قناة السويس

هذه القناة في رأي الأكثرين هي بيت القصيد من الخطة التي انتهت بضرب الإسكندرية في الحادي عشر من شهر يوليو سنة ١٨٨٢؛ لأنها سبيل مهم من سبل المواصلات الإمبراطورية ومسلك نافع من مسالك التجارة العالمية. ومن لم يحسبها بيت القصيد من الخطة كلها فهي في تقديره غرض هام من أغراض السياسة الإنجليزية في القرن الماضي ولا تزال كذلك في القرن الحاضر، ولا سيما بعد انحسار النفوذ البريطاني في الهند وتطلع القوم إلى تعويضه بالسيطرة على موارد القارة الأفريقية، ويكفيهم من هذه الموارد خامات الصناعة الموفورة في أرجائها، إن لم يتحقق لهم ما يترقبه الخبراء من التنقيب عن المعادن في أجوافها. وقد طوى الساسة البريطانيون أسبابًا كثيرة من ذرائع الاحتلال وظلوا يتشبثون بسبب واحد يزعمون أنه بغيتهم من الإصرار على إبقاء جيوشهم في الأراضي المصرية، وهو حماية القناة والتأهب لرد الهجوم عنها.

والغالب على اعتقاد المؤرخين أن الطريق بين البحر الأحمر ونهر النيل لم تنقطع قط في عهد من عهود الحضارة القديمة، وأن تجارة جزيرة العرب وبلاد الهند بعينها كانت هي بُغية المصريين الأقدمين من العناية المتواصلة بهذه الطريق على تعدد المواقع والأزمنة.

ففي عهد الأسرة السادسة — وكان مقرها جزيرة أسوان — كان الملك «مريرع» يتخذ هذه الطريق على مقربة من مقر حكمه ويوالي العناية بمسالك البر بين قفط على النيل وبرنيس على البحر الأحمر، ولا يقل تاريخ هذه الطريق عن نحو ثلاثين قرنًا، سبقتها قرون عدة في طريق غير ممهد لسير القوافل والبحث عن المعادن في بعض الجهات.

ولما انتقل الملك إلى أقاليم الشمال وُجدت في عهد «سيتي الأول» — قبل الميلاد بأربعة عشر قرنًا — قناة تمتد من فرع النيل عند «بوبسطة» وتصل إلى البحر الأحمر وتصلح للملاحة في أكثر أيام السنة، وهي القناة التي اشتهرت باسم «سيزوستريس» ورسمت صورتها على معابد الكرنك، ثم تجددت بعد هجرها قبل الميلاد بسبعة قرون في عهد الملك «نخاو» ولم يثابر على تجديدها؛ لأنه رأى في المنام أن الأرباب تحذره من تسليم مصر إلى الغرباء من جرائر هذه الطريق.

ورأى الفرس أنها نافعة لهم لتيسير الاتصال بين بلادهم ووادي النيل؛ فعمل دارا على حفرها وتعميقها، وتركها قبل أن يفرغ من فتحها فظلت مهملة من القرن السادس قبل الميلاد إلى القرن الثالث قبله؛ إذ تم فتحها في عهد بطليموس الثاني، ولم يُنتفع بها بعد أيامه لتتابع الفتن والمخاوف، إلى أن فتح العرب مصر فجددوها لنقل الميرة إلى الحجاز في عام المجاعة. وظلت صالحة للملاحة إلى أوائل أيام العباسيين، وفي سنة (٧٧٠م) أمر «أبو جعفر المنصور» بردمها منعًا لنقل الأزواد منها إلى الثائرين عليه في الحجاز.

ومضى عليها مردومة مهملة أكثر من عشرة قرون، وطريق التجارة بين وادي النيل والبحر الأحمر لا تنقطع في هذه الأثناء ولا سيما أيام الحروب والقلاقل، بين مصر والشام؛ فانتظمت في هذه الأثناء طريق قنا والقصير وطريق أسوان وعيذاب، واستمرت هذه «المواصلات» في أحرج الأوقات.

وكانت هذه الطرق تنتظم أحيانًا وتختل أحيانًا أخرى، والتجارة الشرقية تنتقل على الدوام من الخليج الفارسي إلى الشام أو إلى مصر، فيجني منها الولاة على الشام ومصر مكوسًا مضاعفة. وينقلها البندقيون إلى القارة الأوروبية فيزيدون أثمانها أضعافًا على أضعاف. ولم تكن بضائع الشرق كلها من قبيل البذخ والزينة أو الكماليات التي يطلبها الموسرون والمترفون، بل كان منها — كالتوابل والأفاديه — ما هو ضروري لحفظ اللحوم في الشتاء حين تشح الزروع والضروع ولا يجد الفقراء ولا الأغنياء طعامًا غير اللحوم المحفوظة والبقول، ومن هذه البقول ما يُحمل إلى القارة الأوروبية من بلاد الشرق والجنوب.

لهذا أحس الأوروبيون بالمغالاة في المكوس والأرباح، وقيل: إن طمع الملوك والأمراء الغربيين في حصة من هذه الثروة كان في مقدمة الدوافع التي جنحت بهم إلى الإصغاء للدعاة الصليبيين، ولا شك أن هذا الطمع كان أحد الدوافع — بل ربما كان الدافع الوحيد — إلى اجتهاد البرتغاليين في البحث عن طريق للتجارة الشرقية غير طريق مصر والشام، وإلى اجتهاد الكشافين في مغامرات السياحة آملين من ثَم أن يصلوا غربًا إلى الشرق بعد أن تعلموا من العرب أن الأرض كرة وأن التوجه إلى المغرب يؤدي إلى البلاد الهندية من طريق «بحر الظلمات».

وقد انقسمت الدول الأوروبية شطرين في هذه النزعة؛ فكانت الدول القريبة من المحيط الأطلسي تحارب كل محاولة يراد بها تقريب المسافات من ناحية برزخ السويس، وكانت البندقية وجنوا تسعيان إلى استئناف سير القوافل من البلاد المصرية خاصة، واقترحت البندقية فعلًا فتح البرزخ وألحت في هذا الاقتراح بعد اشتباكها في حروبها مع الدولة العثمانية وتعويلها على الطرق المصرية دون غيرها، ولولا هذه الحروب المتتابعة لسبقت الأمم إلى فتح القناة. وقد خطر لفرنسي هو «المركيز دار جنسون» أن يعلن الدعوة إلى فتحها باسم الدِين لخير جميع المسيحيين، فأعلنها في عهد لويس الخامس عشر، ولم يفلح في اجتذاب الأسماع إليها.

إلا أن الرحالة من أمم الغرب قد توافقت خواطرهم على الاتجاه إلى المحيط الأطلسي جنوبًا أو غربًا، فكشف «دياز» البرتغالي طريق أفريقية الجنوبية في سنة ١٤٨٦، وكشف «كولمبس» أمريكا بعد ذلك ببضع سنوات، ووصل «دي جاما» إلى الهند من طريق رأس الرجاء بعد ذلك بأربع سنوات. وجرَّت هذه الكشوف إلى وقائع بحرية بين البرتغاليين والمماليك المصريين انتصر فيها المماليك ثم انهزموا في أوائل القرن السادس عشر (١٥٠٩) فيئسوا من طريق تجديد التجارة كما كانت قبل حقبة يسيرة، وساءت أحوالهم وقلَّت مواردهم واشتبكت بينهم الحروب والفتن مما زادهم خسارًا على خسار، وأطمع الدول الغربية في انتزاع البلاد من أيديهم. ودخلت قناة السويس لأول مرة في ألاعيب السياسة الدولية على يد فيلسوف من فلاسفة الألمان أحسَّ الخطر على بلاده من مطامع «لويس الرابع عشر» فأراد أن يحول مطامعه من القارة الأوروبية إلى القارة الأفريقية؛ هذا الفيلسوف هو جو تفريد ولهلم «ليبنتز» (١٦٤٦–١٧١٦) صاحب الرسالة المشهورة عن «البعثة المصرية» وسفير حكومته زمنًا في بلاط باريس، لكن هذه المغامرة قد ادُّخرت في الغيب لمغامر أوربة الأول في القرن الثامن عشر «نابليون بونابرت»، فلم تتحرك حكومة باريس لحشد الجيوش إلى مصر إلا في عهد ذلك المغامر الكبير.

جاء نابليون إلى مصر ومعه بعثة من العلماء والمهندسين وفي ذهنه مشروع وصل البحرين، إما من طريق النيل كما كانا متصلين في عهد الفراعنة، أو بحفر قناة السويس إلى موقع يقابلها على البحر الأبيض المتوسط. ولكن ضخامة النفقات التي قدرت لإنجاز المشروع أقعدته عن العمل، وانصرف عنه كلَّ الانصراف كما قيل؛ لأن مهندسه «لابير Lapere» توهم أن البحرين لا يستويان وأن بينهما فرقًا يقرب من ثلاثين قدمًا. فكان هذا مع ضخامة النفقات سبب انصراف نابليون عن تنفيذ المشروع كما وعد حكومته، وقد خامر بعض الظنون أن حسبة «لابير» مصطنعة لتعجيز المحاولين ريثما يتيسر تدبير النفقات، ودعا إلى احتمال هذا الظن أن «التوصيلة» المطلوبة، كانت ميسورة بمد فرع النيل كما كان في العهد القديم لولا عقبة النفقات.
على أن خطأ الموازنة بين مستوى البحرين لم يلبث أن ظهر للفرنسيين أنفسهم عندما تولى البحث جماعة السيمونيين Simonians، وهم أنصار الوحدة الإنسانية والتقريب بين أجزاء العالم. وتعاقبت بحوث العلماء في هذا الموضوع نحو خمسين سنة بعد الحملة الفرنسية، وممن اشتغل به لجنة من الإنجليز (١٨٤٦) كان بين أعضائها «جورج ستيفنسن» Stephenson ابن صاحب المخترعات البخارية المشهور، ولكنها لم تتقدم خطوة وراء البحث في إمكان التنفيذ وتقدير التكاليف. وظل الاعتقاد الغالب على غير المختصين أن المشروع «مخرقة» أو حيلة لابتزاز المال كما قال بالمرستون في مجلس النواب الإنجليزي حين أخرجه بعض الأعضاء لتقاعده عن تشجيع الشركة التي تأسست لفتح القناة، ويغلب على الظن أن مصلحة ستيفنسن الخبير بالسكك الحديد هي التي زينت له تفضيل الاتصال بالخطوط الحديدية، وعليه اعتمد بالمرستون.

واهتم التجار والمهندسون الإنجليز بإحياء الطريق المصري لنقل البضائع والمسافرين من الهند إلى إنجلترا، وساورهم في الوقت نفسه أمل الاتفاق على حفر القناة. وكان سفيرهم في مصر «جورج بلدوين» من أصحاب الخيال الشعري فسير سفينة من إنجلترا إلى الإسكندرية وأخرى من الهند إلى السويس وصعد ذات يوم إلى قمة الهرم الأكبر ومعه ثلاث قوارير، إحداها مملوءة بماء النيل والثانية بماء التامز والثالثة بماء الكنج، وشرب مع أصحابه نخب الصداقة بين الأنهر الثلاثة. ولكن مشروعه حبط في ذلك الحين لامتناع الآستانة عن منح الرخصة الضرورية لإباحة الملاحة في البحر الحمر. ثم عاود رجال شركة الهند الشرقية مسعاهم عند «محمد علي الكبير» لاستئناف السير في الطريق البرية بين السويس والإسكندرية، فلم تثبت لهم فائدة الطريق البرية في اختصار الوقت والكلفة إلا في أواخر سنة ١٨٤٥. واستقر الرأي أخيرًا على اتخاذ مرسيليا محطًّا لبواخر الشركة بعد أن كانت ترسي بواخرها في تريسته وتنقل البضائع منها إلى الشواطئ البلجيكية، ويشاهد إلى اليوم في ميناء السويس تمثال «توماس وجهورن» صاحب المساعي التي عاد بفضلها طريق التجارة البرية إلى الأرض المصرية، وكان الرجل يعزو ذلك الفضل إلى تشجيع «محمد علي» وموالاته برعايته، ويستحث قومه على العرفان بجميله، فاجتمعت نخبة من جلة القوم وأعربت عن شكر الأمة الإنجليزية لتلك الرعاية المتوالية، وأهدت إليه نوطًا نقشت صورته على أحد وجهيه وكتبت على الوجه الآخر صيغة الإهداء: «إلى نصير العلم والتجارة والنظام، حامي رعايا الدول المتنافرة وأموالها وفاتح طريق البر إلى الديار الهندية.»

وكان تقديم هذا الاعتراف «ذي الوجهين» في سنة ١٨٤٠ نفس السنة التي وقفت فيها إنجلترا مع الدول «المتنافرة» لكي تنسى تنافرها وتتفق على صد «محمد علي» عن أبواب الآستانة.

لقد كان «محمد علي الكبير» يعلم بثاقب نظره أن هذه الدول «المتنافرة» تتفق عليه إذا سنحت لها الغرة منه أو من خلفائه، وقد سمع منها جميعًا طلبًا بعد طلب في مسألة القناة بعينها، فلم تكن إنجلترا ولا فرنسا وحدهما صاحبتي الغرض الأكبر في هذه الطريق، بل حدث أن «مترنيخ» قطب السياسة الأوروبية في عصر نابليون أرسل إليه من يقنعه بفتح القناة؛ لأن النمسا في ذلك العصر كانت تشرف على الشواطئ الإيطالية، وقد تلقى «مترنيخ» مذكرة بهذا الطلب من وزير دفاعه «الكونت فيكلمونت» (١٨٤٣) وجاء رسول النمسا إلى القاهرة ومحمد علي في الفيوم فلم ينتظر عودته بل ذهب إليه ليعرض مطلبه في ساعة صفو وخلو من التكاليف، فكان جواب محمد علي، كما كان جوابه لمن فاتحوه في الأمر من قبل ومن بعد «أن القناة تفتح — إن فتحت — بمال مصر وعملها ولا يكون ذلك قبل اتفاق الدول على حيدة مصر والقناة.»

ومن نقائض مصر الخالدة أن مشروع القناة جذب إليه غلاة الاشتراكيين وأقطاب رءوس الأموال والصناعات في وقت واحد، فكان الفضل في تصحيح الأخطاء الهندسية التي صرفت الأنظار عن المشروع راجعًا إلى أتباع «سان سيمون» كما تقدم، وكان خليفته «آنفانتين» داعية القناة الأكبر في الدوائر العلمية والمالية، وكانت دوائره العلمية تجمع المهندسين والمؤرخين من فرنسيين وإيطاليين ونمسويين وإنجليز، رمزًا إلى الإخاء و«تضامن» الأسرة الإنسانية، ووجهتها ربط الشرق والغرب في وشائج هذه الأسرة العامة، فاشترك «تالبوت» الفرنسي و«نيجريللي» الإيطالي النمسوي و«ستيفنسن» الإنجليزي في تقسيم العمل وقيام كل طائفة على دراسة قسم منه. ولكن صداقة «آنفانتين» للمهندس الفرنسي «دلسبس» هي التي خرجت بالمشروع من دور الأحلام إلى دور «الشغل» المثمر كما يقولون. وأصغى «دلسبس» إلى المبشر الإنساني يوم شهد بعينيه حركة الميناء في مرسيليا فشحذت همته وأُنعشت آماله وابتعثته ابتعاثًا إلى إعادة الكرة عند «محمد علي»؛ لأنه كان يجهل جوابه لمندوب النمسا وغيره من رسل أوربة الوسطى. ولكن محمد علي كان كما قدمنا يتخوف من تسلط الأجانب على الطرق المصرية بحرًا وبرًّا فأعرض عن حفر القناة، كما أعرض عن مد السكة الحديد بين الإسكندرية والسويس، وظلت البضائع في أيامه تنقل على ظهور الجمال أو على السفن الصغيرة في ترعة المحمودية. ولبثت أدوات السكة الحديد معطلة إلى أيام «عباس الأول» الذي أذن بمدها فكان ذلك حافزًا جديدًا لمعاودة البحث في حفر القناة.

وما من شيء يدل على أثر العلاقات الشخصية أحيانًا في تمهيد الوسائل إلى الأعمال الجسام، ما يدل عليه نجاح «فردينان دي لسبس» صاحب مشروع القناة في إقناع «محمد سعيد باشا» — بعد وفاة عباس الأول — بإمكان حفر القناة وعظم الفوائد التي تعود على مصر من فتح هذه الطريق العالمية في أرضها.

فقد كان «محمد سعيد باشا» في صباه يميل إلى البدانة وكان أبوه «محمد علي» حريصًا على تربية أبنائه على الحياة العسكرية والنشأة الرياضية، فكان يحتم على الصبي محمد سعيد أن يسبح ويعدو كل يوم مسافات طويلة، ويأمر له بالقليل من الطعام الذي لا يسمن ولا يشبع. وكان «ماتيو دلسبس» والد «فردينان» صديقًا لمحمد علي يحبه من عهد وساطته عند الباب العالي في اختياره للأريكة المصرية، وكان يأذن لأبنائه في زيارة القنصل لتوثيق عرى المودة وإتقان اللغة الفرنسية. فكان «محمد سعيد» يجد في دار القنصل شبعه من المكرونة التي كان مشغوفًا بأكلها، وكانت صحبته لفردينان الصغير خير شفيع للمهندس الفرنسي فيما بعد، لاستجابة رجائه بعد طول التردد فيه على أيام أبيه.
fig3
فردينان دي لسبس.

واتفق أيضًا أن فردينان هذا كانت تربطه بالإمبراطورة «أوجيني» صلة قرابة ومودة، فلولا صحفة المكرونة وهذه المصادفة التي ربطت بين دلسبس وبلاط فرنسا لما استطاع الرجل أن ينجح حيث أخفق غيره، ولحبط العمل كله بعد الشروع فيه لولا اليد القوية التي كانت تنقذه من ورطة بعد ورطة في بلاط باريس.

إلا أن «دلسبس» قد استخدم كل ما في جعبته من الوسائل لإقناع «سعيد باشا» بفوائد مشروعه وضمن ذلك خطابه التاريخي الذي يحسن بنا إثباته في هذا المقام بقليل من التصرف لبيان وجهات النظر التي مثلها أو تمثلها القائمون بحفر القناة قبل الشروع فيه، قال: «طالما اهتم أقطاب العالم — ولاسيما ملوك مصر — بالصلة بين البحرين الأحمر والأبيض، ومنهم «سيزوستريس» الأشهر و«الإسكندر الأكبر» و«يوليوس قيصر» و«عمرو بن العاص» و«نابليون الكبير» ووالدك العظيم. وأفلح بعضهم فوصل بين البحرين بترعة تمتد من النيل بقيت فترة قبل الهجرة المحمدية بنحو تسعة قرون ثم أُهملت وانقطع عنها ماء النيل وظل منقطعًا إلى أن أعيد بعد ذلك. وبقيت الترعة زهاء أربعة قرون ونصف قرن صالحة للملاحة في أيام البطالسة حتى علاها التراب في القرن الرابع قبل الهجرة وجاء «عمرو بن العاص» فأصلحها وجرى الماء فيها مائة وثلاثين سنة …

ولما قدم بونابارت إلى مصر ود لو أمكنه إعادة الترعة وأن تقترن شهرة هذا العمل العظيم بشهرته … فندب للبحث في هذه المسألة كبار المهندسين وعلماء السير والآثار … وطلب إليهم إبداء الرأي في إمكان التوصيل بين البحرين من غير طريق النيل وإحصاء تكاليفه … فكتب أحدهم مسيو لوبير تقريره … ووقف بونابرت على تكاليف المشروع فاستعظمها … وتمنى لو تأتَّى للدولة العثمانية أن تصل بين البحرين فتدل بذلك على حياتها وتنفي الشبهة عن بقائها وتسدي للحضارة يدًا لا تنساها … ولا يخفى أن اتفاق دول أوربة على رد العدوان على الآستانة وبقائها في يد الدولة … إنما يرجع إلى موقع خليج السويس بين البحرين وخوف الدول من تسلط إحداهن عليه فتقوى على غيرها ويختل التوازن بينها وبين نظيراتها … فكيف لو تمت الصلة وقبضت مصر على مفاتيح العالم؟! إن الدول إذن تجمع على حرية هذا المجاز ولا تسمح لغير الدولة العثمانية بالسيادة عليه …»

ثم استطرد المهندس الفرنسي إلى مسألة الأموال والأيدي اللازمة لحفر القناة، فقال: إن مسيو لوبير منذ خمسين سنة قدر عدد العمال بعشرة آلاف ينجزون حفرها في أربع سنوات … وإن مسيو تلابوت منذ عشر سنين استحسن أن تمتد القناة إلى القناطر الخيرية فالإسكندرية وقدر تكاليف إنجازها بنحو مائة وثلاثين أو مائة وأربعين مليون فرنك، يضاف إليها عشرون مليونًا لإنشاء الميناء بالسويس … ثم ذكر أن مهندس القلاع الفرنسي في عهد «محمد علي» وضع رسمًا للمشروع وكتب عنه تقريرًا عاونه فيه المهندسان الفرنسيان لينان وموجيل … وتبين من جميع هذه البحوث أن المشروع «عملي» قابل للتنفيذ محقق الفائدة خلافًا لما وقر في بعض الأذهان.

ثم تكلم عنه من الوجهة الدولية، فذكر من أسباب معارضة إنجلترا له أنها تريد أن تستأثر بالسيادة البحرية ولا تحب التقدم لغيرها مع أنها تملك أهم المواقع البحرية في العالم كجبل طارق ومالطة وجزائر الأرخبيل وعدن وسنغافورة وأستراليا فلا ضرر عليها من التقريب بين البحرين، وقال: إن ابتداء العمل فعلًا خليق أن يحسم الخلاف ويحمل الدولتين إنجلترا وفرنسا على قبول الاستمرار فيه، أما الدول الأخرى؛ فالنمسا قد اعترفت بحرية الملاحة في نهر الدانوب، والمجر ترحب بالقناة لأنها عظيمة النفع لميناء تريسته والبندقية، ولا ينتظر من روسيا معارضة في حفر القناة؛ لأنها تروج تجارتها، ولا من الولايات المتحدة؛ لأنها تؤكد العلاقة بينها وبين الهند والصين، ولا من إسبانيا؛ لأنها تيسر مواصلاتها مع جزر الفليبين، ولا من هولندة لأنها تيسر مواصلاتها مع جاوه والصومال وبرنيو … فالعالم كله يسعد بفتح هذه القناة … وما من أحد ينظر إلى موقعها الخالي من الخريطة إلا اندفع شوقًا إلى الأمل في محو ذلك الخلاء.

ولم يكد خبر الموافقة على مقترحات دلسبس يسري إلى أوربة حتى تناولته الصحافة الإنجليزية، وفي مقدمتها الصحف الهزلية، بالتسخيف والتقريع، واتهمت دلسبس بالدجل ونبزته بألقاب السخرية وأطلق عليه بعضها لقب سيزوستريس القرن التاسع عشر، وتساءلت: من هذا الذي يريد في هذا العصر أن يعيد أساطير الأولين؟!

وقد كان أخوف ما يخافه «سعيد باشا» أن يُغضب إنجلترا وأن يستهدف لمكائدها في الآستانة، فسأل قنصلها عن رأي دولته فلم يسمع منه اعتراضًا؛ لأن إنجلترا كانت في تلك الفترة شديدة الرغبة في مرضاة فرنسا لمقاومة روسيا في غارتها على الدولة العثمانية، وبعد أخذ ورد ووعد وتسويف صدر الإذن (يناير سنة ١٨٥٦) بالبدء في حفر القناة، ولكنه لم يبدأ قبل انقضاء ثلاث سنوات.

ويرى القراء مما تقدم أن دلسبس قد استغل موقف الدول من «محمد علي» في سنة ١٨٤٠ لإقناع خليفته بمزايا فتح القناة في بلاده، فاعتقد «سعيد باشا» أن وجود هذا المجاز العالمي في مصر ضمان لها من عدوان إحدى الدول عليها، كما كان وجود الآستانة بين مضائق البسفور والدردنيل ضمانًا لها من هجمات روسيا ومصر عليها، واعتقد أنه اتخذ الحيطة الكافية لإعلان حرية القناة وحيدتها العالمية بالنص في «الرخصة» على تأليف شركة دولية تجمع كلمة الدول على مباشرة العمل فيها.

غير أن شروط الاتفاق كانت في جملتها مجحفة بمصر وشروط تنفيذها أشد إجحافًا؛ لأنها أوجبت على مصر أن تنزل للشركة عن الأرض التي تحف بضفتي القناة، وأن تسمح للشركة ببيع الماء العذب من الترعة التي تمدها إلى الإسماعيلية، وأن تسخر للشركة أربعة أخماس العمال المشتغلين بها، وأن تخولها الانتفاع بمناجم الحكومة ومعادنها، وأن تعفيها من الضرائب والرسوم على وارداتها، وأن تقسم أرباح الشركة — بعد خصم خمسة في المائة في مقابلة الفوائد وخمسة في المائة تدخر للمال الاحتياطي — على النسبة الآتية: عشرة في المائة لمؤسسي الشركة وخمسة وسبعون في المائة لأصحاب الأسهم والموظفين والعمال، وخمسة عشر في المائة للحكومة المصرية، وتئول القناة بعد تسع وتسعين سنة إلى ملك الحكومة.

أما إنجلترا فإنها عملت على إحباط المشروع من جهة وعلى كسب نفوذ لها في مصر يقابل هذا النفوذ من جهة أخرى، فلم تأتِ سنة ١٨٦٢ حتى تورط «سعيد باشا» في صفقة جائرة مع بيت «فرهلنج جوشن» بلندن فعقد معه قرضًا بأكثر من ثلاثة ملايين من الجنيهات، تبعتها قروض أخرى كانت هي أول الكارثة التي استفلحت بعد ذلك حتى قضت على استقلال البلاد وعرضتها للرقابة الأجنبية.

وفي خلال هذه السنوات لم تهدأ الخطة عن محاربة المشروع عند «الباب العالي» فتأخرت موافقته عليه من سنة ١٨٥٦ إلى سنة ١٨٥٨، ولما صدر الفرمان بالموافقة عرضت الأسهم في الأسواق — وعدتها أربعمائة ألف بمائتي مليون فرنك — فاشترت فرنسا (٢٠٧١١١ سهمًا) واشترت البندقية ألفًا وثلاثة وثمانين سهمًا واشترت حكومة البيمونت ألفًا وثلاثمائة وخمسين سهمًا، واشترت هولندة وأسبانيا وتركيا ما بقي من الأسهم، ماعدا حصة مصر وقدرها (١٣٦٦٤٢) منها ستة وتسعون ألف سهم رصدها دلسبس لحساب محمد سعيد باشا على غير علم منه، فاضطر إلى قبولها بعد الممانعة؛ خوفًا من تهمة الإفلاس وحبوط العمل بعد الشروع فيه، وتخلفت أثمان هذه الأسهم ديونًا إلى أن سددها إسماعيل باشا بأسناد مالية كتبها على الحكومة المصرية.

•••

ولم تيأس إنجلترا من تدبيراتها للقضاء على المشروع فاتخذت من نغمة العصر في تلك الآونة حجة للتشهير به واستثارت الضمير الإنساني عليه، وكانت نغمة العصر محاربة الرق وتجريد الحملات لمطاردة النخاسين، فراحت ألسنة السياسة البريطانية تذيع أخبار السخرة في القناة، وأخبار الوباء «حمى التيفود» الذي سرت عدواه من القناة إلى القطر كله فأهلك عشرات الألوف من العمال والفلاحين، وصدقت في القول ولم تصدق في النية؛ لأن المتعهدين ضنوا بالأجر اليومي على قلته — وهو عشرة مليمات للعامل — فهلك العمال جهدًا وجوعًا. وشاع التذمر بين المصريين من شركة القناة ومن كل ما يتعلق بالقناة، وأوشكت إنجلترا أن تنجح في تدبيراتها بين الآستانة والقاهرة وعواصم الدول الأوروبية. ثم مات سعيد باشا في هذه الأثناء وآلت الأريكة المصرية إلى إسماعيل باشا فأحس النقمة على المشروع من جانب إنجلترا ومن جانب الدولة العثمانية. ولم يشأ أن يغضب فرنسا فبادر بسداد ثمن الأسهم التي لم يسددها سعيد باشا وقيمتها مليونان من الجنيهات، وأعلن الشركة بعزمه على نقص العمال ورد الأرض التي وضعت يدها عليها إلى ملك الحكومة وأنذرها بوقف العمل إن لم تبلغه موافقتها في وقت وجيز. فلجأ دلسبس إلى حكومته وتحرجت الأمور بين إسماعيل ونابليون فإذا بالتهديد الذي وجهه إسماعيل إلى الشركة يئول إلى مصلحتها وخسارة مصر. لأن إسماعيل رضي أن يعرض الخلاف على هيئة من المحكمين في فرنسا فحكموا على مصر بغرامة قدرها ثلاثة ملايين وثلثمائة وستين ألف جنيه؛ تعويضًا للشركة عن إلغاء السخرة ورد الأرض التي على الضفتين وتكاليف حفر الترعة العذبة، فانتفعت الشركة بهذا المال وهي محتاجة إليه، وأبرأ إسماعيل ذمته أمام الآستانة ولندن، وأقبل على مساعدة الشركة بكل ما استطاع، وكان في الواقع يساعدها في أشد أوقات الخلاف، فقد أعطاها ثلاثمائة ألف جنيه ثمنًا لأرض في وادي الطحيلات اشترتها في عهد سعيد بأربعة وسبعين ألف جنيه، وأعطاها مليونًا ومائتي ألف جنيه ثمنًا للمباني التي أقامتها بالسخرة والأدوات المعفاة من الرسوم.

وفرغت الشركة من حفر القناة في أواخر سنة ١٨٦٩ فنجمت مشكلة جديدة كانت خواتمها أخطر جدًّا من فواتحها؛ لأنها غيرت قلب السلطان العثماني على الخديو وفتحت أبواب الآستانة للدسائس والوشايات التي اشتركت فيها الدول وأمراء البيت العلوي ممن حُرموا حقوقهم أو آمالهم في الوراثة بعد نقل ولاية العهد إلى أبناء إسماعيل فجرَّت إلى خلعه بعد سنوات.

وخلاصة هذه المشكلة المتشعبة أن الخديو وجه الدعوة إلى الملوك والأمراء لشهود حفلة الافتتاح باسمه، وأغفل السلطان في هذه الدعوة؛ فداخله الريب وأمر الصدر الأعظم بالاحتجاج لدى الدول والعتب على مَن قَبِل الدعوة دون الرجوع إلى ولي الأمر «المتبوع» فصادف هذا الاحتجاج هوًى في نفوس المحنقين على الحفلة كلها لما فيها من تمييز نابليون الثالث «محتضن المشروع» في مجامع السياسة الدولية، وهمُّوا بالاعتذار لولا التوسط في الأمر والاتفاق على تسوية المشكلة بمرور من يشاء من المدعوين بالآستانة قبل السفر إلى القاهرة. وكأنما أراد السلطان أن يضرب دولة بدولة وأن يطفئ نجم نابليون بنجم أكبر منه، فألجأه الحنق إلى انتقام غير لائق بمكانته ولا بدعواه وأناب عنه مندوب إنجلترا وفوض إليه أن يشكر المدعوين باسمه. وقد تعمد هذا المندوب أن يتأخر قليلًا في سفره إلى الإسماعيلية فوصل والقوم يخطبون ويشيدون بذكر الخديو دون الإشارة إلى السلطان، فإذا به يقف هاتفًا لأمير المؤمنين ويتبعه الحاضرون بهذا الهتاف — وكان افتتاح القناة في السابع عشر من نوفمبر سنة ١٨٦٩.

•••

وهذا هو مجمل وجيز للبيانات الرسمية المصرية عن سير العمل في القناة إلى يوم افتتاحها، كما جاءت في تقويم النيل لصاحبه «أمين سامي باشا» المؤرخ المشهور:
  • (١)

    كان مبدأ العمل في حفر قنال السويس حصل في بورسعيد يوم (٢٥ أبريل سنة ١٨٥٩ / ٢١ رمضان سنة ١٢٧٥).

  • (٢)

    صرفت شركة مساهمة القنال في برزخ السويس ٤٨٠ مليونًا من الفرنكات، بما في ذلك أماكن العمال وبناء مدينتي بورسعيد والإسماعيلية والمحاط والمكافآت التي كانت تعطى زيادة على المرتبات.

  • (٣)

    بلغ عدد العمال الوطنيين الذين أعدتهم الحكومة لهذا العمل بدون أجرة — سخرة — ٢٧٠٠٠ نفس، وأما عدد المستأجرين والمستخدمين فبلغ خمسة آلاف نفس تقريبًا.

  • (٤)

    بلغ طول القنال من بورسعيد إلى السويس — محطة توفيق — ٨٧ ميلًا.

  • (٥)

    حصل الاحتفال بالسفر فيه في يوم ١٧ نوفمبر سنة ١٨٦٩ وقد حضر هذا الاحتفال كل من جلالة إمبراطورة فرنسا وجلالة إمبراطور النمسا والمجر، والأمراء أولياء الروسيا وبروسيا وهولندة، وحضر أيضًا بالنيابة عن دولة إنجلترا، رئيس عمارة حربية.

  • (٦)

    وأول سفينة تجارية مرت بالقنال بعد الاحتفال بافتتاحه دافعة عوائد الأمور باعتبار عشرة فرنكات عن كل طونولاته هي السفينة المسماة «أمبيراتريس» وهي من سفن المساجيري أمبيريال، وهي الآن مساجيري ماريتيم.

وهذه البيانات المتقدمة أجوبة على أسئلة وجهها إلى شركة القناة صاحب تقويم النيل.

وقال «جرجس حنين بك» صاحب كتاب «الأطيان والضرائب»:

في تاريخ ١٣ يناير سنة ١٨٦٣ جلس على أريكة الخديوية المغفور له إسماعيل باشا، ولم يمضِ أكثر من سبع سنوات على تاريخ جلوسه حتى تم حفر برزخ السويس وأعد رسميًّا لمرور البواخر في ١٩ نوفمبر سنة ١٨٦٩.

وقد تكلفت خزانة الحكومة في تيار إنشائه نحو ستة عشر مليونًا ونصف مليون جنيه، هذه مفرداتها:
  • (١)

    ثلاثة ملايين ونصف مليون قيمة السهام التي اشتراها المغفور له «سعيد باشا».

  • (٢)

    ثلاثة ملايين قيمة الترضية التي حكم بها على الحكومة المصرية الإمبراطور «نابليون» تعويضًا لشركة القنال عما ألمَّ بها من الضرر بسبب ما نُسب إلى الحكومة من أنها منعت تشغيل الأنفار بالترع.

  • (٣)

    أربعمائة ألف جنيه ثمن أراضي ومباني رأس الوادي التي أخذتها الحكومة من الشركة، «وهي أطيان جفلك الوادي التي كانت أخذتها شركة القنال من خديو مصر بمليون وسبعمائة ألف فرنك، ثم أعيدت بعد ذلك للحكومة في مقابل عشرة ملايين من الفرنكات.»

  • (٤)

    أربعمائة ألف جنيه نظير تعويض للشركة عن أعمال، قيل: إن الشركة قامت بإجرائها في الترعة الحلوة.

  • (٥)

    ثمانمائة ألف جنيه صرفت إلى المقاولين الفرنساويين لإتمام إنشاء الترعة الحلوة.

  • (٦)

    أربعمائة ألف جنيه أنفقتها الحكومة في إنشاء الترعة الحلوة.

  • (٧)

    مليون جنيه نفقات المهرجان الذي أعد للاحتفال بفتح القنال رسميًّا، ويتبع ذلك نفقات أسفار إلى أوربة والآستانة في شئون الترعة.

  • (٨)

    سبعة ملايين جنيه فائدة هذا المال لتمام استهلاكه.» وجاء في كتاب «تاريخ مصر في عهد إسماعيل»:

في (غرة صفر سنة ١٢٨٦ / ٦ يوليو سنة ١٨٦٤) أصدر نابليون الثالث إمبراطور فرنسا حكمه في الإشكالات التي كانت بين سمو إسماعيل باشا والي مصر والموسيو دولسبس رئيس شركة قنال السويس بما يأتي:
  • أولًا: إعادة ستة آلاف فدان من الأطيان الممنوحة للشركة إلى الحكومة المصرية بتخفيض مقدار الأرض التي كانت للشركة على جانبي الترعة من كيلو متر إلى ستين مترًا.
  • ثانيًا: إعادة جميع الأطيان التي باشرت الشركة فلاحتها وزراعتها وقدرها ٦٣٠٠٠ هكتار إلى الحكومة على ألا تبقي لنفسها منها سوى ثلاثة آلاف هكتار.
  • ثالثًا: تتخلى الشركة للحكومة المصرية عن كل حق في مد الترعة ذات الماء العذب من مصر إلى السويس وبورسعيد، وإلزام الحكومة المصرية بمدها، وهي الترعة المعروفة الآن بالإسماعيلية، مع حفظ حق الشركة في الانتفاع بها.
  • رابعًا: إبطال حق الشركة في مطالبة الحكومة المصرية بالعمال إلا على سبيل العارية المأجورة.
  • خامسًا: إلزام الحكومة المصرية مقابل ذلك جميعه، وعلى سبيل التعويض بدفع مبلغ ٨٤ مليونًا من الفرنكات.

وخير ما يعقب به على هذا الحكم قول الشاعر الهازل:

منك الدقيق ومني النار أنفخها
والماء مني ومنك السمن والعسل

قال «فرانسوا جوزيف» إمبراطور النمسا ﻟ «إسماعيل باشا»، وهو يودعه في محطة القاهرة: «اسمح لي يا صاحب السمو أن أبدي رأيي الخاص: إن مصر لو كانت في حوزتي لوضعتها بين جفني عيني وأحكمت إغلاقهما عليها حتى لا يراها أحد.»

لم يكن «فرنسوا جوزيف» مغمض العين حين فاه بهذه الكلمة؛ لأنه قد نظر بعيدًا جدًّا إلى الأعين التي فتحت على مصر في أرجاء العالم كله، ساعة الافتتاح!

وكأنما شاءت المقادير لقناة السويس هذه أن يحيط بها سوء التقدير من كل جانب وفي كل حقبة؛ فإن «دلسبس» نفسه قد أساء التقدير كثيرًا حين قدر أن اختصار المسافة من ١١٣٧٩ ميلًا إلى ٧٥٢٨ ميلًا سيحول السفن الشراعية حتمًا من طريق رأس الرجاء إلى طريق السويس، وحين قال لأصحاب الأموال من الإنجليز وهم معرضون عنه: «ليست بواخركم التي تعنيني ولكنني أخطب ود السفائن ذوات الشراع.» فانقضت سنتان وهذه السفائن ذوات الشراع تتجنب الطريق الجديدة، وهبطت قيمة السهم في السوق من عشرين جنيهًا إلى سبعة جنيهات، ولم تقوَ الشركة على تعويض الخسارة إلا بعد موافقة الدول في مؤتمر الآستانة — باقتراح الإنجليز في هذه المرة — على زيادة الرسوم بنسبة أربعين في المائة؛ لأن الكشف عن مناجم الذهب في أستراليا وزيلندة الجديدة قد ضاعف حركة الملاحة بينها وبين هذه الجزر النائية. وكان تقدم الآلات البخارية قد نقص من تكاليف الوقود فاعتمدت الشركة على هذه «البواخر» التي خفَّ حسابها في تقدير دلسبس وحاملي الأسهم الأولين.

وإذا رجعنا إلى العلة الحقيقية لنقص موارد القناة تكشفت لنا هذه العلة عن غش صريح في تقدير حمولة السفن وتقدير الرسوم تبعًا لهذه المغالطة؛ فقد كانت الحمولة «الواقعية» أضعاف حمولة المركب المسجلة في الرخصة، فأعلنت الشركة في أول يوليو سنة ١٨٧٢ أنها ستحصل الرسم على الحمولة الموجودة فعلًا في كل سفينة. وصدر الحكم لمصلحتها في الخلاف بينها وبين بواخر «المساجيرى ماريتيم»، ولكن البواخر الإنجليزية فزعت إلى حكومتها ودارت المفاوضات بين هذه الحكومة والحكومات ذوات المصلحة في القناة، واتفقت الدول جميعًا على عقد مؤتمر الآستانة للنظر في هذه المسألة سنة ١٨٧٣، ورفض المؤتمر الأخذ بمبدأ الشركة في تقدير الحمولة، ولكنه نظر — كما قال — إلى «تضحيات» حاملي الأسهم فأضاف ثلاثة فرنكات على رسوم الطن المسجل حسب الطريقة الإنجليزية، وأربعة فرنكات على الرسم المسجل بغير هذه الطريقة، وتقرر البدء بتحصيل الرسوم على هذا الحساب من ٢٨ أبريل سنة ١٨٧٤، ولكن هذا التعديل لم يسرِ على السفن الحربية.

وقبل أن تستفيد مصر من هذا التعديل ضاعت من يدها أسهم الشركة التي كانت تملكها إلى ذلك الحين، وتألبت المصاعب الداخلية والدسائس الخارجية على حرمانها هذا النصيب الوحيد الذي خرجت به من أسهم الشركة، فقد علم صحفي إنجليزي — هو فردريك جرينوود محرر البال مال جازيت — أن أزمات الديون قد ألجأت الخديو إسماعيل إلى المساومة على بيع حصة الحكومة المصرية من أسهم القناة السويس، فبادر إلى إطلاع دزرائيلي على الخبر وتبين من سؤال الخديو أنه صحيح وأن بيتًا من بيوت فرنسا عرض على الخديو ثلاثة ملايين وستمائة وثمانين ألف جنيه ثمنًا للأسهم، وهي قرابة «١٧٧٠٠٠سهم» نحو نصف الأسهم جميعًا وعدتها أربعمائة ألف سهم كما تقدم، ولم تعارض الحكومة الفرنسية في عقد هذه الصفقة مع الحكومة الإنجليزية؛ لأنها كانت محتاجة إلى تأييدها أمام هجمات بسمارك ومحتاجة إلى معونتها والاشتراك معها في القناة؛ دفعًا لمناوراتها السياسية والاقتصادية حولها وحول غيرها من المرافق الكبرى، فأوعز دوق ديكاز Dicaze إلى البيت الفرنسي بكف يده عن المسألة، وقدم الصفقة هدية إلى دزرائيلي فبادر هذا إلى اغتنام الفرصة ولم ينتظر إذن البرلمان بعد عودته إلى العمل من إجازة الخريف، وأسعفه روتشيلد بالمبلغ المطلوب وهو أربعة ملايين وتمت الصفقة في نوفمبر سنة ١٨٧٥.

•••

بعد هذه الصفقة لم يحدث شيء ذو بال يتعلق بالقناة غير اتفاق الدول في سنة ١٨٨٨ على حيدة القناة، وقد وقَّع على هذا الاتفاق مندوبو إنجلترا وألمانيا وروسيا وفرنسا والنمسا والمجر وإيطاليا وهولندة وتركيا. وصرحت إنجلترا بأنها لا تتقيد بهذا الاتفاق أثناء احتلالها العسكري للبلاد المصرية إلا بشرط يقضي بتعيين لجنة دولية لتنفيذ الميثاق عند تهديد سلامة القناة، وأعلنت في المادة السادسة أنها تقرُّ معاهدة ٢٩ أكتوبر سنة ١٨٨٨ وتعمل على تنفيذها.

وعلى الرغم من هذه الحيدة «المضمونة» وهذا العهد المكفول بموافقة ثماني دول، فقد اُستخدمت القناة في الحرب الروسية اليابانية (١٩٠٤-١٩٠٥) لشل حركات الأسطول الروسي المعروف بأسطول البحر البلطي، وقد كان أقوى عدة للروس في حروب البحر، وكان تعويلهم عليه أكبر من تعويلهم على السكة الحديد في سيبيريا لكسب الحرب البرية. وجلية الأمر أن «المصادفات» كما قالت صحافة إنجلترا يومئذٍ قد انتظرت إلى أن وصل الأسطول الروسي إلى مدخل القناة فأغرقت — أي المصادفات — سفينة عابرة وسط القناة وتعطل مرور السفن إلى أن سمحت المصادفات أيضًا بغلبة اليابانيين على الروس في الشرق الأقصى، فأزيلت السفينة الجانحة عن الطريق، ووصل الأسطول إلى مقصده بعد فوات الأوان.

•••

وأهم ما حدث بعد معاهدة الحيدة وحادث الأسطول البلطي أن شركة القناة أرادت بعد الاتفاق الودي بين إنجلترا وفرنسا بفترة وجيزة، أن تمد أجل الامتياز أربعين سنة بعد انتهائه في ١٧ نوفمبر سنة ١٩٦٨، وعرضت على مصر في مقابلة ذلك أن تقسم الأرباح مناصفة بين الحكومة والشركة، وأن تدفع الشركة إلى الحكومة أربعة ملايين من الجنيهات على أربعة أقساط تبتدئ من سنة ١٩١٠ وتنتهي في سنة ١٩١٣ وتنزل الحكومة من أجل ذلك عن أرباحها — وهي خمسة عشرة في المائة من جملة الأرباح — ابتداء الأجل الجديد.

وقد كان الزعيم الخالد «سعد زغلول باشا» وزيرًا يومئذٍ في الوزارة فاشترط للدفاع عن الاقتراح أمام الجمعية العمومية أن يكون رأيها قاطعًا في قبوله أو رفضه، ووافقت دار المندوب البريطاني على هذا الشرط لأنها لم تشأ — بعد الاتفاق الودي بينها وبين فرنسا — أن تصدمها برفض الاقتراح، فرأت في إحالة المسألة إلى الجمعية العمومية مخلصًا من المشكلة كلها، وكان الرأي العام في مصر متجهًا إلى رفض الاقتراح؛ كراهة منه لذكرى القناة وعقابيل القناة.

•••

في خلال هذه السنين تضخمت السفن وتعذر مرور بعضها من القناة فوُسِّعت وعُمِّقت بين سنة ١٨٨٥ وسنة ١٨٨٩ حتى بلغ عرضها خمسة وستين مترًا أو خمسة وسبعين مترًا على حسب المواقع في الأماكن المستقيمة وثمانين مترًا في الأماكن المنحنية وبلغ عمقها تسعة أمتار. وبعد الإصلاحات التي تمت في سنة ١٩٣٣ أصبحت القناة تتسع للسفن التي حمولتها خمسة وأربعون ألف طن.

وقد بُنيت بعد الحرب العالمية الأولى مدينة بورفؤاد على الضفة الشرقية أمام بورسعيد، وأقيمت على القناة بعد نشوب الحرب العالمية الثانية قنطرة للسكة الحديدية تصل بين القاهرة وبيروت.

ولم تزل إنجلترا تسعى عند دول البحر الأبيض المتوسط حتى اعترفت لها فرنسا وإيطاليا بأهمية القناة العسكرية بالنسبة إلى مركز إنجلترا في الهند وما وراءها، ونصت المادة الثامنة من المعاهدة المصرية الإنجليزية (١٩٣٦) على إبقاء قوة بريطانية بجوار القناة للدفاع عنها ريثما يستقل الجيش المصري بهذه المهمة.

وقد أدى تطبيق قانون الشركات الذي أصدرته حكومة «النقراشي باشا» إلى زيادة الأعضاء المصريين في مجلس الإدارة وزيادة عدد الموظفين والعمال في الشركة وقضى اتفاق (٧ مارس سنة ١٩٤٩) بين الحكومة المصرية والشركة بإجراء إصلاحات أخرى لتعميق القناة نصف متر؛ تيسيرًا لمرور السفن التي يبلغ غاطسها ستة وثلاثين قدمًا، ولا تقل حصة مصر بمقتضى ذلك الاتفاق عن ثلاثمائة وخمسين ألف جنيه.

لقد جنى الإنجليز من أرباح القناة أكثر من عشرة أضعاف الثمن الذي بذلوه في الأسهم المصرية، وقدرت قيمة الأسهم منذ سنوات بأكثر من ثلاثين مليون جنيه، وخولتها هذه الأسهم أن تعين في مجلس الإدارة عشرة أعضاء من ثلاثة وثلاثين، ولكن دعوى إنجلترا في القناة تتبدل في كل دور من أدوار السياسة البريطانية وكل دور من أدوار السياسة العالمية.

قال النائب الإنجليزي باسيل وريفولد Worsfold في كتابه «مستقبل مصر»: «إن سياسة إنجلترا في مصر عرضة للانحراف أو للنقض من جراء المفاجآت في تطورات العلاقة بين الدول الكبرى.»

وقال قبل ذلك: «إن العناصر المهمة في تطورات الموقف، هي: (١) استقرار بريطانيا كقوة رئيسة في شواطئ أفريقية الشرقية مع شبكة من النظام تتناول السودان وأوغندة وأفريقية الشرقية البريطانية وأفريقية البريطانية الوسطى وروديسيا الشمالية والجنوبية. و(٢) امتداد الإمبراطورية الهندية وعلاقتها التي يحتمل أن تزداد اتصالًا بتلك الشبكة من النظام. و(٣) إنشاء القوات الوطنية وتدريبها بإشراف أفريقية الجنوبية وأستراليا وزيلندة الجديدة مع تأسيس بحريات محلية في أستراليا وزيلندة الجديدة. و(٤) ارتباط الهند وأفريقية الشرقية لأغراض الدفاع.»

«وعلى هذا، ومع حسبان الحساب للنقص المتتابع في أهمية قناة السويس من الوجهة العسكرية، تظل مصر عاملًا له قيمته في الدفاع عن الإمبراطورية، ويمكن أن يقال: إنه مهما يبلغ من استعداد الشعب المصري سريعًا لحكم نفسه لن تنجلي بريطانيا العظمى إلا على شروط تخولها العودة إلى السيطرة العسكرية في حالة الاضطراب الداخلي أو التهديد من الخارج.»

لا جرم إذن تصبح قناة السويس هي بيت القصيد من حوادث الإسكندرية وحوادث مصر عامة في الحادي عشر من يوليو سنة ١٨٨٢.

ولكنه بيت قصيد يتغير معناه ولا يزال متغيرًا مع الزمن كما يشاءون، إلا أن يشاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤