نهضة الإصلاح

شاعت الثورات وحركات الإصلاح في الغرب والشرق خلال القرن التاسع عشر، وقيل في تعليلها: إنها عدوى الثورة الفرنسية التي بدأت في القرن الثامن عشر، ولم تزل تتجدد إلى ما بعد سقوط نابليون الكبير فنابليون الصغير.

ومهما يكن من أثر العدوى بين الأمم — وهو أثر محقق لا جدال فيه — فمن النادر جدًّا، إن لم يكن من المستبعد عقلًا، أن تثور أمة لمجرد العدوى وحب التشبه بغيرها، فلا بد لكل ثورة من بواعث متعددة في أحوال الأمة نفسها تساعدها العدوى على الظهور.

وهكذا كانت الحال في مصر من منتصف القرن الثامن عشر، بل ربما خُصت مصر باجتماع طائفة من بواعث السخط لم تجتمع قط في أمة واحدة في وقت واحد، فتضافرت البواعث السياسية والوطنية والمعيشية والفكرية وكل باعث يوغر الصدور على إزعاج الأمة المصرية.

ونفى الأمن والطمأنينة عن نفوس أبنائها طغيان الدول الأجنبية ومساوئ الامتيازات التي بلغت القحة بأصحابها أن يحسبوها فرصة لاستذلال المصريين بغير داعٍ وفي غير مصلحة معروفة، وأثقال الضرائب والقرض والسخرة والمصادرات التي استنفدت الأرزاق في زمن قلت فيه المحاصيل والمرافق وتتابعت فيه الأوبئة ونوبات القحط تارة والفيضان تارة أخرى، واختلال الحكم وتنازع السلطة بين الحاكمين من الأجانب والغرباء والوطنيين، وجرح الشعور الديني بإباحة المنكرات علانية وتمادي أشرار الأجانب المحميين بامتيازاتهم في التحريض على الفساد بجميع أنواعه، ومنه الفجور والقمار والربا الفاحش وما يقترن بها من الفضائح والمخزيات.

لا عجب في أمثال هذه الأحوال أن ترهف الأمة أسماعها لالتقاط كل دعوة إلى الإصلاح ولو لم يكن فيها غير الأمل في التغيير.

وقد كانت النهضة الفكرية في إبانها، وكان المتعلمون من أبناء مصر يسمعون أخبار النهضات الفكرية ويتناقلون أفكار دعاتها ومذاهب الساسة والحكماء القائمين عليها. وقد قرأ الكبار والصغار في عهد «محمد علي الكبير» كتاب رفاعة بك بدوي الطهطاوي الذي سماه «تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز» وفيه بيان للدستور الفرنسي وحقوق الفرنسيين ومبادئ الثورة وحرية القول والكتابة، ومن ذلك قوله عن الصحف، ننقله بنصه حيث يقول: «أما المادة الثامنة فإنها تقوي كل إنسان على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله مما لا يضر غيره فيعلم الإنسان سائر ما في نفس صاحبه، خصوصًا الورقات اليومية المسماة بالجرنالات والكازيطات؛ الأولى جمع جرنال، والثانية جمع كازيطة، فإن الإنسان يعرف منها سائر الأخبار المتجددة، سواء كانت داخلية أو خارجي؛ أي داخل المملكة أو خارجها، وإن كان قد يوجد بها من الكذب ما لا يحصى إلا أنها قد تتضمن أخبارًا تتشوف نفس الإنسان إلى العلم بها على أنها بما تضمنت مسائل علمية جديدة التحقيق أو تنبيهات مفيدة أو نصائح نافعة، سواء كانت صادرة من الجليل أو الحقير. لأنه قد يخطر ببال الحقير ما لا يخطر ببال العظيم، كما قال بعضهم: لا تحقتر الرأي الجليل يأتيك به الرجل الحقير، فإن الدرة لا تستهان لهوان غواصها، وقال الشاعر:

لما سمعت به سمعت بواحد
ورأيته فإذا هو الثقلان
فوجدت كلَّ الصيد في جوف الفرا
ولقيت كلَّ الناس في إنسان

ومن فوائدها أن الإنسان إذا فعل فعلًا عظيمًا أو رديئًا وكان من الأمور المهمَّة، كتبه أهل الجرنال ليكون معلومًا للخاص والعام لترغيب صاحب العمل الطيب ويرتدع صاحب الفعلة الخبيثة. وكذلك إذا كان الإنسان مظلومًا من إنسان كتب مظلمته في هذه الورقات فيطلع عليها الخاص والعام، فيعرف قصة المظلوم والظالم من غير عدول عمَّا وقع فيها ولا تبديل، وتصل إلى محل الحكم ويحكم فيها بحسب القوانين المقررة فيكون مثل هذا الأمر عبرة لمن يعتبر.»

وكانت لرفاعة بك منظومات وطنية منها أناشيد تناسب ذلك العصر، وفي أحدها يقول مخاطبًا الجنود:

هيا انتظموا وارقوا الأوجا
هيا اقتحموا فوجًا فوجا
هيا التحموا عند الهيجا
هيا هيا سونكي دوران

•••

لا تعطوا الأعدا مقودكم
لا ترضوا أن يستبعدكم
والله تعالى أسعدكم
بقتال وهزم ذوي الطغيان
للحرب هلموا يا شجعان
حبُّ الأوطان من الإيمان

ولبثت هذه الأفكار أكثر من أربعين سنة تسري في الأذهان وتتغلغل في الطوايا ويتوارد عليها في كل فترة مدد جديد من أفكار الناشئين في مدارس مصر والعائدين من المدارس الأوروبية والمطلعين على الكتب المؤلفة والمترجمة، وتواتيها بواعث النفوس القلقة والخواطر المتحفزة فتندفع كل يوم إلى غاية لا محيد عنها.

ثم وفد إلى مصر مصلح الشرق العظيم «جمال الدين الأفغاني» (مارس ١٨٧١) فوجد العقول مهيأة لقبول دعوته. وأقام فيها سنوات ثمانيًا يعلم ويخطب ويستنهض الهمم ويلقى الكبراء والرؤساء، وينصح لهم بتنظيم الحكومة على القواعد الدستورية ويحض تلاميذه على الكتابة والخطابة، ومنهم أمثال: محمد عبده وسعد زغلول واللقاني وعبد الله نديم وأديب إسحاق، فكان كالقائد الذي جاء في حينه لحشد القوى المتفرقة وتوحيد وجهتها وإلهاب الحماسة والنخوة في نفوسها. وقد جمع في محفله الماسوني نحو ثلاثمائة عالم ورئيس، منهم ولي العهد «محمد توفيق» و«أحمد عرابي» القائد المشهور.

قال تلميذه الأكبر الأستاذ الإمام الشيخ «محمد عبده» في وصف هذه النهضة وأثرها في نفوس طلابه: «كانوا ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستيقظت مشاعر، وانتبهت عقول، وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد خصوصًا في القاهرة. كل ذلك والحاكم القوي في علو مكانه أرفع من أن يناله هذا الشعاع في ضعف شأنه. وما زال هذا الشعاع يقوى بالتدريج البطيء، وينتشر في الأنحاء على غير نظام إلى أن نشبت الحرب بين الدولة العثمانية ودولة روسيا (١٨٨٧) … وجد الناس من نفسهم لذة في الاطلاع على ما يكون من شأن الدولة العثمانية صاحبة السيادة عليهم مع دولة روسيا. فتطلعوا إلى ما يرد من أخبار الحرب، وكثرة الأجانب في هذه البلاد سهلت ورود الجرائد الأوروبية إلى طلابها من الأوروبيين، ومخالطتهم للعامة والخاصة مهدت الطريق إلى العلم بما فيها. وسرى هذا الشعور إلى بعض الجرائد العربية التي كانت لا تزال إلى هذا العهد مقصورة على ما لا يهم، فانطلقت في إيراد الحوادث. فوجد في الناس الناقم على تلك الجرائد والناصر لها، وحدث بين العامة نوع من الجدال لم يكن معروفًا من قبل. ثم استحدثت جرائد كثيرة لمباراة ما سبقها في نشر الأخبار ومناوأتها في المشرب، واندفعت الرغبات إلى الاشتراك فيها إلى حد لا يمكن منعه، وقضى سلطان الوقت على سلطان الإرادة القاهرة.

ولم يكن ما ينشر في الجرائد محصورًا في حوادث الحرب بل اجترأ الكثير منها على نشر ما عليه سائر الأمم في سيرتهم السياسية والمعاشية وزادوا على ذلك نشر ما كان قد بدأ في الحكومة المصرية من سوء الأحوال المالية. وأخذ جمال الدين في حمل من يحضر مجلسه من أهل العلم وأرباب الأقلام على التحرير وإنشاء الفصول … وأخذت الحرية الفكرية تظهر في الجرائد إلى درجة يظن الناظر أنه في عالم خيال …»

ووقع ما لا بد أن يقع من اصطدام بين هذه الدعوة ورجال الحكم من الأجانب والمصريين وأحاطت الدسائس بجمال الدين من كل جانب، وتقرر نفيه من الديار. ودلت شدة الامتعاض منه على استحالة التفاهم بين دعاة الإصلاح ومن يعارضونهم وينفرون من دعوتهم. وكان الخبر الذي نشرته الوقائع المصرية — ٣١ أغسطس سنة ١٨٧٩ — تسويغًا لنفيه، يدل دلالة كافية على مبلغ ذلك الامتعاض واستحالة التقارب بين من يفكرون على هذا النحو ومن يؤمنون بآراء جمال الدين، وهذا بعض ما جاء في ذلك الخبر السخيف:

لما كان الأمن والأمان، والراحة والاطمئنان، يتوقف عليهما تمام العمران في جمع الممالك والبلدان، ومن أنجح الأبواب وأصلح الأسباب، التي بها نجاح الممالك، وسلوكها في أقدم المسالك، قطع دابر المفسدين الساعين فيما يضر بالدنيا والدين ويكون ذريعة للطائشين المتظاهرين بين الناس بمظهر الحرية بدون أساس، البانين ذلك على غير شرع، وأصل ثابت وفرع، وإنما هو مجرد خزعبلات وترهات، وأشراك وأحبولات، نصبوها لاقتناص أمثالهم السفهاء والجهال، الذين هم بمعزل عن معرفة شيء من صالح الأحوال.

إلى أن يقول عن جمعيته السرية: «رئيسها شخص يدعى بجمال الدين الأفغاني مطرود من بلاده ثم من الآستانة العلية؛ لما ارتكبه من أمثال هذه المفسدة في ديارنا المصرية … وهذا من أكبر ما يغير الأفكار، ويجب أن يعامل مرتكبه بالتشديد والإنكار. فالتزمت هذه الحكومة الحازمة أن تتخذ الطرق اللازمة، وتستعمل السداد في قطع عرق هذا الفساد، فأبعدت ذلك الشخص المفسد من الديار المصرية بأمر ديوان الداخلية، ووجهته من طريق السويس إلى الأقطار الحجازية …»

بمثل هذا السخف خيل إلى ولاة ذلك العهد أن يسلكوا أعظم المصلحين أمام التاريخ في زمرة المفسدين، فنقض التاريخ ما أبرموا وجرهم نفي الرجل إلى نقيض ما قدروا، وتسامع عارفوه بنفيه على هذه الصورة المزرية فأخجلتهم الفضيحة واستفزهم الغضب لكرامته إلى إتمام سعيه والدأب على منهاجه. فلما بدأت حركة الانقلاب بعد سنة من تاريخ نفيه كان تلميذه «محمد عبده» إمامها الروحي، وتلميذه «عبد الله نديم» خطيبها المتوقد، وتلميذه «سعد زغلول» قائد الطلبة في مظاهرتها، ثم أفلت الزمام من كل يد فكانت دعوة جمال الدين رحمة إلى جانب الدعوات التي انتشرت في كل مكان على هدى العقل حينًا وعلى غير هدى في أحايين.

قال المؤرخ المصري «أحمد شفيق باشا» في الجزء الأول من مذكراته يصف القاهرة في تلك الأيام:

وانقلبت مصر مسرحًا للخطباء في كل مجتمع ونادٍ حتى في المساجد، ولم يبقَ مجلس للسَّمر أو للاحتفال بعرس أو غيره إلا اقتحمه الخطباء واعتلوا منصة المغنين بعد إقصائهم عنها وغيرهم، حتى لقد سمعت أن محمد عثمان المغني الشهير كان إذا سئل: في أي فرح تغني الليلة؟ أجاب في الفرح الفلاني مع عبد الله نديم!

وكثيرًا ما كان الخطيب يستصحب معه بعض طلبة المدارس، وبعد خطابته يقدم أحدهم إلى الجمع ليخطب فيهم إلى جانبه، فينبري الطالب مثيرًا في الحاضرين الغيرة والحمية، وقد شاهدت عبد الله نديم مرة يُقَدم فتحي أفندي زغلول الطالب بمدرسة الحقوق ليخطب في حفلة عظيمة وبعد أن جال بخطبته في السياسة كل مجال، أمسك عبد الله النديم بذراعه، وقال للحاضرين:

ألا تعجبون لما أبداه هذا التلميذ في خطبته من العلم والبيان والتفنن في المواضيع مع أن جلادستون خطيب إنجلترا لا يتناول إلا موضوعًا واحدًا في خطبته.

… وقدم مرة أخرى في إحدى الحفلات الطالب مصطفى أفندي ماهر فخطب القوم وراقتهم خطبته، فقال عبد الله نديم: أشهدكم أيها الناس أن أمة يكون هذا مقدار استعداد التلميذ فيها لا يغلبها أحد على أمرها.

وكان عرابي والبارودي وعبد العال حلمي وعلي فهمي وغيرهم من زعماء الحركة يحضرون أكثر هذه الحفلات ويتصدرونها، فتُلقى الخطب والقصائد في مدحهم وتقديسهم وتعداد مناقبهم ولا ينصرفون عنها إلا بالتهليل والتكبير، فإذا انتهت خرج الناس منها وكأنهم أهل سياسة ورياسة، وأصبح الناس كلهم عرابي وأصبح عرابي الناس كلهم، وانحلت الطبقات، واختلط الحابل بالنابل والعالي بالسافل. وقد كان عرابي يمثل في شكل البطل المنقذ، وقد وزعت صورته في أنحاء البلاد، وهو جالس ينظر نظرات بعيدة وعلى رأسه عبد العال قابضًا على سيفه وإلى جانبه علي فهمي وهو يمسك بيده ورقة مطوية كتب عليها «الدستور».

وهكذا سارت الروح العرابية في الأمة بأسرها وجعلت كل الطبقات في صعيد واحد ممتزج بعضها ببعض.

وقد اختلط الحابل بالنابل والعالي بالسافل حقًّا في تلك الحركة، كما قال صاحب المذكرات، ولكنه اختلاط لم تسلم منه حركة قومية ولا تعاب به الحركات القومية من قبيلها، بل من شروط كل دعوة تتناول الشعوب أن يهتم بها العامة والدهماء، كما يهتم بها الخاصة وقادة الآراء. وقد كانت نهضة مصر في القرن التاسع عشر نهضة قوية وحركة طبيعية لا غبار عليها، ولكنها كانت تخطو في طريقها وأمامها عقبات السياسة كلها خارجًا وداخلًا تصدها إلى الوراء، وعلى كواهلها أوزار الماضي الثقال تهبط بها إلى الأرض، فتعثرت ولم تنطلق إلى غايتها، ولكننا نحن اليوم لم ننتهِ إلى شيء لم يبدأ فيه طلاب الإصلاح بدايتهم التي لا محيص عنها في ذلك الجيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤