الفصل الثامن

الحرب والسلام و ط = ك س٢

في ثلاثينيات القرن العشرين — والعالم يئن تحت وطأة الكساد العظيم — بدأت الفوضى تسيطر مرة أخرى على ألمانيا، وبعد أن انهارت العملة الألمانية، استيقظ أفراد الطبقة المتوسطة ذات صباح ليجدوا مدخراتهم قد تبخرت بين عشية وضحاها. شهدت تلك الفترة صعود الحزب النازي الذي استغل بؤس الشعب الألماني ومعاناته ونجح في توجيه غضبه نحو اليهود الذين كانوا أصلح من يمكن أن يستخدم ككبش فداء، ولم يمض وقت طويل حتى تمكن ذلك الحزب بدعم من بعض كبار رجال الصناعة من أن يصير أكبر قوة في البرلمان الألماني. وهنا أدرك أينشتاين الذي ظل سنوات طويلة يقاوم معادي السامية أن الوضع صار يمثل خطرًا على حياته، ومع أنه كان من أنصار السلام، فقد كان أيضًا واقعيًّا استطاع أن يعدل أفكاره في ظل الصعود المفاجئ للحزب النازي، وكتب: «يعني هذا أنني أعارض استخدام القوة تحت كل الظروف إلا في مواجهة عدو غايته الأساسية تدمير الحياة.»١ وفي مرحلة لاحقة وضعت مرونته الفكرية تلك على المحك.
صدر في ألمانيا عام ١٩٣١ كتاب بعنوان «مائة عالم يعارضون أينشتاين» One Hundred Authorities against Einstein وتضمن كل صور الافتراءات المعادية للسامية على ذلك الفيزيائي المشهور، وجاء فيه: «الهدف من هذا الكتاب هو مناهضة الإرهاب الفكري لأتباع أينشتاين وإظهار قوة معارضيهم.»٢ فيما بعد قال أينشتاين ساخرًا إنهم لا يحتاجون لمائة عالم كي يهدموا النسبية، فلو كانت خاطئة لكفتهم حجة واحدة صغيرة. وفي ديسمبر/كانون الأول عام ١٩٣٢ رحل أينشتاين نهائيًّا عن ألمانيا بعدما عجز عن مقاومة مد النازية، وعند مغادرته لبيته الريفي في كابوث قال لإلسا في حزن: «ألقي على هذا البيت النظرة الأخيرة فلن تعودي إليه أبدًا.»٣ وفي ٣٠ يناير/كانون الثاني عام ١٩٣٢ ازداد الوضع تدهورًا عندما استولى الحزب النازي آخر الأمر على السلطة بعد أن أصبح أكبر كتلة في البرلمان، وعُيِّن أدولف هتلر مستشارًا لألمانيا. ولم يتمهل النازيون فصادروا جميع أملاك أينشتاين وحسابه المصرفي وتركوه من الناحية الرسمية معدمًا، واستولوا على منزله الريفي بكابوث الذي كان يحبه جدًّا ويقضي فيه عطلاته بحجة أنهم وجدوا فيه سلاحًا خطيرًا (تبين فيما بعد أن هذا السلاح سكين لتقطيع الخبز، وخلال فترة حكم الرايخ الثالث استخدمت هذا البيت «عصبة الفتيات الألمانيات».) وفي ١٠ مايو/أيار من ذات العام أحرق النازيون بعض الكتب الممنوعة على الملأ، ومن بينها أعمال أينشتاين، بعدها كتب أينشتاين مخاطبًا الشعب البلجيكي الذي كان في حالة عداء مع ألمانيا: «لو كنت بلجيكيًّا لما رفضت تأدية الخدمة العسكرية في ظل الظروف الراهنة.»٤ وهو التصريح الذي تناقلته وسائل الإعلام العالمية بسرعة البرق وجلب عليه السخط، ليس من النازيين وحدهم، بل أيضًا من رفاقه دعاة السلام الذين كان معظمهم يؤمنون بأن الطرق السلمية هي القادرة وحدها على مواجهة هتلر، لكنه كان على عكسهم يدرك جيدًا مدى وحشية النظام النازي ولهذا فلم يثنه هذا النقد عن موقفه وكتب: «إن مناهضي الحرب صاروا يهاجمونني كما لو كنت مرتدًّا زنديقًا … إن هؤلاء الرفاق في الواقع يتعامون عن الحقيقة.»٥

بعد أن اضطر أينشتاين للرحيل عن ألمانيا عاد من جديد بلا وطن، حتى إنه حين زار إنجلترا عام ١٩٣٣ وعرج على ضيعة ونستون تشرشل كتب في سجل الزوار تحت خانة العنوان: «لا يوجد.» وصار أكثر حرصًا على أمنه الشخصي بعد أن صار يتصدر قائمة المغضوب عليهم من الحزب النازي، وخاصة بعد أن نشرت إحدى المجلات الألمانية قائمة بأعداء النظام ووضعت صورته على الغلاف وتحتها عبارة «لم يشنق بعد». أخذ أعداء السامية يتفاخرون بأنهم إذ أبعدوا أينشتاين من البلاد قادرون على طرد بقية العلماء اليهود، وفي الوقت نفسه أصدر النازيون قانونًا جديدًا يقضي بفصل جميع المسئولين اليهود، وهو ما كان وبالًا على الحركة الفيزيائية بألمانيا؛ ففي السنة الأولى اضطر تسعة من حائزي جائزة نوبل في الفيزياء إلى الرحيل عن ألمانيا بسبب قانون الخدمة المدنية الجديد، وفُصل ألف وسبعمائة من أعضاء هيئات التدريس بالجامعات من وظائفهم، فسبب هذا نزيفًا حادًّا في التقدم العلمي والتكنولوجي الألماني، إلى جانب أن الهجرة الجماعية التي شهدتها جميع أرجاء أوروبا تحت سيطرة النازيين أقصت عنها آخر الأمر صفوة علمائها.

لكن ماكس بلانك الذي كان طيلة حياته إنسانًا مسالمًا يسعى لتقريب وجهات النظر بدلًا من التناحر رفض جميع جهود زملائه لإقناعه بالجهر بمعارضته لهتلر، وفضل أن يستخدم قنواته الخاصة للحوار معه حتى إنه التقى به في مايو/أيار من عام ١٩٣٣، وفي هذا اللقاء قدم له التماسًا أخيرًا لأن يوقف انهيار الحركة العلمية بألمانيا. وعن هذا اللقاء كتب: «كنت آمل أن أستطيع إقناعه بأن ما يقوم به هو كارثة كبرى … فقلت له إنك بطردك لزملائنا اليهود تقوم بفعل لا إنساني ولا أخلاقي لأنك تضطهد أناسًا كانوا يعتبرون أنفسهم مواطنين ألمانًا، ولم يتوانوا كغيرهم من أبناء الشعب عن تقديم أرواحهم لأجل هذا البلد.»٦ لكن هتلر رد عليه بقوله إنه لا يضمر عداوة لليهود سوى أنهم شيوعيون، وعندما حاول بلانك أن يرد عليه صاح به قائلًا: «إن الناس تقول إن الضعف يتملك أعصابي أحيانًا، لكن الحقيقة أن أعصابي فولاذية.»٧ ثم خبط بكفه على ركبته واستكمل خطبته العصماء في هجاء اليهود، ندم بلانك على أنه قابله فقال: «لقد فشلت في فهم أنه لا سبيل للحوار مع مثل هؤلاء الناس.»٨
وكان من بين زملاء أينشتاين اليهود الذين هربوا من ألمانيا كي ينجوا بحياتهم ليو زيلارد Leo Szilard الذي أخفى جميع مدخراته في حذائه أثناء هروبه، وفريتز هابر الذي فر عام ١٩٣٣ إلى فلسطين (من سخرية القدر أنه بصفته عالمًا ألمانيًّا مخلصًا لبلده كان قد شارك في إنتاج غاز سام للجيش الألماني، وهو الغاز الذي اشتهر فيما بعد باسم زيكلون بي Zyklon B. وبعد ذلك استخدم هذا الغاز نفسه في قتل كثير من أفراد عائلته في معسكر أوشفيتز للاعتقال.) وخرج أيضًا إرفن شرودنجر — مع أنه لم يكن يهوديًّا — من ألمانيا بضغط من الهستيريا الجماعية التي أصابت شعبها؛ فعندما أعلن النازيون في ٣١ مارس/آذار من عام ١٩٣٣ المقاطعة الوطنية لجميع المتاجر اليهودية تصادف وجود شرودنجر أمام متجر فرتهايم Wertheim وهو واحد من أكبر المتاجر اليهودية في برلين، وفجأة وجد مجموعة من جنود الصاعقة ممن يرتدون شارات الصلبان النازية المعقوفة يجرون صاحب المتجر إلى الشارع ويوسعونه ضربًا وسط ضحكات رجال الشرطة والناس المتجمهرين، لم يتمالك شرودنجر نفسه من الغضب لمرأى ذلك المشهد، فذهب إلى أحد جنود الصاعقة وأخذ يصيح فيه موبخًا، فما كان من الجنود إلا أن تحولوا إليه وانقضوا عليه يضربونه. كان من الممكن أن يتعرض لإصابات بالغة من جراء هذا الضرب المبرح،٩ لولا أن تعرف عليه أحد الفيزيائيين الشباب وكان يرتدي هو الآخر الصليب المعقوف، فاستطاع أن يخرجه سالمًا من بينهم، لكن تلك الواقعة أحدثت صدعًا في نفس شرودنجر فرحل إلى إنجلترا ثم إلى أيرلندا.

وعام ١٩٤٣ احتل النازيون الدنمارك وأخذوا يبحثون عن بور، الذي كان يحمل دماء يهودية، لأنه كان من المطلوب إعدامهم، لكنه استطاع الفرار بشق الأنفس من رجال الجستابو عبر السويد التي كانت على الحياد، وطار منها إلى بريطانيا وكاد يهلك أثناء رحلته تلك بسبب فساد قناع الأكسجين الذي كان معه على الطائرة. أما بلانك الذي أبى عليه حسه الوطني أن يجعله يترك ألمانيا فقد عانى الويلات من النازيين بعد أن قُبض على ابنه لمحاولته اغتيال هتلر وعُذّب ثم أعدم بعد ذلك.

أصبح أينشتاين هاربًا من وطنه ومع ذلك فقد انهالت عليه عروض عمل من كبرى جامعات إنجلترا وإسبانيا وفرنسا، كل منها ترغب في ضم هذا العالم الفذ إلى صفوفها، لكن العرض الذي جذب أشد اهتمامه هو عرض من جامعة برنستون التي كان يعمل بها في السابق أستاذًا زائرًا، وكان دائمًا يقضي فصل الشتاء في برنستون وفصل الصيف في برلين. التقى أينشتاين أكثر من مرة بأبراهام فلكسنر Abraham Flexner الذي كان ممثلًا لمعهد جديد يزمع إنشاؤه في برنستون بمنحة قدرها خمسة ملايين دولار من مؤسسة بامبيرجر، وفي واحد من تلك اللقاءات عرض فلكسنر على أينشتاين أن يعمل في هذا المعهد، وكان أكثر ما راق أينشتاين في هذا العرض أنه يمنحه حرية السفر ويعفيه من واجبات التدريس، لأن التدريس كان يشغله عن البحث مع أنه كان محاضرًا ذا شعبية واسعة قادرًا على أن يسحر الجمهور بحديثه وحسه الدعابي الطاغي.
كانت هذه خطوة جريئة من أينشتاين حتى إن أحد زملائه حذره قائلًا إنك بانتقالك إلى الولايات المتحدة بشكل دائم تقتل نفسك، ولم يأت هذا التحذير من فراغ لأن الولايات المتحدة قبل أن يتوافد عليها العلماء اليهود كانت مياه العلم فيها راكدة ولم تكن بها معاهد للدراسات العليا قادرة على منافسة نظيراتها الأوروبية. لكن أينشتاين تمسك بقراره حتى إنه دافع عنه في خطاب أرسله لإليزابيث ملكة بلجيكا قال فيه: «إن برنستون بلد صغير وجميل … يمتلئ بتماثيل جميلة لأنصاف الآلهة. وبتجاهلي لبعض العادات الخاصة بها استطعت أن أهيئ لنفسي مناخًا مناسبًا للبحث بعيدًا عن أي مشتتات.»١٠ وسرعان ما طارت أنباء انتقال أينشتاين إلى الولايات المتحدة إلى جميع أنحاء العالم، وعلم الناس أن حبر الفيزياء الأعظم قد ترك أوروبا، وصار معهد الدراسات المتقدمة ببرنستون هو فاتيكان العلم.
عندما اصطحب مسئولو برنستون أينشتاين إلى حجرة مكتبه للمرة الأولى سألوه عما يحتاج بخلاف المكتب والكرسي فأجابهم: «أحتاج سلة مهملات كبيرة … كي ألقي فيها جميع أخطائي.»١١ (قدم المعهد عرضًا آخر إلى إرفن شرودنجر لكنه رفضه لأنه وجد مناخ أمريكا متحفظًا بعض الشيء، وهو الذي كان لا يذهب إلى أي مكان إلا بصحبة زوجته وعشيقته ويمارس «زواجًا مفتوحًا» مع قائمة طويلة من العشيقات.) تحمس الشعب الأمريكي كثيرًا لمقدم أينشتاين إلى نيو جيرسي ولم يلبث أن صار أشهر علماء الولايات المتحدة، ولم يعد فيها من يجهله حتى إن اثنين من الأوروبيين تراهنا على أنهما إذا ما بعثا خطابًا بلا عنوان كتبا عليه «الدكتور أينشتاين، أمريكا»١٢ سوف يصل له، وبالفعل وصل.
كانت فترة ثلاثينيات القرن العشرين هي الأقسى على أينشتاين على الصعيد الشخصي، ففيها تحققت أسوأ مخاوفه عندما أصيب ابنه إدوارد (وكان يناديه باسم التدليل تيديل) بانهيار عصبي بعد خروجه من علاقة حب فاشلة مع امرأة تكبره سنًّا، أدخل على إثره إلى مصحة برجوزلي النفسية في سويسرا، وهي ذات المصحة التي أودعت بها أخت ميليفا سابقًا، وهناك تم تأكيد إصابته بالفصام ولم يغادر المصحة لبقية حياته إلا لبعض الزيارات القصيرة. كان أينشتاين يتوقع منذ زمن بعيد أن أحد ابنيه سوف يرث مرضًا عقليًّا من زوجته ميليفا، وألقى باللوم على «الصفات الموروثة»،١٣ حتى إنه قال بأسى: «ظللت أرى المرض يتطور ببطء مذ كان تيديل طفلًا صغيرًا لكني لم أستطع إيقافه.»١٤ وعام ١٩٣٣ أصيب صديقه الحميم بول إرنفست الذي ساعده في وضع التصور الأولي للنسبية العامة باكتئاب، انتهى نهاية مأساوية بأن أطلق الرصاص على ابنه الصغير فقتله ثم انتحر.
ولم تتوقف المآسي عند هذا الحد فعام ١٩٣٦ توفيت إلسا بعد صراع طويل مع آلام المرض وبعد أن عاشت عشرين سنة مع أينشتاين، ولقد أثر موتها فيه أثرًا بالغًا وجعله «مصدومًا ومكتئبًا»١٥ على حد قول أصدقائه لأنه بموتها «انقطعت أكبر صلة كانت تربطه بأي إنسان على وجه الأرض»،١٦ لكنه بعد ذلك أخذ يتعافى من الصدمة تدريجيًّا. وعن هذا كتب: «لقد اعتدت الحياة هنا وصرت أعيش وحيدًا كالدب في عرينه … وهذه الوحدة زادت بموت رفيقة دربي التي كانت تجيد التعامل مع الناس أكثر مني.»١٧

وبعد وفاة إلسا عاش أينشتاين مع شقيقته مايا التي كانت قد هربت من النازيين، ومارجو ابنة زوجته الراحلة، وهيلين دوكاس سكرتيرته. في ذلك الوقت كان في بداية المرحلة الأخيرة من حياته فخلال الثلاثينات والأربعينات بدا عليه الكبر بشكل متسارع جدًّا وعاد إلى مظهره الرث البوهيمي الذي كان عليه في شبابه، وتخلى عن التأنق الذي كان يبهر به حتى الملوك، لأن إلسا كانت هي التي تعنى بهذا قبل أن تموت، وصار معروفًا بين العامة بأنه أستاذ برنستون ذو الشعر الأبيض الثائر وبمودته التي يغدقها على الجميع سواء كانوا ملوكًا أو أطفالًا.

لكن أينشتاين لم يملك ترف الراحة، فحينما كان في برنستون وجد أمامه تحديًا آخر يتمثل في بناء القنبلة الذرية. كان قد تنبأ عام ١٩٠٥ بأن نظريته سوف تستطيع تفسير قدرة كمية صغيرة من الراديوم على التوهج بشكل مبالغ فيه في الظلام وإطلاق ذراتها لكميات كبيرة من الطاقة دون حدود. والواقع أن كمية الطاقة الكامنة في نواة الذرة تبلغ مئات الملايين من أضعاف تلك الموجودة في الأسلحة الكيماوية. وبحلول عام ١٩٢٠ كان أينشتاين قد أدرك القدرات الهائلة للطاقة الكامنة في نواة الذرة وهو ما يلمس من كلامه حين كتب: «إنه من المحتمل، بل إنني أظنه من المحتوم، أن تظهر مصادر جديدة للطاقة أثرها أعظم من المصادر الحالية، لكن هذه الفكرة ليس هناك من الحقائق المعروفة لنا اليوم ما يدعمها. إنني لست ممن يتنبئون بالغيب لكنني أرى هذا ممكنًا الأيام القادمة.»١٨ بل إنه عام ١٩٢١ تنبأ بأن الفحم الذي كان يستخدم وقتها في توليد الطاقة التي يقوم عليها الاقتصاد الصناعي سوف تستبدل به الطاقة النووية. لكنه أدرك كذلك أن هذا الأمر ينطوي على مشكلتين خطيرتين؛ أولاهما أن تلك النيران الكونية يمكن أن تستخدم في تصنيع قنبلة ذرية قادرة على أن تجر على الإنسانية بلاء عظيمًا وعنها كتب: «إن هذه القنبلة ستجعل جميع القنابل الأخرى تبدو كلعب الأطفال جوارها.»١٩ وكتب أيضًا محذرًا من أن تلك القنبلة النووية يمكن أن تطلق العنان لإرهاب نووي أو حتى حرب نووية: «إذا افترضنا إمكانية التحكم في هذه الطاقة الهائلة، فحينها سوف نتحسر على عصرنا هذا الذي نعتبره اليوم عصرًا مظلمًا.»٢٠
أما عن المشكلة الثانية والأهم فتتمثل في الصعوبة الكبيرة التي ينطوي عليها إنتاج مثل هذا السلاح، بل إنه شكك في أن يحدث هذا خلال حياته لأن المشكلات العملية التي تعوق إطلاق الطاقة الكامنة في نواة الذرة ثم مضاعفتها مليارات المرات كانت تستعصي على الحل في ذلك الوقت من عشرينيات القرن العشرين، وعن هذا كتب: «إن صعوبة إنجاز هذا الأمر تماثل صعوبة إطلاق النار على طيور قليلة تطير في سماء مظلمة.»٢١
أدرك أينشتاين أن السبيل إلى هذا الأمر يتمثل في مضاعفة طاقة ذرة واحدة بوسيلة ما، فإذا استطعنا إخراج طاقة ذرة واحدة ثم تحفيز انطلاق طاقات الذرات المجاورة لها فهذا سيؤدي إلى تعظيم هذه الطاقة النووية. وقال إن هذا التفاعل التسلسلي يمكن أن يحدث إذا «كانت الأشعة المنطلقة … قابلة بدورها لإحداث تأثيرات مماثلة»٢٢ لكنه لم يكن يمتلك في ذلك الوقت أدنى فكرة عن كيفية حدوث هذا. وبالطبع كان هناك أناس آخرون اهتموا أشد الاهتمام بفكرة الطاقة الذرية لا لخير البشرية وإنما لأغراض شريرة؛ ففي شهر أبريل/نيسان من عام ١٩٢٤ خاطب بول هارتيك Paul Harteck وفلهلم جروث Wilhelm Groth القسم التشريعي بالجيش الألماني قائلين: «إن الدولة التي تسبق باستغلال هذه الطاقة سوف ترجح كفتها عن الدول الأخرى بما يفوق أي تصور.»٢٣
تتمثل المشكلة التي تعوق إطلاق الطاقة النووية فيما يأتي: تحوي نواة الذرة شحنة موجبة، وهو ما يجعلها تتنافر مع أي شحنة موجبة أخرى، أي أنها محمية ضد أي اصطدام عشوائي من شأنه أن يطلق تلك الطاقة التي هي نوعًا ما غير محدودة. كان إرنست رذرفورد، الذي ساهمت أبحاثه الرائدة في اكتشاف نواة الذرة، قد رفض فكرة القنبلة الذرية تمامًا وقال: «إن من يظن في إمكانية خروج طاقة من تحول هذه الذرات هو واهم ولا يعي ما يقول.»٢٤ لكن رأيه هذا انتفى بطريقة دراماتيكية عام ١٩٣٢ عندما اكتشف جيمس تشادويك James Chadwick جسيمًا جديدًا وهو النيوترون الذي يوجد مع البروتون في الذرات ذات الشحنة المحايدة. فإذا استطعنا أن نطلق شعاعًا نيوترونيًّا على النواة فستستطيع النيوترونات التي لن تصدها شحنة النواة الموجبة أن تخترقها مطلقة طاقتها، وهنا أدرك الفيزيائيون أن تلك النيوترونات قادرة بكل بساطة على أن تشطر الذرة وتنزع فتيل أي قنبلة ذرية.
ومع أن أينشتاين نفسه شكك في البداية في إمكانية تصنيع مثل هذه القنبلة فإن تقدمًا متسارعًا حدث في هذا المجال وأدى إلى نجاح الانشطار الذري، فعام ١٩٣٨ قام أحدث هان Otto Hanh وفريتز شتراسمان Fritz Strassmann الباحثان بمعهد القيصر فلهلم للفيزياء في برلين هزة كبيرة في الوسط الفيزيائي حينما نجحا في شطر ذرة يورانيوم. وبعد أن قذفا ذرة اليورانيوم بالنيوترونات وجدا آثارًا لعنصر الباريوم وهو ما يعني أن الذرة انشطرت إلى نصفين مكونة لهذا العنصر. ثم توصلت العالمة اليهودية ليز مايتنر Lise Meitner، التي كانت زميلة لهان، مع ابن أختها أوتو فريش Otto Frisch إلى الأسس النظرية التي كانت تنقص نتائج هان بعد أن فر ذلك أوتو من النازيين، وكان ما توصلا إليه هو أن المخلفات الناتجة عن عملية الانشطار تقل في الوزن عن نواة اليورانيوم السليمة وهو ما يعني أن هناك كتلة قد اختفت خلال التفاعل، ونتج عن ذات الانشطار إطلاق طاقة تقدر بمائتي مليون فولت إلكتروني ظهرت، كما يبدو، من العدم. وهنا برز السؤال: أين ذهبت تلك الكتلة المفقودة؟ ومن أين أتت تلك الطاقة الغامضة؟ أدركت مايتنر أن حل ذلك اللغز يكمن في معادلة أينشتاين الشهيرة: ط = ك س٢. فإذا أخذنا الكتلة المفقودة وضربناها في تربيع السرعة فسنخرج بمائتي مليون إلكترون بالضبط وهو ما يتوافق مع نظرية أينشتاين. عندما سمع بور عن ذلك التأكيد المدهش لنظرية أينشتاين أدرك على الفور أهمية هذه النتيجة وخبط جبهته بكفه قائلًا: «آه، لكم كنا حمقى.»٢٥
وفي مارس/آذار من عام ١٩٣٩ قال أينشتاين في حديثه لصحيفة نيويورك تايمز إن هذه النتائج حتى الآن «لا تقطع بإمكانية الاستخدام العملي للطاقة الذرية … لكن هذا لا يعني أن أي فيزيائي مهما كان قليل الهمة سوف يثنيه هذا عن البحث في هذا الموضوع المهم.»٢٦ والمفارقة أنه في ذات الشهر اكتشف إنريكو فيرمى Enrico Fermi وفريدريك جوليو كوري Frédéric Joliot-Curie (زوج ابنة ماري كوري) أنه ينجم عن انشطار ذرة اليورانيوم انطلاق نيوترونين. كان هذا الاكتشاف مذهلًا لأنه إذا نجح هذان النيوترونان في شطر ذرتي يورانيوم أخريين فسينتج عن هذا أربعة نيوترونات فثمانية فستة عشر فاثنان وثلاثون إلى ما لانهاية، حتى تنطلق طاقة تفوق الخيال في عظمها بتفاعل متسلسل، وخلال جزء واحد من الثانية يمكن لانشطار ذرة يورانيوم واحدة أن يحفز انشطار تريليونات تريليونات الذرات الأخرى مطلقًا كمية هائلة من الطاقة لا يتصورها عقل. بعد هذا الكشف وقف فيرمى متطلعًا من نافذة مكتبه بجامعة كولومبيا وأصابه الغم حين أدرك أن قنبلة نووية واحدة قادرة على تدمير كل ما يمتد إليه بصره من مدينة نيويورك.
بهذا بدأ سباق التسلح النووي، وعلى أثر هذا خشي زيلارد أن يسبق الألمان العالم في صناعة القنبلة الذرية خاصة وهم رواد الفيزياء الذرية، فتوجه ومعه يوجين ويجنر Eugene Wigner إلى مدينة لونج آيلاند لزيارة أينشتاين وهناك جعلوه يوقع على خطاب للرئيس روزفلت.
اعتبر هذا الخطاب واحدًا من أهم الوثائق في التاريخ ومما جاء في مقدمته: «إن بعض الأبحاث الحديثة التي أجراها إي فيرمى وإل زيلارد والتي وصلت مخطوطاتها إليّ تجعلني أعتقد أنه من الممكن في المستقبل القريب جدًّا أن يتم تحويل عنصر اليورانيوم إلى مصدر جديد ومهم للطاقة.»٢٧ وجاء في الخطاب أيضًا تحذير من أن هتلر قد احتل تشيكوسلوفاكيا وسيطر على مناجم المعادن السوداء في بوهيميا التي تعد مصدرًا خصبًا لخام اليورانيوم، وهو ما ينذر بخطر عظيم حيث إن «قنبلة واحدة من هذا النوع يحملها قارب وينفجر بها في ميناء من المواني قادرة على تدمير الميناء بأكمله وأجزاء من المنطقة المحيطة به، لكنها على الأرجح ستكون أثقل من أن يتسنى حملها جوًّا.» سُلِّم الخطاب إلى ألكزاندر ساكس مستشار روزفلت كي يوصله إلى الرئيس، وعندما سأل ساكس روزفلت عما إذا كان قد أدرك خطورة ما يحويه هذا الخطاب أجابه روزفلت: «إنه يا آلكس يشير إلى احتمال أن يدمرنا النازيون.» ثم استدار إلى الجنرال إي إم واتسون وقال له: «إن هذا يتطلب تحركًا سريعًا.»٢٨ وفي ذلك العام رُصدت ستة آلاف دولار فقط لإجراء أبحاث على اليورانيوم، لكن تلك الأبحاث تلقت دفعة قوية في خريف عام ١٩٤١ عندما وصل واشنطن تقرير فريش-بييرلز السري الذي جاء فيه أن بعض العلماء البريطانيين كانوا يجرون أبحاثًا مستقلة توصلوا إلى ذات النتائج التي توقعها أينشتاين، وفي السادس من ديسمبر/كانون الأول من عام ١٩٤١ تم البدء في مشروع مانهاتن الهندسي السري.
تجمع مئات من خيرة علماء العالم في سرية تامة تحت قيادة جيه روبرت أوبنهايمر، الذي سبق له أن أجرى أبحاثًا حول نظرية الثقوب السوداء لأينشتاين، ثم نُقلوا إلى لوس ألاموس الواقعة في صحراء نيومكسيكو. ولم يتردد علماء كبار من أمثال هانز بيته Hans Bethe وإنريكو فيرمى وإدوارد تيلر Edward Teller ويوجين ويجنر في القدوم من كبرى جامعات البلاد للمشاركة في هذا المشروع. (لكن لم يكن جميع العلماء مسرورين بهذا الاهتمام المتزايد بالقنبلة الذرية، فقد رفضت ليز مايتنر، التي كانت أبحاثها هي ما أطلقت الشرارة الأولى لهذا المشروع، أن يكون لها أي علاقة بتلك القنبلة. وكانت هي العالمة الوحيدة من معسكر الحلفاء التي رفضت تلبية النداء للاشتراك مع مجموعة لوس ألاموس وقالت بحسم: «لن يكون لي شأن بهذه القنبلة لا من قريب ولا من بعيد.»٢٩ وبعد هذا بسنوات عندما حاول كتاب هوليوود أن يحتفوا بها بأن أرادوا تجسيد شخصيتها في فيلم «بداية النهاية» The Beginning of the End وتصويرها على أنها المرأة التي قامت بعملية شجاعة لتهريب مخططات القنبلة أثناء هروبها من النازيين، ردت عليهم قائلة: «إنني أفضل أن أجول في برودواي عارية على أن أشترك في ذلك الخيال السفيه.»)٣٠
لاحظ أينشتاين أن جميع زملائه المقربين في برنستون صاروا يختفون فجأة ويتركون عنوانًا غامضًا ليردهم فيه بريدهم في سانتا في بنيومكسيكو، لكن أينشتاين نفسه لم يطلبه أحد للمشاركة في المشروع وظل طيلة فترة الحرب قابعًا في برنستون. عرف السبب في هذا من وثيقة سرية كُشِفَ عن فحواها في وقت لاحق كتب فيها فانفار بوش Vannevar Bush مستشار روزفلت: «لكم كنت أتمنى أن أضع جميع أوراق المشروع أمامه [يقصد أينشتاين] … لكن هذا تعذر جدًّا بسبب موقف رجال واشنطن منه بعد أن درسوا تاريخه.»٣١ فقد خلص رجال مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI ومعهم رجال مخابرات الجيش إلى أنه ليس شخصًا يمكن الوثوق به وجاء في تقريرهم: «لا ننصح بالتعامل مع الدكتور أينشتاين حفاظًا على سرية المهمة في ضوء ما عرفناه عن خلفيته الراديكالية، حيث لا يمكن التأكد إلا من خلال تحريات دقيقة من أن رجلًا بمثل هذه الخلفية يمكن أن يتحول إلى أمريكي مخلص في تلك الفترة الوجيزة.»٣٢ والواضح أن مسئولي مكتب التحقيقات الفيدرالية لم يكونوا يدركون أن أينشتاين كان على علم جيد بالمشروع بل إنه كذلك ساهم في تدشينه.
أظهر ملف أينشتاين السري ذو اﻟ ١٤٢٧ صفحة لدى مكتب التحقيقات الفيدرالية، الذي أفصح عن فحواه حديثًا، أن إدجار هوفر Edgar Hoover اتهمه بأنه عميل شيوعي أو نصاب على أقل تقدير. اهتم ذلك المكتب بجمع كل ما يتردد عن أينشتاين من شائعات وإيرادها في ملفه، لكن الغريب أنهم لم يواجهوه باتهاماتهم كما لو كانوا يخشونه واكتفوا بالتحقيق مع كل من يحيطون به ومضايقتهم، ولقد أدى هذا إلى أن صار مكتب التحقيقات الفيدرالية مستودعًا لمئات الخطابات الواردة من بعض المضطربين عقليًّا، ووصل الأمر إلى أنهم أوردوا في ملفه تقريرًا يفيد بأنه عاكف حاليًّا على اختراع أشعة قاتلة. غير أنه في مايو/أيار من عام ١٩٤٣ حدث أن استدعاه ملازم في البحرية وسأله عما إذا كان يرغب في العمل لحساب البحرية الأمريكية لتطوير أسلحة ومواد شديدة التفجير، جاء في تقرير هذا الملازم البحري: «لقد كان يشعر بكثير من الاستياء لأنه تم تجاهله ولم يطلب أحد مساهمته في المجهود الحربي.»٣٣ أما أينشتاين الذي كانت دعابته دومًا حاضرة فقد علق على هذا بقوله إنه انضم للبحرية دون أن يضطر لحلاقة رأسه.
كان الدافع وراء سعي الحلفاء المحموم لصناعة القنبلة الذرية هو خوفهم من أن ينجح الألمان في صناعتها قبلهم، لكن الواقع أن نظام التسليح الألماني في ذلك الوقت كان يعاني عجزًا في الأفراد والتمويل. تولى فيرنر هايزنبرج أعظم فيزيائي الكم الألمان قيادة فريق علمي مهمته تصنيع القنبلة الألمانية، لكن أعضاء هذا الفريق أدركوا عام ١٩٤٢ أن إنتاج هذه القنبلة يتطلب مجهودًا شاقًّا يستمر لثلاث سنين إضافية وهو ما دفع ألبرت شبير Alpert Speer، وزير الحربية في حكومة النازي، لأن يوقف العمل في هذا المشروع بشكل مؤقت، وهو الإجراء الذي اعتبر خطأ استراتيجيًّا كبيرًا لأن شبير ظن أن ألمانيا لن تحتاج تلك القنبلة بعد ثلاث سنين لأن الحرب ستكون قد انتهت بانتصارها، لكنه مع هذا استمر في تمويل أبحاث تتعلق بالغواصات النووية.

لكن هايزنبرج في ذلك الوقت كانت تشغله مشكلات أخرى غير التمويل، فقد أصدر هتلر قرارًا يقضي بالاستمرار في تصنيع الأسلحة التي تنتظر لها نتائج بعد ستة أشهر فقط والتوقف عن تصنيع غيرها وهو ما كان يعتبر مهلة مستحيلة. ومما زاد الطين بلة أن المعامل الألمانية ظلت تتعرض لهجمات قوات الحلفاء بشكل مستمر، حتى إنه حدث عام ١٩٤٢ أن هاجمت فرقة من قوات الكوماندوز مصنع الماء الثقيل الذي أقامه هايزنبرج في فيمورك بالنرويج. وكان الألمان قد تجاهلوا فكرة فيرمى لإنشاء مفاعل قائم على الكربون وبنوا بدلًا منه مفاعل ماء ثقيل يستخدم اليورانيوم المحايد وهو أكثر وفرة من يورانيوم ٢٣٥. وعام ١٩٤٣ تعرضت برلين لقصف شديد ومتوال من قوات الحلفاء مما دفع هايزنبرج لأن ينقل معمله من مكانه، ونُقل معهد القيصر فلهلم للفيزياء إلى تلال هتشنجن الواقعة جنوب شتوتجارت، واضطر هايزنبرج لأن يبني المفاعل الألماني في سفح جبل قرب هيجرلوك، لكنه تحت هذا القصف المتواصل لم يتمكن أبدًا من أن يستكمل أي تفاعل تسلسلي.

في تلك الآونة كان فريق مشروع مانهاتن يضخون كميات من البلوتونيوم واليورانيوم قادرة على إنتاج أربعة قنابل ذرية، وحسبوا الوقت المحدد لإطلاق القنبلة الأولى في آلاموجوردو بنيومكسيكو. ثم فُجِّرت القنبلة الأولى التي اعتمدت على البلوتنيوم-٢٣٩ في يوليو/تموز من عام ١٩٤٥. وبعد الانتصار الحاسم الذي حققه الحلفاء على النازيين رأى كثير من الفيزيائيين أن استخدام القنبلة الذرية ضد اليابان التي كانت العدو الوحيد الباقي ليس ضروريًّا على الإطلاق، ورأى فريق آخر أنه يجب تفجير قنبلة على جزيرة غير مأهولة بالسكان على مرأى من المسئولين اليابانيين كي يقتنعوا بأنه لا مفر من الاستسلام. وأرسل آخرون خطابًا للرئيس هاري ترومان يطالبونه بعدم إلقاء القنبلة على اليابان، لكن لسوء الحظ لم يصل هذا الخطاب أبدًا. وقدم جوزيف روثبلات Joseph Rothblatt وهو أحد العلماء الذين عملوا في المشروع استقالته مبينًا أن هذا المشروع انتهى ولا ينبغي أن تستخدم القنبلة الذرية ضد اليابان (فيما بعد نال هذا العالم جائزة نوبل للسلام).
لكن السهم كان قد نفذ واتخذ القرار بإلقاء قنبلتين نوويتين لا قنبلة واحدة على اليابان في أغسطس/آب من عام ١٩٤٥. كان أينشتاين وقتها يقضي عطلته في بحيرة سارناك بنيويورك. تروي هيلين دوكاس سكرتيرة أينشتاين عن تلك اللحظة قائلة: «سمعت عبر المذياع خبرًا يقول إن قنبلة من نوع جديد قد ألقيت على اليابان، وأدركت على الفور ماهية هذه القنبلة لأنني كنت على معرفة ما باكتشاف زيلارد … وحينما حضر البروفيسور أينشتاين في وقت تناول الشاي أخبرته ما حدث فقال: يا إلهي.»٣٤
وعام ١٩٤٦ ظهرت صورة أينشتاين على غلاف مجلة تايم وكان السبب في هذا ما أنذر به من أن كارثة نووية توشك على الوقوع،٣٥ وأدرك العالم فجأة أن الحرب العالمية القادمة التي ستكون الحرب الثالثة من نوعها ستكون أسلحتها ذرية. لكن أينشتاين علق على هذا قائلًا إن الحرب العالمية الرابعة ستستخدم فيها الحجارة لأن الحرب الثالثة ستعيد البشرية آلاف السنين إلى الوراء. وفي ذات العام عين أينشتاين رئيسًا للجنة الطارئة لعلماء الذرة، وهي أولى المنظمات المناهضة للحروب النووية وأكبرها. استغل أينشتاين موقعه هذا للتنديد بتصنيع المزيد من الأسلحة النووية والمناداة بالقضية التي طالما حلم بها وهي الحكومة العالمية.

لكن في خضم تلك العاصفة التي أطلقتها تلك القنابل النووية والهيدروجينية حرص أينشتاين على أن يحافظ على سلامه النفسي من خلال إصراره على العودة إلى الفيزياء. استمرت الأبحاث الفيزيائية الرائدة خلال فترة أربعينيات القرن العشرين في مجالات ساهم أينشتاين في إيجادها مثل علم الكون ونظرية المجالات الموحدة. وبعد أن انتهت الحرب قام بمحاولته الأخيرة ﻟ «قراءة أفكار الرب».

عقب انتهاء الحرب استمرت المراسلات بين أينشتاين وشرودنجر عبر الأطلسي، وكان هذان الأبوان المؤسسان لنظرية الكم هما الوحيدان اللذان ظلا يقاومان مد ميكانيكا الكم ويركزان جهودهما على فكرة التوحيد، وعام ١٩٤٦ كتب شرودنجر لأينشتاين: «إنك بصدد لعبة خطرة، فأنت كمن يصطاد الأسود في حين أتعامل أنا هنا مع الأرانب.»٣٦ لكن شرودنجر، بتشجيع من أينشتاين، استأنف بحثه المحموم عن نمط خاص لنظرية المجالات الموحدة يسمى: «نظرية المجالات الأفينية» Affine Field Theory، ولم يستغرق وقتًا طويلًا حتى انتهى من تلك النظرية وظن أنه حقق ما فشل فيه أينشتاين بأن وحد الضوء والجاذبية في نظرية واحدة، وقال إن هذه النظرية: «معجزة، ومنحة إلهية لم تكن متوقعة أبدًا.»
كان شرودنجر يشعر بأنه منعزل في أيرلندا عن الوسط الفيزيائي ويراه الناس مدير كلية كان ذات يوم علمًا من أعلام الفيزياء، لكنه بعد أن خرج بتلك النظرية تحمس لها جدًّا واعتقد أنها سوف تأتيه بجائزة نوبل ثانية، فلم يتمهل وعقد مؤتمرًا صحفيًّا واسعًا دعا إليه إيمون دي فاليرا Eamon De Valera رئيس الوزراء الأيرلندي وآخرين كي يستمعوا إلى ما لديه، وفي المؤتمر سأله أحد الصحفيين عن مدى ثقته بنظريته تلك فرد عليه: «إنني مؤمن بأنني على حق، بل إنني لو كنت مخطئًا فإنني أحمق كبير.»٣٧ لكن أينشتاين أدرك على الفور أن تلك النظرية نفسها قد نبذت قبل هذا بسنين، وهكذا ثبت فشل تلك النظرية الجديدة وهو ما دفع العالم الفيزيائي فريمان دايسون لأن يقول: «إن الطريق إلى نظرية المجالات الموحدة مفروش بجثث المحاولات الفاشلة.»
لكن هذا لم يثن أينشتاين عن مواصلة البحث عن نظرية المجالات الموحدة بمعزل عن الوسط الفيزيائي بأكمله. لم يجد أينشتاين مبدءًا فيزيائيًّا يهتدي به لتحقيق هدفه فحاول أن يجد الجمال والتناسق في معادلاته لأنهما المعياران الأساسيان لصحة النظريات، وكما قال العالم الرياضي جي إتش هاردي: «لا بد أن الأنماط الرياضية التي يستخدمها الرسامون والشعراء هي أنماط في غاية الجمال، إذ لا بد أن تتناغم الأفكار الرياضية كما تتناغم الألوان والكلمات لأن الجمال هو المعيار الأول للصحة ولا مكان للقبح في الرياضيات.»٣٨ أخذ أينشتاين يبحث عن مبدأ يهديه مثل مبدأ التكافؤ دون جدوى. كان دائمًا يأسى لأن باقي الفيزيائيين لا يرون العالم كما يراه هو لكن هذا لم يكن يشغله كثيرًا في السابق، أما الآن فقد صار هذا يضايقه للغاية وكتب عن هذا: «لقد صرت رجلًا عجوزًا وحيدًا يراه الناس ظاهرة غريبة لأنه لا يرتدي جوارب في قدميه. لكنني في مجال عملي صرت أكثر تعصبًا مما مضى ودائمًا يحدوني الأمل لحل معضلتي القديمة المتمثلة في إيجاد نظرية توحد المجالات الفيزيائية، وأشعر كما لو كنت في طائرة تحلق فوق السحب لكنها لا تستطيع العودة إلى الواقع، إلى الأرض.»٣٩
غير أن أينشتاين أدرك أنه بانشغاله في نظرية المجالات الموحدة وهجره لنظرية الكم يقصي نفسه عن المجال البحثي الأهم في المعهد الذي يعمل به كما قال: «لا بد أنني أبدو كالنعامة أدفن رأسي في النسبية حتى لا أواجه شرور نظرية الكم.»٤٠ وبدأ الفيزيائيون الآخرون يتهامسون فيما بينهم قائلين إنه صار متخلفًا عن عصره يعيش في الماضي، لكن هذا لم يضايقه كما جاء في قوله: «لقد صار الناس يظنوني كيانًا متحجرًا أصابته الشيخوخة بالعمى والصمم، وإنني لا أرى هذا أمرًا سيئًا بل إنه يتناسب مع مزاجي الحالي.»٤١
وعام ١٩٤٩ في ذكرى مولد أينشتاين السبعين أقيم احتفال كبير في المعهد تكريمًا له حضره لفيف من علماء الفيزياء أتوا ليكيلوا المديح لأعظم علماء زمانهم، وكي يساهموا بمقالات عنه لتنشر في كتاب معد لتكريمه، لكن ما بدا من لهجة المتحدثين وحواراتهم مع الصحفيين كان انتقادًا واضحًا لموقف أينشتاين من نظرية الكم، وهو الأمر الذي لم يعجب أنصاره، لكن أينشتاين نفسه لم يعترض وقابل الأمر بروح رياضية، ذكر أحد أصدقاء عائلة أينشتاين ويدعى توماس باكي Thomas Bucky أن: «أوبنهايمر سخر من أينشتاين في مقال نشر في إحدى المجلات بعبارات من قبيل: إنه «رجل عجوز»، و«لم يعد أحد اليوم يصغي إليه» وقد جعلنا هذا المقال في قمة الغضب لكن أينشتاين نفسه لم يغضب على الإطلاق وإنما لم يصدق ما جاء فيه. وفي وقت لاحق نفى أوبنهايمر أن يكون قد قال هذا.»٤٢
كان هذا هو ديدن أينشتاين في تجاهله لمنتقديه حتى إنه حين صدر الكتاب الذي أعد لتكريمه قال عنه متهكمًا: «إنه ليس كتابًا تذكاريًّا بل عريضة اتهام.»٤٣ كانت حكمة أينشتاين تجعله يدرك أن الأفكار الجديدة لا بد أن تحارب كي تلقى قبولًا من الناس، وأدرك أيضًا أنه لم يعد قادرًا على الإنتاج الفكري كما كان في شبابه وهو ما عبر عنه بقوله: «إن المرء لا يأتي بأي شيء جديد إلا في شبابه لأنه عندما يتقدم في السن يصير أكثر خبرة وأكثر شهرة وحماقة.»٤٤
لكن ما دفعه للاستمرار هو ما وجده من دلائل كثيرة تشير إلى أن التوحيد واحد من أهم القوانين الكونية، وعن هذا كتب: «ترينا الطبيعة ذيل الأسد فحسب، لكني لا أشك في انتمائه إليها على الرغم من أنه لا يُظهر نفسه كاملَا بسبب ضخامة حجمه.»٤٥ وفي كل صباح كان أينشتاين يسأل نفسه حين يستيقظ سؤالًا بسيطًا: إذا كنت الرب فبأي طريقة ستخلق الكون؟ بل إنه حينما تفكر في القوانين الكونية الملزمة سأل نفسه سؤالًا آخر وهو: هل تسنى للرب اختيار تلك الطريقة؟ وكلما تأمل في الكون رأى الدلائل على أن التوحيد هو القانون الطبيعي الأعظم، وأنه لا يمكن أن يكون الرب قد خلق كونًا به كيانات مثل الجاذبية والكهرباء والمغناطيسية منفصلة بعضها عن بعض، وكان يوقن أن ما ينقصه هو مبدأ مرشد أو صورة فيزيائية تهديه الطريق إلى نظرية المجالات الموحدة، لكنها لم تأته أبدًا.
عندما اكتشف أينشتاين النسبية الخاصة تخيل نفسه وهو ابن ستة عشر ربيعًا يعدو بجانب شعاع ضوء، وعندما اكتشف النسبية العامة راودته صورته وهو يميل بكرسيه إلى الخلف حتى يكاد يسقط، وصورة أخرى لبلي يتدحرج على سطح منحني، لكنه في نظرية المجالات الموحدة لم يجد أي صورة من هذا النوع ترشده. كانت هناك عبارة يشتهر أينشتاين بها وهي: «إن الرب ذكي لكنه ليس ماكرًا.»٤٦ لكنه بعد أن قضى عقودًا يصارع فكرة نظرية المجالات الموحدة دون جدوى قال لمساعده: «لقد غيرت رأيي، فعلى ما يبدو أن الرب ماكر.»٤٧
مع أن البحث عن نظرية المجالات الموحدة اعتبر أصعب مشكلة واجهت علم الفيزياء فإنه كان له سحر من نوع خاص أغرى كثيرًا من الفيزيائيين بخوض غماره، بل إن فولفجانج باولي — الذي كان أشد منتقدي تلك النظرية — انتقلت له تلك العدوى في النهاية وانشغل في أواخر خمسينيات القرن العشرين، ومعه هايزنبرج، في محاولة الخروج بنظرية مجالات موحدة جديدة زعموا قدرتها على حل المشكلات التي واجهت أينشتاين لنحو ثلاثين سنة. وعن هذا كتب بايس: «انشغل هايزنبرج منذ عام ١٩٥٤ وحتى وفاته (عام ١٩٧٦) في محاولة استخلاص جميع قوانين فيزياء الجسيمات من معادلة موجية لا خطية واحدة.» وعام ١٩٥٨ زار باولي جامعة كولومبيا وألقى بها محاضرة شرح فيها نظرية باولي-هايزنبرج الجديدة للمجالات الموحدة.٤٨ غني عن القول أن الحضور تشككوا فيها حتى إن نيلز بور الذي كان حاضرًا نهض وقال له: «إننا جميعًا متفقون على أن هذه نظرية مجنونة، لكننا مختلفون حول مدى جنونها.»٤٩
علق الفيزيائي جيريمي بيرنشتاين على هذا الجدال بين العالمين قائلًا: «كان هذا أشبه بلقاء السحاب بين عملاقين من عمالقة الفيزياء الحديثة، ولم أدر هل غير الفيزيائيين سيفهمون ما يقولان.»٥٠ لكن باولي أدرك في النهاية أن نظريته يعتريها أخطاء كثيرة، أما مساعدوه فقد أصروا على الاستمرار في الترويج لنظريتهم غير عابئين برأيه، فكتب باولي لهايزنبرج خطابًا أرفق به ورقة بيضاء وقال له لو كانت تلك النظرية بالفعل صحيحة فإن هذه الورقة البيضاء لوحة من لوحات الرسام العالمي تيتيان Titian.

ومع أن التقدم في نظرية المجالات الموحدة كان بطيئًا وشاقًّا فإنه حدثت فتوح علمية كثيرة في مجال الفيزياء أبقت على أينشتاين منشغلًا، وكان من بين أكثرها غرابة آلات الزمن.

رأى نيوتن أن الزمن كالسهم المنطلق ما إن يخرج من قوسه حتى يسير في خط مستقيم لا يحيد عنه أبدًا، والزمن مفهوم مطلق وموحد يسير بنفس السرعة في جميع أرجاء الكون؛ فالثانية على الأرض هي بذات طول الثانية في الفضاء الخارجي، والأحداث أيضًا يمكن أن تقع بشكل متوازٍ في الكون. لكن أينشتاين عارض هذه الأفكار وأتى بمفهوم الزمن النسبي الذي ينص على أن الثانية على الأرض تختلف عنها على القمر؛ فالزمن يشبه نهرًا متعرجًا يشق طريقه بين الكواكب والنجوم ويبطئ حين يمر بجوار الأجرام السماوية، من هذه الفكرة برز سؤال طرحه العالم الرياضي كيرت جوديل Kurt Gödel عما إذا كان من الممكن أن تظهر دوامات في هذا النهر تدفعه لأن يرتد في عكس اتجاهه، أو تجعله يتفرع إلى نهرين خالقًا عالمًا موازيًا، كان جوديل زميلًا لأينشتاين في ذات المعهد، وكان البعض يرونه أعظم علماء المنطق الرياضي في القرن العشرين، وعام ١٩٤٩ أثبت أن معادلات أينشتاين تعني أن السفر عبر الزمن ممكن وهو ما جعل أينشتاين مضطرًّا لأن يجيب على هذا السؤال؛ افترض جوديل وجود كون مملوء بالغاز وآخذ في الدوران، إذا انطلق أحدهم بسفينة صاروخية في مدار حول كون بأكمله فإنه يستطيع أن يصل إلى نقطة انطلاقه حتى قبل أن ينطلق. بعبارة أخرى نقول إن السفر عبر الزمن ظاهرة طبيعية في الكون الذي افترضه جوديل حيث يستطيع المرء العودة في الزمن بشكل منتظم خلال دورانه حول الكون.

كان مما أصاب أينشتاين بارتباك شديد أنه كلما حاول الناس إيجاد حلول لمعادلاته توافقت مع فكرة السفر عبر الزمن؛ فظواهر مثل الحضيض الشمسي والانزياح الأحمر وانحناء ضوء النجوم وجاذبية النجوم كلها تتوافق مع تلك الفكرة أشد ما يكون التوافق، لكن هذه المعادلات في الوقت نفسه تناقض كل ما نعرفه عن الزمن، فلو كان السفر عبر الزمن ممكنًا لما أمكن كتابة التاريخ؛ فالزمن الماضي يشبه الرمال المتحركة يمكن أن يتغير إذا أتاه أحد عن طريق آلة الزمن. بل إن الأنكى من هذا أن هذا التناقض يمكن أن يعني نهاية العالم، فمن الممكن بمقتضاه أن يسافر أحدهم إلى الزمن الماضي ويقتل أبويه قبل أن ينجباه، وهو الأمر الذي يحوي مشكلة منطقية كبيرة؛ إذ كيف ولد هو من الأساس إذا كان أبواه ماتا قبل أن ينجباه؟!

كانت فكرة آلات الزمن تخرق قانون السببية الذي هو من أهم القوانين التي تعتمدها الفيزياء، ومخالفة السببية هي ذاتها التي جعلت أينشتاين يرفض نظرية الكم التي استبدلت بها الاحتمالية. والآن يحاول جوديل أن يبطل مبدأ السببية على إطلاقه، لكن أينشتاين بعد تدبر ممعن للأمر رفض حل جوديل معللًا هذا بأنه لا يتوافق مع الحقائق الملاحظة التي تنص على أن الكون لا يدور وإنما يتمدد، وهو ما يعني أن السفر عبر الزمن غير ممكن، أو على الأقل استنادًا إلى البيانات المتاحة في الوقت الحاضر. لكن قول أينشتاين هذا لم ينف احتمالية دوران الكون بدلًا من تمدده، وهو ما سيجعل السفر عبر الزمن أمرًا معتادًا، لكن الأمر سيستغرق نحو خمسين سنة قبل أن يعود مفهوم السفر عبر الزمن إلى الظهور مرة أخرى ويصير هدفًا لبحث ميداني كبير.

مثلت فترة أربعينيات القرن العشرين فترة مضطربة في مجال العلوم الكونية. وكان جورج جامو George Gamow الذي كان الوسيط بين أينشتاين والبحرية الأمريكية غير مهتم بتصنيع المتفجرات قدر اهتمامه بالانفجار الأعظم على الإطلاق: الانفجار الكبير. أخذ جامو يفكر في بعض المسائل التي استنتجها من نظرية الانفجار الكبير التي من الممكن أن تقلب علم الكون رأسًا على عقب، وخمن أنه إذا كان الكون قد وُلد بانفجار ناري فمن الممكن تتبع آثار الحرارة المتخلفة عن ذلك الانفجار، أي أنه لا بد أن يكون هناك «صدى لخلق الكون» باق منذ حدوث الانفجار الكبير. اعتمد جامو على أبحاث بولتزمان وبلانك اللذين أكدا وجود علاقة ارتباط بين حرارة الجسم ولونه بما أن كليهما شكلان مختلفان من أشكال الطاقة؛ فمثلًا إذا كان لون الجسم أحمر فهذا يعني أن درجة حرارته ثلاثة آلاف درجة مئوية تقريبًا، أما إذا كان الجسم أصفر (كما هو لون الشمس) فإن حرارته تقدر تقريبيًّا بستة آلاف درجة مئوية (وهي درجة حرارة سطح الشمس فقط). وبالمثل يمكننا أن نتوصل إلى العلاقة بين دفء أجسادنا ولونها وهو ما يرتبط بما ينبعث منها من الأشعة تحت الحمراء. (وهذه هي الفكرة التي تعمل وفقها مناظير الجيش الليلية فهي ترصد انبعاث الأشعة تحت الحمراء من أجسادنا الدافئة.) وافترض اثنان من أفراد فريق جامو هما روبرت هرمان Robert Herman ورالف ألفر Ralph Alpher أنه إذا كان الانفجار الكبير قد حدث منذ مليارات السنين فإن الحرارة المتخلفة تقدر بخمس درجات فوق الصفر المطلق، وهو التقدير الذي كان قريبًا جدًّا من القيمة الحقيقية التي هي قيمة إشعاع الموجة الصغرى Microwave Radiation مما يعني أن «لون الكون وقت خلقه» هو إشعاع الموجة الصغرى. (تم اكتشاف إشعاع الموجة الصغرى بعد مرور عشرات السنين على أبحاث جامو وقدر بدرجتين وسبع من عشرة فوق الصفر المطلق. وقد كان من شأن هذا الاكتشاف أن أحدث ثورة في مجال علم الكون.)

مع أن أينشتاين كان منعزلًا قليلًا في برنستون فإنه عاش حتى رأى نسبيته العامة تفتح آفاقًا جديدة ومجالات خصبة للبحث في علم الكون، والثقوب السوداء وموجات الجاذبية ومجالات أخرى عديدة، غير أن آخر سنوات حياته سيطر عليها الحزن؛ ففي عام ١٩٤٨ تلقى خبر موت ميليفا بعد أن ظلت لوقت طويل تقاسي متاعب العناية بابنهما المريض عقليًّا وكان سبب وفاتها سكتة دماغية أصابتها أثناء تعرض ابنها إدوارد لنوبة غضب. (فيما بعد عثر على خمسة وثمانين ألف فرانك مخبأة في فراشها وتبين أنها آخر ما تبقى من النقود التي كانت تحصلها من شقق زيوريخ وكانت توفي بها الاحتياجات الطبية المزمنة لابنها المريض.) ثم توفيت أخته مايا الحبيبة إلى قلبه عام ١٩٥١.

وعام ١٩٥٢ مات حاييم فايتزمان الذي رتب زيارته المظفرة إلى الولايات المتحدة عام ١٩٢١ وجاءت وفاته بعد أن تولى منصب الرئيس الإسرائيلي. ودون توقع منه جاءه عرض مفاجئ من رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن جوريون David Ben-Gurion يعرض عليه أن يتولى منصب الرئيس الذي خلا بموت فايتزمان، لكنه اضطر لأن يرفض ذلك المنصب برغم ما فيه من تشريف.
وعام ١٩٥٥ تلقى خبر موت ميكيلي بيسو الذي كان قد ساعده في تنقيح النسبية الخاصة، فكتب خطابًا مؤثرًا إلى ابنه جاء فيه: «إن أكثر ما أثار إعجابي في ميكيلي هو أنه استطاع أن يعيش لسنوات طويلة مع امرأة واحدة في سلام وفي توحد دائم معها وهو الأمر الذي فشلت في تحقيقه مرتين … ولهذا فإنه بتركه هذا العالم قد سبقني مرة أخرى بخطوة. إن من يؤمنون بالفيزياء مثلي ومثله لا يرون الفراق منطقيًّا، ففي الفيزياء لا ينفصل الماضي والحاضر والمستقبل عن بعض بل هم وحدة متماسكة.»٥١
وفي ذات العام تدهورت صحته كثيرًا حتى إنه قال: «إن إطالة الحياة بطرق صناعية لأمر ممل، إنني قد أديت دوري في الحياة وآن أوان الرحيل. وخير لي أن أرحل بهدوء.»٥٢ توفي أينشتاين في الثامن من أبريل/نيسان من عام ١٩٥٥ بانفجار مخي. وعقب وفاته نشر رسام الكاريكاتير هربلوك Herblock رسمًا في صحيفة واشنطن بوست تظهر صورة للأرض من الفضاء الخارجي تبرز منها لافتة عملاقة كتب عليها: «هنا عاش ألبرت أينشتاين.» وفي ليلة الوفاة تناقلت صحف في جميع أنحاء العالم صورة لمكتب أينشتاين وعليه مخطوطة لأعظم نظرياته التي لم تتم، نظرية المجالات الموحدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤