مينرفا وأخواتها

إذا كنتم — أيها القراء الكرام — تتوقعون درسًا ميثولوجيًّا عن مينرفا وفينوس وأمفيتريت ونميزيس وبروزربين وجينون، آلهات الحكمة والجمال والبحار والانتقام وجهنم، نسيبات وبنات وأزواج جوبيتر، فإنني سأسارع وأزيل رعبكم بقولي: إن «مينرفا» هي هذه المجلة، «وأخواتها» هن — بحسب القدمية — العروس والفجر والخدر والمرأة الجديدة والحياة الجديدة — أطال الله بأعمارهن وأعمار صاحباتهن العزيزات إلى قلبي.

بين قومي اليوم شعور — أظن أنه في غير محله — هو شعور تبرم … و… اشمئزاز من كثرة المجلات النسائية، كما لو كانت هذه المجلات تُطرح على الناس طرحًا، وكما لو كانت منحصرة في بلد واحد، وبين مشتركين هم نفسهم للجميع.

لنفرض أن هذه المجلات الست منحصرة في بيروت وحدها، فهل هي كثيرة على بيروت؟ أقول: لا، وأثبت كلامي بالدليل؛ لأن مينرفا وأخواتها مجتمعات يطبعن أقل من ستة آلاف نسخة — هذه الأرقام هي بعد حساب أخذته على أوسعه — فهلَّا يوجد في بيروت ستة آلاف امرأة يمكن لكل منهن أن تقرأ مجلة واحدة؟ وهل يكثر على المرأة المتعلمة التي تنفق كثيرًا أو قليلًا أن تُنشِّط النهضة النسائية باشتراكها في نشرة لا يزيد ثمنها عن نصف ثمن قبعة؟

وإنني أرجح أن صاحبات المجلات هن أعقل من أن يعتمدن على بيروت وحدها، وأعتقد أن مجلاتنا ستنشر في كل الأصقاع العربية وفي كل المهاجر، وأن لها مريدين — هنالك — ومُروِّجين يعز نظيرهم؛ فلتطمئن القلوب، وليهدأ رجفانها، ولتأمن طوفان المجلات النسائية …

ولتبادر نساء سوريا ولبنان إلى تعزيز نهضتهن وأُسُّها الصحافة؛ لأن المرأة في صحيفة لها خصوصية تبثُّ من روح التجدد النسائي، ومن روح التقدم النسائي، ما لا يمكن لمائة جريدة من جرائد أسيادنا الرجال أن تفعله، فضلًا عن أن المباراة ترهف القوى، وتثير النزعات الطيبة في النفوس، فلا يمضي زمن إلا ولصحافتنا النسائية قوة تنضم إلى سائر قوى الأمة عندما يجيء وقت العمل الجدي … العمل المثمر الهادئ المتين …

إنني راسخة الإيمان بأثمار نهضتنا النسائية. لا أقول هذ تعصبًا مني لبنات جنسي، بل أقوله إذ أرى في كل يوم لبنات بلادي ذكاء وشجاعة وإقدامًا، وجلدًا على العمل، وحسن إدارة، وفضيلة ما بعدها فضيلة.

ويمينًا، إن نساء هذه البلاد لو تيسر لهن أن يتعلمن ما يتعلمه الناس في أرقى بلاد الناس، وجمع هذا العلم إلى ثروتهن — تلك الخميرة الوراثيَّة الطيبة — لكُنَّ مثالًا لنساء العالم أجمع.

بعد هذه المقدمة أقول: إنني لا أعرف منذ الآن كيف سيؤثر مقالي — بكامله — على صاحبات المجلات. على كلٍّ، إنني واثقة من أنهن يعرفن شيئًا عن محبتي المجردة والبعيدة البعيدة عن التحامل المذموم، فضلًا عن أن غايتي من هذا المقال ليست لإظهار تفوق هذه المجلة على تلك، ولا لأضع نفسي موضع الحكم، إن للحياة شرائعها القاهرة، ونحن نطيعها مكرهين أو راغبين.

والزمن وحده يظهر الحسنات والسيئات، وهو خير المحكمين؛ فلننتظره هو وحده يلفظ حكمه، وهو الذي سيقول لنا: إن المجلة التي تصل إلى أعلى القمة، هي التي حملت في طريقها ذخيرة كافية من علم وثبات وحكمة وأدب.

كتب أديب دمشقيٌّ إلى سيدة تقيم في بيروت ما يأتي:

إننا بفارغ الصبر ننتظر «مينرفا»، وعساها أن تكون أحسن من رفيقاتها اللائي لا يمكن أن نمدح منهن شيئًا سوى شجاعتهن …

الله من هذا المجتمع كيف «يغرف» الانتقادات من بحر جوده ويُفرِّقها على الناس … وإنني، مع ضآلة رأيي، أخالف الأديب الدمشقي، فمع الشجاعة التي لا يرى سواها في مجلاتنا أرى الكرم … أرى كرمًا يفوق كرمه في رش سهام الانتقاد؛ فإنهن يعطين كل ما في قلوبهن من التشوُّق لرفع البلاد إلى مستوى يرغب فيه الكل، ويعطين كل ما تعلمنه وكل ما قدرن على جمعه، وكل ما يعتقدن أنه صالح، وأنه حسن.

فإذا كان العطاء لا يشفي غلة الذين استقوا من موارد عليا، فهذا لا يدعى تقصيرًا؛ لأن النفوس لا تعطي إلا ما أخذت.

فعلى صحافياتنا أن يتابعن التوسع في معارفهن القيمة، ولا يسمحن للأسياد الرجال أن يعيبوا عليهن — كما هم فاعلون — ضربهن على وتر واحد، وبقاءهن في دائرة واحدة ضيقة. عليهن كما يقول صهرنا جورج باز أن «يتخصصن».

هذه الكلمة شديدة على أذني، فهل لأصحاب الأقلام «المتخصصين» لتهذيب اللغة أن ينحتوا لنا كلمة أفضل من التخصص وما يتفرع منه؟

إن عالم الصحافة واسع، وفيه أمور كثيرة غير الخياليات والاجتماعيات وواجبات المرأة، ونظريات الناس في الزواج وتدبير المنزل إلخ …

المجال فسيح جدًّا لصحافياتنا، وما عليهن إلا أن يتهافتن بجدٍّ على العلم الغربي من باب لغة من اللغات الأجنبية؛ لأن العلم كما يقول — بحقٍّ — الدكتور «طه حسين» قد أصبح غربيًّا خالصًا، وليس لنا فيه نصيب قومي، ويجب أن نندفع في الطريق العلمية اندفاعًا لا حد له إلا مقدرتنا الخاصة.

عند هذا، عندما تطلع صحافياتنا بطريقة أعم وأوسع على أمور العالم من علمية وصحية وفنية وسياسية واقتصادية، تزداد معارفهن وتتشعب مواضيعهن، فيكتبن بثقة وجرأة وتمكُّن، كما تكتب مي مثلًا، التي لم تصل إلى مركزها الأدبي في عيون الناس إلا لكونها ثابَرت السنين العديدة على نحت وصقل قواها العقلية، وتصبح مجلاتهن ذخائر قيمة، إذا اذخرت في المكاتب تذَّخر كآثار جديدة، لا كمجموع نظريات — كذا يقول سادتنا الرجال — ربطها مختلف المباني، ومعناها لا يزيد شيئًا عما قرأناه منذ عصر إسحاق والحداد والعازار.

وإنني بعين الفكر أرى مستقبلنا النسائي وضَّاحًا لمَّاعًا، ولا يؤلمني الفراغ الموجود في الصحافة وفي كل مكان؛ لأنني أعتبره شريعة طبيعية.

إن النهضة لم تصل إلى زمن البلوغ، وهي اليوم نواة! نواة هي حياتنا، سياسية كانت أم أدبية أم اجتماعية أم اقتصادية. وإذا جاز لي أن أستعمل تعبيرًا طبيًّا أقول: إننا لم نزل في طور الحضانة — بمعناها العلمي — لا الوصاية …

وعندي أن كلمة «انتداب» التي نزلت مع ما نزل من عصارة دماغ ولسن — رضي الله عنه — هي كلمة مغلوطة! فالانتداب هو الإشراف على كائن مكتمل إنما يعوزه الإرشاد، لا على الأطفال، بل الرضع، بل الأجنة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤