يا ميُّ١

لقد سار اسمك في الأقطار العربية فتسلطت ذاتيتك السامية على قلب كل من يقرأ الضاد، واتخذت لها مكانة عالية لم تصل إليها كاتبة في العالم العربي.

هذه كلمة حق، وقائلتها فهمت معنى هذه الذاتية الجذابة، الغنية بكل مواهب العقل والقلب والروح، يوم قرأت كتابك الأوحد «باحثة البادية».

كنت تعبة من كل ما كتب وما قيل، وعاجزة عن قراءة أي كتاب عربي دفعة أو دفعتين أو ثلاث. هل هو ملل أو اكتفاء، أو ظماء أو جوع إلى غذاء كامل يشبع نفسي، أم أن الحياة فيَّ هبطت إلى سكون لا توقظه أصوات الحياة العادية؟ لا أدري! كل ما أدري هو أنني أخذت هذا الكتاب في أحد الأمساء، ولما وصلت إلى الصفحة الأخيرة منه إذا بنور القنديل يحمر أمام أنوار الفجر البيضاء الداخلة من النافذة فوق رأسي، وإذا بنفسي تصرخ كما صرخ ابن نابوليون يوم لقي البطل فلامبو: وأخيرًا لقد ظفرت بواحد! وإذا بروح «مي» الساحرة وقد أشبعت ظمأ قلبي توقظ في روحي المستكنة عوالم لا تعدُّ ولا تحصى.

هو الكاتب الكبير يجمع المنطق والبلاغة والجزالة، أقول: آه! ما أفقر المعاجم بين أيدينا! هو يجمع شلالات الحياة بكل ما في الحياة من ثروة وفيض وغنى وتجدد، ومن وثبات تهب نابضات على عدد الثواني، ويطلقها على الناس فتسير كقوة خالقة تشبع وتروي، وتبعث الفكر النائم من ظلمات الصمت والسكون.

هذه مي كما رأيتها في باحثة البادية، مي المخلصة، يؤلمها أن تهب حياة صديقتها ضياعًا فتكرس كتابًا بكامله لتكريم الصداقة بعد الموت.

مي الوصَّافة ترسم بالكلمات:

الوجوه والآفاق والليل والكواكب، فتنبض في الألفاظ الجامدة حياة سريعة متقدة، يهيجان الغضب، وأنين الشكوى، ورنين الظفر، وتهتز للألفاظ تارة كالأوتار، وتولول طورًا كأمواج البحر العجاج، وتهمس حينًا همسًا عجيبًا كمبهم الآمال القصوى.

بهذه الموسيقى تصف مي الكاتب الحق، ويا حلاوتها من وصَّافة ما وصفت إلَّا نفسها!

ومي الجريئة تعالج أمور الشرق بجرأة ما عرفها الشرق، فتقبض بيدها على علة العلل، على الاتكالية المهرأة، البالية، وتقول بهذه البلاغة:

كلنا معجب بفصاحة القرآن، ونعزو إليه فصاحة العربية عند المسلمين، واستقامة لفظهم، وجمال منطوقهم، وفخامة أسلوبهم الكتابي؛ لأنهم يستظهرون آياته صغارًا، ويستشهدون بها كبارًا، إلا أن فصاحة الكتاب الحكيم وجماله قد عودا القوم الكسل الفكري، فصاروا إذا ما أرادوا الإفصاح عن رأي أو نظرة، أهملوا إجهاد القوى المولدة مطمئنين إلى ضرب آية قرآنية، أو حكمة شعرية مثلًا، تاركين قرائحهم في حالة الجمود مستكنات، وعليها خيوط العنكبوت تُخيم آمنات.

وما ألطفها إذ تستدرك:

بيد أن هذا الانتقاد الذي يصح على الأكثرية لا ينطبق على أقلية لبيبة، إن هي استعملت الآية القرآنية عند الحاجة فإن لها أسلوبها الخاص، وقد تنسج عباراتها على وزن عبارة القرآن بنزعة فطرية، واضعة ألفاظه لمعنى شخصي، وبشكل جديد يسترق السمع، ويستأثر بالمخيلة قبل أن يبلغ أفق الإدراك.

وبهذا اللطف نفسه تشرح أفكار باحثة البادية فتقول في صدد تعدد الزوجات:

العجز يجعلني قاصرة دون تشخيص هذه العلل الغريبة؛ لأنني فتاة مسيحية، ومهما تفهمت هذه الأوجاع بقلبي النسائي فإنها تظل عندي خيالية ليس غير.

ما ألطفها تتنصل من تشريح هذه العلة الغريبة عنها! ولكن هل هي غريبة عنها؟ وهل تعدُّد الزوجات محصور في طائفة من الناس دون سواهم؟ المرأة مظلومة في كل مكان، ووفرة الزوجات — على ما نعلم — شائعة في الغرب كما في الشرق. اسمعوا قلبها الوجيع ينتصر لنساء الأرض جميعًا! اسمعوه يردد زفرات نساء العالم المعذَّبات ويئن:

يخاف الناس ويرجون، ويكرهون ويرغبون، وظلام الأمل مخيم عليهم، فيبحثون عن الأصدقاء والمساعدين والمؤيدين! ولكن أليس هؤلاء الذين نحبهم ونحتمي في قلوبهم من مكايد الأيام هم الذين يسكبون سيال الألم في كئوسنا صرفًا، ويتفننون في التعذيب كأنما الطبيعة ائتمنتهم على أسراره.

أما كاتبة هذه السطور التي تجرب اليوم في خمس دقائق أن ترسم خطوطًا صغيرة لذاتية مي الكبيرة، فإنها تعبد هذا السحر الحلال.

ومي الوديعة تتكلم في الأدب والشعر والاجتماع والعمران، تتكلم عن اطلاع جمٍّ وعلم صحيح، برسوخ ومتانة لا يفوقها فيهما أقوى الرجال حجة، ولكنها في كل مواقفها أديبة. أديبة ما سمعتها تتكلم إلا وفي صوتها رنة استفهام عميقة وكأني بها تقول: «لعلي مخطئة». بهذه الرقة تتقدم مي إلى المواضيع التي عالجها قاسم أمين فهز وادي النيل تلك الهزة العنيفة، فتبدي رأيها ولكن بعد أن تقول:

ليس لي رأي إزاء ما يرتئيه أساطين المسلمين.

ومي الصادقة الصريحة تقول الحق لأنها تعتبره حقًّا وإنصافًا، تقوله صراحًا بدون محاباة، لا تراعي فيه حتى ولا المحبة، كذا تقابل بين الباحثة وقاسم أمين. وهذه المقابلة مع ما سبقها من البرهان، وما تبعها من الاستنتاج، هي آية في الإبداع خلاصتها أن الباحثة تصلح كامرأة، وكامرأة هي مقيدة بالعادات والتقاليد، حذرة أبدًا. هي تحوم فوق بيئتها، ولكنها لا تزال خائفة، وما أحسن «مي» تصور لنا الباحثة وحيدة في فكرها، تصرخ وسط وحدتها لتوهمنا أنها غير خائفة.

أما قاسم فهو أمين مما يقول، سلطان كصاحب الحق، شاعر بدون خوف ولا ارتعاش، إنه يقول الحق؛ لذلك هو يجلس على كرسي القضاء، ويطلب تحرير المرأة حبًّا بالسعادة الحلال، تلك السعادة التي يريدها لأمه وأخته وزوجته.

هذه هي ميُّ أيها المواطنون، مي الوصافة، العالمة، الجريئة، الوديعة، الرقيقة، الصريحة.

وهنالك «مي» ثانية تتطور مع الدقائق، وتتجدد عند كل شروق وكل غروب، تلك «مي» الجديدة بعد أن زارت لبنان وساهرت نجومه في لياليه الخلَّابة، مي الجديدة السبَّاقة في نشر دعوة لبنان أيان يرن صوتها الرنان. أما رأيتموها تتململ وتنادي من على صحائف «الهلال» أين وطني؟ أريد وطنًا أموت لأجله أو أحيا به. كذا تقول مي.

وطنك يا مي هو هذا الجبل القديم الذي كان وطنًا من قبل أن تتكوَّن كلمة «الوطنية» في عقول الناس. هنا وطنك، لبنان الوجيع، تغضب عليه الليالي فتحشره في كل مسألة من مسائل الشرق، ثم تقتطع سهوله، ثم تميته تجويعًا وشنقًا. ولقبس من نور يطلع عليه، لنهلة من مياه الحياة، لرمق يعاد إليه تزلزل الأرض زلزالها وهو لا يزال الشيخ الكريم يضحك من بخل الناس وصغارة الناس، ويُفرِّق على العالم الشرقي من دماء قلبه، وفلذات كبده حججًا أزلية على حقه في الحياة.

نعم يا مي، ليس لنا أعلام ذات خطوت وألوان ونجوم وأهلَّة وصلبان، إنما لنا — يا رافعة العلم — أعلام سيارة تسير خفاقة فوق الهند والحجاز والعراق ووادي النيل والسين والهدسن والأمازون.

ولنا أعلام قديمة مضرجة بدمائنا ودموعنا مطوية في جوف التاريخ، هي ضحايانا القديمة والحديثة نحملها على أيدينا، ونريها للناس فيذكرون الوفاء.

هنا وطنك يا ابنة لبنان، فبشري بالرجوع إليه، فلا يقوم بالأوطان سوى أكتاف الرجال وقلوب النساء.

هذا وطنك مجتمع هنا، صورة مصغرة، برجاله ونسائه وبناته وصحافته وأدبائه ومدارسه ومعاهده وكشافته؛ ليحتفل «بميِّه» الوحيدة، ويُشيِّعها بكلمة حب وحنان.

أنت وطن يا مي بحياتك الفيَّاضة التي إذا وزعت كان منها ألف ألف حياة؛ فلا تقولي — فدتك روحي: أين وطني؟

١  خطاب ألقته في الحفلة التكريمية التي أحيتها عصبة الأدب في النادي البيروتي للنابغة مي في ٢٢ تشرين الأول سنة ١٩٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤