كان أول من يثبت أن جميع الأجسام مهما كان ثقلها تسقط بنفس معدل السرعة بتأثير الجاذبية (٣٢ قدمًا في الثانية المربعة). ولقد لاحظ نيوتن أيضًا هذا الأمر حينما أدرك أن الكواكب ومعها القمر توجد في حالة سقوط حر في مداراتها حول الشمس أو حول الأرض. وكل إنسان ارتاد الفضاء الخارجي يعرف أن التسارع يلغي تأثير الجاذبية؛ فهو حين يكون داخل الصاروخ المنطلق إلى الفضاء يجد نفسه وكل ما في الصاروخ من أجسام ومن بينها الأرضية والأدوات يسقطون سقوطًا حرًّا بنفس المعدل، ولهذا يجد كل ما حوله يطير في الهواء، وحتى أقدامه ترتفع تلقائيًّا فوق الأرضية لأن الأرضية ذاتها تسقط مع جسمه، وهو ما يوحي إيحاءً خادعًا بأن تأثير الجاذبية انعدم. وإذا خرج رائد الفضاء من الصاروخ أثناء طيرانه في الفضاء فلن يهوي مباشرة إلى الأرض بل سيطفو في الجو بجانب الصاروخ، لأنه والصاروخ يسقطان معًا سقوطًا متناغمًا حتى أثناء دورانهما حول الأرض. (لا تختفي الجاذبية في الفضاء الخارجي كما تزعم بعض الكتب العلمية خطأ؛ فجاذبية الشمس قادرة على جذب كوكب بلوتو والحفاظ عليه في مداره، وهو الذي يبعد مليارات الأميال عن الأرض، كل ما هنالك أن تأثيرها ينعدم بسبب سقوط الصاروخ تحت قدمي رائد الفضاء.)
يسمى هذا المبدأ ﺑ «مبدأ التكافؤ» Equivalence Principle وينص على أن الكتل جميعها تسقط بنفس المعدل تحت تأثير الجاذبية (بعبارة أكثر تحديدًا نقول إن كتلة القصور تساوي كتلة الجاذبية.) لكن هذه الفكرة القديمة التي لم يجد فيها جاليليو ونيوتن إلا حقيقة مثيرة لبعض الاهتمام فقط، فتحولت على يد أينشتاين إلى الأساس الذي ارتكزت عليه النظرية النسبية العامة للجاذبية؛ فقد خرج أينشتاين من هذه الحقيقة باستنتاج مهم وهو أنه «لا يمكن التمييز بين القوانين الفيزيائية في إطار التسارع أو إطار الجاذبية.» وقد كان هذا الاستنتاج هو ما قاده إلى نظريات المكان المنحني، والثقوب السوداء، ومولد الكون.
استغرقت تلك الفكرة العبقرية التي راودت أينشتاين عام ١٩٠٧ في مكتب براءات الاختراع أعوامًا عديدة كي تتطور، فقد أخذ شيئًا فشيئًا يكون مفهومًا جديدًا للجاذبية مستقيًا إياه من مبدأ التكافؤ، لكن هذا المفهوم لم يؤت ثمارًا إلا بحلول عام ١٩١١. كانت أولى النتائج التي خرج بها من مبدأ التكافؤ هو أن الضوء ينحني بتأثير من الجاذبية، وهي فكرة قديمة تعود إلى زمن نيوتن على الأقل الذي طرح في كتابه «البصريات» Opticks سؤالًا عما إذا كانت الجاذبية تؤثر على أشعة الضوء حيث قال: «ألا تؤثر حركة الأجسام على ضوء النجوم من مسافة كبيرة وتكسر أشعتها، وألا يقوى هذا التأثير كلما اقتربت المسافة؟»٣ لكن للأسف لم تكن التكنولوجيا المتاحة في القرن السابع عشر تسمح بالإجابة عن هذه الأسئلة.

لكن بعد أكثر من مائتي عام عاد هذا السؤال ليراود أينشتاين هذه المرة، والآن لنتخيل أننا أضأنا مصباحًا يدويًّا داخل صاروخ ينطلق بتسارع في الفضاء الخارجي، حينها سنجد شعاع الضوء يسقط للأسفل لأن الصاروخ ينطلق للأعلى. الآن نشرك مبدأ التكافؤ الذي ينص على أن القوانين الفيزيائية داخل الصاروخ لا تختلف عن القوانين الفيزيائية على الأرض، وهو ما يعني أنه «لا بد للجاذبية أن تجعل الضوء ينحني.» ومن خلال خطوات قليلة وبسيطة استطاع أينشتاين أن يكتشف ظاهرة فيزيائية جديدة وهي أن الضوء ينحني بتأثير الجاذبية، وأدرك على الفور أن هذا التأثير يمكن حسابه بدقة.

من المتعارف عليه أن الشمس هي مصدر أكبر مجال جاذبية في النظام الشمسي بأكمله، وهي الحقيقة التي جعلت أينشتاين يسأل نفسه: هل جاذبية الشمس كافية لجعل أشعة الضوء المنبعثة من النجوم البعيدة تنحني؟ يمكن التحقق من هذا بالتقاط صورتين فوتوغرافيتين لمجموعة معينة من النجوم في توقيتين مختلفين؛ الصورة الأولى تلتقط في الليل حيث لا يكون هناك ما يعوق ضوء النجوم، أما الصورة الثانية فتلتقط بعد الأولى بعدة أشهر حينما تكون الشمس متعامدة مع ذات المجموعة النجمية، ومن خلال مقارنة الصورتين قد نستطيع تحديد مدى الإزاحة التي حدثت لضوء النجوم في اتجاه الشمس بفعل جاذبيتها، ولأن ضوء الشمس يطغى على ضوء النجوم فلا يمكن إجراء مثل تلك التجربة إلا وقت كسوف شمسي حين يعوق القمر ضوء الشمس وتظهر النجوم واضحة في وقت النهار. استنتج أينشتاين أنه بمقارنة الصورة التي التقطت في وقت الكسوف بالصورة التي التقطت لذات المجموعة النجمية في وقت الليل سيظهر أن ضوء النجوم قد تحرك قليلًا في اتجاه الشمس. (للقمر أيضًا جاذبية تحني ضوء النجوم لكنها ضئيلة التأثير مقارنة بتأثير جاذبية الشمس، ولهذا فلا يتأثر انحناء الضوء وقت الكسوف بجاذبية القمر.)

ساعد مبدأ التكافؤ أينشتاين على حساب تقريبي لحركة أشعة الضوء بينما تحنيها قوى الجاذبية إلا أنه لم يبيّن له ماهية الجاذبية نفسها، وما كان ينقصه في هذه المرحلة هي نظرية مجالات للجاذبية Field Theory of Gravity. ذكرنا سابقًا أن معادلات ماكسويل خرجت بالنظرية الأولى للمجالات التي تنتظم فيها خطوط القوى كشبكة العنكبوت بحيث تتذبذب وينتج عن تذبذبها موجات تنتقل على طول خطوط القوى، كان أينشتاين يبحث عن نظرية مجالات تستطيع خطوط قواها أن تدعم تذبذبات الجاذبية التي تتحرك بسرعة الضوء.
ومع دنو عام ١٩١٢ وبعد سنوات قضاها في التفكير العميق بدأ أينشتاين يدرك أنه يحتاج لمراجعة المفاهيم السائدة عن الزمان والمكان، ولتحقيق هذا وجد أنه يحتاج إلى نظريات هندسية جديدة تذهب إلى ما وراء تلك النظريات التي ورثها العالم عن الإغريق القدامى. كانت الملاحظة الأساسية التي أثارت في ذهنه فكرة الزمكان المنحني تتمثل في تناقض يعرف ﺑ «تناقض إرنفست» الذي بينه له صديقه بول إرنفست Paul Ehrenfest، يتبين هذا التناقض لنا إذا تأملنا قرصًا يدور أو عجلة الخيل الدوارة في ملاهي الأطفال؛ من المعروف أنه في حالة السكون يكون محيط العجلة مساويًا لعدد π مضروبًا في قطرها، لكن العجلة حين تبدأ في الدوران يتحرك حدها الخارجي بسرعة أكبر من داخلها وهو ما يعني، طبقًا للنظرية النسبية، أن الجزء الخارجي سينكمش بقدر أكبر من الجزء الداخلي مما يغير شكل العجلة تمامًا، أي أن محيط العجلة سوف ينكمش ويصير أقل من حاصل ضرب π في قطرها، وحينها لن يظل سطح العجلة مسطحًا، أي أن «المكان انحنى». ويمكننا أن نقارن عجلة الخيل بالدائرة القطبية، فباستطاعتنا أن نقيس قطر الدائرة القطبية بالسير من نقطة معينة على الدائرة إلى نقطة مقابلة لها مرورًا بالقطب الشمالي، ثم يمكن أن نقيس محيطها، وإذا قارنا القطر بالمحيط فسنجد أن الأخير يقل عن حاصل ضرب π في الأول لأن سطح الأرض منحنٍ. لكن المشكلة أنه طوال الألفي عام المنصرمة اعتمدت أعمال جميع الرياضيين والفيزيائيين على الهندسة الإقليدية التي تقوم على الأسطح المستوية، السؤال هنا: ماذا سيحدث إذا تخيلنا هندسة تقوم على الأسطح المنحنية؟

وإذا خرجنا بنتيجة أن المكان قابل للانحناء فستظهر لنا صورة جديدة مدهشة على الفور؛ تخيل حجرًا ثقيلًا موضوعًا على فراش، سوف يغوص الحجر بالطبع في حشية الفراش، ارمِ بلية صغيرة على الحشية حينها ستجدها تسير في خط منحن حول الحجر. هناك طريقتان لتحليل هذا التأثير، الطريقة الأولى التي تساير رؤى نيوتن تفترض أن هناك «قوة» خفية تنبعث من الحجر مجبرة البلية على أن تغير مسارها، وهذه القوة غير مرئية ومع ذلك تصل إلى البلية وتجذبها إليها. أما الطريقة الثانية القائمة على النسبية فترى صورة مختلفة تمامًا إذ لا تفترض وجود أي قوة تتحكم في البلية، بل تفسر الظاهرة بحدوث انخفاض في سطح الحشية يجبر البلية على أن تغير حركتها؛ فأثناء تحرك البلية «يشدها» سطح الحشية حتى تتخذ مسارًا دائريًّا.

الآن لنفترض أن الحجر هو الشمس، والبلية هي الأرض، والحشية هي الزمان والمكان؛ لو تكلم نيوتن لقال إن هناك قوة غير مرئية تسمى «الجاذبية» تشد الأرض وتجعلها تدور حول الشمس، لكن أينشتاين سيرد عليه بقوله إنه ليس في هذه الصورة أي قوة شد متعلقة بالجاذبية على الإطلاق؛ فالأرض تدور حول الشمس لأن انحناء المكان نفسه هو الذي يدفع الأرض، أي أن قوى الجاذبية لا تشد بل المكان هو الذي يدفع.

من خلال تلك الصورة استطاع أينشتاين تفسير السبب في أن أي اضطراب يحدث في الشمس يستغرق ثماني دقائق كي يصل إلى الأرض، ولتوضيح هذا نعود للمثال السابق ونفترض أننا رفعنا الحجر عن الحشية، حينها سنجد سطحها يرتفع إلى وضعه الأول محدثًا تموجات تتحرك بسرعة محددة على امتداد ذلك السطح، وبالمثل إذا اختفت الشمس فسوف ينتج عن هذا موجة صادمة تتكون من حيز مكاني منحن تتحرك بسرعة الضوء. كانت هذه الصورة من البساطة والأناقة أن استطاع أينشتاين أن يشرحها لابنه الأصغر إدوارد حينما سأله ذات يوم عن سبب شهرته فقال له: «إذا زحفت خنفساء عمياء على فرع شجرة منحن فلن تلاحظ انحناءه، ولقد أسعدني الحظ فلاحظت ما لم تلاحظه الخنفساء.»٤
كان نيوتن قد أقر في مؤلفه الأعظم «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية» Philosophiae Naturalis Principia Mathematica أنه لم يستطع تفسير أصل هذه القوة الجاذبة التي ينتشر تأثيرها في جميع أرجاء الكون وقال حينها عبارته الشهيرة: «ليست لديّ أي فرضية أفترضها hypotheses non fingo.» لكن أعمال أينشتاين قد بينت لنا أن سبب الجاذبية هو انحناء الزمان والمكان، وأن مفهوم «القوة» ما هو إلا وهم نتج عن النظريات الهندسية القديمة، وطبقًا للنظرية الجديدة لا يتمثل سبب وقوفنا على الأرض في أن الجاذبية الأرضية تشدنا لأسفل، بل لأن الأرض تحني الزمكان حول أجسادنا وهو ما يدفعنا نحوها، وهذا يعني أن وجود المادة هو ما يحني المكان حولها ويوهمنا بأن هناك قوة جذب تشد ما حولها من أجسام.

لكن هذا الانحناء بالطبع غير مرئي، ولهذا فإذا نظرنا إلى هذه المسألة نظرة سطحية قد تبدو لنا نظرية نيوتن صحيحة، لتوضيح هذا دعنا نتخيل مجموعة من النمل تمشي على سطح ورقة مجعدة، في حين يحاول هذا النمل المشي في خط مستقيم، يجد نفسه ينجر ذات اليمين وذات الشمال بفعل الثنيات الموجودة في الورقة؛ يظن النمل أن هناك قوة خفية تشده في كلا الاتجاهين، لكن الناظر من نقطة مرتفعة يدرك أنه لا توجد أي قوى بل هي ثنيات الورقة التي تدفع النمل إلي تلك الاتجاهات. تذكر أن نيوتن اعتبر الزمان والمكان معيارين مطلقين للحركة بشكل عام، لكن أينشتاين افترض أنهما يلعبان دورًا ديناميكيًّا؛ فإذا كان المكان منحنيًا فلا بد أن كل ما يتحرك عليه سيفترض أن هناك قوة تدفعه في اتجاه ما.

ولأن أينشتاين أراد إثبات أن الزمكان هو كالنسيج الذي يمط وينثني فقد كان عليه أن يدرس رياضيات الأسطح المنحنية، وسرعان ما وجد نفسه غارقًا في مستنقع الرياضيات غير قادر على إيجاد الأدوات المناسبة لتحليل تصوره الجديد للجاذبية، وصار الآن بعدما كان يزدري الرياضيات ويسميها «معرفة لا نفع منها» يدفع ثمن تجاهله لمحاضراتها أثناء دراسته في معهد بوليتكنيك.

وبعد أن كاد اليأس يتملكه توجه إلى صديقه مارسيل جروسمان وقال له: «جروسمان عليك أن تساعدني وإلا سيصيبني الجنون.»٥ «فلم يحدث قبل هذا أن عذبني شيء كما عذبتني الرياضيات التي صرت أكن لها كل الاحترام الآن بعد أن كنت أعتبرها ترفًا لا طائل منه. إن النظرية النسبية الأولى مقارنة بالمشكلة التي أنا بصددها الآن ما هي إلا لعبة أطفال.»٦
وعندما رجع جروسمان إلى المراجع الرياضية وجد مفارقة تتمثل في أن القواعد التي احتاجها أينشتاين كانت تدرس بالفعل في المعهد متعدد العلوم؛ ففي النظرية الهندسية التي وضعها برنارد رايمان Bernard Riemann عام ١٨٥٤ اهتدى أينشتاين أخيرًا إلى القواعد التي تستطيع وصف انحناء الزمكان. (بعد ذلك بسنوات قال أينشتاين لمجموعة من تلاميذ المرحلة المتوسطة وهو يتذكر مدى الصعوبة التي لقيها في تعلم نظرية رياضية جديدة: «لا تقلقنكم الصعوبة التي تجدونها في الرياضيات، فإنني لا أزال أعاني منها أكثر مما تعانون».)٧
فيما قبل رايمان كانت الرياضيات تقوم على الهندسة الإقليدية، نسبة إلى إقليدس، وهي هندسة الأسطح المستوية، ولآلاف السنين ظل تلاميذ المدارس يقاسون صعوبة النظريات الهندسية الإغريقية ذات القداسة التي تنص على أن مجموع الزوايا الداخلية لأي مثلث تساوي ١٨٠ درجة، وعلى أن الخطوط المتوازية لا تتلاقى أبدًا. لكن اثنين من الرياضيين هما الروسي نيكولاي لوباشفسكي Nicolai Lobachevesky ورياضي آخر ينتمي إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية يسمى يانوس بولياي János Bolyai اقتربا كثيرًا من التوصل إلى نظرية هندسية غير إقليدية تنص على أن مجموع زوايا المثلث قد تزيد أو تنقص عن ١٨٠ درجة. لكن من وضع تلك النظرية بالفعل كان «أمير الرياضيات» كارل فريدريش جاوس Carl Friedrich Gauss وتلميذه وصاحب الفضل الأكبر فيها رايمان. (رأى جاوس أن النظرية الإقليدية يمكن أن تكون غير صحيحة حتى على مستوى القواعد الفيزيائية، وأجرى تجربة للتحقق من هذا بأن جعل مساعده يطلق أشعة ضوئية من فوق قمم جبال هارتس محاولًا حساب مجموع زوايا المثلث الذي تكونه ثلاث من قمم الجبال، وللأسف أتت النتائج سلبية. وكان جاوس رجلًا ذا حس سياسي فلم ينشر أبحاثه حول هذا الموضوع الحساس خشية أن يثير غضب العلماء المحافظين الذين يقسمون بحياة الهندسة الإقليدية.)
أما رايمان فقد اكتشف عوالم رياضية جديدة تمامًا تتمثل في هندسة الأسطح المنحنية التي توجد في أي بعد مكاني وليس فقط في بعد واحد أو اثنين، ورأى أينشتاين أن هذه النظرية الهندسية المتقدمة سوف تقدم وصفًا أكثر دقة للكون. ولأول مرة استخدمت المصطلحات الرياضية للهندسة التفاضلية في علم الفيزياء، وقد كانت الهندسة التفاضلية أو حساب الممتدات Tensor Calculus التي تهتم بحسابات الأسطح المنحنية يومًا ما فرعًا رياضيًّا «عديم الفائدة» وليس له أي قيمة فيزيائية، لكنه صار فجأة اللغة التي يتحدث بها الكون.

في معظم الكتب التي تتناول سيرة أينشتاين تعرض النظرية النسبية العامة في صورتها النهائية التي صارت عليها عام ١٩١٥ كما لو كان أينشتاين قد اكتشفها دفعة واحدة بطريقة سحرية دون أن يجرب ويخطئ، لكن خلال العقد الماضي حُلِّلت بعض مفكرات أينشتاين التي عثر عليها، ومن خلال هذا التحليل تم التوصل إلى بعض الحلقات المفقودة بين عامي ١٩١٢ و١٩١٥، وصار من الممكن تتبع مراحل التطور التي مرت بها تلك النظرية، أحيانًا شهرًا بشهر، والتي تعتبر واحدة من أعظم النظريات في تاريخ البشر. كان أينشتاين يهدف تحديدًا إلى تعميم فكرة المتغير المشارك للورنتز حتى يتسنى للمعادلات الفيزيائية أن تبقى على صورتها داخل إطار تحويلات لورنتز، أي أن يعمم هذه الفكرة على جميع التسارعات والتحويلات الممكنة وليس فقط على التسارعات والتحويلات القصورية، بعبارة أخرى نقول إنه كان يريد الخروج بمعادلات تظل بصيغة واحدة مهما كان المعيار المرجعي الذي تقاس مقارنة به سواء كان متسارعًا أو يتحرك بسرعة ثابتة، وكل معيار مرجعي يحتاج نظامًا إحداثيًّا لقياس الأبعاد الثلاثة للزمان والمكان. وكان مطلب أينشتاين هو إيجاد نظرية تظل على ثباتها في أي إحداثيات زمانية أو مكانية مستخدمة لتقدير المعيار المطلق، ولقد قاده هذا إلى مبدأ المتغير المشارك الشهير الذي ينص على أن «المعادلات الفيزيائية يجب أن تكون متغيرات مشاركة بشكل عام.» (أي أنها تظل على ذات صيغتها في ظل أي تغير عشوائي للإحداثيات.)

للتوضيح تخيل أنك رميت شبكة صيد على سطح مائدة، تمثل شبكة الصيد نظام الإحداثيات العشوائي، ويمثل سطح المائدة شيئًا يظل ثابتًا مهما تغير وضع شبكة الصيد؛ فمهما عوجنا الشبكة أو جعدناها فسيظل سطح المائدة كما هو.

وعلى هذا بدأ أينشتاين عام ١٩١٢ في دراسة نظريات رايمان الهندسية بعد أن أدرك أنها الأصلح للتعبير عن الجاذبية باحثًا عن المتغيرات المشاركة ومسترشدًا بقانونها. المدهش أنه لم يجد إلا اثنين من المتغيرات المشاركة فقط وهما كتلة المكان المنحني وانحناء المكان نفسه (الذي يسمى ﺑ «انحناء ريتشي» Ricci curvature)، ولقد كان لهذا أعظم الفائدة بأن حُدِّدت القواعد الممكنة التي لا يمكن استخدام غيرها في إقامة نظرية الجاذبية، ولهذا فقد استطاع أينشتاين أن يصوغ النظرية الصحيحة عام ١٩١٢ بعد أشهر قليلة من دراسة مؤلفات رايمان التي تعتمد على «انحناء ريتشي». لكنه لسبب ما تخلى عن هذه النظرية وأخذ يطارد فكرة أخرى غير صحيحة، أما عن السبب في هذا فقد ظل لوقت طويل لغزًا محيرًا للمؤرخين ولم يحل إلا حديثًا بعدما عُثِرَ على الدفاتر المفقودة، في ذلك العام، بعدما بنى أينشتاين الهيكل الأساسي لنظرية الجاذبية اعتمادًا على انحناء ريتشي، وقع في خطأ كبير؛ فقد ظن أن هذه النظرية تناقض المبدأ المعروف ﺑ «مبدأ ماخ»،٨ وهذا المبدأ يقول في إحدى فرضياته إن وجود المادة والطاقة في الكون هو فقط ما يحدد مجال الجاذبية الذي يحيط بهما، أي أننا إذا حددنا أشكالًا معينة للكواكب والنجوم فسوف نستطيع أن نحدد مجالات الجاذبية المحيطة بها، بالضبط كما هو الأمر حين تلقي حصاة في بركة، فكلما كبر حجم الحصاة كبر حجم دوائر الماء التي تنتج عن هذا، لذا إذا استطعنا تحديد حجم الحصاة بالضبط فسنستطيع تحديد حجم الدوائر المائية، وبالمثل إذا استطعنا تحديد كتلة الشمس فسنجد السبيل الوحيد لتحديد مجال الجاذبية المحيط بها.

وكان هذا هو الخطأ الذي وقع فيه أينشتاين فقد اعتقد أن نظريته التي تعتمد على انحناء ريتشي تخالف مبدأ ماخ حينما تقول إن وجود المادة والطاقة ليس هو السبيل الوحيد لتحديد مجال الجاذبية المحيط بهما، لذا فقد حاول مع صديقه جروسمان أن يضعا نظرية ذات أهداف أكثر تواضعًا، نظرية توجد فيها المتغيرات المشاركة في حالة التدوير فقط (لا في حالات التسارع بشكل عام). وبعد أن تخلى عن مبدأ المتغير المشارك فقد دليله الذي كان يهتدي به وقضى ثلاث سنوات يعتريه فيها الإحباط تائهًا وراء نظرية أينشتاين-جروسمان التي لم تكن مفيدة أو حتى منطقية، بل إنها فشلت في تطبيق معادلات نيوتن على المجالات الصغرى للجاذبية، لكن أينشتاين أصر على تجاهل غريزته الفيزيائية التي كانت تعتبر الأفضل في العالم كله.

وبينما كان أينشتاين يتلمس طريقه إلى المعادلات النهائية كان يركز على ثلاث تجارب أساسية قادرة على إثبات أفكاره المتعلقة بالمكان المنحني والجاذبية، وهي: انحناء ضوء النجوم خلال الكسوف الشمسي، والانزياح الأحمر، وحضيض عطارد. عام ١٩١١ وحتى قبل أن يبدأ في عمله على المكان المنحني كان أينشتاين يأمل في أن يتم إرسال بعثة علمية إلى سيبيريا خلال الكسوف الشمسي المنتظر في الحادي والعشرين من أغسطس من عام ١٩١٤ لدراسة انحناء ضوء النجوم الذي سيحدث بفعل الشمس.

أبدى الفلكي إرفين فنلاي فرويندليخ Erwin Finlay Freundlich استعداده للقيام بهذه المهمة وكان أينشتاين واثقًا من صحة عمله حتى إنه في البداية عرض تمويل الحملة على نفقته الخاصة حيث قال: «إذا فشلت الحملة فسوف أدفع تكلفتها من مدخراتي القليلة أو على الأقل سأدفع ٢٠٠٠ مارك مبدئيًّا.»٩ لكن بعد ذلك وافق أحد رجال الصناعة الأثرياء على تمويل هذه البعثة العلمية؛ ذهب فرويندليخ ومساعده إلى سيبيريا قبل موعد الكسوف بشهر، لكن أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا، فما كان من الروس إلا أن قبضوا على العالمين وأخذوهما أسرى وصادروا معداتهما. (لعل هذا كان من حسن حظ أينشتاين، لأن تلك التجربة لو أجريت لما اتفقت نتائجها بالطبع مع القيم التي توقعها في نظريته الخاطئة وهو ما كان سيظهره فاشلًا.)

بعدها حسب أينشتاين تأثير الجاذبية على تردد شعاع الضوء، وفكر أنه إذا أُطْلِقَ صاروخ من الأرض إلى الفضاء الخارجي فسوف تعمل الجاذبية الأرضية كشبكة عازلة تشد الصاروخ مرة أخرى إلى الأرض، ومن ثم سيفقد الصاروخ الطاقة وهو يكافح لمقاومة الجاذبية، وبالمثل عندما ينبعث الضوء من الشمس فلا بد أن تعمل الجاذبية أيضًا كشبكة عازلة تشده إلى الوراء وتفقده طاقته، غير أن الضوء لن تقل سرعته جراء هذا بل سينخفض تردد موجاته أثناء كفاحه ضد الجاذبية، ولهذا فإن الضوء الذي يخرج من الشمس أصفر يكتسب حمرة مع انخفاض تردده وخروجه من نطاق الجاذبية، غير أن الانزياح الأحمر الذي تسببه الجاذبية هو تأثير في غاية الصغر، وكان أينشتاين واثقًا من أنه سوف يكون قابلًا للدراسة المعملية في وقت قريب جدًّا (لكن لم يتأتَ هذا إلا بعد أربعة عقود كاملة.)

وأخيرًا عكف أينشتاين على حل معضلة قديمة جدًّا تمثلت في سبب تذبذب مدار كوكب عطارد وانحرافه شيئًا ما عن قوانين نيوتن؛ عادة ما تدور الكواكب حول الشمس في مسار ثابت يتخذ شكل قطع ناقص إلا من بعض اضطرابات في هذا المسار تتسبب فيها جاذبية الكواكب المجاورة التي تنتج عنها مسارات على شكل بتلات زهرة الربيع، لكن إذا طرحنا نسبة التداخل الذي تسببه جاذبية الكواكب الأخرى فسنجد أن مدار كوكب عطارد بالذات ينحرف بنسبة معينة عن قوانين نيوتن، يسمى هذا الانحراف بالحضيض الشمسي وكان أول من لاحظه الفلكي أربان ليفيريير Urbain Leverrier عام ١٨٥٩ وحسب هذا الانحراف مقدرًا إياه ﺑ ٤٣٫٥ ثانية من الانحناء تحدث كل قرن ولا يمكن تفسيره من خلال قوانين نيوتن. (ولم يكن وجود مثل تلك التناقضات في قوانين نيوتن للحركة أمرًا جديدًا؛ ففي مطلع القرن التاسع عشر فوجئ الفلكيون باكتشاف انحرافات مماثلة في مدار كوكب أورانوس ووجدوا أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما؛ فإما أن يتخلوا عن قوانين نيوتن للحركة، وإما أن يفترضوا وجود كوكب آخر يجذب مدار أورانوس، لكن الفيزيائيين تنفسوا الصعداء حينما اكتشف كوكب جديد يسمى نبتون بالضبط في المكان الذي تحدده قوانين نيوتن.)

غير أن عطارد ظل هو اللغز المحير الذي لم يحل، ولأن الفلكيين لم يريدوا أن ينبذوا قوانين نيوتن فقد افترضوا أن هناك كوكبًا يدور في مدار عطارد حول الشمس ويسمى «فولكان»، لكن البحث المتكرر في الليالي عن هذا الكوكب لم يسفر عن أي دليل مادي يؤكد وجوده.

أما أينشتاين فقد كان مستعدًّا لقبول أكثر الحلول راديكالية وهو أن قوانين نيوتن نفسها غير صحيحة، وفي نوفمبر/تشرين الثاني من عام ١٩١٥ وبعدما أضاع ثلاث سنين في نظرية أينشتاين-جروسمان عاد مرة أخرى إلى نظرية انحناء ريتشي التي كان قد نبذها عام ١٩١٢ وأدرك الخطأ الذي وقع فيه. (كان أينشتاين قد تخلى عن نظرية انحناء ريتشي لأنها كانت تقول بأن جزءًا واحدًا من المادة قادر على توليد أكثر من مجال للجاذبية وهو ما يعارض مبدأ ماخ، لكنه بعد أن أدرك مفهوم المتغير المشارك العام توصل إلى أن مجالات الجاذبية هذه متساوية رياضيًّا وينتج عنها ذات النتيجة الفيزيائية. ومن هذه الحقيقة وجد أينشتاين فائدة كبيرة للمتغير المشارك العام فهو لم يحصر فقط عدد النظريات الممكنة للجاذبية بل قدم أيضًا نتائج فيزيائية مختلفة عن جميع النتائج السابقة المتماثلة.)١٠
وكي يستطيع الوصول إلى مبتغاه عزل أينشتاين نفسه عن العالم الخارجي مبتعدًا عن جميع المشتتات، ودخل في حالة من التركيز هي على الأرجح الأعظم في مسيرته المهنية، وأخذ يجهد نفسه بلا رحمة كي يستطيع التوصل إلى المعادلة الأخيرة ويحل لغز الحضيض الشمسي لعطارد. تظهر دفاتره التي عثر عليها حديثًا أنه كان يفترض حلًّا ما ثم يستميت في محاولة التوفيق بينه وبين نظرية نيوتن القديمة المتعلقة بمحدودية مجالات الجاذبية. وغني عن الذكر أن هذه كانت مهمة شاقة للغاية لأن معادلاته كانت عشر معادلات بخلاف المعادلة الوحيدة التي خرج بها نيوتن، وكلما فشل حلٌّ من حلوله جرب حلًّا آخر ليرى هل سيتوافق مع معادلة نيوتن، غير أن تلك المهمة التي هي كمهام أبطال الأساطير انتهت أخيرًا في نوفمبر/تشرين الثاني من عام ١٩١٥ بعد أن استنزفت قواه تمامًا، وبعد حسابات معقدة ومتعبة وجد من خلال نظرية ١٩١٢ الأولى أن الانحراف في مدار عطارد يقدر ﺑ ٤٢٫٩ ثانية من الانحناء لكل مائة عام في إطار حدود تجريبية مقبولة. فرح أينشتاين بتلك النتائج فرحة كبيرة ممزوجة بدهشة عارمة؛ فقد كان ذلك أول دليل تجريبي على صحة نظريته وقد قال عن هذا: «في بعض الأيام التي أعقبت هذا الاكتشاف لم أكن أستطيع تمالك نفسي من الحماس فقد تحقق أجرأ حلم حلمت به.»١١ ويقصد بهذا الحلم الذي راوده طيلة حياته بأن يجد معادلات نسبية للجاذبية.
لكن أكثر ما أثار حماسة أينشتاين هو أنه استطاع الخروج بنتائج مادية وتجريبية حاسمة من خلال مبدأ فيزيائي ورياضي مجرد، وهو مبدأ المتغير المشارك العام وقال عن هذا: «تخيل سعادتي عندما وجدت أن ما توقعته من مبدأ المتغير المشارك العام قد استطاع أن يفسر ظاهرة الحضيض الشمسي لعطارد.»١٢ ومن ثم استطاع من خلال النظرية الجديدة أن يحسب انحناء ضوء النجوم الذي تسببه الشمس. وبعد أن أضيف مفهوم المكان المنحني إلى نظريته صارت الإجابة النهائية هي ١٫٧ ثانية لكل انحناء أي ضعف القيمة الأولى (التي هي نحو ١ / ٢٠٠٠ من الدرجة).
رأى أينشتاين أن نظريته على قدر من البساطة والتماسك والقوة بحيث لن يستطيع أي فيزيائي أن يقاوم جمالها، حيث قال: «يصعب على أي أحد يحسن فهمها ألا يأسره سحرها، فهي نظرية لا تقارن في جمالها بأي نظرية أخرى.»١٣ ولقد كان مبدأ المتغير المشارك العام قويًّا جدًّا حتى إن المعادلة النهائية التي خرج بها، وهي المعادلة التي تصف بنية الكون نفسها، لا يبلغ طولها حين كتابتها إلا بوصة واحدة. (وإلى اليوم لا يزال الفيزيائيون يتعجبون من قدرة معادلة بهذا القصر على وصف خلق الكون وتطوره. وقد شبه الفيزيائي فيكتور فايسكوف Victor Weisskopf أولئك الفيزيائيين المتعجبين بالفلاح الذي رأى جرارًا زراعيًّا لأول مرة فأخذ يتفحصه من جميع النواحي ثم سأل مندهشًا: «ولكن أين حصانه؟».)
ولم يفسد هذا الانتصار الذي حققه أينشتاين سوى خلاف بسيط حدث بينه وبين ديفيد هيلبرت David Hilbert، الذي كان يعتقد البعض أنه أفضل رياضيي العالم، حول أيهما صاحب الفضل الأكبر في النظرية، ويعود هذا الخلاف إلى أن أينشتاين حين كان في المرحلة الأخيرة من وضع النظرية شرحها لهيلبرت في عدة محاضرات طول كل منها ساعتان ألقاها عليه في جوتنجن، وكان ما دفع أينشتاين لهذا أنه لا يزال يفتقر إلى المعرفة بنظرية رياضية معينة (وهي متطابقات بيانكيه Bianchi identities) وهذا الأمر منعه من أن يستنبط معادلاته من صيغة بسيطة تسمى «الفعل» Action. لكن ما حدث أن هيلبرت أكمل بعدها الخطوة التي كانت تنقص أينشتاين في الحسابات ثم نشر النتيجة النهائية بنفسه سابقًا أينشتاين بستة أيام. لم يعجب هذا أينشتاين وظن أن هيلبرت يحاول سرقة النظرية النسبية العامة منه وينسبها لنفسه، لكن هذا الخلاف انتهى بعد ذلك وعادت العلاقة طبيعية بين العالمين، غير أن أينشتاين تعلم الدرس ولم يعد يطلع الآخرين على نتائج أبحاثه. (واليوم صار ذلك الفعل الذي قاد إلى النسبية العامة يسمى ﺑ «فعل أينشتاين-هيلبرت». من المرجح أن هيلبرت أحس أن عليه أن يكمل آخر وأصغر جزء في النظرية لأنه كان يرى أن: «الفيزياء أهم من أن تترك للفيزيائيين» لأن الفيزيائيين غالبًا ما يكونون غير مؤهلين رياضيًّا لسبر أغوار الطبيعة، وهو الرأي الذي اعتنقه الكثير من علماء الرياضيات الآخرين مثل فيلكس كلاين Felix Klein الذي كان لا ينفك يقول ساخطًا إن أينشتاين لا يمتلك أي خلفية رياضية بل هو واقع تحت تأثير بعض الأفكار المندفعة الغريبة التي تختلط فيها الفلسفة بالفيزياء. ولعل هذا كان الفارق الأساسي بين علماء الرياضيات وعلماء الفيزياء، وهو كذلك السبب وراء فشل أهل الرياضيات المتكرر في استنباط قوانين فيزيائية جديدة، فعلماء الرياضيات لا يتعاملون إلا مع مجالات صغيرة محدودة ومعزولة على نفسها، أما الفيزيائيون فيتعاملون مع مجموعة قليلة من المبادئ الفيزيائية التي تحتاج أنظمة رياضية كثيرة لحلها، ومع أن الرياضيات هي لغة الطبيعة فإن القوى التي تسيطر على هذه الطبيعة هي قوانين فيزيائية على غرار النظرية النسبية ونظرية الكم.)
ولم تكد أخبار نظرية أينشتاين الجديدة تنتشر حتى غطى عليها اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ فبعد أن اغتيل ولي عهد الإمبراطورية النمساوية المجرية انجرت الإمبراطوريات البريطانية والنمساوية المجرية والروسية والبروسية إلى صراع كارثي دامٍ اعتبر الأفظع في عصره وأودى بحياة عشرات الملايين من الجنود الشباب. وبين عشية وضحاها تحول أساتذة الجامعات الألمانية الموقرين إلى قوميين متعطشين للدماء، واجتاحت حمى الحرب معظم أساتذة جامعة برلين حتى إنهم كرسوا كل أعمالهم للمجهود الحربي، بل إن ثلاثة وتسعين من أبرز أساتذة الجامعة وقعوا على بيان شهير لمساندة القيصر أسموه «بيان العالم المتحضر» داعين فيه الشعب للتجمع تحت راية القيصر، لأنه يجب على الألمان أن يهزموا «قطعان الروس وحلفاءهم المغول والزنوج الذين انفلتوا من عقالهم على الجنس الأبيض»١٤ على حد ما جاء في البيان، وبرر البيان أيضًا الاجتياح الألماني لبلجيكا وأعلن بكل فخر أن «الجيش الألماني والشعب الألماني قد صارا الآن كيانًا واحدًا يجمع سبعين مليون ألماني معًا دون أي تميز بينهم على أساس التعليم أو الطبقة الاجتماعية أو الانتماء السياسي.»١٥ وكان من بين الموقعين على هذا البيان راعي أينشتاين الأساسي ماكس بلانك ومعه عدد من أبرز الشخصيات العلمية مثل فيلكس كلاين وفيلهلم رونتجن Wilhelm Roentgen (مكتشف أشعة إكس)، وفالتر نيرنست Walther Nernst وفيلهلم أوستفالد.
لكن أينشتاين المعروف بحبه للسلام رفض أن يوقع على هذا البيان، بل تضامن مع جورج نيكولاي Georg Nicolai الطبيب الخاص لإلسا الذي كان من النشطاء البارزين في مجال مناهضة الحروب حين أعد بيانًا مضادًّا، وطلب من مائة عالم أن يوقعوا عليه كي يخرجوا البلاد من حالة هستيريا الحرب التي تملكتها، لكن لم يستجب له سوى أربعة علماء كان أينشتاين واحدًا منهم. لم يصدق أينشتاين ما يحدث وكتب قائلًا بحزن: «لم أكن أصدق أن الدول الأوربية يمكن أن تكون بهذه الحماقة. في مثل هذه المواقف فقط يدرك المرء إلى أي فصيل حيواني منحط ينتمي.»١٦
وعام ١٩١٦ تزلزلت حياة أينشتاين مرة أخرى لكن هذه المرة بفعل خبر صادم جاءه عن صديقه فريدريش أدلر القريب إلى نفسه، والرجل ذو النزعة المثالية، وهو نفسه العالم الفيزيائي الذي تخلى عن منصب أستاذ في جامعة زيوريخ لأجل أينشتاين، كان الخبر أن أدلر اغتال الكونت كارل فون ستروخ Karl von Strügkh رئيس وزراء النمسا داخل مطعم مزدحم بفيينا وهو يصرخ قائلًا: «فليسقط الطغيان. نريد السلام.» ارتاعت البلاد كلها لهذا الخبر، ولم يصدقوا أن ابن مؤسس الحركة الاشتراكية الديمقراطية في النمسا ارتكب جريمة شنيعة كهذه في حق الأمة. وعلى الفور أودع أدلر السجن منتظرًا حكمًا محتملًا بالإعدام، وخلال الوقت الذي قضاه ينتظر محاكمته وجد سلواه في الفيزياء التي هي حبه القديم وكتب مقالًا طويلًا ينتقد فيه نظرية أينشتاين النسبية، بل إنه في خضم الاضطراب الذي أحدثه باغتياله رئيس الوزراء وما لحقه من تبعات كان ذهنه مشغولًا تمامًا بفكرة خطأ كبير اكتشفه في النسبية.

في ذلك الوقت كان فيكتور، والد فريدريش أدلر، يحاول مستميتًا أن يدافع عن ابنه بأي وسيلة كانت فلم يجد أمامه إلا أن ادعى إصابته بخلل عقلي متوارث في عائلته، وللتدليل على هذا قال فيكتور إن ابنه بلغ من الجنون مبلغًا جعله يحاول تفنيد نسبية أينشتاين التي آمن الجميع بها، وعرض أينشتاين بدوره أن يمثل أمام المحكمة بصفته شاهدًا على شخص أدلر لكن المحكمة لم تستدعه.

صدر الحكم الأولي من المحكمة يقضي بإعدام أدلر شنقًا لكنه بعد ذلك خفف إلى السجن مدى الحياة بعد التماسات تقدم بها أينشتاين وآخرون معه. (والمفارقة أنه عام ١٩١٨ وبعد سقوط الحكومة عقب الحرب العالمية الأولى أُطلق سراح أدلر وانتخب عضوًا في مجلس الأمة النمساوي ليصير واحدًا من أبرز رموز الحركة العمالية.)

أدت الآثار النفسية للحرب ومعها المجهود الذهني الذي بذله أينشتاين في وضع النظرية النسبية العامة إلى إضعاف صحته التي كانت من الأساس غير مستقرة،١٧ إلى أن سقط عام ١٩١٧ مريضًا يعاني آلامًا أوشك جسده معها على الانهيار، وبلغ الضعف منه أنه لم يكن قادرًا على الخروج من شقته ونقص وزنه ٥٦ رطلًا في شهرين فقط، حتى إنه ظن أنه يحتضر من السرطان، لكن الأطباء شخصوا حالته واكتشفوا أنه يعاني قرحة في المعدة، فنصحوه بالراحة التامة وتغيير نظامه الغذائي. وخلال تلك الفترة لم تفارقه إلسا للحظة وظلت تمرضه وتعنى بغذائه حتى استرد عافيته كاملة، وكان من جراء هذا أن زاد أينشتاين قربًا منها ومن بناتها وخاصة بعدما انتقل للسكن في الشقة المجاورة لشقتهم.

وأخيرًا تم الزواج بينهما في يونيو حزيران من عام ١٩١٩، وبعدها صارت إلسا مسئولة عن تحويله من أستاذ عازب غير عابئ بمظهره إلى زوج أنيق اجتماعي، وربما كان هذا التحول بمنزلة إعداد له للتطور القادم الذي سيطرأ على حياته، والذي من خلاله سيلعب دورًا محوريًّا على مسرح الأحداث العالمية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤