إنجلترا وفرنسا

بدأ القرن التاسع عشر وإنجلترا وفرنسا — كما يقال — فرسا رهان في حلبة الاستعمار، وكانت أزمَّة السياسة الدولية في أيديهما تتنازعانها في أكثر الأوقات وتنفقان عليها حينًا بعد حين. وقد كادت أزمَّة السياسة الدولية عند مفتتح القرن التاسع عشر تنحصر في أيديهما؛ لأن إنجلترا كانت يومئذٍ أقوى دول البحار، وفرنسا كانت أقوى الدول البرية في القارة الأوروبية. وكلتاهما تتجه إلى البحر الأبيض المتوسط وطرق المواصلات بين الشرق والمغرب. لأن إنجلترا ملكت الهند وأصبح من همِّها أن تحرس الطرق بين هذه المستعمرة الشاسعة وبين الجزر البريطانية، وفرنسا قد انهزمت في سياستها الهندية فأصبحت — مع رغبتها القديمة في السيادة على البحر الأبيض ودعواها التقليدية في حماية البقاع المقدسة — شديدة الطمع في تعويض خسارة الهند واغتنام الفرصة لانتزاع الهند كلها من أيدي بريطانيا العظمى، أو إضعاف قبضتها عليها.

وكانت الدولة العثمانية قد دخلت في دور الانحلال الذي سماها الساسة الأوروبيون من أجله بالرجل المريض في أوربة The sick Man of Europe وأخذوا من ثمة يتقسمون تركتها بينهم في حياتها، وليس في هذه التركة ما هو أغلى وأنفس وأولى بالطمع فيه من الديار المصرية.

وكانت هذه الديار قد خرجت فعلًا من سلطان الدولة العثمانية في أيام «علي بك الكبير» أحد أمراء المماليك، فأعلن استقلالها وسك النقود باسمه وأوشك أن يستولي بجيشه القوي على بلاد السلطنة متفقًا مع ولاتها في الشام وما جاورها. ولعل المبارزة الدولية حول مصر — في العصر الحديث — قد ظهرت للمرة الأولى بين روسيا وإنجلترا لإحباط هذا الاستقلال، فقد استعان «علي بك الكبير» بالأسطول الروسي واستعان خصمه «محمد أبو الذهب» بالأموال الإنجليزية، وكان حليفًا لإنجلترا وتعاقد معها على تبادل التجارة وتيسير وصول سفنها إلى السويس، واتفق هذا مع ثورة الخواطر في العالم الإسلامي على روسيا في تلك الفترة، فانفض أنصار «علي بك الكبير» من حوله وفت في عضده مناداة دار الخلافة بعصيانه، فتضاءل شأنه ومات سنة (١٧٧٣) مغلوبًا على أمره، وعادت مصر بعده إلى ما كانت عليه في عهد المماليك الأخير، ميدانًا للمنافسة والشقاق بين الأقوياء من أمرائهم، وفريسة للنهب والسلب بين الأتباع والجند الذين يخدمون أولئك الأمراء.

ولم ينقطع نظر الدولتين — إنجلترا وفرنسا — إلى الديار المصرية في تلك الفترة، وكل منهما تقدر أن هذه المنازعات ستئول عاجلًا أو آجلًا إلى ظهور أحد الأمراء الأقوياء على خصومه ومنافسيه كما حدث في أيام «علي بك الكبير»، فحسبت حسابها لذلك اليوم وجعلت تترقب الأحوال وتمتحن النظراء والمتنافسين على الرئاسة، وترشح للإمارة على القطر أقواهم بأسًا وأكبرهم أملًا في النجاح، فتبذل له المعونة وتوقع في نفسه أن يعتمد عليها وينتظر المساعدة السياسية والعسكرية منها، وترجو أن يذكرها عند نجاحه فتبلغ على يديه ما كانت تطمع في بلوغه بالفتح والغلبة على الدول الأخرى.

ولم يكن من اليسير في ذلك العصر أن تطمع دولة كبيرة في ضم بلاد كمصر إلى حوزتها دون أن تثير عليها حربًا ضروسًا تشترك فيها الدول الكبرى بأجمعها وتنتهي بهزيمتها وضياع غنيمتها بل ضياع ما ملكته قبل اغتنامها؛ لأن القرن التاسع عشر قد طلع على القارة الأوروبية، وهي تضطرب بالدول الجديدة والأمم المتطلعة إلى الاستقلال والسيادة، فانفتح أمامها مجال السباق وأخذت على الرغم منها بسياسة التوازن والتألب على كل دولة تحاول الاستئثار بالأمر والانفراد بالسيطرة على السياسة العالمية، لهذا فضلت الدولتان — إنجلترا وفرنسا — أن تبسط كل منهما نفوذها من طريق «التدخل السلمي» في البلاد الشرقية. وأوله في تقديرها أن يشعر الولاة بفضلها عليهم، وأنهم مدينون لها بالتشجيع والمساعدة، ويتلو ذلك ما يتلوه عادة من ترويج المصالح ونشر الثقافة وادعاء «الحماية» فعلًا إن لم تكن حماية صريحة باعتراف الدول وإقرار الشعوب المحمية.

فأما إنجلترا فقد هداها تقديرها إلى ترجيح كفة «الألفي بك» أحد الأمراء الأقوياء، بل لعله أقوى الأمراء المماليك في تلك الفترة، فاستمالته إليها ودعته إلى بلادها وأعادته إلى مصر محملًا بالهدايا النفيسة والأموال الوافرة، لينفقها في جمع الأنصار وشراء الأعوان والمؤازرين، ويتوسل بالنفوذ الداخلي والنفوذ الخارجي إلى الاستقلال بولاية الديار المصرية.

ويظهر أن فرنسا كانت أعلم بحقائق الأحوال في مصر من منافستها في هذه المرة؛ لأن الحملة الفرنسية قد سبرت أغوار المماليك وترجح لديها أن دولتهم زائلة وأيامهم معدودة، فمال تقديرها إلى رجل من غير المماليك وعلى خلاف هذا الطراز في علاج الأمور وجمع الأنصار والأعوان، وهو «محمد علي الكبير».

ولبثت الدولتان تترقبان، ولم يطل الترقب في أوائل القرن التاسع عشر، فلما اتفقت كلمة العلماء والأعيان وقادة الرأي العام في مصر على ترشيح «محمد علي» للولاية بادرت فرنسا بوساطة الجنرال «سبستيان» سفيرها في الآستانة إلى تأييد هذا الترشيح. وبذل «ماثيو دلسبس» صديق «محمد علي» ووالد فرديناند صاحب مشروع القناة غاية مسعاه لإقناع السفير الفرنسي بموالاة العمل في هذا السبيل، فلم يقصر السفير في مسعاه جهد ما استطاع. وساعده في هذا المسعى أن بعض المماليك كانوا من أصل فرنسي تخلفوا في مصر ولم يستطيعوا السفر مع حملة نابليون عند عودتها إلى بلادها، فدانوا بالإسلام وعاشوا عيشة المماليك وانضموا إلى حزب «محمد علي»؛ فرجحت كفته بتأييد الشعب ومؤازرة حزبه من المماليك الأصلاء وهؤلاء المماليك المستشرقين.

وساعد الحظ «محمد علي» فمات منافسه «محمد الألفي» وخلفه على رئاسة المماليك رجل لا يضارعه في العزم والهمة، وإن كان معمولًا مثله على القوة الإنجليزية. فلما صدر الفرمان العثماني بتولية «محمد علي» ثارت عليه ثائرة الإنجليز وأنفذوا إلى مصر حملة بحرية (١٨٠٧) عسى أن تفلح في جمع شتات المماليك وتأليبهم حول «شاهين بك» أميرهم الجديد، ولكنها انهزمت في رشيد وأخفقت الحملة في أغراضها كما أخفقت مساعي إنجلترا السياسية في الآستانة؛ لأن علماء مصر وأعيانها عادوا إلى تأييد «محمد علي» ورفض الوالي الذي أرسلته الدولة ليعزله ويتولى أمر مصر في مكانه.

ولبثت إنجلترا تتحين الفرصة لضرب النفوذ الفرنسي في الديار المصرية وإخلاء الجو لمطامعها في هذه الديار، فلما جرد «محمد علي» حملة على بلاد الدولة العثمانية وطرقت جيوشه أبواب القسطنطينية، سنحت لها فرصتها المرتقبة واستفادت من شواغل فرنسا الداخلية، فأثارت الدول على «محمد علي» ونفخت في نفير الخطر من اشتعال الحرب العالمية إذا انهارت دولة بني عثمان وتجددت بانهيارها الفجائي منازعات الدول على تركة «الرجل المريض». وحاولت أن تكسب بذلك عطف المسلمين في الهند بدعوى الغيرة على دولة الخلافة، فكان لها ما أرادت واتفقت معها روسيا والنمسا وبروسيا على صد «محمد علي» عن بلاد الدولة وإعادته إلى حدود البلاد المصرية، وأبرمت في ذلك الحين معاهدة سنة ١٨٤٠، فوقَّعت عليها تركيا مع الدول الأربع، ولم توقع عليها فرنسا لاشتغالها بشئونها كما تقدم، واعتراضها على السياسة البريطانية، وهي لا ترمي إلى شيء غير إخلاء الميدان المصري من كل نفوذ غير نفوذها.

وكانت هذه المعاهدة نكبة على مصر في حينها وبعد حينها إلى اليوم الذي انفصمت فيه علاقة السيادة بين مصر والآستانة، فقد سمحت لإنجلترا أن تتذرع بها تارة لتهديد الدولة العثمانية محافظة على امتيازات مصر، وتارة لتهديد مصر محافظة على امتيازات الدولة العثمانية.

وتمكنت من التمادي في هذه اللعبة بعد وفاة «محمد علي الكبير»؛ لأن خلفاءه لم يكن لهم من بعد النظر ما اشتهر به ذلك العبقري الموهوب، وإن كانت ثقته بفرنسا قد دفعته إلى حرب لا يؤمن ضررها ولا يرجى من ورائها خير مضمون.

توفي «محمد علي الكبير» وتوفي أكبر أبنائه «إبراهيم» في حياته، وآل عرش مصر إلى «عباس باشا الأول» ابن الأمير «طوسن بن محمد علي»؛ لأنه كان المرشح الوحيد للولاية بغير مزاحم، ولم يكن محبوبًا في الدوائر الأوروبية؛ لمحافظته وإعراضه عن الحضارة الحديثة. فنفر منه القناصل ووقفوا له بالمرصاد وأجمعوا أمرهم على مقاومته، فيما كان يحاوله من نقل وراثة العرش إلى ابنه إلهامي باشا، ثم مات عباس «مخنوقًا» في قصره ببنها وفوجئ ولي العهد الشرعي «محمد سعيد» بالخبر وهو في الإسكندرية، فأسرع إلى القاهرة لإعلان ارتقائه إلى العرش قبل إحكام التدبير لإقصائه عنه. ولكنه علم في الطريق أن «الألفي باشا» محافظ القاهرة — وكان من أنصار عباس — قد سبقه إلى بنها وحمل جثة الوالي القتيل في مركبة التشريفة وجلس فيها أمامه، كما كان يجلس والوالي بقيد الحياة، ولم يستغرب النظارة شيئًا، ولم يخامرهم الريب في الأمر لأنهم تعودوا أن يشهدوا الوالي من بعيد جالسًا في مركبته لا يلتفت يمنة ولا يسرة لتحية الواقفين في الطريق. واتجه «الألفي باشا» توًّا إلى القلعة حيث تقام مراسيم الولاية، فاتفق مع أمير الجند بها على إيصاد أبوابها في وجه الأمير «محمد سعيد» حتى يحضر «إلهامي» ابن عباس من أوربة، فلما وصل الأمير «محمد سعيد» إلى القاهرة، وجد العلماء أو الأعيان وقناصل الدول في استقباله وتقدم وهم في رِكابه إلى ناحية القلعة، وأبلغ القناصل محافظ القاهرة المتمرد أن الدول لن تعترف بولاية تخالف الشروط التي ضمنتها لمصر في معاهدة سنة ١٨٤٠. وكان قناصل فرنسا وإنجلترا وأمريكا متفقين على هذا البلاغ، فسقط في يد المحافظ وأذعن للأمر الواقع، ولم يصبح الصباح في اليوم التالي حتى كان قد قضى نحبه غمًّا وخوفًا من عاقبة ما جناه.

fig1
محمد علي باشا.

لم يزل سعيد يذكر هذه اليد للقناصل ولا سيما قنصل فرنسا، وكان معجبًا بالثقافة الفرنسية، كثير الاختلاط بالفرنسيين والأجانب على العموم، يجيد الفرنسية ويتكلم الإنجليزية. وفي عهده حصل «فرديناند دلسبس» على امتياز فتح القناة بشروط غاية في الإجحاف والخطر على حقوق مصر والدولة العثمانية. وفي عهده طلب «نابليون الثالث» فرقة سودانية لإخضاع الثائرين في المكسيك، فأجابه إلى طلبه وأنفذ إلى المكسيك فرقة من أبناء السودان ومصر لتحل هناك محل الجنود الفرنسيين الذين فتكت بهم الحمى الصفراء وتبين أنهم لا يحتملون أهوية البلاد وحمايتها كما يحتملها الأفريقيون. وأرادت البيوت المالية في إنجلترا أن تقابل هذا النفوذ الفرنسي بمثله، فعمدت إلى تشجيع الوالي على الاقتراض فأقدم عليه غير هياب لجرائره، ومات وعليه عدة ملايين من الديون الأجنبية يختلفون في مقدارها بين ثلاثة ملايين وأحد عشر مليونًا من الجنيهات. وكان «سعيد باشا» يخفي حقيقة هذه الديون؛ لأن شروط الولاية لا تسمح له بعقد القروض الأجنبية، فعقد قروضه وأخفى مقدارها ليحسبها من الديون الخاصة أو الديون التي يضمنها بثروته «الشخصية» ولا يجوز للدولة أن تعترض عليها.

وكان «إسماعيل بن إبراهيم» قد أصبح وارث العرش بعد حادث كفر الزيات الذي سيأتي بيانه في الفصول التالية، فعمل جهده على الموازنة بين النفوذ الأجنبي في بلاده واستخدم الإنجليز كما استخدم الفرنسيين. وعلا شأن الولايات المتحدة في أيامه بعد قهرها لبريطانيا العظمى وظفرها باستقلالها على الرغم من «سيدة البحار» التي لا تغيب الشمس عن أقطارها، فاستدعى إلى مصر نخبة من الضباط الأمريكيين لتدريب جيشه، ولم يكتم عنهم أنه يعتمد عليهم في أمر خطير ويستعد بهم لتحقيق استقلال مصر، فخطبهم قائلًا: «إنني معتمد على رزانتكم وإخلاصكم وغيرتكم للحصول على استقلال مصر.»١

إلا أنه كان حريصًا على علاقاته بفرنسا، دائبًا على إغرائها بتأييده في طلب الاستقلال وتعليق آمالها بما تناله من وراء هذا التأييد، كما قال في حديثه لمسيو تاستو قنصلها بالإسكندرية حين فاتحه في هذا الشأن (سنة ١٨٦٤)، فقال: «إني لا أطلب من الحكومة الفرنسية تأييدها المادي أو المالي، بل تأييدها الأدبي يكفي، فلتعمل على منحي الاستقلال وتنكشف لها نياتي بعد ذلك.»

وقال قبل ذلك لمسيو شيفر: «إنني من أسرة محمد علي، وكلنا نذكر ما ندين به لمعاونة فرنسا وما خصتنا به دائمًا من رعايتها.»

وكان يتوجه بطلب القروض إلى فرنسا ثم تحول إلى البيوت الإنجليزية بعد حرب السبعين وخروج فرنسا منها في حالة كحالة الإفلاس ثروةً وسياسةً، فتحولت إنجلترا أيضًا من الدس له في الآستانة وتحريض الدولة عليه لتورطه في الاستدانة وعقد المعاهدات — إلى الدفاع عنه والوساطة له عند السلطان في توسيع حقوقه وامتيازاته والإصغاء إلى مطالبه، ومنها مطلبه في مسألة وراثة العرش، وهي المسألة التي وقفت منها موقف المقاومة على عهد «عباس باشا الأول»، وما هو إلا أن صدر الأمر السلطاني بتحقيق هذه الرغبة حتى كشفت عن غايتها من المقاومة تارة والمعاونة تارة أخرى، فصرح السير «هنري إليوت» سفيرها في الآستانة: «بأن ما ناله الوالي من الحرية في الإدارة الداخلية لا قيمة له ما لم تكن له الحرية المطلقة في ارتياد الأسواق الأجنبية لجلب الأموال التي لا غنى عنها في إنجاز المشروعات الضرورية لتنمية الثروة المصرية.»

ثم تفاقمت أخطار الديون واستحكمت أزماتها وضاق «إسماعيل» ذرعًا بالسيطرة الأجنبية وتقييده بآراء الوزيرين الأجنبيين اللذين اتفقت إنجلترا وفرنسا على تعيينهما في وزارة المالية ووزارة الأشغال، وهما أهم وزارات القطر كله. فاحتضن الحركة الدستورية؛ أملًا في نقل الرقابة على خزانة الدولة من الوزير الإنجليزي والوزير الفرنسي إلى مجلس النواب، وألغى أوامره السابقة التي سلم بها مقاليد الوزارة وأبواب الخزانة لصندوق الدين تارة وأيدي الوزيرين الأجنبيين تارة أخرى. فاتفقت إنجلترا وفرنسا معًا على طلب عزله، وقبل الباب العالي هذا الطلب؛ لأنه حسب الفرصة سانحة للرجوع في امتيازات مصر بموافقة الدولتين، ولكنهما انقلبتا عليه على الأثر بعد موافقته على العزل، وعلمتا أنه يرشح الأمير «عبد الحليم» لمنصب الخديوية بدلًا من الأمير «محمد توفيق بن إسماعيل»، فأبلغتاه أنهما لا تقران هذا الترشيح ولا تعترفان بالخديوية لغير ولي العهد «محمد توفيق». فعدل الباب العالي مكرهًا عن ترشيحه للأمير «عبد الحليم»، وأراد أن يستدرك في فرمان التولية ما فاته في تعيين خلف إسماعيل، فلم يزل يسوف في إرسال الفرمان حتى تم الاتفاق على انتقاص بعض الحقوق وتقرير بعض القيود، ومنها: حظر زيادة الجيش إلى أكثر من ثمانية عشر ألفًا، وتبليغ الباب العالي نصوص المعاهدات التي تبرمها الخديوية المصرية، وحظر النزول عن جزء من أجزاء البلاد المصرية، وحظر القروض المالية، وكانت كلها شروطًا موافقة لسياسة الدولتين، وإن ظهر أن بعضها يخالف هذه السياسة، كحظر القروض وحظر التصرف في أجزاء البلاد المصرية؛ فإن القروض كانت في ذلك الحين قد أدت رسالتها، وبلغت غايتها، وكانت «سلامة الأراضي المصرية» حجة تشهرها كل من الدولتين في وجه الأخرى إذا انفردت باحتلال البلاد واقتطاع جزء من أجزائها، فجاء فرمان ١٨٧٩ ملغيًا لفرمان ١٨٧٣ في هذه المسائل ولم يُبقِ منه على غير امتياز واحد من الامتيازات الهامة التي حصل عليها الخديو إسماعيل، وهو حصر الوراثة في أكبر الأبناء؛ لأن إلغاء هذا الامتياز يفتح الباب لسلاطين آل عثمان في تجديد مسألة الترشيح حينًا بعد حين.

fig2
الخديو إسماعيل باشا.

•••

وأصبح همُّ «توفيق باشا الأكبر» بعد ارتقائه العرش في تلك الظروف أن يتقي غضب الدولتين ما استطاع، فأعاد منصب الوزيرين الأجنبيين باسم مفتشين وبمرتب أكبر من مرتب رئيس الوزارة، وقَبِل أن يحال عليهما عمل المراجعة، وأن يكون لهما الإشراف التام على خزانة الدولة. وألجأ رئيس الوزارة «شريف باشا» إلى الاستقالة؛ لأنه كان يصر على تجديد الحياة النيابية، فأشارت عليه إنجلترا باختيار «رياض باشا» للوزارة، وهو سياسي حازم كان يوافق الخديو في أمور ويخالفه في أمور، فقد كان معروفًا بميله إلى الصرامة في معاملة الحزب العسكري والمتطرفين. ولكنه كان من الجانب الآخر معروفًا بميله إلى الحد من سلطة الخديو ولا سيما حق الإنعام بالرتب والأوسمة، فكان الخديو يؤيده حينًا ويخذله حينًا ويتصل من ورائه بالمتطرفين مع أنه لا ينوي أن يجيبهم إلى ما يطلبون. واتسعت أبواب التدخل أمام إنجلترا، ما بين خلاف الأمير ووزيره وخلاف الأمير والوزير معًا وقادة الجيش وطلاب الدستور. وكان «رياض باشا» يطلب إقالة بعض وزرائه — ومنهم «محمود سامي باشا» — لأنه اتهمهم بإفشاء أسرار الوزارة لقنصل فرنسا وزعماء العسكريين، فلا يصغى إليه. وقد كانت الأحوال كلها تسوء وتغضب ولا ترضي أحدًا من المتطرفين ولا من المعتدلين، واشتدت أزمة العيش وأطبقت على النفوس عوامل السخط والثورة، وتفاقم الخطب بإثارة الضغائن والعصبيات بين الجراكسة والمصريين، فتألفت لجنة من عشرين عضوًا للتحقيق والبحث في أسباب التذمر والإشارة بوجوه الإصلاح، لم يكن فيها غير مصري واحد هو «أحمد عرابي» والباقون بين إنجليزي وفرنسي وألماني وإيطالي وأمريكي وجركسي وتركي وكردي وألباني … فكانت مقترحاتهم من قبيل التهدئة التي لا تطول!

ولما تفاقمت عوامل الثورة أخذت إنجلترا تنشر بين الدول فكرة الاستعانة بالدولة العثمانية وإقناعها بإنفاذ حملة إلى مصر تعيد النظام. وكان الغرض من نشر هذه الفكرة حمل الدول عن الامتناع عن «التدخل الفردي» في الشئون المصرية، لكي تنصرف جميعًا عن التمهيد لهذا التدخل، وتترك الطريق ممهدًا لها دون غيرها في الموعد المقدور!

وظهرت هذه النية ظهورًا واضحًا حين دعت فرنسا إلى عقد مؤتمر الآستانة، فانعقد في السفارة الإيطالية؛ لأن الدولة العثمانية لم تقبل الدعوة إليه، واقترح السفير الإيطالي الذي وقع الاختيار على سفارته لقدمه أن يصدر المؤتمر قرارًا بمنع التدخل الفردي في الثورة المصرية، فسرعان ما اتفق المندوبون على هذا القرار حتى ألغوه فعلًا بقبول اقتراح من اللورد «دفرين» مندوب إنجلترا، يقضي بإضافة استثناء واحد يجيز التدخل «الفردي» إذا دعت إليه الظروف القاهرة … وشاعت الإشاعات عن أسباب هذه الموافقة، فقيل فيما قيل: إن دهاء اللورد «دفرين» لم يكن هو السلاح الوحيد الذي تذرع به السياسي الداهية إلى إلغاء القرار بهذا الاستثناء المريب، وإن «فارس الجنيه الإنجليزي» كان أمضى سلاحًا في إقناع بعض المعارضين من كل برهان!

وقبل أن ينفض المؤتمر كان الأسطول البريطاني يضرب الإسكندرية ويقرر «التدخل الفردي» فعلًا معتمدًا على ذلك الاستثناء. وتتابعت بعد ذلك مناورات الدس والمناوأة بين فرنسا وإنجلترا حول المسألة المصرية وحول غيرها من المسائل الدولية، ولكن الأمر الذي هو جدير بالتقدير والتذكير أنهما كانتا ترجعان إلى التفاهم حينًا بعد حين، كلما سنحت لهما فرصة المساومة وتبادل المنافع على قضية من القضايا السياسية. وحسب المؤرخ أن يسجل من هذه المساومات ثلاثة مواقف في أقل من ثلاثين سنة: «أولها» وساطة بسمارك أثناء انعقاد مؤتمر برلين (١٨٧٨) بين الدولتين للاتفاق بينهما على إطلاق يد فرنسا في تونس تعويضًا لها عن احتلال إنجلترا لجزيرة قبرس، وأن تعمل الدولتان يدًا واحدة في مسألة الديون المصرية، وأن تعترف إنجلترا لفرنسا بما تدعيه من حق حماية المسيحيين التابعين للكنيسة اللاتينية في سورية.

و«ثانيها» الاتفاق المعروف باتفاق سلسبوري وكمبون في سنة ١٨٩٩ عقب حادثة فاشودة على تقسيم القارة الأفريقية في السودان إلى شواطئ المحيط الأطلسي …

و«ثالثها» اتفاق سنة ١٩٠٤ على إطلاق يد فرنسا في المغرب وإطلاق يد إنجلترا في مصر والسودان …

وفي هذه المواقف وما إليها تنبيه كافٍ لمن ينخدعون بالخلاف بين دول الاستعمار ويعتمدون على وعودها في هذه الحال، وأبلغ ما في هذه العبرة أن بعضنا قد توجه إلى برلين بعد خيبة الأمل في باريس، وقد كان أول اتفاق بين الدولتين — بعد طول خلاف — معقودًا في مكاتب برلين.

١  من كتاب «حياتي في القارات الأربع» لشاليه لونج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤