درسٌ في الوطنيَّة١

ذكر الكاتب الإنكليزي الشهير سونبرن Swinburne في كتابه «صلاة الأمم» أن فرنسا في صلاتها إلى الحرية تقول النشيد الآتي:
أيتها الحرية! أنا رمزك وأنا رافعة أعلامك
أنا صوتك وصراخك
أنا التي غسلتك بدموعي وصيرتك أكثر بهاء
ألم ترفعك يداي الداميتان من الحضيض لتغذيك وتحييك
ألستُ اللسان الذي تكلم عنك، والعين التي أنارت طريقك.

أيها السادة، من سنة ١٨٧٠ إلى الآن ظهر على الأرض أناس كثيرون جعلوا همهم تكذيب هذا المديح؛ ليحملوا العالم على الاعتقاد أننا أمة تمشي إلى الفناء. ولقد نجح هؤلاء الدعاة؛ ففي كل مكان كنا نسمع هذه العبارة: لقد شاخت فرنسا وأصبحت أمة قديمة.

نحن لا ننكر أننا أمة قديمة، وأننا أول أمة شعرت أنها «أمة»، وأنها «وطن»، ولكننا لا ندري أي عار في القدمية، قالوا: إننا جمعنا كثيرًا من الأمجاد، وكثيرًا من الكنوز، وكثيرًا من العاديات، وكما يجلس شيخ قديم بين تحف قصره جلسنا نتذكر مجدنا الغابر وعزَّنا السالف.

وقالوا: إننا أمة غير رصينة، وأن همنا في الحياة هو الركض وراء الملذات، وتراكضت الأمم إلى عاصمتنا لتذوق الملذات.

أيها المبغضون الظالمون! كيف يمكنكم وأنتم ثملون أن تعرفوا ماذا يجري ضمن عائلتنا التي تعرف أن تسكن بعيدة عن الضوضاء.

إن تلك العائلة كانت تختمر — بينما أنتم تسكرون — بالعاطفة العلوية، فلما دقت الساعة وعلا النداء نهضنا كشخص واحد ولبينا ذلك النداء كما لو كان وحيًا سماويًّا.

•••

أرجع بكم إلى شهر آب سنة ١٩١٤ حين بُوِّق بالبوق وقرعت الأجراس في قباب الكنائس التي بنيت أساساتها فوق المدافن، فكانت أصواتها ترنُّ عميقة هائلة كأنها أصوات الملايين من الأموات وقد قاموا من مراقدهم ينادون الرجال، ويندبون حظ النساء.

واحتشدت الجموع في المحطات من أطفال ونسوة وشيوخ حول الراحلين الذين كانوا يصرُّون بأسنانهم قائلين: «لقد أرادوها فهيا بنا.»

لا يمكن لي أن أصف كل المشاهد المؤثرة، ولكنني سأسير بكم إلى مدرسة سان سير الحربية، فتقفون هنيهة بين الشبان الصغار وترون عاطفة أمة بأسرها تختلج في صدور فتيانها.

تحتفل هذه المدرسة كل سنة بعيد الحرية في شهر تموز، وبمناسبة العيد تقيم إدارة المدرسة حفلة وداعية للضباط المنتهين، الذين بعد انتهاء الحفلة يأخذون تحت رعايتهم الصف الذي يليهم في الدروس، ويُعمِّدونه باسم يتفق عليه الجميع.

ففي ليلة ١٤ تموز؛ أي في أسبوع المفاوضات التي سبقت في الحرب الكبرى، أبلغ مدير المدرسة الضباط المنتهين، وكان اسمهم «مونميراي» أن الحفلة السنوية ستكون بسيطة، وأن عليهم أن يعمدوا رفاقهم بدون أبهة خلافًا للعادة.

فاجتمع الكل ليلًا في باحة المدرسة، وفي وسط سكوت عميق عمدت فرقة «مونميراي» الضباط الفتيان باسم صليب الراية، ثم لفظ بعض الضباط الخطب الحماسية، منهم ضابط اسمه غاستون فوازار وقف وقال:

أقسموا أيها الرفاق أنكم لا تذهبون إلى النار إلا بثياب العيد، بالقفاز الأبيض والريش الأبيض في القبعات.

فصرخ ضباط مونميراي — وعددهم خمسمائة شاب: «نقسم».

وتلتهم فرقة صليب الراية — وعدد فتيانها خمسمائة — صرخوا بصوت واحد: «نقسم».

لقد كلفنا هذا القسم ثمنًا غاليًا، فإن الريشة البيضاء كانت علامة فارقة اتخذها الألمانيون هدفًا، فأصيب أكثر هؤلاء الأحباء في جباههم، ولست بذاكر عدد الأموات، ولكن معظمهم سقطوا الواحد بعد الآخر.

وهاكم ما كتبه أحدهم، وهو شاعر فتًى اسمه جان إلار إلى أمه في وصف تلك الحفلة:

بعد العشاء أخذ كل منا سلاحه واجتمعنا في الساحة العامة تحت إمرة القائد، وكانت الليلة جميلة، والنسيم عطرًا، والسكوت عميقًا ملتفًّا حولنا جميعًا، وفي وسط الحماس المتعاظم وقفت وأنشدت قصيدتي التي تعرفين.

يا أمي الصغيرة! لن أقول في حياتي هذه الأبيات؛ لأن الساعة التي نظمتها فيها لن تعود. هذه الساعة آن أتهيأ للسير إلى الحدود وحولي ألف شاب ينتفضون بعاطفة الكبرياء والوطنية وحمى الحياة.

آه يا أمي لو نُفخ في البوق في هذه الساعة لحملنا صداه إلى ضفاف الرين.

تعرفون، أيها السادة، حكاية الشاب الذي هجم على خندق ألماني صارخًا تلك الصرخة التاريخية: «وقوفًا أيها الأموات.»

لقد نقلت رسم هذا الشاب أكثر جرائد العالم، ولم تبقَ مجلة إلا ذكرت أخبار شجاعته، فأردت أن أراه لأسمع منه شيئًا، وهاكم ما قال لي:

كنت مع رفاق لي وراء خندق حاول الألمانيون الاستيلاء عليه مدة ثلاثة أيام متواصلة بشدة وعنف لا مثيل لهما، وكانت رمانات «الشرابنل» تتساقط بالمئات والألوف، وصراخ المحتضرين حولنا يصمُّ أذاننا ويمزق نفوسنا، وكان بجانبي ملازم يدخن لفافة ويبتسم للموت، وإذا برمانة أصابت رأسه، فاستند إلى جذع شجرة وأغمض عينيه، وإذا بالدماء تتدفق من جرحه، وتندفع إلى الأرض بشدة فتتألف منها فقاقيع كالخمر المتدفق من برميل فوق وعاء.

ثم تدلَّى الرأس وهبط الجسد الغض، إذ ذاك ذعر الرفاق لموت رئيسهم، ولا يمكنني وصف اليأس الذي استولى علينا جميعًا، فتفرقنا وهممنا أن نختبئ وراء أكياس الرمل بينما كانت الجثث تتساقط كما في لعبة الكيل.

وبعد أن اختبأت لحظة رأيت الجندي «بونو» يناضل وحده نضال المستميت، فخجلت من نفسي وتبعته، ثم نظرت إلى يميني ورأيت الخندق وطوله يبلغ الثلاثين مترًا، والألمانيين من خلفه يضاعفون الهمة ليدخلوه، وبغتة دخل إلى رأسي فكر هائل وقلت: لأذهبنَّ وأرى ماذا يجري هناك، كانت الفكرة سريعة تكهرب لها جسدي فمشيت … ويا لهول ما رأيت! الأموات أكداسًا أكداسًا وأنا وحدي بينهم، فجننت من غيظي عندما رأيت الأعداء يتقدمون وقلت: إذن قد نُحر كل هؤلاء الأحباء عبثًا، وسيأتي العدو ويدوس بحوافر خيله هذه الوجوه الجميلة؟ لا، لا، إن هذا لن يحدث! لن يحدث أبدًا.

والتفت إلى الأموات في الحفر وصرخت: ماذا تفعلون هنا؟ ما بالكم نيامًا؟ وقوفًا أيها الأموات! وقوفًا أيها الأموات!

ولم أعد أرى سوى ألوان حمراء أمام عينيَّ، وشعرت بأن أرواح الأموات كلهم تتحد مع روحي، ورأيت الرفاق يتراكضون حولي ويصيحون بأصوات كالرعد: وقوفًا أيها الأموات! وقوفًا أيها الأموات!

ما جرى بعد هذا. لا يمكنني أن أقول بالتدقيق؛ لأنني أشعر بالضباب يغشى ذاكرتي. أذكر أن إيماني في تلك الدقيقة كان يزحزح الجبال، وخيل لي أني كبرت وأصبحت شيئًا عظيمًا له قوة غير متناهية وغير محدودة، شعرت أن لي عيونًا وأيدي كثيرة، بهذه أضرب، وبتلك أصدر أمرًا، بهذه أصيب، وبتلك أنجو من قنبلة، ولم نزل كذلك حتى ذابت قوة الأعداء أمام حماسنا الإلهي، فتراجعوا.

وبعد هذا أتى إليَّ رفاقي وهنئوني، فكان كلامهم أطيب على قلبي من الصلبان والميداليات.

والآن، أرجو منك أيها الكاتب أن تُصدِّق أنني لست بطلًا، ولم يكن لي في سابق حياتي شيء من الشجاعة، وكثيرًا ما ارتجفت قبل الهجوم على خندق. إن ما عملته في ذلك اليوم لا فضل لي به، الفضل هو لرفاقي الأحياء والأموات الذين كانوا قدوة لي في الحياة وفي الموت.٢
١  من محاضرة فرنسية لموريس بارس في الجمعية الملكية في لندن.
٢  لم أُعرِّب هذه الحادثة لما فيها من رائحة الدم؛ فلا يمكن لأي امرأة كانت أن تسر بحوادث الحرب وويلاتها، وإنما لأُلقي على شبيبة بلادي درسًا في الوطنية. إن في هذه العاطفة، عاطفة الدفاع حتى الموت، شيئًا ترتاح إليه النفوس الحرة، فهل آن لنا أن نشعر بمثل هذه العاطفة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤