الفصل التاسع

نبوءات أينشتاين

معظم من أرخوا لسيرة أينشتاين تجاهلوا الثلاثين عامًا الأخيرة من حياته لأنهم اعتبروها فترة محرجة لا تليق بعبقري مثله، بل هي وصمة في تاريخه العلمي الناصع، غير أن التقدم العلمي الذي حدث في العقود القليلة الأخيرة جعلنا ننظر نظرة مختلفة تمامًا للتركة التي خلفها لنا أينشتاين. ولأن أبحاث أينشتاين غيرت وجه المعرفة الإنسانية تمامًا فقد استمر صدى هذه الأبحاث يتردد فترة طويلة في الأوساط الفيزيائية، وبدأت كثير من البذور التي غرسها أينشتاين قديمًا تنمو في القرن الحادي والعشرين، وهذا مرده في الأساس إلى أن ما صرنا نملك الآن من أدوات كالتلسكوبات الفضائية، وأشعة الليزر، ومراصد الفضاء التي تعمل بالأشعة السينية؛ قادرة على تأكيد عدد كبير من نبوءاته التي بشر بها منذ عشرات السنين.

بل إن العلماء اليوم لا يزالون يقتاتون على فتات مائدة أينشتاين ويحصدون بها جوائز نوبل. والأكثر من هذا أنه بظهور نظرية الأوتار الفائقة صار مفهوم التوحيد — الذي طالما جلب على أينشتاين سخرية واستخفافًا — يحتل مركز الصدارة في الفيزياء النظرية. في هذا الفصل نناقش ما طرأ من تقدم في ثلاث مجالات لا يزال تراث أينشتاين مهيمنًا فيها على عالم الفيزياء وهي: نظرية الكم، والنسبية العامة وأثرها على النظام الكوني، ونظرية المجال الموحد.

حينما أعد أينشتاين بحثه عن مكثف بوس-أينشتاين عام ١٩٢٤ لم يكن يصدق أنه يمكن أن تكتشف تلك الظاهرة الغريبة في الغد القريب لأنها تتطلب تبريد المادة لدرجة تقترب من الصفر المطلق حتى تتحول الحالات الكمية جميعها إلى ذرة فائقة عملاقة.

عام ١٩٩٥ تمكن إريك إيه كورنيل Eric A. Cornell الباحث بالمعهد القومي للمعايير والتكنولوجيا، ومعه كارل إي وايمان Carl E. Weiman الباحث بجامعة كولورادو من إنتاج مكثف بوس-أينشتاين خالص لألفي ذرة روبيديوم عند درجة حرارة ٢ × ١٠−٨ فوق الصفر المطلق. وأنتج فولفجانج كيترلي Wolfgang Ketterle الباحث بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا هذه المكثفات ذاتها بعدد من ذرات الصوديوم يكفي لإجراء التجارب المهمة عليها، كإثبات أن أنماط تداخل هذه الذرات تتفق مع أنماط تداخل الذرات المرتبطة بروابط تناسقية؛ أي أنها تسلك سلوك الذرة الفائقة التي تنبأ بها أينشتاين منذ سبعين سنة.

ومنذ الإعلان عن هذا الكشف الجديد لأول مرة توالت الاكتشافات في هذا المجال بسرعة كبيرة؛ فعام ١٩٩٧ صنع كيترلي وزملاؤه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أول «ليزر ذري» في العالم باستخدام مكثفات بوس-أينشتاين. إن ما يكسب ضوء الليزر خواصه الفريدة هو أن الفوتونات تسير فيه بتناغم وانتظام بعضها مع بعض، في حين تسير في أشعة الضوء العادية بفوضى واضطراب. ولما كان للمادة هي الأخرى خصائص موجية فقد افترض الفيزيائيون أنه يمكن جعل أشعة من الذرات تنتظم كما تنتظم أشعة الليزر، ولم يعقهم عن التقدم في هذا الاتجاه إلا عدم وجود مكثفات بوس-أينشتاين. وحقق هؤلاء الفيزيائيون المعجزة عن طريق تبريد مجموعة من الذرات حتى تكثفت، ثم سلطوا عليها شعاع ليزر جعلها تنتظم في حزمة متناسقة.

وعام ٢٠٠١ مُنح كورنيل ووايمان وكيترلي جائزة نوبل في الفيزياء، وفي حيثيات منح الجائزة كتبت لجنة نوبل أنهم منحوها: «لتوصلهم إلى تخليق مكثف بوس-أينشتاين في الغازات المخففة لذرات الفلزات القلوية، ولدراساتهم الرائدة حول خصائص المكثفات.» واليوم بدأنا ندرك التطبيقات العملية لمكثفات بوس-أينشتاين، فالمرجح أن أشعة الليزر الذرية تلك سوف يكون لها قيمة كبيرة في المستقبل عندما تطبق على تكنولوجيا النانو، فقد تسمح بالتعامل مع الذرات المنفردة، وتخليق طبقات ذرية رقيقة لاستخدامها في أشباه الموصلات في أجهزة الحاسب الآلي في المستقبل.

وبخلاف هذا تنبأ بعض الفيزيائيين بأننا سنتمكن في المستقبل من إنتاج أجهزة حاسب آلي كمية (وهي أجهزة تحسب الذرات منفردة) تصنع من مكثفات بوس-أينشتاين، ويمكن أن تستبدل بها الأجهزة الحالية المصنعة من دوائر السيليكون، بل إن بعضهم قال إن المادة السوداء قد تكون مؤلفة من مكثفات بوس-أينشتاين، وإذا صح هذا فإنه يعني أن تلك الحالة المادية الغريبة تكوّن معظم الكون.

ساهمت أفكار أينشتاين المتعلقة بنظرية الكم في أن جعلت فيزيائيي الكم يعيدون النظر في تفسير مدرسة كوبنهاجن لها وهو التفسير الذي كانوا هم من أنصاره؛ ففي الماضي إبان عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين كان أتباع تلك المدرسة قادرين على السخرية من أينشتاين وتجاهل أفكاره تمامًا لأنه في كل يوم تقريبًا كانت تظهر اكتشافات جديدة تؤكد نظريتهم، ولم يشغل أي من الفيزيائيين وقته في تأمل أسس نظرية الكم لأنهم كانوا مشغولين في حصد جوائز نوبل التي صارت تقتطف كما يقتطف التفاح من فوق الشجر. وانشغلوا كذلك في مئات التطبيقات الأخرى على هذه النظرية والمتعلقة بخصائص المعادن والموصلات أحادية الاتجاه والسوائل والبلورات وتطبيقات أخرى من شأن كل منها أن يقيم صناعة جديدة مستقلة بذاتها. ولهذا فقد اعتاد الفيزيائيون على اتباع مذهب كوبنهاجن تلقائيًّا والتغاضي عن جميع الأسئلة الفلسفية العميقة التي لم تجب عنها النظرية وتناسوا جدال بور-أينشتاين الشهير. أما اليوم فقد ظهرت إجابات للكثير من الأسئلة «السهلة» المتعلقة بالمادة في حين ظلت الأسئلة الأكثر صعوبة بدون إجابة. بل إنه عُقدت مؤتمرات دولية كثيرة لمحاولة إيجاد حل لمشكلة قطة شرودنجر التي أشرنا إليها في الفصل السابع، لأنها لم تعد مشكلة أكاديمية فقط بعد أن صار بمقدور الفيزيائيين التجريبيين أن يتحكموا في الذرات المفردة، وبالتالي صار مستقبل تكنولوجيا الحاسب الآلي الذي يقوم عليه قسم كبير من ثروة العالم يعتمد على حل تلك المشكلة لأن الحواسب الآلية ستصنع في المستقبل من ترانزستورات مكونة من ذرات منفردة.

واليوم صار حل مدرسة كوبنهاجن لهذه النظرية هو الأبعد والأقل قبولًا بين جميع الحلول الأخرى برغم أنه لم يتوفر بعد دليل تجريبي يحيد عن تفسير بور الأساسي، تفترض مدرسة كوبنهاجن أن هناك «جدارًا» يفصل العالم المنطقي المحسوس الذي نراه حولنا يمتلئ بالأشجار والجبال والبشر عن العالم اللامنطقي الغامض الذي لا يرى بالعين المجردة والمكون من وحدات الكم والموجات، وفي ذلك العالم الأخير توجد الجسيمات في حالة سفلية بين الوجود والعدم. لكننا نعيش على الجانب الآخر من الجدار حيث انخسفت جميع وظائف الموجات فصار عالمنا المرئي محدودًا وواضحًا، بعبارة أخرى نقول إن هناك جدارًا يفصل المُراقِب عما يُراقِب.

لكن بعض الفيزيائيين من أمثال يوجين ويجنر الحاصل على جائزة نوبل لم يتوقفوا عند هذا الحد فقد أكد ويجنر أن العنصر الأساسي للمراقبة هو الإدراك، فمراقبة القطة تستلزم مراقبًا مدركًا، لكن السؤال هنا هو من يراقب هذا المراقِب؟ فلا بد أن يكون للمراقِب شخص آخر يراقبه (يسمى صديق ويجنر) كي يتأكد من أن المراقِب على قيد الحياة، لكن هذا يعني أننا نحتاج سلسلة غير محدودة من المراقبين كل منهم يراقب الآخر كي يتأكد من أنه حي وفي حالة جيدة. رأى ويجنر أن هذا يعني وجود إدراك كوني يحدد طبيعة الكون نفسه وقال عن هذا: «إن دراسة العالم الخارجي أفضت إلى نتيجة تفيد بأن الإدراك ينطوي على الحقيقة المطلقة.»١ رأى البعض أن هذه الحقيقة تثبت وجود الرب لأنه هو الذي يدرك الكون، أو أنها تثبت أن الكون في حد ذاته يدرك نفسه، وكما قال بلانك سابقًا: «إن العلم لا يستطيع حل لغز الطبيعة المطلق لأننا نحن جزء من ذلك اللغز الذي نحاول حله.»٢
وعلى مر السنين ظهرت رؤى مختلفة لهذه المسألة، فعام ١٩٥٧ تقدم هيو إفريت Hugh Everett، وكان وقتها طالب دراسات عليا يتتلمذ على يد جون ويلر، بحل لمشكلة القطة اعتبر الأكثر راديكالية بين جميع الحلول الأخرى وتمثل في نظرية «العوالم المتعددة» Many Worlds التي تنص على أن جميع الأكوان الممكنة توجد متوازية بعضها مع بعض، وفي إطار هذه النظرية تكون القطة حية وميتة في نفس الوقت لأن الكون نفسه انقسم إلى كونين. لكن هذه الفكرة تنطوي على دلالات مثيرة للبلبلة لأنها تعني أن الكون يتشعب في كل لحظة كمية منتجًا عددًا لا محدودًا من الأكوان الكمية. في البداية تحمس ويلر لذلك الحل الذي أتى به تلميذه لكنه نبذه في النهاية لأنه رآه يحمل الكثير من «الميتافيزيقا» على حد قوله. للتوضيح دعنا نتخيل أن شعاعًا كونيًّا اخترق رحم أم وينستون تشرتشل فجعلها تسقطه جنينًا. فهذا يعني أن حدثًا كونيًّا فصلنا عن كون آخر لم يعش به تشرشل كي يعبئ إنجلترا وحلفاءها ضد قوات أدولف هتلر الغاشمة، وفي ذاك الكون الموازي يمكن أن يكون النازيون قد انتصروا في الحرب العالمية الثانية واستعبدوا معظم العالم. أو دعنا نتخيل كونًا هبت به رياح شمسية وقامت مدفوعة، بأحداث كمية، بإخراج مذنب أو شهاب عن مساره منذ خمسة وستين مليون عام فلم يضرب شبه جزيرة يوكاتان في المكسيك ولم يقض على الديناصورات. في ذلك الكون الموازي لن تظهر الحياة البشرية على الأرض وستعج مانهاتن، التي أقطنها، بالديناصورات الهائجة.
جعلت هذه المسألة كثيرًا من العقول تدور وهي تتفكر في جميع الأكوان الممكنة، لكن بعد كثير من الجدل العقيم الذي استمر لعقود طويلة حول تفسيرات متعددة لنظرية الكم توصل جون بيل John Bell الفيزيائي بالمعمل النووي في المركز الأوروبي للأبحاث النووية CERN في جنيف بسويسرا إلى فكرة تجربة لها القدرة على إثبات انتقادات أينشتاين للنظرية أو نفيها. مثلت هذه الفكرة اختبارًا حاسمًا مكن بيل — الذي كان مدركًا لأهمية الأسئلة الفلسفية التي طرحها أينشتاين منذ سنين — من وضع إجابات تحل هذه القضية.٣ (ارتكزت نظرية بيل على إعادة النظر في التغير الذي تنطوي عليه تجربة اﻟ EPR القديمة وتحليل الارتباط بين الجسيمين المنطلقين في اتجاهين متعارضين.) لكن أول تجربة ناجحة في هذا المجال أجراها آلان آسبكت Alain Aspect الباحث بجامعة باريس عام ١٩٨٣ وأثبتت الرأي القائم على ميكانيكا الكم داحضة انتقادات أينشتاين.
لكن إذا كانت انتقادات أينشتاين خاطئة فأي مذاهب الكم المتعددة هو الصحيح؟ يؤمن فيزيائيون كثيرون اليوم أن مذهب أهل كوبنهاجن به قصور شديد؛ ففي وقتنا هذا الذي استطعنا فيه أن نتحكم في الذرة المفردة لا يعتبر حائط بور الفاصل بين العالمين المرئي وغير المرئي فكرة مقبولة، بل إن «الميكروسكوبات النفقية الماسحة» Scanning Tunneling Microscopes صارت قادرة على أن تغير مكان ذرة مفردة، وهو ما قاد بعد ذلك إلى اختراع الحاسبات الآلية. وعلاوة على هذا هناك مجال تكنولوجي جديد قام على فكرة التحكم في الذرات وهو مجال النانوتكنولوجي، وصار من الممكن إجراء تجارب كتجربة قطة شرودنجر على ذرة منفردة.
وبرغم كل هذا التقدم الذي حدث لم يخرج أحد بحل مُرْضٍ لمشكلة القطة، وإنما بدأ كثير من الفيزيائيين، من ضمنهم بعض حائزي جائزة نوبل، بعد نحو ثمانين عامًا من اشتباك أينشتاين وبور في مؤتمر سولفاي في الميل إلى فكرة «عدم الترابط» لحل هذه المشكلة. ينص مفهوم عدم الترابط من الناحية المبدئية على أن الوظيفة الموجية للقطة معقدة جدًّا لأنها تحتوي على ما يقرب من ١٠٢٥ من الذرات وهو ما يعتبر رقمًا فلكيًّا بالفعل. ومن هذا نفهم أن هناك تداخلًا شديدًا بين موجات القطة وهي حية وموجاتها وهي ميتة، وهو ما يعني أن الوظيفتين الموجيتين يمكنهما أن توجدا معًا في نفس الوقت ونفس المكان، لكن دون أن تؤثر إحداهما على الأخرى؛ فهما «غير مرتبطتين» ولا تشعر إحداهما بوجود الأخرى. تنص إحدى التنويعات على هذه النظرية على أن الوظائف الموجية لا «تنكمش» كما ذكر بور بل تنفصل عن بعضها ولا تعود للالتقاء مرة أخرى.
شبه ستيفن واينبرج Steven Weinberg، الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل، هذا الأمر بالاستماع إلى الراديو؛ فحينما ندير مؤشره يمكن أن نتنقل بين محطات إذاعية كثيرة، وكل محطة غير مرتبطة بالمحطات الأخرى، لأن ترددها مختلف وهو ما يحول دون تداخلها. وفي حين تعج بيوتنا بإشارات لمحطات إذاعية مختلفة توجد بشكل متواز، وكل منها يحمل معلومات مختلفة تمامًا عن الأخرى فإن بعضها لا يتفاعل مع بعض، ولا يمكن ضبط مؤشر جهاز الراديو إلا على محطة واحدة فقط.
قد يرى الناس هذا المبدأ مقبولًا لأنه حل المشكلة دون الحاجة إلى افتراض حدوث انكماش في الوظيفة الموجية، لكن الناظر إليه بإمعان يدرك أنه ينطوي على دلالات منطقية غاية في الغرابة؛ فمنه نصل إلى افتراض وجود أكوان كاملة منفصلة ولا تتفاعل، ومعنى هذا أنك إذ تجلس في غرفة معيشتك تقرأ كتابًا توجد معك وظيفة موجية لعوالم أخرى منها: واحد انتصر فيه النازيون في الحرب العالمية الثانية، وآخر يتحدث فيه الناس بلغات غريبة، وثالث تتصارع فيه الديناصورات داخل غرفة معيشتك، ورابع تجوب فيه المخلوقات الفضائية الأرض، وخامس لا يوجد كوكب الأرض فيه من الأساس. وإذا استخدمنا تشبيه «الراديو» السابق للتعبير عن هذه الحالة يمكننا أن نقول إن مؤشر الراديو الخاص بك مضبوط على ذلك الكون الذي تعيش فيه، لكن في الوقت نفسه توجد أكوان غريبة ومجنونة في نفس المكان. وما يحول دون تفاعلك مع الديناصورات والوحوش والكائنات الفضائية هو أنك موجود على تردد آخر لا يرتبط بتردد أكوانهم، ولعل ما سبق هو ما حمل ريتشارد فاينمان Richard Feynman الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء أن يقول: «إنني أستطيع أن أقول بكل ثقة إنه ليس هناك من يفهم ميكانيكا الكم.»٤
كانت انتقادات أينشتاين لنظرية الكم مسئولة عن سرعة تطورها برغم أنها لم تقدم حلولًا مرضية لما تحمل من تناقضات، أما الأفكار التي خرج بها فقد وجدت لها مجالات يمكن أن تطبق فيها، ومن أبرز تلك الأفكار النسبية العامة؛ ففي عصرنا هذا الذي ظهرت فيه الساعات الذرية وأشعة الليزر والحواسيب الفائقة صار العلماء قادرين على إجراء تجارب شديدة الدقة للتثبت من النسبية العامة، وهي التجارب التي كانت تراود أينشتاين في خيالاته دون أن يجد سبيلًا لإجرائها. فعلى سبيل المثال تمكن كل من روبرت في باوند Robert V. Pound وجي إيه ريبكا G. A. Rebka الأستاذان بجامعة هارفارد من إثبات نظرية أينشتاين المتعلقة بالانزياح الأحمر إثباتًا معمليًّا عندما وجدا أن الساعة تدق بمعدل مختلف حينما تكون داخل مجال جاذبية؛ أطلق هذان العالمان شعاعًا من عنصر الكوبالت المشع من قبو معمل ليمان في هارفارد وفي اتجاه السقف لمسافة ٧٤ قدمًا واستخدموا آلة قياس على مستوى عالٍ جدًّا من الدقة (وهي آلة تستخدم تأثير موسباور) فتوصلا إلى أن الفوتونات تفقد طاقتها (وهو ما يعني أنها تفقد أيضًا ترددها) كلما ارتفعت في الفضاء. وعام ١٩٧٧ درس العالم الفلكي جيسي جرينشتاين Jesse Greenstein وبعض زملائه معدل دق الساعة في اثني عشر نجمًا من النجوم البيضاء المتقزمة، وكما هو متوقع فقد أثبتوا أن الزمن يبطؤ في مجالات الجاذبية الواسعة.
وأعيدت تجربة الكسوف الشمسي بطرق أكثر تحديدًا أكثر من مرة، وعام ١٩٧٠ نجح الفلكيون في تحديد موقعي نجمين زائفين شديدي البعد أحدهما عن الآخر في 3C 279 و3C 237، وأكدا أن الضوء المنبعث من هذين النجمين الزائفين ينحني بالشكل الذي تنبأت به نظرية أينشتاين بالضبط.

ولقد ساهم اكتشاف الساعات الذرية كذلك في جعل التجارب تجرى بدقة كبيرة؛ فعام ١٩٧١ وُضِعَت بعض الساعات الذرية على متن طائرة نفاثة طارت بها من الشرق إلى الغرب وفي الاتجاه المعاكس، ثم قُورنت تلك الساعات الذرية بساعات أخرى ثابتة في المرصد البحري بواشنطن، ومن خلال تحليل نتائج الساعات الموضوعة على طائرات نفاثة تنطلق بسرعات مختلفة (لكن على نفس الارتفاع) استطاع العلماء التحقق من صحة النسبية الخاصة. ثم حللوا بعد ذلك نتائج الساعات الموضوعة على طائرات تنطلق بنفس السرعة لكن على ارتفاعات مختلفة مما مكنهم من التحقق من النسبية العامة، وفي كلتا الحالتين جاءت النتائج لتثبت نبوءات أينشتاين بنسبة لا تخرج عن نسبة الخطأ التجريبي المسموح به.

كما كان للأقمار الصناعية دور كبير في استحداث وسائل أخرى للتحقق من صحة النسبية العامة؛ فقد قضى قمر هيباركوس٥ الذي أطلقته الوكالة الأوروبية للفضاء عام ١٩٨٩ أربعة أعوام يدرس انحراف ضوء النجوم ناحية الشمس، وكان من بين النجوم التي درسها نجوم يقل سطوعها ١٥٠٠ مرة عن نجوم مجموعة الدب الأكبر. وفي ذلك الفضاء البعيد لا تكون هناك حاجة لانتظار الكسوف، بل يمكن أن تُجرى التجربة في أي وقت، ومن خلال البيانات التي جمعها هذا القمر الصناعي وجد العلماء أن ضوء النجوم ينحني بالضبط وفقًا لنظرية أينشتاين، بل إنهم وجدوا تأثير الشمس يحني حتى ضوء النجوم التي تبعد عنها مسافة هائلة.
وفي القرن الحادي والعشرين أجريت تجارب عديدة أخرى بهدف اختبار مدى دقة النظرية النسبية العامة، كان من بينها تجارب على نجوم مزدوجة وأخرى تتضمن إطلاق أشعة ليزر نحو القمر ثم جعلها ترتد عنه عائدة إلى الأرض. غير أن أكثر هذه التجارب أهمية كانت تتعلق بموجات الجاذبية؛ كان أينشتاين قد تنبأ بوجود موجات الجاذبية عام ١٩١٦، لكنه يئس من أن يتم إثبات تلك الظاهرة الغامضة خلال حياته، لأن المعدات المعملية في ذلك الوقت من بداية عشرينيات القرن العشرين كانت بدائية جدًّا، لكن عام ١٩٩٣ حصل العالمان الفيزيائيان راسل هالس Russell Hulse وجوزيف تيلور Joseph Taylor على جائزة نوبل لأنهما استطاعا أن يثبتا بشكل غير مباشر وجود موجات الجاذبية بعد أن درسا نجومًا مزدوجة يدور كل منها حول الآخر.
درس هذان العالمان النجم PSR 1913+16 وهو نجم نيوتروني مزدوج يبعد عن الأرض مسافة ١٦٠٠٠ سنة ضوئية، ويتكون من نجمين معتمين يدور كل منهما حول الآخر كل سبع ساعات وخمس وأربعين دقيقة، ويطلق كل منهما كمية كبيرة من موجات الجاذبية تتبعه في دورانه، للتمثيل تخيل أنك تمسك بملعقتين وتحرك بهما كمية من دبس السكر في قدر بحيث تدور كل من الملعقتين حول الأخرى، حينها ستجد أن كل ملعقة سوف تترك وراءها أثرًا من دبس السكر حينما تتحرك، وإذا افترضنا أن دبس السكر هو الزمكان والملاعق هي النجوم الميتة فسنجد أن النجمين أثناء ملاحقة كل منهما للآخر يطلقان موجات من الجاذبية، ولأن هذه الموجات تحمل طاقة فهذا يعني أن النجمين يفقدان الطاقة تدريجيًّا حتى تنفد، مما يجعلهما يسلكان معًا مسارًا لولبيًّا هابطًا. ومن خلال دراسة إشارات نظام هذا النجم المزدوج فإننا نستطيع أن نحدد بطرق تجريبية موعد انهيار هذا النظام، وكما استنتجت النسبية العامة ثبت أن النجمين يقتربان أحدهما من الآخر مسافة ملليمتر واحد في كل دورة يدورانها، وإذا كان هناك مدار نجمي قطره ٤٣٥٠٠٠ ميل فإن مقدار الانكماش في هذا المدار خلال سنة واحدة سيكون ياردة واحدة، وهو الرقم الذي تحدده معادلات أينشتاين بالضبط، وبعد مائتين وأربعين مليون عام سوف ينهار النجمان تمامًا بفعل فقدانهما لموجات الجاذبية. ومما سبق استطعنا أن نحدد مدى دقة النسبية العامة؛ فالأرقام التي خرجت بها التجربة السابقة كانت محددة جدًّا واستطعنا أن نستنتج منها أن النسبية العامة دقيقة بنسبة ٩٩٫٧٪ (وهي نسبة مسموح بها ضمن الخطأ التجريبي).
وفي الفترة الأخيرة ظهر اهتمام كبير بتجارب واسعة النطاق هدفها مراقبة موجات الجاذبية بشكل مباشر. وعما قريب قد يحرز مرصد الليجو LIGO (المرصد الليزري لموجات الجاذبية) السبق في ملاحظة موجات الجاذبية لأول مرة، وربما سوف يرصدها من الثقوب السوداء المتصادمة في الفضاء الخارجي، ومرصد الليجو هو حلم طالما راود الفيزيائيين حتى تحقق في النهاية، فهو أول مرصد قوي بدرجة تسمح له بقياس موجات الجاذبية، ويتكون هذا المرصد من ثلاث مراصد ليزر فرعية مقامة في الولايات المتحدة (اثنان في هانفورد بواشنطن، وواحد في ليفينجستون بلويزيانا). وهذا المرصد هو في الواقع جزء من مرصد دولي كبير يضم مرصدًا مشتركًا بين إيطاليا وفرنسا يسمى فيرجو VIRGO ويقع في بيزا بإيطاليا، وآخر ياباني يدعى تاما TAMA ويقع خارج مدينة طوكيو، ومرصد رابع مشترك بين بريطانيا وألمانيا يسمى GEO600 ويقع في هانوفر بألمانيا، وتبلغ التكلفة المتوقعة لهذا المشروع وقت تمامه ٢٩٢ مليون دولار أمريكي (بالإضافة إلى ٨٠ مليون أخرى للتعاقدات وأعمال التطوير) وهو ما يجعله أكثر المشاريع التي مولتها المؤسسة الدولية للعلوم تكلفة.

تشبه أدوات الاستشعار الليزرية المستخدمة في الليجو إلى حد بعيد الآلة التي استخدمها مايكلسون ومورلي في مطلع القرن العشرين لاستشعار رياح الأثير، فيما عدا أن الآلة الجديدة تستخدم أشعة الليزر بدلًا من أشعة الضوء العادية؛ تشطر هذه الآلة شعاع الليزر إلى شعاعين منفصلين يتحركان في اتجاهين متعامدين أحدهما على الآخر، ثم بعد ذلك يصدمان بمرآة فيعودان للاتحاد من جديد. إذا ارتطمت موجة الجاذبية بمقياس التداخل الذي هو من مكونات المرصد فسوف يحدث تغير في أطوال مسارات أشعة الليزر قد تلاحظ على أنها أنماط تداخلية بين الشعاعين. وللتأكد من أن الإشارات التي تلتقطها مستشعرات الليزر ليست زائفة لا بد من أن يتم نشر مستشعرات الليزر في جميع أنحاء كوكب الأرض، ووحدها موجات الجاذبية العظمى التي تفوق كوكب الأرض حجمًا هي القادرة على تحفيز جميع المستشعرات في آن واحد.

وسوف تقوم وكالة ناسا والوكالة الأوروبية للفضاء بتركيب مجموعة من هذه المستشعرات في الفضاء الخارجي من خلال خطة مقرر تنفيذها عام ٢٠١٠ تتضمن إطلاق ثلاثة أقمار صناعية بها مستشعرات ليزر تسمى ليسا LISA (وهي اختصار لعبارة المجس الفضائي لتداخل الليزر Laser Interferometry Space Antenna) بحيث تدور حول الشمس في مدار يبعد عنها نفس مسافة بعد الأرض تقريبًا. سوف تشكل المستشعرات الثلاثة مثلثًا متساوي الأضلاع في الفضاء (وسيبلغ طول كل ضلع منها ثلاثة ملايين ميل). وسوف يكون هذا النظام من الحساسية بمكان أنه سوف يستطيع التقاط ذبذبات جزء من بليون تريليون جزء (وكذلك استشعار تغير يبلغ قدره جزءًا على مائة جزء من عرض ذرة واحدة) وهو الأمر الذي سيمكن العلماء من استشعار جميع موجات التصادم التي حدثت في الكون منذ الانفجار الكبير. وإذا تمت هذه المهمة بنجاح فسوف تستطيع مستشعرات ليسا أن تحدد ما حدث في الجزء على تريليون جزء من الثانية الأولى التي أعقبت الانفجار الكبير، وهو ما يجعلها أهم الأدوات الكونية المستخدمة في التعرف على بداية خلق الكون، ولليسا فائدة أخرى فهي قد تستطيع جمع أول بيانات تجريبية محددة عن طبيعة نظرية المجالات الموحدة التي هي نظرية كل شيء.
ولقد كانت عدسات الجاذبية من الأدوات المهمة التي كان أينشتاين أول من أشار إليها، فعام ١٩٣٦ كان قد أثبت أن المجرات القريبة يمكن أن تقوم بدور عدسات ضخمة قادرة على تركيز الضوء على الأجسام البعيدة، لكن فكرته هذه ظلت نظرية فقط ولم تُثبت إلا عام ١٩٧٩ حينما راقب الفلكيون النجم الزائف Q0957+561 واكتشفوا أن المكان منحنٍ ويركز الضوء كما تفعل العدسة.
وعام ١٩٨٨ اكْتُشِف جزء من حلقات أينشتاين لأول مرة وهي الحلقات التي كان قد تنبأ بها قبل ذلك، وتم هذا الكشف بواسطة مصدر الراديو MG1131+0456، ثم تم بعد ذلك اكتشاف نحو عشرين جزءًا لحلقات غير تامة. حتى كان عام ١٩٩٧ واكتشفت أول حلقة تامة بواسطة تلسكوب هابل الفضائي وتلسكوب ميرلين الذي يستخدم أشعة الراديو (كلمة MERLIN هي اختصار لجملة شبكة قياس التداخل متعددة العناصر والمرتبطة بأشعة الراديو Multi Element Radio Linked Interferometer Network.) فحينما درس الفلكيون مجرة 1938+666 النائية وجدوا حلقة تحيط بها. يقول دكتور إيان براون الأستاذ بجامعة مانشستر متحدثًا عن لحظة اكتشاف الحلقة: «في البداية بدت صورتها غير طبيعية حتى ظننا أن خللًا حدث أثناء التقاطها، لكننا بعد حين أدركنا أننا ننظر إلى حلقة تامة من حلقات أينشتاين.»٦ ابتهج الفلكيون البريطانيون بهذا الاكتشاف أشد الابتهاج وقالوا عنه: «إنه سبق كبير»،٧ فبرغم صغر حجم هذه الحلقة في الصورة لدرجة أنها لا تتعدى حجم العملة المعدنية حينما تنظر إليها من مسافة ميلين، إلا أن تلك الصورة كانت برهانًا أكيدًا على نبوءة أينشتاين التي خرج بها منذ عشرات السنين.
وظهر واحد من أهم الأدلة المثبتة للنظرية العامة في مجال علم الكون؛ فعام ١٩٦٥ رصد العالمان الفيزيائيان روبرت ويلسون Robert Wilson وأرنو بينزياس Arno Penzias موجة صغرى ضعيفة قادمة من الفضاء الخارجي بواسطة تلسكوب الاستشعار الموجود في معمل بيل بنيوجيرسي. لم يكن هذان العالمان على اطلاع بالأبحاث الرائدة التي قام بها جامو وتلاميذه، لكنهما رصدا بمحض المصادفة إشعاعًا كونيًّا مرتدًّا من الانفجار الكبير دون أن يدركا حقيقته. (يروى أنهما ظنا أن ما يلتقطانه هو اضطراب ناتج عن فضلات الطيور التي تناثرت على التلسكوب. وفيما بعد تعرف الفيزيائي آر إتش ديك R. H. Dicke على هذا الإشعاع بعد أن أدرك أنه ارتجاع للموجة الصغرى التي اكتشفها جامو.) ولقد نال بينزياس وويلسون جائزة نوبل على هذا الإنجاز الكبير. ومنذ ذلك الوقت استمر قمر COBE الصناعي (كلمة COBE هي اختصار لعبارة مستكشف الارتجاع الكوني Cosmic Background Explorer) الذي أطلق عام ١٩٨٩ في إمدادنا بمعلومات أكثر تفصيلًا عن ذلك الارتجاع لإشعاع الموجة الصغرى والذي يتميز بنظاميته. ونجح فريق من الفيزيائيين بقيادة جورج سموت George Smoot الأستاذ بجامعة كاليفورنيا في بيركلي من خلال تحليل الموجات الضعيفة في ذلك الارتجاع المنظم في الخروج بصورة مهمة لارتجاع إشعاعي حدث حينما كان عمر الكون ٤٠٠٠٠٠ عام فقط. أطلقت وسائل الإعلام على هذه الصورة خطأً اسم «وجه الرب» Face of God. (لكن هذه الصورة ليست بوجه الرب وإنما هي صورة للانفجار الكبير حين كان لا يزال حديثًا).

لكن أكثر ما يجذب الانتباه في هذه الصورة هو أن هذه الموجات تتجاوب مع أي تغير كمي حدث في الانفجار الكبير مهما كان هذا التغير صغيرًا، وهو ما يعني أنه طبقًا لمبدأ عدم اليقين لا يمكن أن يكون الانفجار الكبير قد حدث منتظمًا وإلا لكانت التأثيرات الكمية قد خلقت موجات بأحجام متساوية. (والواقع أنه لولا اكتشاف تلك الموجات لتلقى مبدأ عدم اليقين ضربة موجعة تشكك في مصداقيته.) لم تكتف هذه الموجات بإظهار أن مبدأ عدم اليقين ينطبق على مولد الكون بل أوحت أيضًا للعلماء بآلية معقولة يمكن أن يكون ذلك «الكون المتكتل» قد خُلق بها؛ فإذا نظرنا حولنا فسنرى المجرات تتخذ أشكال العناقيد وهو ما يجعل نسيج الكون خشنًا، وقد يفسر وجود هذه الكتل بكونها نتيجة للموجات الناتجة عن الانفجار الكبير التي استطالت واتسع مداها بتمدد الكون، وهو ما يعني أننا حين نرى عناقيد المجرات في السماء فإننا ننظر في الحقيقة إلى الموجات الأصلية التي خلفها الانفجار الكبير والتي يحكمها مبدأ عدم اليقين.

غير أن أهم نبوءات أينشتاين التي تحققت فيما بعد قد تكون تلك المتعلقة بالطاقة السوداء؛ فكما ذكرنا من قبل كان أينشتاين قد وضع عام ١٩١٧ نظرية الثابت الكوني (أو طاقة الفراغ) كي ينقض بها الرأي القائل إن الكون آخذ في التمدد. (وإننا نتذكر أن المتغير المشارك العام لا يسمح إلا بحالتين فقط هما انحراف ريتشي والزمكان، وهو ما يجعل نقض الثابت الكوني أمرًا صعبًا.) لكن أينشتاين تراجع بعدها عن تلك الفكرة عندما أثبت إدوين هابل أن الكون يتمدد بالفعل. إلا أن الاكتشافات التي حدثت عام ٢٠٠٠ أظهرت أن أينشتاين كان محقًّا على الأرجح؛ فالثابت الكوني موجود بالفعل، ليس هذا فحسب بل إن الطاقة السوداء موجودة وتمثل أكبر مصادر المادة/الطاقة في الكون بأكمله؛ فقد استطاع الفلكيون أن يحسبوا معدل تمدد الكون على مدى مليارات السنين من خلال دراسة النجوم المستعرة العظمى (السوبرنوفا) في المجرات القصية، والأمر الذي أدهشهم هو أنهم وجدوا أن تمدد الكون لا يبطؤ، كما اعتقد البعض، وإنما هو في الواقع آخذ في التسارع، أي أن الكون سيظل يتمدد إلى الأبد وهو ما يجعلنا نستطيع التنبؤ بالطريقة التي سينتهي بها.

في السابق كان بعض علماء الكونيات يعتقدون أن المادة الموجودة في الكون كافية للارتداد الذي قد يحدث في النهاية بأن يأخذ الكون في الانكماش ويظهر في الفضاء الخارجي انزياح أزرق. (اعتقد العالم الفيزيائي ستيفن هوكنج Stephen Hawking أن الزمن كذلك قد يرتد على عقبيه بينما ينكمش الكون مما ينتج عنه أن يعيد التاريخ نفسه، وهذا يعني أن الكبار سيعودون أطفالًا إلى أن يقفزوا إلى أرحام أمهاتهم مرة أخرى، ومن قفزوا إلى المسبح من فوق لوح الغطس سيرتفعون من قاع المسبح حتى ينتهوا إلى لوح الغطس مرة أخرى غير مبتلين على الإطلاق، وسيطير البيض المقلي أيضًا ويدخل في قشرته التي سيجبر كسرها فتحتويه من جديد. لكن هوكينز عاد بعدها وأقر بأنه أخطأ في هذا التقدير.) وفي النهاية سوف ينفجر الكون من داخله مُطلِقًا حرارة شديدة ينتج عنها «انسحاق كبير». لكن مجموعة أخرى من العلماء رأوا أن الكون سيتعرض لانفجار كبير آخر ينتج عنه كون متذبذب.

إلا أن جميع هذه النظريات قد بطلت بعد أن أثبتت الدراسات التجريبية أن تمدد الكون آخذ في التسارع المستمر، ولعل أبسط تفسير لهذا التمدد — ويتوافق مع النتائج المعطاة — هو أن هناك كمية مهولة من الطاقة السوداء تنتشر في الكون لها تأثير مضاد للجاذبية لا يفتأ يدفع المجرات بعيدًا بعضها عن بعض، وكلما زاد حجم الكون بفعل التمدد زادت كمية طاقة الفراغ وزادت معها سرعة تباعد المجرات عن بعضها وهو ما يجعل التمدد متسارعًا.

هذه النظرية تؤكد فكرة معروفة باسم «الكون المتضخم» Inflationary Universe كان أول من اقترحها آلان جوث Alan Guth الأستاذ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكانت نسخة معدلة لنظرية الانفجار الكبير الأصلية التي وضعها فريدمان ولوميتر، تنص هذه الفكرة على أن تمدد الكون له مرحلتان؛ المرحلة الأولى هي مرحلة التمدد السريع المتضاعف التي فيها يتحكم في الكون ثابت كوني كبير، لكن في المرحلة الثانية يتوقف هذا التضخم المتضاعف وتبطؤ سرعة التمدد فتصل إلى السرعة التي حددها فريدمان ولوميتر. وإذا صح هذا فإنه يعني أن ذلك الكون الذي نراه من حولنا ما هو إلا نقطة دقيقة في حيز مهول من الزمكان هو الكون الحقيقي. كما أن التجارب الحديثة التي أجريت بواسطة المناطيد التي تطير إلى ارتفاعات شاهقة في الغلاف الجوي جاءت بنتائج تقول إن الكون مسطح، وهو ما يدل على ما له من حجم مهول، وللتمثيل تخيل أنك نملة جالسة على بالون كبير الحجم حينها ستظن أن البالون مسطح لأنك صغير جدًّا ولا ترى أماكن انحنائه.
وبخلاف هذا تدفعنا الطاقة السوداء لأن نعيد تقييم مواقعنا وأدوارنا الحقيقية التي نؤديها في الكون كبشر. كان كوبرنيكوس هو أول من أشار إلى أن موقع البشر في النظام الشمسي غير ذي أهمية، ثم جاء وجود المادة السوداء ليثبت أن الذرات التي تكوّن عالمنا ذاتها ليست مهمة لأن نسبة ٩٠٪ من مادة الكون قوامها تلك المادة السوداء الغامضة، ثم جاءت الدراسات التي أجريت على الثابت الكوني لتظهر أن الطاقة السوداء ضخمة جدًّا مقارنة بالمادة السوداء، والمادة السوداء بدورها ضخمة جدًّا مقارنة بطاقة النجوم والمجرات. والآن صار الثابت الكوني، الذي اقترحه أينشتاين مترددًا ليؤكد ثبات الكون، هو على الأرجح أعظم مصدر للطاقة في الكون. (عام ٢٠٠٣ أثبت القمر الصناعي WMAP أن نسبة ٤٪ من مادة الكون وطاقته تتكون من الذرات العادية، ونسبة ٢٣٪ منه تتكون من مادة سوداء غير معروفة، ونسبة ٧٣٪ منه تتكون من الطاقة السوداء.)

وكانت الثقوب السوداء أيضًا واحدة من أغرب نبوءات النسبية العامة التي اعتبرها البعض ضربًا من الخيال العلمي بعدما أعاد شوارتزشايلد إحياء مفهوم النجوم السوداء عام ١٩١٦. إلا أن تلسكوب هابل الفضائي وكذلك تلسكوب الراديو الضخم قد أثبتا اليوم وجود ما يربو عن خمسين ثقبًا أسود معظمها يقع في مراكز المجرات، ليس هذا فحسب بل إن علماء فلك كثيرين صاروا يؤمنون اليوم بأن نصف عدد المجرات الموجودة في الكون، وهو العدد الذي يقدر بالتريليونات، يقع في مركزها ثقب أسود.

كان أينشتاين قد أدرك المشكلة التي تحول دون ملاحظة تلك الظواهر الغريبة والتي تتمثل في انعدام القدرة على رؤيتها، لأن الضوء نفسه لا يستطيع أن يهرب منها. لكن تلسكوب هابل الفضائي، الذي يملك القدرة على النفاذ إلى أعماق نجوم زائفة قصية ومجرات نائية، استطاع أن يلتقط صورًا للأقراص الدوارة التي تحيط بالثقوب السوداء الواقعة في مراكز مجرات بعيدة مثل المجرة M-87 والمجرة NGC-4258، بل إنه أظهر أن أجزاء من هذه المادة تدور حول الثقوب السوداء بسرعة تقدر بملايين الأميال في الساعة. أظهرت أكثر الصور التي التقطها تلسكوب هابل تفصيلًا أنه في مركز كل ثقب أسود هناك نقطة، تفصلها مسافة سنة ضوئية واحدة عن حوافه، قادرة على أن تدير مجرة كاملة تبعد عنها مائة ألف سنة ضوئية. وبعد سنين قضاها العلماء في التخمين اتضح أخيرًا عام ٢٠٠٢ أن هناك ثقبًا أسود يقبع في حديقتنا الخلفية، في مجرة الطريق اللبني التي تزن الشمس مليوني مرة، معنى هذا أنه في حين يدور القمر حول الأرض وتدور الأرض حول الشمس، تدور الشمس حول ثقب أسود.

نَصَّت أبحاث ميتشيل ولابلاس التي أجرياها في القرن الثامن عشر على أن كتلة النجم الأسود أو الثقب الأسود تتناسب مع نصف قطره، وهذا يعني أن كتلة الثقب الأسود الموجود في مركز مجرتنا تبلغ عشر نصف قطر مدار كوكب عطارد، ولكم هو من العجيب أن جسمًا بهذا الصغر قادر على التأثير على حركة مجرة بأسرها. وعام ٢٠٠١ استطاع الفلكيون بواسطة تأثير عدسات أينشتاين أن يقرروا وجود ثقب أسود يجول في مجرة الطريق اللبني وتؤدي حركته إلى تشتيت أضواء النجوم المحيطة به، وبتتبع حركة تشتت تلك الأضواء استطاع العلماء تحديد المسار الذي يتخذه هذا الثقب الأسود في السماء. (إذا حدث واقترب ثقب أسود من الأرض فستحيق بها كارثة مدمرة، إذ إن هذا الثقب قادر على ابتلاع النظام الشمسي بأكمله دون أدنى اضطراب يصيبه.)

وعام ١٩٦٣ حدث فتح علمي جديد في الأبحاث المتعلقة بالثقوب السوداء حينما نجح العالم الرياضي النيوزيلاندي روي كير Roy Kerr في تعميم نظرية شوارتزشايلد كي تشمل الثقوب السوداء الدوارة؛ إذا كان كل ما في الكون يدور، وإذا كانت كل الأجسام تدور بشكل أسرع عندما تسقط، فإنه من المنطقي أن الثقب الأسود يدور بسرعة هائلة. أدهش كير الجميع حين توصل إلى حل لمعادلات أينشتاين الذي يتحول فيه النجم المنهار إلى حلقة دوارة؛ تحاول قوى الجاذبية أن تشد الحلقة إلى الأسفل لكن هناك قوى مضادة تعادل تأثير الجاذبية وتجعل الحلقة الدوارة مستقرة في مكانها. غير أن أكثر ما أثار عجب أتباع النسبية هو أن حل كير هذا قد أثبت أن المرء إذا سقط خلال تلك الحلقة فلن يموت منسحقًا كما كانوا يظنون من قبل؛ فبرغم أن نطاق الجاذبية واسع فإنه في الوقت نفسه مقيد بمركز الثقب، وهو ما يعني أن المرء إذا سقط خلال الحلقة فسيجد نفسه في كون آخر، والرحلة عبر جسر أينشتاين-روزن ليست بالضرورة رحلة هلاك؛ لأن الحلقة إذا كانت بالاتساع المطلوب فيمكن للنافذ خلالها أن يدلف إلى كون مواز بأمان.

لم يتمهل الفيزيائيون وانكبوا على نظرية كير يكيلون لها النقد الشديد، فمن خلال هذه النظرية نستنتج أن هذا السقوط سيكون تجربة لا تنسى، فهي تنص من حيث المبدأ على أنه يمكن أن يمنحنا طريقًا مختصرًا للنجوم ناقلًا إيانا إلى جزء آخر من أجزاء المجرة أو إلى كون مختلف تمامًا. وإذا استطاع أحد أن يقترب من ثقب أسود فإنه وفقًا لنظرية كير سيمر خلال أفق الحدث ولن يستطيع العودة مرة أخرى إلى حيث أتى (إلا إذا كان في ذلك الكون الموازي ثقب أسود يربطه بكوننا مما يجعل إمكانية العودة متاحة.) وخلافًا لهذا انطوت هذه النظرية على مشاكل تتعلق بالاستقرار؛ فمن الممكن إثبات أنه إذا عبر أحد جسر أينشتاين-روزن فسيسبب اضطرابًا في الزمكان قد يجبر الثقب الأسود، طبقًا لنظرية كير، على أن ينغلق حائلًا دون استكمال تلك الرحلة.

وعلى ما في نظرية كير من غرابة لكونها تفترض وجود بوابات واصلة بين الأكوان، فإنه لا يمكن رفضها في إطار الفيزياء لأن الثقوب السوداء تدور بالفعل بسرعة هائلة. لكن مع هذا تبقى نقطة أن هذه النظرية تنص على أن الثقوب السوداء لا تربط فقط بين نقطتين متباعدتين مكانيًّا بل تعمل أيضًا عمل آلة الزمن واصلة بين زمنين مختلفين.

عندما استنبط جودل إمكانية السفر عبر الزمن من معادلات أينشتاين عام ١٩٤٩ لم يلق رأيه هذا قَبولًا لدى الفيزيائيين بل إنهم اعتبروه بدعة وانحرافًا عن تلك المعادلات، لكن ما حدث أنه منذ ذلك الوقت خرجت مئات الحلول لمعادلات أينشتاين تثبت إمكانية السفر عبر الزمن. بل إنه اتضح أن أحد الحلول القديمة خرج به دبليو جيه فان ستوكوم W. J. van Stockum عام ١٩٣٦ يؤيد هذه الإمكانية؛ يفترض حل فان ستوكوم أن الزمن أسطوانة غير محدودة تدور بسرعة كبيرة حول محورها مثل الأعمدة الدوارة التي كانت توجد في صالونات الحلاقة القديمة، فإذا تحرك المرء حول الاسطوانة فقد يستطيع أن يصل إلى النقطة التي انطلق منها قبل أن ينطلق، وهو ما نص عليه أيضًا حل جوديل الذي وضعه عام ١٩٤٩، ومع أن هذا الحل قد جذب انتباه كثيرين فإنه انطوى على مشكلة كبيرة، وهي أن تلك الأسطوانة لا بد أن يكون طولها غير محدود، وهو الأمر الذي جعل حلي ستوكوم وجوديل يُرفضان فيزيائيًّا.
لكن كيب ثورن Kip Thorne وزملاءه بجامعة كلتاك استطاعوا عام ١٩٨٨ أن يخرجوا بحل آخر يسمح بالسفر عبر الزمن من خلال الثقوب الدودية Worm Holes. أشار هؤلاء العلماء إلى وجود نوع جديد من الثقوب الدودية ثنائي الاتجاه ومن خلاله يمكن اجتياز أفق الحدث ثم العودة مرة أخرى، بل إنهم قالوا أيضًا إن أي رحلة خلال هذه الثقوب ستكون مريحة بالضبط مثل أي رحلة بالطائرة.
والأساس الذي تقوم عليه جميع هذه الآلات الزمنية هو المادة أو الطاقة القادرة على جعل الزمكان يلتف حول نفسه، ولكي يتحول الزمان إلى ما يشبه أصابع البسكويت المملح الملتفة فإنه يحتاج إلى كمية مهولة من الطاقة تتجاوز بمراحل نطاق العلم الحديث، فتلك الآلة الزمنية التي افترضها ثورن تستلزم إما مادة سلبية أو طاقة سلبية؛ أما المادة السلبية فلم يسبق أن رآها أحد وهي مادة يُفترض أنك إذا ألقيت قدرًا منها من يدك فستسقط إلى الأعلى لا إلى الأسفل، ولم تأت الأبحاث المتعلقة بهذه المادة السلبية بأي نتائج حتى الآن، ولو أنها وجدت على الأرض قبل مليارات السنين فلا بد أنها سقطت في الفضاء وفقدت إلى الأبد. أما الطاقة السلبية فهي موجودة بالفعل وتتمثل في تأثير كازيمير Casimir Effect؛ فالعلماء اعتقدوا في السابق أننا إذا وضعنا لوحين معدنيين محايدين غير مشحونين موازيين أحدهما للآخر فلن ينجذب أحدهما للآخر أو يتنافر، ولهذا فسوف يظلان مستقرين في مكانهما، لكن عام ١٩٤٨ أشار هنريك كازيمير Henrik Casimir إلى حقيقة كمية مدهشة وهي أن هذين اللوحين المتوازيين سيجذب أحدهما الآخر بقوة ضئيلة لكنها غير منعدمة وهو أمر قابل للقياس معمليًّا.

مما سبق نستطيع أن نحدد كيفية تصميم آلة زمن طبقًا لنظرية ثورن على النحو الآتي: نأتي بمجموعتين من الألواح المعدنية ونَصُفّ كلًّا منهما بموازاة الأخرى، وبسبب تأثير كازيمير ستنشأ في المسافة الفاصلة بين كل لوحين متوازيين طاقة سلبية، وطبقًا لنظرية أينشتاين سيترتب على استحضار الطاقة السلبية حدوث فتحات أو فقاعات صغيرة زمكانية (يقل حجمها عن حجم الجسيمات دون الذرية) داخل تلك المنطقة. والآن لنفترض جدلًا أن حضارة ما أتت بعدنا بزمن بعيد وامتلكت التكنولوجيا التي تمكنها من التحكم في هذه الفتحات وتوسيع المسافة بين الألواح بحيث يمكن وضع أنبوب طويل أو ثقب دودي يصل بينهما (جدير بالذكر أن الوصل بين تلك الألواح بواسطة الثقوب الدودية هو أمر يتعدى قدرات التكنولوجيا المتوفرة اليوم بمراحل) حينئذٍ يمكن أن نضع زوجًا واحدًا من هذه الألواح على متن صاروخ ينطلق بسرعة تقترب من سرعة الضوء، وهو ما ينتج عنه أن الزمن سيبطؤ داخله كما ذكرنا من قبل، وهنا إذا قفز أحدهم داخل الثقب الناشئ بين اللوحين الموجودين على الأرض فسيُشْفَط داخل الثقب الدودي الواصل بين اللوحين ويخرج منه إلى الصاروخ المنطلق في الزمن الماضي أي أنه سيخرج في نقطة مختلفة زمانيًّا ومكانيًّا.

ومنذ ذلك الوقت صارت آلات الزمن (أو «منحنيات الزمن المغلق») مجالًا خصبًا للأبحاث الفيزيائية وصدرت دراسات عديدة تضع تصاميم مختلفة لآلات زمنية تقوم على نظرية أينشتاين. لكن بعض الفيزيائيين لم ترقهم تلك الفكرة ومنهم هوكنج الذي سخر منها وقال إنه لو كان السفر عبر الزمن ممكنًا لامتلأ زماننا بسياح قادمين من المستقبل وهو ما لم يحدث كما نعرف، ولتعذرت كتابة التاريخ لأنه سيتغير كلما ضغط أحدهم على زر آلته الزمنية، وبرر هوكنج سخريته تلك برغبته في جعل العالم مكانًا آمنًا للمؤرخين. لكن نفرًا كثيرًا من الفيزيائيين الآخرين وجدوا إلهامهم في رواية «ملك الماضي والمستقبل» The Once and Future King للروائي تي إتش وايت T. H. White التي تصور مجتمعًا من النمل يعيش وفقًا للحكمة القائلة: «ما لم يمنع فهو مفروض» فصدقوا فكرة السفر عبر الزمن حتى إن هوكنج اضطر في النهاية لأن يتجاوب معهم فخرج بفكرة «قانون حماية الزمن» Chronology Protection Conjecture التي تخمن أن تشريعًا مستقبليًّا قد تم سنه لمنع السفر عبر الزمن والعبث بالتاريخ. (لكن هوكنج يئس من محاولة إثبات تخمينه هذا وصار رأيه الحالي أن السفر عبر الزمن ممكن نظريًّا فقط ولا يمكن تحقيقه عمليًّا).

ومما سبق نستنتج أن هذه الآلات الزمنية تخضع لقوانين الفيزياء التي نعرفها اليوم، ولا ينقصنا لتحقيق السفر عبر الزمن إلا وضع أيدينا على هذه الطاقة الهائلة (التي لن توجد إلا في حضارة متقدمة جدًّا من الناحية التكنولوجية) وإثبات أن الثقوب الدودية ستقف ثابتة في وجه قوانين الكم ولن تنفجر أو تنغلق إذا حاول أحدهم عبورها.

الجدير بالذكر أيضًا أن التناقضات الزمنية (على غرار أن يقتل أحدهم والديه قبل أن يلداه) يمكن أن تجد لها آلات الزمن حلًّا، ولأن نظرية أينشتاين تقوم على أسطح رايمان الملساء والمنحنية فهذا يعني أننا لن نختفي إن رجعنا إلى الزمن الماضي وخلقنا تناقضًا زمنيًّا. هناك حلان ممكنان لهذه التناقضات؛ أولهما أنه إذا كان في نهر الزمن دوامات فإننا إذا رجعنا مع التيار العائد لا نغير الماضي بل نكمله، بمعنى أن ركوبنا آلة الزمن والعودة إلى الماضي هو في حد ذاته جزء من الماضي، اعتنق هذا الرأي عالم الكونيات الروسي إيجور نوفيكوف Igor Novikov الذي قال: «ليس بمقدورنا أن نرسل مسافرًا عبر الزمن إلى جنة عدن كي يطلب من حواء ألا تلتقط التفاحة من الشجرة.»٨ أما الحل الثاني فيتمثل في أن نهر الزمن قد يتفرع إلى نهرين مما يوجد عالمين متوازيين، ومعنى هذا أنك إذا رجعت في الزمن وقتلت أبويك قبل أن ينجباك فأنت لم تقتلهما بالفعل وإنما قتلت شخصين تطابق جيناتهما جينات والديك لكنهما ليسا بوالديك؛ فوالداك قد أنجباك وكانا سبيلًا لوجود جسدك، وما حدث أنك سافرت إلى كون موازٍ غير الكون الذي أنجباك فيه، وبهذا تكون جميع التناقضات الزمنية قد حلت.

لكن جميع النظريات السابقة لم تكن بمكانة نظرية المجالات الموحدة عند أينشتاين وهي النظرية التي قال عنها لسكرتيرته هيلين دوكاس إنه قد يدرك العلماء بعد مائة سنة فكرة هذه النظرية، لكنه أخطأ في هذا؛ فبعد أقل من خمسين سنة أُعيد إحياؤها وصارت تلقى اهتمامًا واسعًا لدى الفيزيائيين، وبعد أن كان مفهوم التوحيد يلقى سخرية من معظم المشتغلين بالفيزياء لكونه بعيدًا عن متناول البحث العلمي، صار الآن في متناولهم يكادون يضعون أيديهم عليه، بل أصبح على رأس جدول أعمال جميع مؤتمرات الفيزياء النظرية تقريبًا.

وبعد ألفي عام من البحث في خصائص المادة منذ أن تساءل ديموقريطس Democritus ورفاقه الإغريق عن المادة التي صُنِعَ منها الكون، خرجت الفيزياء اليوم بنظريتين متناقضتين أشد ما يكون التناقض للإجابة على هذا السؤال؛ أولى هاتين النظريتين هي نظرية الكم التي ليس لها ند من حيث وصفها لعالم الذرة وما تشتمل عليه من جسيمات دون ذرية. أما الثانية فهي نسبية أينشتاين التي أذهلت العالم باكتشافات عظيمة كالثقوب السوداء وتمدد الكون. لكن المفارقة الكبرى أن هاتين النظريتين المهمتين تقفان على طرفي نقيض إحداهما من الأخرى، فكل منهما تقوم على فرضيات وقواعد رياضية وصور فيزيائية تختلف عن الأخرى؛ ففي حين ترتكز نظرية الكم على وحدات منفصلة من الطاقة تسمى كل وحدة منها «كوانتم» وكذلك على حركة الجسيمات دون الذرية، ترتكز النسبية على الأسطح الملساء.
في السنين الأخيرة وضع الفيزيائيون تصورًا جديدًا لنظرية الكم يعتبر التصور الأكثر تقدمًا وصاغوه فيما يعرف ﺑ «النموذج المعياري» Standard Model وهو النموذج القادر على تفسير البيانات التجريبية للجسيمات دون الذرية. اعتبر هذا النموذج أكثر النظريات الطبيعية نجاحًا على الإطلاق لأنه استطاع أن يصف ثلاث خصائص من ضمن القوى الأربعة الأساسية (هذه القوى الثلاثة هي: القوة الكهرومغناطيسية، والقوتين النوويتين الضعيفة والقوية). لكن نجاح هذا النموذج لم يمنع ظهور مشكلتين واضحتين أشد الوضوح به تتمثل أولاهما في أنه نموذج في غاية القبح، بل إنه قد يكون أقبح نظرية ظهرت في تاريخ العلم، فهو يجمع بين القوى الثلاثة السابق ذكرها معًا بشكل غير متناسق بالضبط، كما لو ربط حوتًا وخنزيرًا وزرافة بشريط لاصق ثم ادعى أن هذا مخلوق نتج بفعل تطور بيولوجي حدث على مدى ملايين السنين. وبخلاف هذا اشتمل ذلك النموذج المعياري على عدد كبير جدًّا من جسيمات دون ذرية شديدة التنافر بعضها مع بعض وذات أسماء غريبة جدًّا على غرار الكوارك، وبوزون هيجز، وجسيمات يانج ميلز، ودبليو بوزون، وجلوون، والنيوترينو. الأنكى من هذا أن هذا النموذج لا يشير من قريب أو من بعيد إلى الجاذبية، بل إن العلماء كلما حاولوا أن يفرضوا الجاذبية فرضًا على هذا النموذج وجدوه يتداعى ويصير محض هراء، وعلى مدى خمسين سنة تقريبًا باءت جميع المحاولات التي استهدفت الربط بين النسبية ونظرية الكم بالفشل، لكن مع كل هذه العيوب الجمالية لا ينكر أحد أن ذلك النموذج قد حقق نجاحًا ساحقًا من الناحية التجريبية، وهو ما يرجح أن ما نحتاجه لإعادة تقييم منهج أينشتاين الخاص بالتوحيد هو أن نتجاوز ذلك النموذج المعياري.
وبعد مرور خمسين عامًا على وفاة أينشتاين ظهرت نظرية اعتبرت مرشحة لتكون نظرية كل شيء، نظرية توحد نظرية الكم والنظرية النسبية معًا فيما يسمى ﺑ «نظرية الأوتار الفائقة». والواقع أن هذه النظرية هي الوحيدة الباقية على الساحة العلمية بعد أن فُنِّدَت جميع النظريات الأخرى، يقول ستيفن واينبرج: «إن نظرية الأوتار قد أثبتت أنها المرشح الأوفر حظًّا لتكون النظرية النهائية»،٩ وأضاف قائلًا إن الخرائط التي كان الملاحون القدامى يستخدمونها كانت كلها تشير إلى وجود القطب الشمالي، ومع هذا مرت قرون كثيرة حتى تمكن روبرت بيري Robert Peary من أن يكون أول من يصل إليه عام ١٩٠٩. وبالمثل فإن جميع الاكتشافات التي تمت في مجال فيزياء الجسيمات كلها تشير إلى وجود قطب شمالي للكون يتمثل في نظرية المجالات الموحدة. تتميز نظرية الأوتار الفائقة بقدرتها على استيعاب جميع الملامح الإيجابية لنظرية الكم والنظرية النسبية بشكل بسيط للغاية؛ فهي تشبه الجسيمات دون الذرية بنوتات موسيقية على وتر مهتز، وهو تشبيه يختلف كثيرًا عن تشبيه أينشتاين الذي شبه فيه المادة بالخشب بسبب طبيعتها الفوضوية والمتشابكة (الأرجح أن أينشتاين كان سيحب هذا التشبيه لأنه كان موسيقيًّا بارعًا في عزف الكمان.)
في عقد الخمسينيات من القرن العشرين وصل الفيزيائيون إلى مرحلة يئسوا فيها من فهم طبيعة الجسيمات دون الذرية، لأنه لم يكن يمر عام دون أن يكتشف جسيم جديد لدرجة أن روبرت أوبنهايمر علق على هذا ممتعضًا: «الأجدى أن تُمنح جائزة نوبل في الفيزياء لمن لم يكتشف جسيمًا جديدًا هذه السنة.»١٠ واعتاد العلماء أن يطلقوا على تلك الجسيمات الجديدة أسماء يونانية غريبة حتى إن إنريكو فيرمي علق على هذا قائلًا: «لو كنت أعلم منذ البداية أنه سيطلق على الجسيمات تلك الأسماء اليونانية الغريبة والكثيرة لفضلت أن أكون عالم نبات على أن أكون فيزيائيًّا.»١١ في نظرية الأوتار الفائقة يستطيع كل من ينظر عبر ميكروسكوب فائق أن يرى الجسيمات الدقيقة قد استحالت إلى أوتار متذبذبة، وعندما تتذبذب تلك الأوتار في أنماط أو نوتات مختلفة فإنها تتحول إلى جسيمات مختلفة كالفوتون أو النيوترينو، في هذه الصورة تبدو لنا الجسيمات دون الذرية التي نراها في الطبيعة أخفض منطقة في ذلك الوتر الفائق. ومما سبق يتضح أن طوفان الجسيمات دون الذرية الذي ما انفك العلماء يكتشفون المزيد منه على مدى أكثر من عقد ما هو إلا نوتات على وتر فائق، وقوانين الكيمياء التي تبدو عشوائية ومربكة هي النغمات التي تعزف على ذات الوتر، والكون نفسه سيمفونية تعزف على أوتار متعددة، وقوانين الفيزياء هي ما يجعل هذه الأوتار الفائقة تتناسق.
علاوة على ما سبق تضم نظرية الأوتار الفائقة تحت لوائها جميع أفكار أينشتاين المتعلقة بالنسبية، فهي إذ تتناول الزمكان تقرر أن الفضاء المحيط به منحنٍ تمامًا كما ذكر أينشتاين عام ١٩١٥، بل إنها بدون أفكار أينشتاين عن الزمكان يصيبها الخلل وتصير غير متناسقة، حتى إن الفيزيائي إدوارد ويتن Edward Witten ذكر أنه حتى ولو لم يكتشف أينشتاين النسبية العامة لبرزت من داخل نظرية الأوتار الفائقة، وأضاف قائلًا: «إن ما يجعل نظرية الأوتار تلقى بقبول واسع هو حقيقة أن الجاذبية مفروضة علينا؛ فجميع نظريات الأوتار المعروفة تعتبر ظاهرة الجاذبية حقيقة لازمة على عكس نظرية مجالات الكم التي لا تتضمن تلك الظاهرة.»١٢
غير أن نظرية الأوتار تنطوي أيضًا على أفكار مدهشة، ومنها أن الأوتار لا تتحرك إلا في عشرة أبعاد بشكل دائم (واحد من تلك الأبعاد للزمان والتسعة الباقية للمكان)، وهي بهذا تكون النظرية الوحيدة التي حددت الأبعاد التي تحكم الزمكان الخاص بها، كما أنها تشبه نظرية كالوزا-كلاين التي ظهرت عام ١٩٢١ في أنها قادرة على توحيد الجاذبية مع الكهرومغناطيسية من خلال افتراض أن الأبعاد العليا قادرة على أن تتذبذب خالقة قوى جديدة تنتشر في الأبعاد الثلاثة مثل الضوء. (وإذا أضفنا بعدًا حادي عشر لنظرية الأوتار فسيسمح بوجود أغشية تتذبذب في المكان ذي الأبعاد المتعددة، تسمى هذه الفكرة «نظرية الغشاء» M-Theory وهي قادرة على استيعاب نظرية الأوتار والخروج برؤى جديدة من منظور البعد الحادي عشر الأكثر شمولية.)
لعل السؤال المهم هنا هو كيف كان أينشتاين سيرى نظرية الأوتار الفائقة إذا كان حيًّا بيننا اليوم؟ يجيب الفيزيائي ديفيد جروس David Gross عن هذا السؤال بقوله: «سيسر أينشتاين بهذه النظرية أو بالهدف الذي ترمي إليه على الأقل حتى ولو لم يتحقق … وسيسر بشكل خاص بأنها تقوم على مبدأ هندسي، وهو المبدأ الذي لا نفهمه بكل أسف.»١٣ رأينا من قبل أن جوهر نظرية أينشتاين للمجالات الموحدة هو تخليق المادة (الخشب) من الهندسة (الرخام) وعلى هذا يعلق جروس قائلًا: «إن تكوين المادة من خلال القواعد الهندسية هو بشكل أو بآخر هدف نظرية الأوتار … فهي نظرية للجاذبية تنشأ فيها جسيمات المادة ومعها قوى طبيعية أخرى بذات الطريقة التي تنشأ فيها الجاذبية من القواعد الهندسية.» من المفيد للغاية أن نتناول أبحاث أينشتاين القديمة حول نظرية المجالات الموحدة من منظور نظرية الأوتار؛ تجلت عبقرية أينشتاين في أنه استطاع تحديد التماثلات الأساسية في الكون وهي قادرة على توحيد قوانين الطبيعة، أما عن التماثل الذي يوحد الزمان والمكان فهو تحول لورنتز أو الدوران في أربعة أبعاد، وأما عن التماثل الذي تقوم عليه الجاذبية فهو المتغير المشارك أو تحولات الزمكان المتناظرة.
لكن أينشتاين عندما حاول لثالث مرة أن يخرج بالنظرية الموحدة الكبرى لم يحالفه التوفيق لأنه لم يجد تماثلًا قادرًا على أن يوحد الجاذبية مع الضوء، أو الرخام (الهندسة) مع الخشب (المادة)، وهو بالطبع لم يكن يخفى عليه أن ما ينقصه هو مبدأ يرشده أثناء بحثه في أدغال الحسابات المعقدة المتشابكة، وقد كتب عن هذا يقول: «إنني أؤمن أن السبيل لتحقيق أي تقدم يتلخص في إيجاد مبدأ طبيعي عام مستقى من الطبيعة.»١٤
وهذا هو بالضبط ما تقدمه نظرية الأوتار الفائقة؛ فالتماثل الذي تقوم عليه هذه النظرية يسمى ﺑ «التماثل الفائق» Supersymmetry وهو تماثل على قدر من الغرابة والجمال، في نفس الوقت تتوحد من خلاله المادة مع القوى الأخرى. كما ذكرنا من قبل تتميز الجسيمات دون الذرية بخاصية «الدوران» وهي الخاصية التي تجعلها أشبه بالنحلة الدوارة؛ تدور الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات والكواركات بمعدل يقدر ﺑ ١ / ٢ وهذه الجسيمات هي التي تتألف منها المادة والتي هي قوام كوننا وتسمى مجتمعة «فيرمينات» Ferminos تيمنًا باسم إنريكو فيرمي الذي اكتشف خاصية الدوران التي تميزها. أما وحدات الكم الخاصة بالقوى فهي تعتمد على الكهرومغناطيسية (ذات معدل الدوران ١) والجاذبية (ذات معدل الدوران ٢). لكن تجدر ملاحظة أن هذه الجسيمات تقوم بدوران مجمع يسمى البوزون (الذي نال اسمه من نظرية بوس-أينشتاين)، والفكرة الأساسية هنا هي أنه بشكل عام تتألف المادة (الخشب) من الفيرمينات التي تدور معًا نصف دورة، بينما تتألف القوى (الرخام) من البوزونات التي تدور معًا دورة كاملة، والتماثل الفائق يوحد الفيرمينات والبوزونات معًا وهو ما يحقق حلم أينشتاين بتوحيد الخشب والرخام معًا. بل إن هذا التماثل نفسه قد أوجد نمطًا جديدًا من القواعد الهندسية أثار دهشة علماء الهندسة أنفسهم ويسمى هذا النمط «المكان الفائق» Superspace ومن خلاله يمكننا أن نخرج ﺑ «الرخام الفائق» Supermarble، وفي هذا المنهج الجديد يتعين علينا أن نُعَمِّم أبعاد الزمان والمكان القديمة على الأبعاد الفيرمينية الجديدة، وهو الأمر الذي يمكننا من خلق «قوة فائقة» تنبع منها جميع القوى الأخرى التي نشأت لحظة الخلق.

وفي إطار ما سبق استنتج الفيزيائيون أنه يجب تعميم مبدأ المتغير المشارك العام الذي وضعه أينشتاين على جميع القوانين الفيزيائية، ومما قالوه في هذا: «لا بد أن تكون جميع المعادلات الفيزيائية متغيرات مشاركة فائقة.» (أي أن تحتفظ بنفس شكلها حتى بعد أن تمر بتغير مشارك فائق).

إن ما تفعله نظرية الأوتار الفائقة هو أنها تمكننا من تحليل أفكار أينشتاين المتعلقة بنظرية المجالات الموحدة ولكن من منظور مختلف؛ فالدارس لحلول معادلات الأوتار الفائقة لا بد أن يجد أمامه الأماكن الغريبة التي كان أينشتاين أول من اكتشفها وتناولها في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. وكما ذكرنا من قبل كان أينشتاين يعمل على تعميم أماكن رايمان التي نجدها اليوم تتوافق مع بعض الأماكن التي تظهر من نظرية الأوتار؛ كان أينشتاين يتأمل تلك الأماكن الغريبة (ومنها الأماكن المعقدة، والأماكن الموترة، والأماكن المنحنية، والأماكن المترابطة … إلخ) في حسرة لأنه افتقد دليلًا فيزيائيًّا أو صورة فيزيائية تهديه الطريق خلال غابة الرياضيات المعقدة. لكننا الآن وجدنا حلًّا لهذه المشكلة يكمن في التماثل الفائق الذي يعتبر مبدءًا منظمًا يسمح لنا بتحليل كثير من هذه الأماكن من منظور مختلف.

لكن السؤال هنا هو: هل هذا التماثل الفائق هو ذات التماثل الذي قضى أينشتاين ثلاثة عقود يبحث عنه دون جدوى؟ كان الملمح الأساسي الذي تتصف به نظرية أينشتاين للمجالات الموحدة هو أنها تتألف كليًّا من الرخام وهو القواعد الهندسية الخالصة، أما الغابة القبيحة التي تسيطر على النسبية فينبغي لها أن تُسْتَوْعَب داخل القواعد الهندسية، والأرجح أن التماثل الفائق هو القادر على الخروج بنظرية هندسية خالصة تنطوي على شيء يسمى ﺑ «المكان الفائق» الذي يتصف فيه المكان نفسه بالتماثل الفائق، بعبارة أخرى نقول إن هناك احتمالًا كبيرًا لأن «نجد السبيل إلى وضع نظرية نهائية للمجالات الموحدة قائمة على قواعد هندسية خالصة».

«يعتقد الفيزيائيون اليوم أنه في اللحظة التي حدث فيها الانفجار الكبير توحدت جميع التماثلات الموجودة في الكون وهو نفس الرأي الذي كان أينشتاين يؤمن به.» أي أن القوى الأربعة التي نراها في الطبيعة (وهي الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوتان النوويتان القوية والضعيفة) قد توحدت في لحظة الخلق وصارت «قوة فائقة» Superforce مفردة ولم تتفرق بعدها إلا حينما انخفضت حرارة الكون، وكان تفرقها هذا هو ما جعل رهان أينشتاين على نظرية المجالات الموحدة يبدو خاسرًا لأن الجميع كان يراها أربعة قوى منفصلة لا قوة واحدة، لكننا إذا رجعنا بالزمن ١٣٫٧ مليار سنة وقت حدوث الانفجار الكبير يمكننا أن نشهد الوحدة الكونية التي تخيلها أينشتاين ممثلة في أبهى صورها.
يذكر ويتن أنه سيأتي يوم تسيطر فيه نظرية الأوتار على حقل الفيزياء بالضبط كما سيطرت عليه ميكانيكا الكم طوال الخمسين سنة الماضية. لكن الواقع أنه لا تزال هناك عقبات صعبة تحول دون تحقق هذا تتمثل في مواطن ضعف أشار إليها بعض منتقدي النظرية، ومنها أنه لا سبيل لاختبارها اختبارًا مباشرًا، لأنه إذا كانت تلك النظرية هي نظرية الكون بأسره فالطريقة الوحيدة لاختبارها هي إعادة إحداث الانفجار الكبير وتخليق طاقة في محطم للذرة تقارب الطاقة التي نشأت في بداية الخلق، لكن عمل هذا يستلزم محطم ذرة بحجم مجرة كاملة، وهو الأمر الذي يخرج عن نطاق المعقول حتى بالنسبة للحضارات المتقدمة. ومع هذا تظل الآمال معقودة لأن معظم القواعد الفيزيائية قابلة للاختبار بشكل غير مباشر، والأمر الآخر الذي يذكي هذه الآمال ويزيدها عِظَمًا هو أن مصادم الهدرونات الكبير Large Hadron Collider (LHC) المزمع إنشاؤه في جنيف بسويسرا يتوقع له أن يمتلك الطاقة اللازمة لاستكشاف خبايا تلك النظرية؛ فمع بدء تشغيله سيستطيع أن يسارع البروتونات إلى تريليونات الفولتات الإلكترونية بحيث تصبح قادرة على تفتيت الذرة، ويأمل الفيزيائيون أن يجدوا بعد معاينة الحطام المتخلف عن هذا الاصطدام الكبير نوعًا جديدًا من الجسيمات يكون «جسيمًا فائقًا» ذا رنين أكبر على الوتر الفائق.
وهناك تكهنات بأن المادة السوداء يمكن أن تتألف من جسيمات فائقة، فمثلًا هناك شريك للفوتون يسمى «فوتينو» Photino وهو جسيم محايد الشحنة ومستقر وذو كتلة؛ فإذا كان الكون مملوءًا بغاز من الفوتينات فلن نستطيع أن نراه لأنه سيسلك مسلك المادة السوداء، وإذا استطعنا في يوم من الأيام أن نتعرف على حقيقة المادة السوداء فقد نستطيع يومها أن نخرج بدليل غير مباشر على صحة نظرية الأوتار الفائقة.

غير أن هناك طريقة أخرى يمكن بها اختبار النظرية اختبارًا غير مباشر من خلال تحليل موجات الجاذبية التي نشأت من الانفجار الكبير؛ فعندما تُطْلَق مستشعرات ليسا لموجات الجاذبية في الفضاء في العقد القادم قد تتمكن من رصد موجات الجاذبية التي انطلقت مباشرة بعد جزء على تريليون جزء من الثانية من لحظة خلق الكون، وإذا توافقت النتائج التي ستخرج بها مع فرضيات نظرية الأوتار الفائقة فسيكون هذا البرهان الدامغ على صحتها.

أما عن نظرية الغشاء فقد تستطيع أن تزيل بعض الغموض الذي يلف نظرية كالوزا-كلاين القديمة المتعلقة بالكون؛ ذكرنا من قبل أن أحد أكبر الاعتراضات على هذه النظرية هو أنها تتعامل مع أبعاد عليا لا يمكن ملاحظتها معمليًّا، في حين أن هذه الأبعاد لا بد أن تكون أصغر من الذرة (وإلا لسبحت الذرات في تلك الأبعاد العليا). لكن نظرية الغشاء تقدم لنا حلًّا محتملًا لهذه المعضلة بافتراض أن كوننا ذاته هو غشاء طافٍ في فضاء مدمج ذي أحد عشر بُعدًا، وبالتالي فالذرات والجسيمات دون الذرية محدودة بحدود غشائنا (كوننا) على عكس الجاذبية التي تشذ عن الفضاء المدمج لأنها تستطيع أن تتنقل بحرية بين الأكوان.

وهذه النظرية يمكن أن تختبر مع غرابتها؛ فمنذ عهد إسحق نيوتن والفيزيائيون يعرفون أن الجاذبية تقل بمعدل التربيع العكسي للمسافة، وفي الأكوان ذات الأربعة أبعاد المكانية تقل الجاذبية بمعدل التكعيب العكسي للمسافة، وبناء على هذا يمكننا أن نرصد وجود كون آخر من خلال قياس ما يقع من انحرافات طفيفة عن قانون التربيع العكسي، وحديثًا طرحت فكرة مفادها أنه إذا كان هناك كون موازٍ يبعد عن كوننا ميليمترا واحدًا فقد تنطبق عليه قوانين نيوتن للجاذبية، ويمكن أيضًا رصده بواسطة مصادم الهدرونات الكبير. ولقد أثارت هذه الفكرة اهتمام الفيزيائيين للغاية فهي تتنبأ بإمكانية اختبار أحد جوانب نظرية الأوتار الفائقة في القريب العاجل؛ إما بتحليل الجزيئات الفائقة أو بتحليل كون مواز لا يبعد عن كوننا إلا بمقدار ميليمتر واحد فقط.

ولهذه الأكوان الموازية القدرة على أن تقدم لنا تفسيرًا جديدًا لطبيعة المادة السوداء؛ فإذا كان هناك كون موازٍ يقع بالقرب منا فلن نستطيع أن نراه أو نستشعر وجوده (لأن المادة محدودة بحدود كوننا الغشائي) لكننا سنتمكن من استشعار جاذبيته (لأنها قادرة على أن تتنقل بين الأكوان). قد يتبدى هذا لنا كما لو كان الفضاء غير المرئي له شكل من أشكال الجاذبية كما للمادة السوداء، بل إن بعض العلماء المختصين بنظرية الأوتار الفائقة رأوا أنه قد لا تكون المادة السوداء إلا جاذبية أنتجها كون موازٍ قريب من كوننا.

لكن الواقع أن المعضلة التي تحول دون إثبات صحة نظرية الأوتار الفائقة ليست تجريبية؛ فإننا لا نحتاج لأن نبني محطمات ذرة عملاقة أو أقمار صناعية تحوم في الفضاء كي نحقق هذا الهدف، بل هي معضلة نظرية قلبًا وقالبًا، فإننا لو امتلكنا الذكاء الكافي لحل معادلات هذه النظرية حينها سنمتلك كل إجابات الأسئلة المتعلقة بكوننا ونجومه ومجراته وكواكبه بل من يقطنه من البشر أيضًا، لكن حتى يومنا هذا لم يظهر بين الناس من هو بالذكاء الكافي ليحل هذه المعادلات. وربما يخرج أحد ما غدًا أو بعد عشر سنين ليقول إنه قد أكمل حل معادلات هذه النظرية، حينها فقط سنعرف إذا كانت هذه هي بالفعل نظرية كل شيء أم هي نظرية لا شيء، فلأنها محددة للغاية وذات ثوابت غير قابلة للتعديل فلا يوجد حل وسط بين هاتين النتيجتين.

هل ستسمح لنا نظرية الأوتار الفائقة أو نظرية الغشاء بأن نوحد قوانين الطبيعة في كلٍّ بسيط متكامل كما قال أينشتاين ذات مرة؟ لا يزال الوقت مبكرًا على الإجابة عن هذا السؤال. وفي هذا المقام يحضرنا قول أينشتاين: «إن المبادئ الخلاقة تكمن في الرياضيات. ولهذا فإنني أؤمن أن الفكر المجرد قادر على استيعاب الواقع تمامًا كما كان القدماء يعتقدون.»١٥ ولعل قارئًا شابًّا لهذا الكتاب يجد إلهامه في فكرة توحيد جميع القوى الفيزيائية فيتمكن من إتمام هذه المهمة.

وبعد كل هذا قد يتسنى لنا أن نعيد تقييم تركة أينشتاين بشكل صحيح، فبدلًا من أن نقول إنه كان يجدر به أن يتوقف عن البحث عام ١٩٢٥ ويقضي بقية حياته يمارس الصيد، لعل خير ما يقال عنه هو: «إن المعارف الفيزيائية كلها تتلخص في نظريتين فقط يُكَوِّنان معًا عماد علم الفيزياء هما: النسبية العامة، ونظرية الكم. وأينشتاين هو مُوجِد الأولى والأب الروحي للثانية وهو أيضًا من مهد الطريق لتوحيدهما معًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤