التربية القومية

الحمد لله الذي أوجد فينا من ينادي بالتربية القومية. ما هذا النداء سوى إقرار بفقدانها، فمتى شعر المرء أنه بحاجة إلى الشيء سعى وراءه، وفي السعي إليه نيل له قريب، ومن ينادي بالقومية يصبح بها بشيرًا، عاش إذن هذا النداء وعاش البشير.

كنت في عهد الفتوة أحلم لو تصل الإنسانية إلى يوم تختفي فيه الجنسيات والقوميات، وتصبح الأرض كلها جمهورية كبرى رئيسها الله.

وجاء الشباب ومعه حادثات الأيام فأرتني أن الحلم بعيد، والإنسانية لن تصل إلى حد الكمال إلا يوم تمسي كل طوائف البشر في مستوى واحد؛ أي يوم ترتقي كل أمة ضمن قوميتها، ومن ذلك اليوم — منذ تأكدت أن التفاوت بين الأمم يجعل فيها قويًّا وضعيفًا؛ أي آكلًا ومأكولًا — صرت أعتقد بمبدأ القومية، القومية القوية الطماحة التي ينادي بها الأستاذ بولس الخولي.

هذه القومية لا تأتي — في نظري — إلا عن طريق التربية، وهذه التربية لا يقوم بها إلا كل من تطهرت عاطفته من كل تأثير خارجي، وارتقى عقله فأمن الضلال، وتسامت نفسه فعانقت نفوس الذين إنما مروا على هذه الأرض ليعلموا الناس كيف تكون التضحية.

فجوابي أن قوام التربية القومية هو التضحية.

ومتولي أمرها هو ابن البلاد، هو أنا وأنت أيها القارئ.

أنا ألقي كل الحمل على ابن البلاد؛ لأن من لا يعرف أن يحمل وطنيته كما يحمل يسوع صليبه لا يستحق أن يعيش، وخير لهذه البلاد أن تسكنها أقوام عزيزة من أن تسكنها أمة تدوسها سنابك الخيل صعودًا ونزولًا، وذهابًا وإيابًا، فتصبح أمثولة في الخنوع ومثلًا في الذل.

نحن نتولى أمر التربية القومية في بيوتنا أولًا، إذا كان قضي على هذه البلاد أن تكون كل معاهدها قلاعًا تحتلها البعثات المتنوعة احتلالًا أشد وطأة من الاحتلال العسكري.

نحن نتولى التربية القومية باتباعنا خطة أكيدة بطيئة لا تحول ولا تزول، مغمضين أعيننا عن كل المساومات التي يمكن أن يعرضها علينا الناس، معتقدين أن العمل علينا وحدنا، وأن كل من يظهر اهتمامًا بنا إنما يفعل ذلك حبًّا بنفسه لا حبًّا بنا.

لقد تسلح الغرب بحماية المسيحيين ليتمكن من الدخول إلى هذا الشرق، ولو لم يوجد فيه مسيحيون لخلق الغربي حجة أخرى — كما خلق الله آدم من التراب. نعم، إن هذا الخروج والولوج أوجد في نفس الغربي شيئًا من العطف على شعوب الشرق التي ظلمتها الأيام، على أن أساس هذا العطف هو المصلحة، والمصلحة لا تعرف التحول عن الغاية. ولست أدري كيف يمكن أن نطلب تربيتنا القومية ممن لا يمكنه أن يخلص إلى النهاية.

وبعد أن نعقد النية على إيجاد التربية القومية يجب أن نضحي، والتضحية شيء لا تقدر عليه النفوس المتعودة الصغارة، النفوس التي لا تعرف أن تسمو إلى النور، بل تعيش في الظلمة كما يعيش الخفَّاش.

لنضحِّ إذن.

ليضحِّ الموظف بأن يرفع جبينه أمام رئيسه الغريب، ومتى ارتفع جبين الفرد ارتفع جبين الأمة.

ليضحِّ الشبان الراحة اليومية والعيش المبطن بالحرير، وليطلبوا الجندية بصوت واحد، فإن الوطن الذي تجبل أُسسه بالدم الإفرنسي أو الإنكليزي يكفُّ عن أن يكون وطنًا يوم تضنُّ علينا أمهات فرنسا وإنكلترا بحبات قلوبهنَّ.

لتضحِّ الفتاة التي لديها متسع من الوقت، وتساعد أباها على كسب المال، فالمال هو وحده دعامة الاستقلال.

لتضحِّ المرأة المتموِّلة في سبيل الأمة، فتعطي من مالها المدارس الوطنية والجمعيات الوطنية، وتعطي من نهارها الطويل ساعات قصيرة تصرفها في مستشفيات الأمة ودور أيتامها، وفي سبيل الأطفال الذين تضطر أمهاتهم أن تعرق دمًا لأجل الرغيف.

لتضحِّ كل نساء الأمة من عبادتهنَّ للمستحدثات الغربية؛ فإن الأموال التي نرسلها إلى أوروبا ثمن جرابات وأزرار وخزعبلات هي دماء الأمة وماء جبينها، بل ماء وجهها، بل هي ثمن صريح للسلاسل التي تزداد حلقاتها كل يوم.

لتضحِّ الأم ساعة فتعلم ولدها لغة الأجداد بنفسها، فمن العار أن نرمي المعاهد الأجنبية بهذه الحجارة كلما نظرنا إلى ذلنا.

انظروا إلى الشعب اليهودي المتشتت في أقطار الأرض منذ ألفي سنة كيف حافظ على لغتهِ وتقاليده، وقولوا لي بعد هذا: إن المعاهد الأجنبية هي المسئولة عن كسلنا وعارنا.

ليضحِّ السوري العائش في وادي النيل برغد وهناء، وليرجع إلى بلاده؛ فقد كفانا ما استُعمر من صحارى السودان على أكتافنا، فتكسير الحصى في الوطن أفضل من الحياة تحت ظلال الناس.

ليضحِّ المهاجر النائي مظاهر المدنيات الخلَّابة، وليعد إلى التربة التي أنبتته؛ فإن كوخًا في البقاع أفضل من كل قصور بروكلين، والخبز الأسود في بلادنا أطيب من الخبز الأبيض في أرقى بلاد الناس.

لتضحِّ الأمة كلها عاطفةً هي أصل البلاء، لتضحِّ العاطفة الطائفية التي نسمُ بها وطنياتنا المختلفة.

ليخفف الماروني من حبه لفرنسا، والبروتستانتي من حبه لإنكلترا، والأرثوذكسي من حبه لروسيا، والمسلم من حبه لكل الجامعات الإسلامية التي يمكن أن تتألف في أنقرة وموسكو وبرلين.

لنخفف من حبنا للناس، أيها الناس؛ فمن العناق ما هو خنَّاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤