الخديو توفيق

استهل الخديو «توفيق» ولايته بعهد كتبه إلى رئيس مجلس الوزراء «شريف باشا»، قال فيه: «… إني عظيم الميل إلى بلادي، شديد الرغبة في تحقيق آمال الأمة التي أظهرت السرور بولايتي وفي إخراجها من هذه الحال السيئة، ومع هذه العواطف فإني عازم عزمًا أكيدًا على بذل الجهد وصرف الهمة إلى التماس أحسن الوسائل لإزالة هذا الاختلاف المفسد لكثير من المصالح …»

وقال في الأمر الآخر: «إن الحكومة الخديوية يلزم أن تكون شورية ونظارها مسئولين، فإنني اتخذت هذه القاعدة للحكومة مسلكًا لا أتحول عنه، فعلينا تأييد شورى النواب وتوسيع قوانينها لكي يكون لها الاقتداء في تنقيح القوانين وتصحيح الموازين …»

fig5
الخديو توفيق.

صدر هذا الأمر في الثالث من شهر يوليو سنة ١٨٧٩، وفي الخامس منه — أي بعد يومين — فض مجلس شورى النواب، واستقالت وزارة «شريف باشا»، فألف الخديو الوزارة برئاسته، وأشير عليه باستدعاء «رياض باشا» من إنجلترا فاستدعاه، ووكل إليه تأليف الوزارة فألفها، ولم يذكر فيها شيئًا عن المجلس والنظم النيابية. وبقيت الحياة النيابية معطلة إلى أوائل سنة ١٨٨١، ولم يعمل أحد على التمهيد لإعادتها إلا بعد أن أذاع «عرابي» منشوره الذي قال فيه: «اعلموا يا معاشر الوطنيين، أن أولادكم المنتظمين في سلك الجهادية قد اتكلوا على الباري سبحانه وتعالى وعزموا على منع كل ما من شأنه الإجحاف بحقوقكم، وذلك لا يتم إلا بسقوط وزارة رياض باشا، وتشكيل مجلس النواب ليحصل الوطن على الحرية المبتغاة.»

وعلى أثر ذلك ذهب وفد من الوجهاء إلى «شريف باشا» وعلى رأسهم «سلطان باشا» و«سليمان أباظة باشا» و«الشريعي باشا» … ومعهم عريضة وقعها نحو ألف وستمائة وجيه وعالم وكبير، يطلبون استئناف الحياة النيابية. ولم تكن هذه العريضة وليدة المنشور الذي أذاعه «أحمد عرابي» على الأمة؛ لأنها كُتبت في اليوم التالي لمظاهرة عابدين — ٩ سبتمبر ١٨٨١ — ووضح من ذلك أن العسكريين والمدنيين كانوا صوتًا واحدًا في طلب الحياة النيابية.

أما سياسة الخديو «توفيق» في هذه الحركة، فقد كانت سياسة تردد وتسويف، وحينًا يشجع العرابيين لإحراج الوزارة الرياضية، وحينًا يشجع الوزارة الرياضية لكبح العرابيين، وفي كل حال من هذه الأحوال يداري الدول الأجنبية، ولا سيما إنجلترا فلا يرفض لها طلبًا تصر عليه.

وكان على اتصال دائم بقناصل الإنجليز، يطلعهم على المطالب العرابية والأزمات الوزارية، ويأذن لهم بمصاحبته وهو يستقبل الرؤساء والوزراء. وقد علمته التجارب دروسًا كثيرة، ولكنه لم ينسَ قط أن إنجلترا وفرنسا سعيا في خلع أبيه واستخلاص الفرمان الذي يحفظ له أهم الحقوق الخديوية … فحاذر جهده أن يشتبك مع الدولتين في خلاف حاسم، ولا سيما الدولة الإنجليزية.

ومن كلام أخصائه الإنجليز — ومنهم ألفريد بتلر المؤرخ المشهور — يبدو أنه كان يحتفل بمجاملتهم بين كبار موظفيه، فيقضي الساعات يتكلم معهم باللغة الإنجليزية التي لا يعرفها أولئك الموظفون، ويذكر الأسماء بالحروف الهجائية في سياق أحاديثه؛ ليخفي موضوع الكلام عن سامعيه الذين لا يعرفون أصحاب تلك الأسماء، ويفضي في هذه الأحاديث بأخبار من المعلومات الخاصة والأوراق المحفوظة تتعلق بالأسرة وعظماء البلاد!

وليس بالمعقول أن يقال عن أمير: إنه يرتضي باختياره تسليم سلطانه للأجانب وتحكيم أولئك الأجانب في بلاده، ولكن الخطأ في سياسة الخديو «توفيق» أنه اعتقد أن التدخل الأجنبي مؤقت، وأن المعاهدات الدولية والمنافسات بين الدول تمنع ضم مصر إلى دولة منها، فلم يحذر الاحتلال البريطاني ووجه الحذر كله إلى مقاومة العرابيين.

لهذا أصدر أمره في الرابع عشر من شهر أغسطس — بعد ضرب الإسكندرية في الحادي عشر من شهر يوليو — منذرًا من يقاوم الجيش الإنجليزي بشديد العقاب، وجاء في ذلك الأمر ما يلي:

ليكن معلومًا عند السلطات الملكية والعسكرية في منطقة قناة السويس أن أميرال الأسطول الإنجليزي وقائد الجيوش البريطانية العام، إنما أتيا إلى مصر لإعادة الأمن والنظام إليها، ومن ثم قد سمحنا لهما باحتلال جميع الأمكنة التي يريان في احتلالها ما يساعد على قمع العصيان، ومن يخالف أمرنا هذا ينزل به أشد العقاب.

وعلى حين فجأة، ينكشف الستار وتنجلي الغشاوة ويبدأ المحتلون حكمهم في القاهرة بتهديد مسند الخديوية الذي زعموا أنهم جاءوا لتأييده وتمكينه، فما هو إلا أن اختلف الخديو وقادة الإنجليز على طريقة محاكمة العرابيين حتى أبرق إليه اللورد جرانفل مهددًا متوعدًا في أسلوب خشن ولفظ قارص، وأبلغ الحكومة المصرية بصريح العبارة: «أنه ليس هذا أوان ظهور الحكومة المصرية بمظهر المعارضة والممانعة، وأن استمرارها على الإباء يعرضها للفشل والخطر، ولا تكون هذه النتيجة مقتصرة على الوزارة وحدها بل تتناول مركز الخديو نفسه، وإذا لم تقبل الحكومة المصرية طلب الحكومة الإنجليزية فلا يسعها أن تتحمل تبعة ما يترتب على رفضها من النتائج السيئة بعد انقضاء ثمانية أيام على تبليغ هذا الإنذار …»

تلقى الخديو هذا الإنذار من الوزارة البريطانية قبل أن ينقضي على جيش الاحتلال شهر واحد في القاهرة، ولو تسنى له أن يتراجع في سياسته لتراجع وأمعن في التراجع، ولكن سبق السيف العذل وبلغ الكتاب أجله وانتهت الحيل بترك الحيلة مع أقطاب الاحتيال والاغتيال …

fig6
جمال الدين الأفغاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤