مقدمات تاريخية

تعتبر المسألة المصرية من جميع الوجوه حلقة من سلسلة الوقائع والمنازعات التي دارت سجالًا بين الشرق والغرب من أقدم العصور التاريخية، وتعددت بواعثها بين عصر وعصر، وهي في جميع البواعث تدور على محورها «التقليدي» من هذا النزاع الدائم بين الشقين المتناظرين.

وقد عللت هذه المساجلات حينًا بحب الفتح والغلب، وحينًا بدفع الخطر واتقاء الغارة، وأحيانًا بالبحث عن الموارد الزراعية والتجارية أو بتنازع البقاء بين زحام الشعوب في حيز محدود.

ولكنها في حوادثها التي انتهت باحتلال مصر، قد تمثلت في دورين كبيرين، أحدهما لاحق بالآخر ومتوقف عليه، هذان الدوران هما: دور الحروب الصليبية ثم دور المسألة الشرقية، واحتلال مصر لم يكن إلا صفحة من صفحات هذا السجل الواسع الذي اشتهر باسم المسألة الشرقية، وامتد من الشرق الأدنى إلى الشرق الأقصى في حقبة من حقب التاريخ.

بدأت الحروب الصليبية في القرن الثاني عشر، واشتهرت باسم الحروب الصليبية؛ لأن الداعين إليها نشروا دعوتهم باسم الدين واستنفروا أمم أوربة للاستيلاء على بيت المقدس وموطن ميلاد السيد المسيح، ولكنها في حقيقتها لم تكن دينية بحتًا ولم تخلُ من بواعث سياسية واقتصادية لا علاقة لها بالدين ولا بالأماكن المقدسة.

ولهذا اتفق كثيرًا أن جمهورية جنوا وجمهورية البندقية بذلتا المسعى الحثيث لتحويل زحف الجيوش الصليبية إلى القسطنطينية، وهي في أيدي العواهل المسيحيين، وساعدتهما كنيسة رومة مرة بعد مرة في هذا المسعى المتواصل؛ لأنها كانت تشفق من نفوذ الكنيسة الشرقية وتبادلها «التحريم والحرمان» في عنف ولدد وخصومة تهون عندها جميع الخصومات. أما الجمهوريتان الإيطاليتان فكان همَّهما الأكبر تأمين المواصلات بين الشرق والغرب والاحتفاظ بطريق البحر الأبيض المتوسط؛ حذرًا من تحول التجارة إلى البحار الغربية.

واتفق حينًا أن أسقف فوقيس Phoc’s استعدى السلطان بيازيد على مزاحميه من أساقفة اللاتين والإغريق، ودعاه إلى فتح المورة والاستيلاء عليها، كما اتفق من الجانب الآخر أن أذناب الدولة الفاطمية كتبوا إلى الصليبيين في إيطاليا الجنوبية يستعدُونهم ليدفعوا بهم سلطان صلاح الدين.

وقد كانت الشعوب الأوروبية ولا ريب تهتم بالحروب الصليبية لأسباب دينية، ولولا ذلك لما سمح الآباء والأمهات بتجريد حملة من ثلاثين ألف طفل دون الخامسة عشرة (سنة ١٢١٢)؛ لاعتقادهم أن براءة الطفولة خليقة أن تنال من الله ما لا يناله الكبار الغارقون في الخطايا والذنوب. ولكن نظرة واحدة إلى أخبار الزمن وحوادثه السياسية تبدي لنا بواعث كثيرة إلى جانب البواعث الدينية، كان لها شأن عظيم في تجريد تلك الحملات ومواصلة الإمداد لها مائتي سنة أو تزيد.

مثال ذلك حالة إنجلترا في ذلك العصر، وهي لا تنتهي من نزاع الكنيسة حتى تدخل في نزاع بين النبلاء والملك ومصالحة بينهم على شروط الوثيقة الدستورية التي اشتهرت باسم الوثيقة الكبرى Magna Carte.

ومثال ذلك طموح فرنسا إلى استبقاء لقب الدولة الرومانية المقدسة والتذرع بذلك إلى ضم الأقطار التي كانت مضمومة من قبل إلى الدولة الرومانية، ويقترن بهذا كله خلاف البابوات والملوك على فرض الضرائب ونقل الكنيسة من رومة إلى الأرض الفرنسية.

وقد كان معظم الحملة في الحروب الصليبية موجهًا إلى البلاد المصرية؛ لأنها كانت يومئذٍ أقوى الدول الإسلامية وكانت بيت المقدس تتبعها في كثير من الأوقات، ولكن العالم الشرقي كان قد تجاوب بأنباء هذه الحرب، وكانت هذه الأنباء باعثًا من البواعث القوية لاستقدام الترك العثمانيين إلى آسيا الصغرى، فروسيا الجنوبية، فالأقطار التي كانت جيوش الصليبين تتجمع عندها في أوربة الوسطى، ولم تزل جيوش العثمانيين تطرق أبواب بودا وفيينا حتى هدأت الحروب الصليبية والحروب العثمانية بعض الشيء في أوائل القرن الخامس عشر، واستولى الترك على القسطنطينية (سنة ١٤٥٣)، ثم تحولت حملاتهم إلى الأقطار الآسيوية وفتحوا مصر بعد ذلك بنيف وستين سنة (سنة ١٥١٧).

وانقضى نحو قرنين بعد قيام الدولة العثمانية في القسطنطينية وأمم أوربة مشغولة بالأحداث الجسام التي تعاقبت عليها خلال تلك الفترة، ومنها دعوة الإصلاح الديني وكشف أمريكا ونهضة الأمم الناشئة وحروب إنجلترا وفرنسا وإسبانيا وظهور الدولة الروسية في أوربة الشرقية، فلم تجد متسعًا من الوقت ولا من الوسيلة للبحث في الشئون الشرقية إلى أواخر القرن السابع عشر، ثم تنبهت إلى النزاع بين روسيا الناشئة والدولة العلية الشائخة، فكان هذا التنبه العام فاتحة المسألة التي عرفت باسم المسألة الشرقية.

ولم يظهر لروسيا اسم في إبان الحروب الصليبية؛ لأنها كانت شعوبًا متفرقة بعضها على الوثنية وبعضها حديث عهد بالمسيحية، فلما تمت لها الوحدة بين شعوبها وقامت على رأسها حكومتها القيصرية اتخذت لها سياسة تتلخص في «مداومة الحرب لفتح العالم»، وجمعتها الوصية المفصلة التي كتبها بطرس الأكبر، وجاء في مادتها الأولى: «يجب أن يقاد الجيش إلى الحرب على الدوام، وأن تظل الأمة الروسية على أهبة القتال ولا تغفل عنه إلا لراحة الجند وتوفير المال.»

وجاء في المادة التاسعة منها: «يجب الاقتراب جهد المستطاع من القسطنطينية والهند، وإذا كان معلومًا مسلمًا أن القابض على القسطنطينية يقبض على الدنيا بأسرها كان لزامًا أن تشن الغارة تارة على الدولة العثمانية وتارة على الدولة الإيرانية، ويجب ضم البحر الأسود شيئًا فشيئًا لإقامة دار لصناعة السفن على شواطئه، ولا غنى مع هذا عن ضم البحر البلطي لأن موقعه لازم لتحقيق هذه الخطة، ومن الواجب التعجيل بإضعاف دولة إيران أو القضاء عليها للوصول إلى خليج البصرة، لعلنا نتمكن من إعادة التجارة الشرقية القديمة إلى بلاد الشام والنفاذ منها إلى الهند التي هي مخزن الدنيا، وبهذه الوسيلة نستغني عن ذهب إنجلترا.»

وقد اشتملت مواد الوصية الأخرى على النصائح التي ينبغي اتباعها لبث الفتنة والفساد في البلدان المتاخمة لروسيا توطئة للزحف عليها أو ضمها بالوسائل السلمية.

وهكذا اتفق أن تنفيذ هذه الوصية وفتح باب المسألة الشرقية باسم تحرير المسيحيين من حكم الدولة العثمانية يمشيان مرحلة طويلة في طريق واحد، وتعاقبت المعاهدات تنفيذًا لتلك الخطة، كمعاهدة كارلوتيز بين روسيا والنمسا وبولونيا وتركيا (١٦٩٩)، ومعاهدة كجوق قينارجة بين الروسيا وتركيا (١٧٧٤) ومعاهدات سابقة ولاحقة اشتركت روسيا وممالك أوربة الوسطى وشواطئ البحر الأبيض في معظمها.

إلا أن هذه الدعوة لم تخدع أوربة الغربية عن خفايا المقاصد التي انطوت عليها، وكانت فرنسا على الخصوص قد خرجت من الحروب الصليبية بلقب حامية البقاع المقدسة، وكانت إنجلترا التي انفصلت عن كنيسة رومة لا تنازعها هذه الدعوى، ولكنها تخشى على الهند وتأبى كل الإباء أن تسمح لروسيا بالتسلل إلى البحر الأبيض. فحدث غير مرة أن فرنسا كانت تهب للمطالبة بحماية المسيحيين اللاتين كلما هبت روسيا لحماية المسيحيين الإغريق، وأن إنجلترا كانت تتعلل بالمحافظة على كيان الدولة العثمانية كما ضمنته المعاهدات، وكانت مع هذا لا تخلو من أناس يحبون أن يطلقوا على ملكهم لقبًا من الألقاب الدينية، وظلت هذه الرغبة تساورهم إلى أيام الملكة فكتوريا التي كانت تود لو اعترف لها شعبها بلقب حامية الملة Defonber of faith، وسبقت فرنسا الدول إلى عقد معاهدة مع تركيا تعترف لها باللقب القديم، فانعقدت هذه المعاهدة بين لويس الخامس عشر والسلطان محمد خان (سنة ١٧٤٠).
تمخضت الحروب الصليبية كما قدمنا عن حروب المسألة الشرقية، وظلت المسألة الشرقية زمنًا طويلًا، وهي حروب صليبية بعنوان آخر، وبخاصة في موقف الدول الأوروبية الكبرى بإزاء مصر، وعلى الأخص فيما يتعلق بقناة السويس؛ فإن الفيلسوف الألماني «ليبنتز» قد زين لعاهل فرنسا «لويس الرابع عشر» أن يضرب هولندة في تجارتها الشرقية بانتزاع مصر من قبضة الإسلام، وأنه بذلك يشل هولندة عن مقاومته؛ لأن اعتراضها إياه في غزوه لمصر يثير عليها الأمم المسيحية، وسيأتي في الكلام على قناة السويس أن المركيز «دار جنسون Dar Genson» كان يعتبر حفر قناة السويس فتحًا صليبيًّا يهم العالم المسيحي بأسره، ولكن المسألة الشرقية قد ذهبت شوطًا آخر وراء ذلك، وتمخضت عن دور آخر في سياسة الدول الأوروبية نحو الدولة التركية، وهو الدور الذي عُرف بالتفاهم على تركة الرجل المريض.

•••

فبعد أن كان الغرض من المسألة الشرقية انتزاع الأقطار المسيحية في تلك الدولة أصبح الغرض المتفق عليه في هذا الدور تقسيم أقطار الدولة جميعًا من مسيحية وإسلامية، وتبادل الإغضاء عن كل نصيب متفق عليه يقع في قبضة الطامعين فيه من المتنازعين على التركة، وصاحبها بقيد الحياة.

وعلمت الدنيا في القرن الثامن عشر أن شركة من الشركات التجارية نزلت بالهند فملكتها وضمتها إلى حوزة الدولة البريطانية. ونشأت الصناعات الكبرى في ذلك القرن، وتدفق الذهب من القارة الأمريكية على الدول الأوروبية، صواحب المستعمرات في تلك القارة، فحسن لدى بعضها أن تعتمد على الذهب وتعدل عن القتال لضم الأقطار المطموع فيها. وراقت هذه الخطة دول التجارة والمستعمرات، وفي مقدمتها إنجلترا وفرنسا، ففتحت خزائنها لطلاب الديون من بلاد الدولة العثمانية على الخصوص؛ لأنها تستند فيها إلى الامتيازات الأجنبية. ولم تستطع الدول الأخرى أن تجاريهما في هذا المضمار، ولم تستطع كذلك أن تقف في طريقهما لأنهما تعملان «بالوسائل السلمية» ولا تجردان السيف، فيتبع ذلك ما يتبعه من اشتباك دول شتى في حومة القتال، ولكن الدولتين صاحبتي المال والمستعمرات لم تتركا الدول المتربصة بغير عوض؛ فسمحتا لروسيا بضم ما شاءت ضمه من الديار الأوروبية، وتغاضتا عن خطتها «إلى الشرق» ما دامت بعيدة من مكمن الخطر، وسمحتا لروسيا ببعض الأقاليم في آسيا الغربية وأوقعتا في رُوعها دائمًا أن الحد الممنوع هو الحد الذي يؤدي إلى الاحتكاك في طريق البحر الأبيض وطريق الهند من أقصاه إلى أقصاه.

•••

وقبل أن ينتصف القرن الثامن عشر كانت أوربة كلها تتطلع إلى دولة فتية نبغت في وسطها، هي الدولة البروسية: ارتفع بها فردريك الكبير إلى مصافِّ الدول الكبرى، وقام على أمورها بعده بفترة وجيزة وزيرها القدير بسمارك صاحب السياسة التي وسمت يومئذٍ بسياسة الدم والحديد، وكان من مطامحه أن يضم إلى وطنه شعوب أوربة الجرمانية باسم ألمانيا العظمى، ونظر إلى الشرق فطمع في الدولة النمسوية؛ لأنها شائخة تتداعى، ونظر إلى الغرب فطمع في هولندة لأنها أصغر من أن تحمي نفسها في مصطرع الدول المحيطة بها. ولاح له أن تصفية الدولة العثمانية خير طريقة إلى المساومة على صفقته الرابحة، فإذا شجع روسيا على احتلال الآستانة ومضائق البسفور والدردنيل، وشجع إنجلترا على احتلال مصر وقناة السويس، أمكنه أن يستلحق الجرمان الأوروبيين شرقًا وغربًا بغير عناء. وتبقى فرنسا فلا يضيره أن يدفع اعتراضها بالسماح لها إلى حين بضم بلجيكا من جانب حدودها، ويتسنى له من ثمة أن يقبض على ميزان الفصل بين الخصوم والنظراء، فلا تستغني دولة من الدول عن مجاملته وخطب وده. ولولا أن دهاة إنجلترا وروسيا كانوا يحذرونه ولا يطمئنون إلى تحريضه، لاندفعوا حيث أراد أن يدفعهم، ولكنهم راوغوه ولم يقنطوه وتخادع له بعضهم ليخدعوه، فلم يزل يلعب لعبته بين إنجلترا وروسيا وفرنسا حتى بطلت الغاية منها فانقلب على الجميع واحدة بعد أخرى.

من مخازي هذا الدور — دور المسألة الشرقية — فضائح المذابح التي تعللت بها الدول لتحقيق غاياتها المرسومة، وقد لوحظ عليها أنها تحدث دائمًا في مكانها المطلوب وعند الحاجة إليها، فحدثت في أرمينية عندما شرعت روسيا في استلحاقها، وحدثت في لبنان عندما تهيأت فرنسا لبسط نفوذها عليه وتنصيب ولاته باختيارها، وحدثت في الإسكندرية والأسطول البريطاني يتحفز على شواطئها، وكانت حجة مشتركة تسعف المحتجين بها في ساعتها وفي مكانها.

وقد ثبت من الحوادث التي جرى التحقيق فيها بأعين العالم وسمعت فيها شهادات الأجانب أنفسهم، أن الاعتداء فيها كان يبدأ من ناحية الأجانب الذين كانوا يصولون على أبناء البلاد بامتيازاتهم المجحفة. وعرف في التاريخ أن الأرمن كانوا يعيشون مع جيرانهم الترك في سلام ومودة، وكان الترك يسمونهم «بملتى صادقة» ثقة بهم واطمئنانًا إليهم، ومن دلائل ذلك في مصر إيثار بوغوص وأرتين ونوبار بمناصب الوزارة في أيام محمد علي وإسماعيل، وإيثار أسطفان وأرام في أيام عباس الأول، وقد أدى البحث في مذابح سنة ١٨٩٥ إلى الوقوف على سبب هذه المذابح، وهو يعزز ما اشتهر من شعور الترك نحوهم، فقد سافر مئات من الترك في تلك السنة إلى الحجاز وتركوا أبناءهم ونساءهم في رعاية جيرانهم من الأرمن المقيمين معهم في بلادهم، فما هو إلا أن أبعدوا في السفر حتى اندس المحرضون من الخارج بين تلك القرى يحرضون الأرمن على الفتك بجيرانهم الموكولين إلى رعايتهم، فاعتدوا على الأرواح والأعراض وانقضوا على الصغار والشيوخ يقتلونهم أو يشردونهم. وسكت المؤرخون الغربيون عن هذه الحقائق ولم يذكروا من أخبار أرمينية غير ما سموه بالمذابح المسيحية، وتواطئوا على إخفاء الأخبار الصحيحة، كما جاء في دائرة معارف أفريمان من مادة تركيا بمجلدها الثاني عشر. ويستطيع من شهدوا في مصر عدوان المعتدين على المصريين عقب الحرب العالمية الأولى أن يعلموا سهولة هذا العدوان على من يسميهم أولئك الكتاب الغربيون بضحايا العسف والاضطهاد.

أما مذابح لبنان فقد حدثت في الوقت الملائم أيضًا، لأنها لبثت بالانتظار — إذا صح هذا التعبير — حتى خرجت فرنسا وإنجلترا متفقتين من حربهما مع روسيا لصد روسيا عن بلاد الدولة العثمانية، وإبطال دعواها في حماية الملة، وانعقد مؤتمر باريس (١٨٥٦) لإبرام الصلح وتقسيم ما تيسر تقسيمه من بلاد الدولة في أوربة وآسيا، وبعد هزيمة النمسا سنة ١٨٥٨ واشتعال الحرب البروسية النمسوية وإلحاح الضرورة على نابليون الثالث لتوطيد مركزه بين المحافظين المتدينين مستعينًا بهم على الغلاة من أنصار الجمهورية — سنحت الفرصة «لحامي الملة»، فجاءت مذابح لبنان في سنة ١٨٦٠ ملبية لكل طلب موافقة لكل خطة. وتلاها ارتياد المعاهد الفرنسية لمدن لبنان وسورية تثبيتًا للثقافة الفرنسية والثقافة العربية في وقت واحد؛ إذ كانت يقظة العرب لازمة لتقويض أركان الدولة وتقريب المسلمين مع المسيحيين إلى سياسة فرنسا باسم الدين من ناحية، واسم العلم والحضارة من ناحية أخرى، ثم نسيت ثقافة العرب، بل حوربت، بعد قضاء المأرب من تركة «الرجل المريض».

•••

إن سياسة الدول في المسألة الشرقية درس تطبيقي مفصل لمذهب القائلين بالسياسة الجغرافية Geopolitics، وخلاصته أن مركز الأمة الجغرافي يملي عليها سياستها على اختلاف الحكومات والمعتقدات.

فالسياسة الروسية في عهد «بطرس الأكبر» هي بعينها سياسة الشيوعيين الذين يحاربون الملة، ولكنهم يحذون حذو العاهل القديم في مراميه ومساعيه للسيادة على مضائق البسفور والدردنيل والإشراف على البحر الأحمر وخليج البصرة وطريق الهند ومسالك إيران.

وفرنسا طمحت إلى ضم بيت المقدس ومصر على عهد ملوكها القديسين؛ لأن «لويس التاسع» كان يزعم أنه «أمين الأمة العيسوية»، كما قال في خطابه إلى الملك الكامل «أمين الأمة المحمدية»، ثم طمحت إلى هذه الغاية في عهد «لويس الخامس عشر»، قبيل الثورة وفي إبان حركة التمرد والإلحاد. ثم جاء نابليون الأول إلى مصر، وهو يقول للمصريين بعد افتتاح منشوره: «بسم الله الرحمن الرحيم … الذي لا ولد له ولا شريك في ملكه، إنه أعظم احترامًا للنبي والقرآن الكريم من المماليك، ويطلب إلى العلماء والأعيان أن يبلغوا أمتهم أن الفرنسيين مسلمون مخلصون … يحبون الدولة العلية.»

يقول هذا في مصر وهو لم يبرح فرنسا حتى كان قد أقنع حكومة الإدارة «بأن مصر موصل تجاري بين الشرق والغرب … وأنها إذا افتتحت وبقيت فيها فرنسا خمسين سنة غنيت فرنسا بما تأخذه من محاصيلها وما تبيعه في أسواقها … ولم تقم لإنجلترا قائمة في بلاد الهند بعد احتلال شواطئ البحر الأحمر وشق القناة بين النيل والسويس …»

ثم انفصلت فرنسا عن الكنيسة ولم تزل إلى أواخر القرن التاسع عشر تدعي لنفسها حق حماية المسيحيين في المشرق، ثم احتلت ما احتلته من هذا المشرق بحجة جديدة غير الحجة الدينية، وهي حق الدول الكبرى في الوصاية على الأمم الصغرى بانتداب من أمم الحضارة.

أما إنجلترا فقد أملى عليها موقعها البحري واستيلاؤها على الهند أن تحتل جبل طارق ورأس الرجاء الصالح وعدن ومصر، كما تحتل جزيرة مالطة وجزيرة قبرص، وتعللت لاحتلال كل موقع من هذه المواقع بعلة بينها وبين العلل الأخرى أشد مما بين هذه المواقع جميعًا من مسافات المكان، ولكن «السياسة الجغرافية» هي العلة الواحدة التي تطوي جميع تلك العلل، والغاية الأخيرة التي تسبق جميع تلك الغايات.

فإذا كذب الساسة وانخدع المسوسون، لم تكذب الجغرافية ولم ينخدع التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤