يا بلادي

يا بلادي كم يتغنى بك الناس! وكم تلعنين من بنيك!
يا بلادي، ما أكثر المتقاتلين على هواك! وما أقل حظك من ذويك!
أما لبنيك عيون لترى بهاءَك!
أما لهم آذان لتسمع نداءَك!
أما لهم أرواح فتصبوا إلى الأرواح العلوية المالئة فضاءك!

•••

يا بلادي، ما أجمل ألوانك الزاهية، وأحب أنفاسك الطيبة، وأشد تأثير جمالك على من يدرك أن الحياة جمال وحب!
يا بلادي، كم أشتهي أن أكون رفائيل فأخلِّد جمالك!
أو دانتي فأنشد قصائد حبك!
أو جان دارك فأحرق من أجلك!
بل أشتهي أكثر من هذا، أشتهي لو أصير روحًا علوية قدسية فأدخل روح بنيك وأنفخ فيهم شيئًا من شعلة حبي وهيامي.

أحببت بلادي كما يحب الشباب، أحببتها أولًا من أجل الحب، ولما اقتربت من هيكلها وتجلى لي بهاؤها في ليلة إلهية ملأت أنفاسها أنفاسي، وامتزجت روحها بروحي؛ فصرت — ككل المحبين الراسخين — أحبُّ الحبَّ لأجل الحبيب.

ذلك كان في ليلة من ليالي الصيف، عندما توغلت في قلب لبنان وسرت بين سهوله وجباله، ودخلت في صميم البقاع إلى ما بين الجبلين القائمين كهيكلين عن يمينه وشماله.

سهرت الليالي على قمة من القمم المطلة على المرج الوسيع، وفي آخر الليل جاءت الآلة البخارية فحملتني وهرولت بي نزولًا إلى أن استقرت في رياق، ومن هناك سارت بي خفافًا إلى بعلبك.

وما أنسى لن أنسى ليلة بيضاء كشفت لي عن مخبآت وكنوز بلادي، سرت وسط ذلك المجوَّف الواقع بين لبنان الشرقي ولبنان الغربي، ذلك المجوف الذي يمتد من قرب جزين جنوبًا، ويتصل شمالًا بسهول سوريا المخصبة.

كان القمر يتضاءل ليغيب وراء لبنان الغربي، وأوائل الفجر تسرع صعدًا فوق لبنان الشرقي مرسلة خيوطًا ذهبية، فتراءى لي ذلك السهل الفسيح كوجود لا قرار له يخفي في جوفه كنوز الحياة المستقبلة ودفائن الحياة الماضية … تراءى لي كجبار فخور يهزأ بالأجيال وما تحمله من الحوادث، ويظل سكوتًا صبورًا يعطي باليد الواحدة لبنيه خيرات تربته، ويخفي باليد الثانية في طيات تلك التربة الكريمة الكتومة عظام وأطماع الطامعين والفاتحين.

وقفت إلى نافذة القطار وقد عراني خشوع ورعدة، وتغلغل برد الليل في مفاصلي وعظامي، ثم لمعت شهبٌ واندلعت من فوق ذلك الجبل ألسنة لهيب سماوي، وأطلت المحسنة الأزلية لتفرق على الكائنات الحرارة والنور، فقلت في نفسي: هذه هي عليقة موسى تحترق … ونظرت إلى السهل فإذا بي أرى من بعيد أعمدة هيكل الشمس واقفة كحجة أزلية تنطق بمجد معبودة الأقدمين وعزها القديم.

فتأملت وقد تململت في نفسي آيات العبادة فيما يحيط بي من مظاهر الحب والجمال، وفهمت لماذا أقام الأقدمون في هذه البقعة من الأرض المذابح والمحاريب.

فهمت لماذا اكتسح المصريون سوريا، وداسوا بحوافر خيولهم عروش ملوكها، فهمت لماذا سالت دماء الحيثيين والفرس واليونانيين والرومانيين، فهمت لماذا قذفت رمال الصحراء قبائل الحجاز إلى قلب بلادي، ولماذا دفعت أوروبا جيوش الصليبيين.

ولماذا بصقت لنا جبال الأناضول قبائل الأكراد والتتر.

فهمت لماذا احترقت أوروبا بالحرب العالمية.

ولماذا نُجِّرت عروش الإمبراطورية العربية.

ولماذا غضبت سيدة البحار وغلا قلبها بالطمع، فنفثت من صدرها سمومًا لفحنا لهيبها وتركت في أجسامنا هذه الكلوم.

وفهمت لماذا يموت أبناء السين على حدود بلادي، ولماذا يسفكون دماءَهم في سبيل دعوة جاحدة ناكرة.

فهمت في تلك الساعة معنى الروح القوية العطرية الإلهية المنبثقة من تربة بلادي، تلك الروح الجذَّابة التي خطفت أبصار شعوب الأرض، تلك الروح الحسودة التي حفظت هذا القطيع وأبقته كما كان منذ آلاف السنين، ينظر إلى أصناف البشر تمرُّ وتمرُّ وتمرُّ وهو جامد يسمع وينظر ولا يتأثر.

بورك لكم بأطماعكم أيها الناس. تقول بلادي.

بورك لكم بهذه المدنيات السريعة الاندثار كأزهار الربيع.

بورك لكم بأصنامكم ومعدات هلاككم.

أما أنا فلا أزال منذ أقدم أزمنة التاريخ أنظر إليكم تُدفنون وتندثرون أمة بعد أمة، ودولة بعد دولة.

تأملوا، أيها الناس، بقوة كياني! تأملوا بالأبناء الذين ولدتهم كيف ثبتوا على مصارعة الأيام.

تأملوا بأبنائي كيف لا يزالون إلى اليوم يتكلمون اللغة التي نطق بها سام، واسمعوا أناشيدهم، فهي باقية كما كانت يوم كان رعاة اليهود يعزفزن بالمزمار على جبال جلعاد.

•••

أما أنا المرأة الشرقية، الغيورة من مجد الأمم وأعلام الأمم، فلم تشبع نفسي مما قالته بلادي؛ لأن لي نفسًا جبارة كالحياة، وطماعة كالموت.

أريد بلادي عزيزة، منَّاعة، أريدها متشبعة من كل ما اندثر فيها من المدنيات، ومفرقة على العالم دروس العلم والحكمة.

وكلما تألمت الأمومة الجريحة في قلب راحيل، فصرخت بمرارة إلى يعقوب: «أعطني ولدًا وإلا أموت.» هكذا وقفت نفسي الجائعة على أطلال بعلبك، فصرخت صراخًا إلهيًّا كالآلهة، وعميقًا كالهاوية.

يا أبناء بلادي القريبين والبعيدين، أعطوني بلادي، أعطوني وطنًا وإلَّا أموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤